منتدى وندر لاند

منتدى وندر لاند (https://woonder-land.com/vb/index.php)
-   روايات الانمي_ روايات طويلة (https://woonder-land.com/vb/forumdisplay.php?f=17)
-   -   الحارس الأعمى ~ Blind Guardian (https://woonder-land.com/vb/showthread.php?t=4071)

ساي 09-21-2022 07:23 PM

الحارس الأعمى ~ Blind Guardian
 
معلومات عامة :-

الإسم : الحارس الأعمى ~ Blind Guardian
عدد الفصول : 12
الحالة : مكتملة
الكاتب: ساريل || Sariel
المصدر : منتديات مكسات .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
كيفكم رواد وزوار وندر ؟
إليكم هذه الرواية طبعاً هي منقولة ..
لا أريد أن أطيل لذلك سأدرج فصل أو فصلين منها

ساي 09-21-2022 08:11 PM

. بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دعني أحدثك بشيء, عزيزي القارئ...
كوني أضع قصةً هنا بعد طول تردد - حيث أنني لا أعتبر نفسي كاتبةً محترفة أو حتى عادية - هو أمرٌ يسعدني ويحرجني في نفس الوقت.

كطفل يمشي وسط حشد من العمالقة, أجد نفسي أزداد يقيناً بأنني لن أصل لمستوى الكتبة الرائعين الذين أبحرت في عوالم قصصهم هنا.

ولكن...مهلاً...إن وضع قصة نَسَجتُ حروفها وكلماتها لمدة شهور بين أيديكم لهو أفضل من جعلها أسيرة عقلي للأبد, حتى وإن كان قارئها شخصاً وحداً فقط.

لازالت قدراتي الكتابية في مرحلة ما قبل النضج, لذا أطلب من أي شخص يتفضل بقراءة ما أضعه هنا بأن يقوم بمساعدتي في حال وجدتم شيئاً ينقصني, أو مهارة أفتقر إليها, وأنا أشكر لكم ذلك مقدماً.

والآن, دعوني أفتحُ لكم بوابة مخيلتي.


الفصل الأول


ما هي بداية كل هذا؟
منذ متى بدأت عجلات القدر في الدوران؟
ربما كان الحصول على الجواب مستحيلاً الآن
ولكننا بدون شك .. أحببنا كثيراً , وكرهنا كثيراً
لقد سببنا الألم للآخرين , وسبب الآخرون ألماً لنا
وبرغم ذلك, فقد ركضنا بكل ما أوتينا من قوة
ونحن نضحك معاً تحت السماء الزرقاء

-----------------------------------

كان هو وحده اللذي يعلم السبب.

واقفاً في الغرفة التي توسطها جسد آخِر أصدقائه وقد فارقته الحياة , كان ينظر بعينين خاملتين إلى وجه الفتى الملقى على الأرض , كأنه نائم لا غير. لم يكن يعرف أين ينتهى الشَعر وتبدأ الدماء , لقد كان كل ما يحيط برأسه هو هالة داكنة جعلت لون بشرته الأبيض يبدو أكثر شحوباً .

الساعة الكئيبة تصدر صوتاً رتيباً في خلفية المشهد الصامت .

في غُرفٍ أخرى متفرقة , كان باقي أصدقائه يرقدون وقد واجهوا نفس المصير. وفي كلِ مرةٍ كان يفقد فيها جزءاً من عقله. ولكن ها هو ذا , لقد وصل إلى النهاية. لربما كان هو الوحيد الباقي على قيد الحياة , ولكن شيئاً ما تحطم للأبد بداخله.

قطرات من سائلٍ قاتمٍ تنساب من بين أصابعه لتتساقط على الأرض برتابة , وما زال الشاب صامتاً.

لماذا ؟ ربما كان السبب معروفاً لديه , ولكن ذلك لا يساعده بأي حالٍ من الأحوال في منع الإنفجار العاطفي الذي يشعر بإقترابه حثيثاً. إنه لم يعد قادراً على تحديد شعوره في هذه اللحظة. ولوهلةً ما , أقنع نفسه بأنه فعلاً لا يحس بشيء.
ولكن هذه القناعة الزائفة لم تدم لأكثر من ثانيتين , وهي المدة اللتي إستغرقها لتذكر آخر كلمات قالها له صديقه مقترنةً بإبتسامة ناعمة. وعلى الفور , تماماً كما ينهار سدٌ من ورقٍ أمام طوفان جارف , سقط الشاب على ركبتيه وهو يحتوي وجهه بكفيه.

لقد أتى الإنفجار, وهو أسوأ أنواع الإنفجارات على الإطلاق...

إنه ذلك الإنفجارُ الذي لا يسمعه أحد.

-----------------------------------

أي مفتاحٍ هو ذاك اللذي سيفتح الأقفال اللتي حبسنا بها مشاعرنا؟

-----------------------------------

"لدي خطة, خطة كبيرة
سأبني لك منزلاً
كل طوبة هي دمعة , ولن تستطيع الخروج
نعم , سأبني لك منزلاً صغيراً
بدون أبواب , بدون نوافذ
داخله مظلم , فلن يضايقك النور
نعم , سأبني لك منزلاً
وستقضي فيه بقية حياتك"

"... ـــاي"

هممم؟ آآي؟ هذا المقطع دخيل على الأغنية.
إستغرق الأمر عدة ثوانٍ قبل أن يستوعب الشاب أن ما سمعه ليس من كلمات الأغنية التي تصدح بصوتٍ عالٍ داخل السماعات الزرقاء المستقرة في أُذنيه. أسرعت يده لتسحب السماعة اليمنى للخارج.

" مـــاذا ؟ هل كنت ِ تقولــ ...."
قاطعه صوتٌ حادٌ بوابلٍ من الكلمات: " تباً لك ولأغانيك الشيطانية ! إنني أُفكر فعلياً في تقديمك كحالةٍ جديرةٍ بالدارسة في مراكز الأبحاث العلمية. على قدر علمي , ليست هناك سوابق مسجلة لأشخاص كانوا يعيشون بأدمغةٍ قد تحولت إلى عجة بسبب الصوت العالي ! ".
أطلق زفرةً قصيرة تبعها بإخراج الحلوى المصاصة التي كانت في فمه , ثم قال بصوتٍ متحسر وهو يمط شفتيه: "لا أصدق كم أنتِ عديمة الإحساس... لقد قطعتِ عليَ الجزء الجيد من الأغنية. "
" أهذا هو الشيءُ الوحيد اللذي أزعجك ؟! لقد وصفتك بصاحب الدماغ العجة ! "
" حسناً... أنتِ دائماً تصفين نفسك بالجمال , هذا لا يجعلُ أياً من أوصافكِ صحيحاً."
" أيها الـــ .... !! "

لم يسمع البقية , حيث أعاد كلاً من السماعة والحلوى إلى حيث كانوا سابقاً وهو يبتسم إبتسامةً عابثة. لقد كان يستمتع بوقته رغم إحساسه بنظرات (أمورا) الحارقة من خلفه , ولكنها سرعان ما أسرعت خطواتها وتجاوزته بغضب , مُسَددةً صفعةً حانقةً على مؤخرة رأسه.
برغم كونه كاد سيبتلع الحلوى بأكملها جرَاء الصفعة , إلا أنه وجد نفسه يبتسم بسعادة وهو يتأمل الفتاة الغاضبة أمامه. الشعر الأشقر الغامق اللذي ينسدل على ظهرها , العينان البنيتان الغاضبتان اللتان تنظران للخلف إليه بحنق بين الفينة والأخرى. لقد إشتاق لها , فهو لم يرها منذ فترة , ولم تسنح له الفرصة لقضاء الوقت معها منذ شهور. لقد كان هذا وقتاً مناسباً فعلاً ليتوقف قليلاً عن العمل ويقوم بفعل شيء ممتع ومختلف مع أصدقائه (رغم قِلتهم). إنه شاكرُ لـ (نويل) لتمهيده لفرصة كهذه.

وكأنما كان (نويل) يقرأ أفكاره , فقد إقترب منه ليمشي بجانبه , بدا منظرهما مضحكاً نوعاً ما نظراً لفرق الطول بينهما , فقد كان (ساي) قصير القامة بجانب (نويل) الذي قام بسحب السماعات بحركةٍ خفيفةٍ وسريعة.
" يا لك من مغفل ! إنها تبدو على وشك الإنفجار. من الأسلم لك أن تستدير وتعود أدراجك حفاظاً على سلامتك."
" لا هلمني هلى ذهلك فهنا الضحية هنا -- ! "
تمتم (ساي) بذلك قبل أن يخرج الحلوى من فمه ويتبع قائلاً: " أنا لم أفعل شيئاً...! بإستثناء إخباري لها بأن فستانها يذكرني بجدتي... هل تتوقع أن هذا هو سبب غضبها ؟ "
" ما أتوقعه هو أنك أحمق. أشُك بأن جدتك ترتدي فستاناً أحمراً وتحمل حقيبةً مزينةً بالشرائط. على العموم , نحن على وشك الوصول, إنه خلف هذا المنعطف".

تابع الشابان سيرهما المتمهل على الطريق الترابي المحاط بالحشائش , وقد بدأت ملامح المنزل الضخم تتضح لهما كلما إقتربا منه. أخذ (ساي) يسترق النظر لصديقه الذي يسير بجانبه وهو يدفع بشعره الكستنائي للخلف ليزيحه عن عينيه الخضراوين الهادئتين. إنه إبن عم (أمورا) وبالتالي كان هناك طيفٌ من الشبه في ملامحهما.

هذا غريب ... كان اليوم دافئاً مشمساً ولم تكن هناك رياحٌ تذكر , ولكن بالرغم من ذلك وجد (ساي) نفسه يتباطأ في السير رغماً عنه. لماذا ينتابه هذا الإحساس المُلح بأنه قد نسي شيئاً ما ؟ هل نسي إطعام القطط قبل خروجه ؟ ربما لم يقم بشحن هاتفه المحمول ؟ أصابته الفكرة بالرعب , فرفع جهازه أمامه ليتأكد من مستوى البطارية. تنفس الصعداء عندما وجد أنها شبه ممتلئة , طمأنته نفسه بأنه يحمل شاحناً متنقلاً على كل حال.

ولكن ذلك الإحساس لم يتوقف.

-----------------------------------

" حسناً ... لم أكن أتوقع هذا, بكل صراحة. إنه .. أممم .. كيف أقولها ؟ إنه - حاولت (أمورا) أن تبحث عن الكلمة المناسبة قبل أن تردف - مميز نوعاً ما , بدون شك , و – "
" يبدو كمنزل تقطنه الأرواح الضائعة." , قاطعها (ساي) وهو يقوم بقرمشة الحلوى بلا مبالاة.

لم يكن المنزل بذلك السوء , حقاً. ولكن علامات القِدم ظهرت جلية عليه. كانت الحديقة عامرة بالأعشاب والحشائش والزهور البرية, بينما تشقق الطلاء الزهري الذي يغطي المنزل في أكثر من موضع. كانت إطارات النوافذ مصنوعة من الخشب البني الفاتح , وكذلك كان الباب الرئيسي. هذه المنازل الكبيرة القديمة تحتوي عادةً على أكثر من مدخل , ولكن لم يكن هناك أي مؤشر على وجود باب آخر.

زفر (نويل) بيأس وقال وهو يضع يده على كتف (ساي) : " لا تلعب بأعصاب الفتاة المسكينة , أنت تعلم أنها تجزع حتى من ظلها. بالإضافة إلى أنك تصيبني بالإحباط هنا , إنني أحاول جهدي يا صاح .. "

وقبل أن يجد (ساي) الوقت الكافي ليعطيه رداً حاذقاً آخر, إستدارت (أمورا) لتواجه الشابين وقالت بخوف : " لن تتركاني وحيدةً وتهربا إن ظهر لنا شبح في الداخل , صحيح ؟ "
نظر لها (نويل) ملياً ليتأكد بأنها تمزح بينما كان (ساي) يضحك بمرح , ليست بردة فعل غير متوقعة .

" لا تقلقي يا (أمورا) , لا أتوقع أننا سنستغرق وقتاً طويلاً هنا. سنفعل ما أتينا لفعله وننصرف – إبتسم إبتسامة مطَمئنة لها - وبعد ذلك , سأسطحبكما للعشاء في مطعم مَحَلي جيد."
" مالذي ننتظره إذاً ؟! إلى الأمام يا جنود !! " قالها (ساي) وإنطلق بحماس نحو الباب الخشبي الضخم الذي توسط واجهة المنزل.
" نحن لسنا بجنود , وأنت لست قائداً حربياً .. "
" لا يهم , إلى الأمام ! "

-----------------------------------

بدا الأمر وكأن الثلاثة تَخَطوا بوابةً نقلتهم عبر الزمن. إذا كان المظهر الخارجي للمنزل يدل على قِدمه , فإن ذلك وبكل تأكيد لم يظهر ولا بأي شكل من الأشكال في الداخل.

كان المنزل من الطراز المعماري العتيق , ولكن المصابيح الكريستالية المعلقة كانت تتوهج بهدوء لتنثر القليل من الضوء والكثير من الظلال في المدخل الواسع اللذي غلب عليه الظلام, لم تكن ثمة نوافذ تسمح بدخول ضوء الشمس مما أضفى على المكان لمسةً كئيبةً نوعاً ما. الأرضية الرخامية بدت في أحسن حال وقد توسطها السجاد الفاخر قاتم الألوان. الجدران نظيفةً وإن كانت مجردة من أي لوحات أو لمسات جمالية. لقد كان المكان نظيفاً ومرتباً وإن كان سكونه يجثم على الأنفاس.

بإختصار , لم يكن من الممكن التصديقُ أن هذا المنزل لم يستعمل للسكنى منذ قرن أو أكثر.

وقف الثلاثةُ متقاربين وهم يجولون بأعينهم في المكان بإنبهار, فهم توقعوا مكاناً مغبَراً ومتهالكاً على الأرجح.

همهمت (أمورا) : "إنه بديع ... من الخسارة أن هذا المنزل يقع في منطقة نائية ومنعزلة كهذه. ولكن ..." توقفت عن الكلام وهي تنظر حولها بقلق.
قال (ساي) بمرح : "ماللذي تقولينه ؟ هذه العزلة الثمينةُ هي أجمل ما في الموضوع. "
" تذكر بأن أغلب البشر طبيعيون ويفضلون صحبة بعضهم البعض على الحيوانات والأشباح. ", قالها (نويل) وهو ينظر إلى صديقه بنصف عين, كان من الواضح أنه يشعر ببعض التوتر وإن حَاولَ أن يُخفي ذلك.
" ليس أنت أيضاً يا (نويل) , لقد توقعت أنك ستفهمني .. " , تعمد (ساي) أن يتصنع نبرةً مأساوية وهو يقولها.
" لقد كان توقعك خاطئاً , آسف لتحطيمي قلبك الخاوي."
" حسناً , ماللذي يتوجب علينا فعله لننتهي من هنا ونعود للمدينة ؟ " تساءلت (أمورا) وهي تنظر لـ (نويل) برجاءٍ صامتٍ ليخرجها في أسرع وقتٍ ممكن.
" نعم , فعلاً .. إمم .. لا أعلم من يتكفل بأمر التنظيف وسداد فواتير الكهرباء هنا , ولكن يبدو أنه يتقن عمله جيداً. فلنبحث عن أي شـ -- "

بتر حروف كلماته صوتٌ مدوٌ كان قادماً من إحدى الغرف الواقعة في الممر الذي إمتد على يمينهم. تبادل كلٌ من (نويل) و (أمورا) نظراتٍ فزِعة , بينما وقف (ساي) في مكانه ناظراً لأعماق الممر الطويل بدون حراكٍ أو كلمة. مضت دقيقةٌ والمشهد لم يتغير , حتى قام (ساي) بالتقدم ببطء في إتجاه الصوت وهو يلتفت للخلف قائلاً : " لا تقفا هكذا , تبدوان كالأشجار الميتة ! سأذهب لتفقد الأمر , لابد أن ثمةً حيوان بري بالداخل. "
" لا يا (ساي) , لا تلعب دور البطل أرجوك - قالت (أمورا) بجزع – قد يكون ذلك صوت...", قاطعها (ساي) وهو يتقدم أكثر: " شبح ؟ جيد إذاً , سأكون أكثر رعباً لو كان مصدر الصوت صرصاراً. لا تقلقي يا فتاة , سأعود فوراً. (نويل) .. توقف عن النظر في كل ركن كالأرانب , إبقيا هنا وتبادلا الذكريات أو ما شابه ريثما أعود يا أبناء العم. "

قالها وإنطلق لليمين ليختفي داخل الممر عن أعينهما , بينما كان الإثنان يتبادلان النظريات حول مصدر الصوت بقلق وتوتر.

رغم هدوئه الظاهر إلا أن ذلك الصوت أقلقه لأنه حطم السكون الذي كان يعم المنزل , والآن أصبح (ساي) يسمع أصواتاً خافتةً من كل صوب , ولكن ذلك على الأرجح كان نتاج عمل مخيلته الخصبة , خصوصاً وأن الظروف الحالية تساعد على ذلك.

وبينما هو غارقٌ في أفكاره , وجد أن هناك شريطاً من الضوء ينبعث من أسفل الباب الموارب الواقع في آخر الممر , فتابع سيره البطيء تجاه ذلك الباب متجاهلاً الأبواب الأخرى وهو يتساءل عما سيجده بالداخل.

-----------------------------------

دفعةٌ بسيطة , خطواتٌ مترددة , وأصبح (ساي) بداخل الغرفة.

أول ما جال بباله هو أنه لا توجد أي حركة تدل على وجود حيوان بري هنا. تقدمً قليلاً لتبدو ملامح الغرفة جليةً أمام ناظريه. يبدو أنها غرفة معيشة فرعية حيث كانت هناك أريكةٌ فخمة تتقدمها طاولة من الخشب المتين , بينما كان هناك كرسيان أصغر حجماً على جانبيها. ثمةَ صوت رتيب هنا , صوت معدني خافت. وبنظرةٍ سريعة في الغرفة عرف مصدره.

" إنها ساعةٌ خشبيةٌ ضخمة ! "

كان بندول الساعة الخشبية المزخرفة يتحرك ببطْء من جهة إلى أخرى , بينما أشارت عقاربها النحاسية إلى تمام الساعة الرابعة. الرابعة؟ لابد أن هذه الساعة البالية لم تتم معايرتها منذ عقود , فمن غير المستغرب أن تشير للوقت الخطأ. تنفس الصعداء وهو يستدير ليخرج من الغرفة ويعود لصديقيه بالأخبار السارة , لقد كان الصوت المخيف مجرد مقلب غير متعمد من ساعةٍ قديمة.

لفت نظره أيضاً وجود مرآة طولية لامعة بجانب الساعة , فتقدم ليقف أمامها ويتأمل إنعكاسه فيها. مرر أصابعه خلال شعره الداكن الطويل , وقام بإزاحة الخصل اللتي إنسدلت على جبينه لتقوم بحجب إحدى عينيه البنيتين. لقد كان يرتدي قميصاً أبيض اللون يعتليه معطف أسود ذو ياقة ناعمة مبطنة بالفرو وبنطالاً من الجينزغامق اللون , وقد تدلت من عنقه مجموعة من السلاسل. طوقٌ جلدي أسود أحاط بعنقه , تتدلى أسفله قلادةٌ إتخذت هيئة وردة سوداء , وقلادة ثالثة فضية اللون بها ميدالية صغيرةٌ مستطيلة الشكل حُفر عليها إسمه. ربماً لم توحِ شخصيته المندفعة بذلك لمن لا يعرفونه , ولكنه في الواقع يهتم بمظهره جداً ويعتبر عدم التأنق في الملبس (بحدود المعقول) جرماً شنيعاً. رتب ملابسه بسرعة وإنطلق خارجاً.

في طريق عودته خَطَرَ له بأن الممر طويل فعلاً , لقد كانت هذه المنطقة شبه منعزلة عن باقي المنزل. أخرج هاتفه الجوال من جيب بنطاله وقام بإختيار لحن ليدندن معه وهو يشعر بالقلق يتبدد من أعماقه كلما إقترب من بهو المدخل.

" إحزرا ماذا ؟ لقد كان ذلك فقط – "

لم يكمل جملته حيث أنه لم يكن هناك أحد غيره في البهو الواسع. أحس (ساي) بالتوتر يطفو بداخله مرة أخرى. أين هما ؟ هل كانا خائفين لدرجةِ أنهما غادرا المنزل وتركاه ؟ تقدم من الباب الرئيسي و أمسك بالمقبض المستدير ليفتحه وهو يفكر في النكات التي سيطلقها على صديقيه الجبانين عندما يخرج للقائهما.

ولكن الباب لم يتحرك.

كان ثابتاً في مكانه كطود من الصَخر , بالرغم من أنه لم يكن موصداً حتى عند قدومهم. ما معنى هذا ؟ ربما ظن (نويل) و (أمورا) بأنه من المسلي أن يقوما بالخروج وإغلاق الباب عليه من الخارج. ياللحقارة ! تراجع للخلف قليلاً وركل الباب رغم معرفته بأن هذا لن يجدي شيئاً.
أو ربما ... ربما كانا بالداخل , ربما كانا مختبئين في إحدى الغرف الموجودة بالممر الأيسر بإنتظار قدومه. بدا هذا الإحتمال أقرب للواقع حيث أنه لا يظن بأن لديهما المزاج الرائق الكافي ليقوما بتدبير المقالب له في وقت كهذا.

لحظة ... لماذا لا يقوم بالإتصال على أحدهما ؟ فور أن خطرت الفكرة بباله سارع برفع جواله والتنقل في قوائمه إلى أن وجد رقم (نويل) , قام بالطلب ولكن كل ما حدث هو إنقطاع الخط قبل بدء المكالمة معلناً عدم توفر أي تغطية في هذا المكان. تنهد بحسرةٍ وقرر أن يبتلع توتره وينطلق إلى الممر الأيسر ليلقي نظرةً بداخل الغرف الواقعة هناك.






بـــدايـــة الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة -إنتهى-


-----------------------------------

حسناً...ربما أطلتُ في الجزء قليلاً, ولكنه الحماس وما يفعل يا سادة.

لأي مدى ستصمد من أجل أصدقائك؟ ما عساك تفعل إن اضطررت لقتل ما تشعر به في سبيل إنقاذ مشاعرهم؟

والسؤال الأهم...

هل ستتذكر؟

ساي 09-21-2022 08:17 PM

. الفصل الثاني
-----------------------------------

إن أعظم درجات الشجاعة هي أن تعترف بأنك خائف.

-----------------------------------

لا يمكن لأحد أن يدعي بأن (ساي) كان من النوع الجبان المتخوف.
بل على العكس تماماً , كان من الصنف اللذي لا يجد مشكلةً في مواجهة ما لا يستطيع بقية الناس تحمله , مما أكسبه سمعةً مفادها بأنه غير طبيعي , وذلك بدعم من (أمورا) التي تصفه دوماً بالكائن غريب الأطوار.

ولكنه في الواقع , وفي هذه اللحظات بالذات , كان خائفاً. ليس هناك من سبب معين يبعثه على الشعور بذلك , ولكنه فقط إحساس مُلحٌ في أعماقه , وهو قد تعلم أن يستمع للأحاسيس الغير مفهومة حيث أنها في الأغلب على حق.

كان الممر الأيسر مشابهاً نوعاٍ ما للممر الأيمن , بإستثناء أن الإضاءة هنا كانت أفضل بقليل. الأبواب الخشبية المنقوشة كانت مواجهة لبعضها البعض على طرفي الممر اللذي إنحرف بزاويةً قائمةً ليتصل بممر آخر يتجه شمالاً.

حاول أن يفتح الباب الأول بحذر ولكنه كان موصداً بإحكام , وكذلك كان الباب المواجه له. لم يختلف الأمر مع باقي الأبواب في الممر , وقد زاد ذلك من توتره أكثر , حيث لا يمكن أن يكون أصدقاؤه مختبئين في غرفٍ مغلقة. تذكر فجأةً بأنه رأى سلماً رخامياً كبيراً في مؤخرة البهو الرئيسي , لربما كانوا بالطابق الثاني ؟ أخبر نفسه بأن يتجه للأعلى في حال إستمرت محاولاته في فتح الأبواب بالفشل.

وفور أن إستدار يميناً ليتجه للممر المقابل , وجد ذلك الشيء أمام ناظريه في نهاية الممر.

لربما كان وصفه بـ "الشيء" مبهماً نوعاً ما , ولكنه كان فعلاً كذلك. شيءٌ غامضٌ وصعب الرؤية في السواد الذي جثم على نهاية الممر كستارة نسجت من الظلام. ولكن .. بدون أدنى شك .. كان هناك شيء يتحرك ببطء هناك. ربما كانت الصدمة هي التي جعلت (ساي) يتسمَر في مكانه , وربما كان صوتاً دفيناً بداخله يخبره بأن لا يقدم على أي حركة تلفت الإنتباه له.

كان الصوت الوحيد هو صوت الشيء الواقف أمام الباب الواقع في نهاية الممر وهو يقوم بفتح الباب الخشبي ببطء , مصدراً أزيزاً عالياً يحطم الأعصاب. وقف (ساي) متصلباً مكانه حتى بعد أن دلف الشيء (أو الشخص؟) إلى الداخل وأنغلق الباب من خلفه , وبقي على هذه الحال لمدة دقيقتين أو أكثر , وهو يحادث نفسه بجنون ..
" مالذي حدث للتو ؟! لقد جننت , لا شك في ذلك .. (أمورا) كانت محقة , يجب علي أن أنام أكثر. (أمورا) ؟ أين هي ؟ وأين المغفل (نويل) ؟ هل أتبع هذا الشيء للداخل ؟ "

تمالك نفسه وتقدم للإمام , كان هناك باب واحد فقط وهو الباب الموجود في نهاية الممر. تقدم نحوه وهو يشعر بقشعريرة باردة تسري في أطرافه , ومد يده نحو المقبض النحاسي ليديره ببطء ..

كان الباب مقفلاً .

هذا مستحيل .. لقد حدث كل شيء أمامه .. كان هناك شيءٌ أو شخص غامض قام بفتح الباب والدخول بدون أي مشاكل.

ولكن .. هل حدث هذا فعلاً ؟

لسبب ما , بدأ يشعر بأن أفكاره وذكرياته أختلطت لتكون مزيجاً غير مفهوم من الصور الذهنية والأحاسيس.
لقد بدأ فعلياً بالشك في سلامة عقله , وكل هذه الأحداث تجعل قلقه على صديقيه يصل لمستويات جنونية. عندما يجدهما , سيترك لهما حرية القرار فيما إذا كان هو مجنوناً أم لا , كل ما يريده الآن هو أن يجدهما .. سالمين .

-----------------------------------

" لماذا أركض هكذا ؟"

تساءل في نفسه وهو ينطلق عائداً للبهو وهو يدعو في سِره بأن لا يجد شيئاً ما بإنتظاره هناك أيضاً. لحسن الحظ , كان البهو الرئيسي فارغاً وصامتاً. كانت الإحتمالات السيئة والأفكار السوداء تنهش عقله وهو يهرول صاعداً السلم الرخامي الواسع. إنه لا يعلم حتى إلى أين هو متجه , ولكنه لا يهتم الآن.

وصل إلى الطابق الثاني وهو منقطع الأنفاس. سحقاً .. منذ متى أصبح غير قادر على خوض مجهودٍ بدنيٍ بسيط كهذا ؟
لم يتوقف حتى ليقرر إلى أين سيذهب , بل أخذ يتنقل في الممرات عشوائياً , محاولاً فتح أيٍ من الأبواب المنتشرة فيها.

ولكن أياً منها لم يفتح إلى أن وصل إلى آخر الأبواب في الممر الأيمن.

عندما أمسك بالمقبض وحاول فتحه بسرعة , كان يتوقع أن يكون هذا الباب مغلقاً كغيره, لذا فقد فوجيء عندما وجد نفسه يندفع للأمام ويسقط على الأرضية المفروشة بالسجاد وهو يلهث. لم يحظ سوى ببضع ثوان لإلتقاط أنفاسه قبل أن يسمع حركةً سريعةً في الغرفة تبعها ظهور ظلٌ طويلٌ أحاط به ...

-----------------------------------

" (ســاي) ؟! "

عند سماعه لإسمه يُنطق بصوت شاهق , رفع (ساي) عينيه ببطء لينظر للشخص الواقف أمامه , رغم أنه لم يكن يحتاج لذلك ليعرف من هو .

" (نويل) .. ! " هتف بها بمزيج من الدهشة والإرتياح وهو يرى الشاب الطويل أمامه ممسكاً بمزهرية ثقيلةً كانت – وبلا شك – ستستعمل لتحطيم رأسه لولا أن تمالك (نويل) نفسه في اللحظات الأخيرة. كان وجه الأخير شاحباً بشدة , ويداه المطبقتان على المزهرية ترتجفان بشكل ملحوظ. هب (ساي) ليقفز بسرعة ليواجهه وهو يتراجع للخلف قليلاً.

" أنزل هذا الشيء يا أخي , هل تحسب نفسك مصارعاً ؟! لو تجرأت وقتلتني فسيقوم شبحي بمطاردتك للأبد ! "

" .. (ساي) .. أنت بخير .. لقد ظننت – تهدج صوته وهو يخفض يديه – الحمد لله .. لقد ظننت أنك .. " لم يكمل جملته ولكن مضمونها الكئيب كان واضحاً.

" (نويل) .. مالذي حدث ؟ أين (أمورا) ؟ هل هي هنا ؟ "

أجابه بصوت مرتجف : " لا أعلم .. لا أعلم يا (ساي) .. هناك شيءٌ ما .. إنني .. لقد فوجئنا به عندما ذهبت لتفقد الصوت , لقد صَرَخت (أمورا) وركضنا في إتجاهات مختلفة ولم أتمالك نفسي إلا عندما دخلت إلى هذه الغرفة , ألم تسمعها ؟ .. لقد ظننتك .. ولكن , رباه .. لقد هربت وتركتها وحيدة , كيف لي أن أفعل شيئاً كهذا ؟ "

" لم أسمع شيئاً , لقد كنت أستمع للموسيقى .. هل قلت بأنكما رأيتما "شيئاً" ؟ ربما كان .. أعتقد أنني رأيته .. ولكنني لم أستطع تحديد ماهيته بالضبط, لا يمكنني حتى أن أنفي أو أجزم أنه كان شخصاً."

إقترب (ساي) من (نويل) وربت على ساعده مُهدئاً له , بينما كان عقله يلقي به من جديد في دوامة الأفكار السوداء. إن (أمورا) أكثر جبناً من نعامة حديثة الولادة , ولا بد له من العثور عليها قبل أن يفقدها الخوف عقلها .. أو قبل أن يعثر عليها ذلك الشيء , أياً كان.

" لا تَقسُ على نفسك كثيراً (نويل) , أنا أعلم أنك لا تحب الأشياء الغامضة والغير مفهومة , ولا تنسى أن القدرة الخارقة الوحيدة التي تملكها (أمورا) هي الركض والهرب بسرعة .. " قالها محاولاً التخفيف عنه , ولكنه في قرارة نفسه لم يكن متأكداً مما كان يقوله.

" سأذهب للبحث عنها – خفض (ساي) صوته وهو يقول بتردد – ربما تُفضِل أن تبقى هنا ريثما .. "
" لا !! أنا ذاهب أيضاً .. يعلم الله بأنك شجاع ولكنك أحمق , ومن المحتمل أن تنسى طريق العودة إلى هنا أصلاً. بالإضافة إلى ذلك .. أعتقد أنه من الأفضل أن لا نفترق بما أن هناك شيئاً مجهولاً يتجول في المكان , فلنبق سويةً حتى يصل الآخرون على الأقل."

لقد نسي ذلك تماماً .. مع تسارع الأحداث التي وقعت منذ وصولهم للمنزل , نسي بأنه كان من المفترض أن يلتقوا ببقية أصدقائهم هنا...

-----------------------------------

قبل ستة أيام ..
الخامس من فبراير .

كان الجو بارداً بلا شك , ولذا قام (ساي) بإعداد كوب من القهوة الساخنة لنفسه قبل أن يجلس بمواجهة الشاشة العملاقة التي إتصلت بجاز الحاسوب خاصته.

بسببِ أنه وأصدقاؤه عادةً مشغولون في النهار (الجامعة , العمل , إلخ ..) فقد كان ملتقاهم الوحيد هو المحادثات الجماعية عبر الإنترنت. وقد كان ذلك هو اليوم اللذي قام فيه (لورانس) المشاكس بإخبارهم بأنه رأى منزلاً أثرياً شبه مهجور خلال زيارته لهذه القرية التي يسكنها أقرباؤه , وأقرن كلامه بصورة غير واضحة المعالم يبدو أنها التقطت عن طريق هاتف محمول لمنزل يقع في أعلى تلٍ منخفض.

(Laurence) : " إنه ضخم , أضخم من منزل (نويل) حتى ! ولا أحد يسكنه حالياً لسبب ما , ربما بسبب الإشاعات المحلية بإنه مسكون أو شيء من هذا الهراء , ولكن لا يمكن لشيء كهذا أن يكون صحيحاً. الأشباح والموتى الأحياء ومصاصو الدماء هم مجرد خزعبلات يستعملها (ساي) ليخيف بها الفتيات."

(Sai) : " شكراً لأنك تظهرني بمظهر الفتى اللذي لا همَ له سوى ملاحقة الفتيات لإخافتهن .."

(Amora) : " أنت كذلك فعلاً ! لا أشك بأن سمعتك في مقر عملك هي بسوء سمعتك عندما كنت في الجامعة , كان الكل يخشى من غرابة أطوارك , أنا حتى لا أعلم ماللذي حصل لي لأقبل صداقتك ! "

(Noelle) : " هل تعلم من يمتلك هذا المنزل حالياً يا (لورانس) ؟ بما أنني أعمل مع والدي في شركة للعقار فإنني قد أتمكن من شرائه بسعر جيد , خاصةً مع وجود إشاعات كهذه حول المكان. لا بد أن المالك يتوق للخلاص منه."

(Sai) : " تباً لكما ! أهكذا تخاطبان من هو أكبر منكماً سناً وأكثر حكمة ؟! يالهذا الجيل ..! "

(Laurence) : " لا تحاول أن تظهر نفسك بمظهر الشخص العاقل لمجرد أنك الأكبر عمراً هنا. أممم .. لا أعلم ذلك (نويل) , لم يذكر لي أحد بأن هناك ثمة مالك للمنزل , ولكن لا بد أن يكون شخصٌ ما متواجداً على الأقل في المكان , أليس كذلك؟ "

(Noelle) : " على الأغلب , نعم. إنني أفكر بزيارة المكان لمعاينته والتحدث لمالكه إن وُجد. ولكن .. "

(Sai) : " ولكن ماذا ؟ هل أنت خائف من إمكانية وجود شبح بالداخل ؟ أنا أعلم أنك لا تحب هذه الأشياء."

(Amora) : " لا تقم بالسخرية من إبن عمي فقط لأنه شخص طبيعي ! "

(Sai) : " من الطبيعي أن تدافعي عنه فأنتما في النهاية .. جباناااان ! "

(Noelle) : " إخرس أيها المشعوذ ! لست أنا اللذي يقوم بتربية كومة من القطط السوداء كحيوانات أليفة , لو كنا نعيش في العصور الوسطى لما تردد الناس في إحراقك وحيواناتك. "

(Amora) : " لو كنا نعيش في العصور الوسطى لكنت سأسعد بالإبلاغ عنه فوراً. "

(Laurence) : " لم لا نذهب هناك سويةً حفاظاً على مشاعر (نويل) المرهفة ؟ حسناً .. ربما كانت (أمورا) جبانةً أيضاً ولكنها فتاة فذلك متوقع نوعاً ما. كما أنني أرغب برؤية وجه (ساي) وهو يكتشف أن كائناته الأسطورية الغريبة لا وجود لها في الواقع. بالإضافة إلى أننا لم نر بعضنا البعض منذ فترة ليست بالقصيرة, وإجازة الربيع على الأبواب. علينا أن ندعو باقي المجموعة أيضاً ! "

(Sai) : " حسناً , لقد كنت سأقترح شيئاً كهذا بما أنني سأكون في إجازة من عملي إبتداءاً من الأسبوع القادم."

(Amora) : " أراهن بأنكما تشعران بالخوف ولكنكما لا تريدان الإفصاح عن ذلك .. "

(Laurence) : " من تظنينني ؟ أنت ؟! "

(Sai) : " من تحسبينني ؟ الآنسة (أمورا) الجبانة ؟! "

(Amora) : " من قال بأنني خائفة ؟! إنني أرغب بالذهاب فالأمر يبدو مسلياً , كما أنني لا أؤمن بالأشباح فهم لا يتواجدون إلا في الأفلام السخيفة. "

(Noelle) : " تذكرا بأني لم أطلب منكما القدوم لأنني خائف ! ولكن هذه فرصة جيدة لنقضي بعض الوقت معاً , ربما أمكننا أن نغامر قليلاً بينما تساعدونني في إتمام هذه الصفقة التي قد تكون مربحة ! "

-----------------------------------

آه , فعلاً ... لقد كان الإتفاق هو أن يتقابلوا هنا , ولكن يبدو أن المجموعة الأخرى تأخرت في الوصول.

ولكن .. كيف له أن يعلم أين هم الآن ؟ ربما كانوا بالخارج ولكنهم لا يستطيعون الدخول لأن الباب موصد , ويعلم الله فقط من قام بفعل ذلك. ربما كان من الأفضل أن لا يدخلو لهذا المكان أصلاً , فهو ليس طبيعياً أبداً. ذكَرته تلك الأفكار بالوضع الحالي , حيث ما زالت (أمورا) ضائعةً وما زال (نويل) مصدوماً.

بحركة سريعةً قام بالإمساك بيد (نويل) وسحبه بإتجاه الباب.
" إذا كنت تريد أن تجد (أمورا) سالمةً فأقترح أن نتوقف عن الحديث ونبدأ بالبحث , هناك شيءٌ ما يتجول هنا بالإضافة إلينا. "




الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة - إنتهى -

حسناً, ربما كان الجزء قصيراً نوعاً ما, ولكنني أحبذ عدم التعجل في كشف الأحداث, وفضَلتُ على ذلك شرح سبب تواجدهم في المنزل حالياً.

كما لاحظتهم فإن مجموعةً جديدةً من الشخصيات ستنضم للثلاثة قريباً, ولكن قبل ذلك....

هل سيجدون (أمورا) سالمة؟

ساي 09-22-2022 11:56 AM

. الفصل الثالث
-----------------------------------

من الذي يقرر ما هو الجنون ؟ أين يبدأ الحد الفاصل ؟ أين ينتهي ؟

-----------------------------------

إنه ذلك السكون الثقيل مرةً أخرى ..

لا يوجد أي صوت , لا توجد أي حركة. لوهلةٍ ظن الإثنان بأنهما توهما الأمر بأكمله , ولكن ما أن تقدما قليلاً في الممر المقابل لهما ليبدأ البحث هناك حتى عادا للواقع المرعب ثانيةً. كانت الإضاءة جيدةً هنا , وذلك ما جعل المنظر أكثر سوءاً.

كانت هناك بقعة واسعة من الدماء الداكنة اللتي أكسبت المكان رائحةً حديديةً صدئة , بينما لم يكن هناك أي أثر لمصدرها. لم يساعد ذلك في تحسين ظنونهما حول مصير (أمورا) أبداً , وبدا (نويل) على وشك الإغماء لولا أن تقدم (ساي) وانحنى ليلمس الأرضية المصبوغة بالأحمر القاتم.

" إنها جافة .. هذا يعني بأن ما حصل هنا كان قبل فترة ليست بالوجيزة. لا يمكن أن تكون (أمورا) , فلو كانت هي لسمعناها .. ولكن من , أو ماذا كان مصدر هذه الدماء ؟ "
" هذا الوضع غير طبيعيٍ أبداً يا (ساي) , لم يكن من المفترض حدوث هذا .. "

" تمالك نفسك (نويل) , نحن ما زلنا – "

" لحظة .. هل تسمع ذلك ؟ "

" أسمع ماذا ؟ "

" إنه صوت دقات ساعةٍ ما .. "

" ساعة ؟ - أرهف السمع لبرهةً بينما تعالى صوت دقات مكتومة - ربما كانت الساعة التي وجدتُها بالأسفل. ربما سمعت (أمورا) الصوت أيضاً , لا بد أنها ستتجه نحوه ! فلنعد إلى الأسفل بسرعة."

إنطلقا يهرولان نحو السلالم المؤدية للأسفل وهما يلتفتان حولهما بقلق , فليس هناك من شيء يجعل وضعهما أسوأ الآن سوى ظهور ذلك الشيء الغريب مرةً أخرى من حيث لا يتوقعون.

تبع (نويل) خطوات (ساي) وهو يقوده عبر الممر إلى الغرفة التي وجد فيها الساعة الضخمة سابقاً , ولكنه تخطى الأخير ليدفع الباب الخشبي بعنف وهو يصرخ بإسم (أمورا) ويفاجأ بعدها بــ ...

-----------------------------------

كان اللون الأحمر الصارخ هو أول ما رأته عيناهما.

تقدم (نويل) بخطوات بطيئةً للداخل وقدت إعتلت محياه الوسيم نظرة غير مُصدقة , بينما تنفس (ساي) الصعداء وهو يقاوم الرغبة في الإندفاع للأمام كالأبله.

إن القوة التي دفع بها (نويل) الباب جعلت (أمورا) تقفز من مكانها بوَجَل وهي تطلق صرخةً صغيرةً سرعان ما كتمتها بيديها. بدا وجهها شاحباً وهي تتراجع للخلف بحركة لا إرادية , لا بد أنها ظنت بأن القادم هو ذلك المجهول الذي رأته في البهو.

" (نويل) , (ساي) .. أنتما هنا .. لماذا ؟ " تمتمت بذلك بدهشةٍ فاجأت (ساي) , لقد كان يتوقع أنها ستبدأ بالبكاء والعويل في أي لحظة الآن, ولكنها لم تفعل.

لم يجبها (نويل) , ولم يبد أنه سمع سؤالها أصلاً , فقد تقدم ليمسك يدها بلهفة وهو يبتسم بسعادة.

" يا إلهي , (أمورا) ! أنت بخير , الحمد لله , الحمد لله .. أيتها البلهاء , لا تصيبيني بالقلق هكذا , أقسم بأنني كنت على وشك الإصابة بأزمةٍ قلبية بسبب ما رأيناه , ولكنك إختفيتِ فجأة ولم أستطع العثور عليك .. "

" حمداً لله أنك بخير ! لقد عدتُ من هذه الغرفة للبهو ولم أجدكما , مالذي حدث ؟ " قالها (ساي) وهو ينظر نحوها بعينين فاحصتين.

قالت بإرتباك ومعالم الذنب تبدو واضحةً على وجهها الجميل : " أنا آسفة ً حقاً .. لم أكن أقصد أن .. لكنني فقط فوجِئتُ بظهور ذلك الشيء , وعندما صرخ (نويل) لم أستطع السيطرة على نفسي وأخذت أركض في الممر إلى أن وصلت لهذه الغرفة. "

" ولكن ... ! " قَطَع (ساي) كلماته وهو يعقد حاجبيه بصمت. (( ولكن هذا مستحيل ... ))

" (ساي) ؟ "

" هممم ؟ نعم .. مالذي كنا نقوله ؟ "

قال (نويل) وهو يبحث عن شيء ما في جيبه : " كنا نقول بأن علينا الخروج من هذا المكان بأسرع وقت , فلسنا في حاجةٍ لأن ننتظر ظهور المزيد من الأشياء الغريبة لكي نفعل ذلك. "

أتبعت (أمورا) بيأس : " ولكن الباب مغلق بإحكام , لقد حاولت فتحه للخروج ولكنه لم يستجب أبداً , والنوافذ لا تُفتح أيضاً لسببٍ ما ."

" بمناسبة ذِكر الأشياء الغريبة .. (أمورا) .. أنتِ .. لست جريحةً في مكانٍ ما , أليس كذلك ؟ " كان (ساي) يعلم الإجابة مسبقاً ولكنه قرر السؤال على أي حال.

" ماذا ؟ أمم , لا , على الإطلاق. إنني بخير , فيما عدا الجرح المعنوي بسبب ترككما لي لوحدي ! " قالتها بنبرة عتاب مازح وهي توجه نظرات عابثة نحو (نويل) الذي تظاهر بأن التأمل في السجاد يحتل جُل إهتمامه.

(( هذا جيد. يبدو أن الدماء في الطابق الثاني ليست لها بالفعل. ))

إبتسم (ساي) بلطف وقال بنبرة هادئة : " أنتِ أقوى مما توقعت , لا تبدين بذلك الخوف حول ما حدث. "

قالت وهي تُبعد بعض خصلات الشعر المتناثرة على وجهها : " حسناً , لقد فوجئتُ أنا نفسي بذلك. أعتقد بأنني تماسكت عندما فكرت في (نويل) , لقد كان خائفاً بحق مما جعلني أقلق عليه بشدة وقد قررت أن أكون هادئةً وشجاعةً لأقوم بالبحث عنه – لاحظت النظرة البائسة التي إعتلت وجه (ساي) فأسرعت تردف - أوه , لقد قلقت عليك أنت أيضاً يا (ساي) و أردت البحث عنك ..! "

" نعم نعم , أستطيع رؤية قلقك عليَ بوضوح – قالها بنبرة متهكمة – ولكن هذا لا يهم الآن. مالذي تفعله يا (نويل) ؟ كُفَ عن الدوران في الغرفة هكذا ! "

" إنني أحاول الإتصال بـ (لورانس) , ولكنني لا أستطيع إتمام أي مكالمة. "

وافقه (ساي) قائلاً : " لقد حاولت ذلك مسبقاً , لا جدوى من ذلك على ما يبدو. ربما علينا العودة للطابق الثاني والإنتظار في الغرفة التي كُنتَ فيها حتى نَجِدَ مخرجاً أو يجدنا الآخرون. أعتقد أننا جميعاً بحاجةٍ بعض الراحة. "

قالت (أمورا) بتعاسةٍ : " إنني فعلاً منهكةٌ جداً , فلنذهب إلى الأعلى , ولكن السرير سيكون لي ! بإمكانكما أن تناما على الأرضية أو داخل المدفأة ! "

" أيتها القاسية ! أهكذا تشكرين من جاء ركضاً لإنقاذك ؟ " غمغم (نويل) بحقد وهو يعيد هاتفه المحمول إلى جيبه بعد أن تأكد من عدم جدوى محاولة الإتصال بأي شخص في الخارج.

إستمر الإثنان في الجدال وهما يخرجان من الغرفة غير منتبهين لـ (ساي) الذي وقف في مكانه بصمت وهو ينظر إلى الساعة الخشبية الضخمة بتساؤل.

ما زالت عقارب الساعة تشير إلى تمام الرابعة , مما أكد نظريته الأولى بأن هذه الساعة تعاني تلفاً ما. ولكن الذي جذب إنتباهه هو وجود فتحة صغيرة في منتصف قرص الساعة , وهو شيء لم يلاحظه في المرة الأولى. كانت أشبه بفتحة لمفتاح أو قطعةٍ صغيرة الحجم. ربما كانت هناك أداةً ما تستخدم لمعايرة الساعة؟

نفض هذه الأفكار من رأسه وأسرع يلحق بصديقيه عندما إنتبه بأن أصواتهما إبتعدت عن مكانه بشكل ملحوظ.

-----------------------------------

" إركضي !! لا تنظري للخلف يا بلهاء , إركضي فقط ! "
" إلى اليمين , أسرعا !! "
" (نويل) , (ساي) !! إنه يقترب ! "
" لا تنظري !! "

كان الثلاثة يتسابقون لصعود السلالم وأصوات خطواتهم المتسارعة تدوي في البهو الذي كان صامتاً حتى دقيقةً مضت. فما أن وصلوا للبهو حتى وجدوا ذلك الشعور الخانق اللذي صاحب ظهور ذلك الشيء المجهول سابقاً , وكأنه كان بإنتظارهم , إندفع من ظلمات الممر الأيسر لينقض عليهم قبل وصولهم للطابق الثاني. وهذه المرة , كانت ملامح "الشيء" واضحةً لهم.

لقد كان شخصاً , أو على الأقل , أشبه ما يكون بشخص. كان مزيجاً من شيء لا يبدو إلا كشخص , وفي نفس الوقت , يستحيل أن يكون شخصاً.

لم يقف أي منهم لينظر إلى ملامح ذلك الشخص الذي بدا وكأنه يقع في منتصف بقعةً مظلمةً على الدوام , بل سارعوا إلى الغرفة اللتي كان (نويل) مختبئاً فيها بالطابق الثاني. كان (ساي) أول الواصلين حيث دفع الباب وأنطلق للداخل وهو يصرخ على الآخرين بالإسراع. كادت (أمورا) أن تتعثر وتسقط في الممر لولا أن (نويل) قام بإلتقاطها وسحبها للغرفة وهو يلهث بينما أغلق (ساي) الباب خلفهم وأسند ظهره عليه دافعاً إياه بقوة ليمنع ملاحقهم من الدخول. كانوا جميعاً فزعين بدرجات متفاوتةً ولكن لم يصدر أي صوت من خلف الباب لبضع دقائق قضوها في إلتقاط أنفاسهم. كانت (أمورا) ترتجف وهي واقفة في ركن الغرفة.

وحالما أن إسترخى (ساي) ظناً منه بأنهم أصبحوا في أمان , شَعر بالباب يُدفَعُ بقوةٍ من خلفه , وكادت المفاجأة أن تفقده توازنه للحظة ولكن (نويل) إسرع ليغلق الباب الذي إنفتح قليلاً جراء الدَفعة. وبينما كان يفعل ذلك , لاحظ بأن مفتاح الباب كان موجوداً في القفل – لحسن حظهم – فقام بإدارته مرتين وقفز للخلف. ظلت أعينهم ملتصقة بالباب الذي بقي ساكناً لبرهة , وتبع ذلك صوت خطوات ثقيلة تسير مبتعدة .. وعندها فقط , تساقطوا جميعاً على الأرض يلهثون.

-----------------------------------

جلست (أمورا) على السرير الصغير في الغرفة وهي تضم ركبتيها إلى صدرها , بينما وقف (نويل) بصمت عاقداً ساعديه ومسنداً ظهره للجدار. أما (ساي) فقد تربع على الأرض أمام المدفأة وهو ينظر لألسنة اللهب بعينين شاردتين , ويلقي لها بقطعة من الخشب بين الفينة والأخرى. لقد مضت عشرون دقيقةً تقريباً , وما زال الوضع هادئاً. لم يسمعوا أحداً يتجول في الممر ولم يحاول أحدٌ إقتحام الغرفة ثانيةً.

مهما كانت طبيعة مهاجمهم, فهو ليس شبحاً على الإطلاق. الأشباح مجرد أطياف هائمة, أو أنها من المفترض أن تكون كذلك. ولكن هذا الشيء يمتلك قوة ثور هائج, بالإضافة إلى أنه يستحيل على باب خشبي أن يحول دونه ودونهم إن كان شبحاً فعلاً.

تنحنح (نويل) بلطف ليكسر حاجز الصمت.

" تبدين مرهقةً لحد الإغماء يا (أمورا) , من الأفضل لكِ بأن تخلدي للنوم قليلاً ما دمت تستطيعين ذلك. "

" ولكن ... "

" لا تقلقي , إن الباب موصد بالمفتاح , والمفتاح مع (ساي). لن يتمكن أحد من الدخول. "

" وأنت أيضاً يا (نويل) .. " قال (ساي) وهو يلتفت ليواجههما " لا تبدو بحالة جيدة يا صاح. لست أحبذ فكرة أن ترهق نفسك لدرجة الإغماء فأنا لن أقوم بحمل جسدك الضخم إلى الخارج عندما نجد طريقةً للهرب. "

" جسدي ليس ضخماً .. أنت فقط قصير القامة .. "

" .. وأكبر عمراً , والآن إصمت وإستمع لمن هم أكبر منك سناً وأذهب لتخلد إلى النوم. "

أطلقت (أمورا) ضحكة قصيرة ناعمةً وهي ترى ذلك , لقد بدا لوهلة أن واقعهم المظلم قد أشرق قليلاً.

" تصبحان على خير , أظنني سأغفو قليلاً ", قالتها وإندست تحت الأغطية كلياً لتغط في نوم عميق بعد عدة دقائق.

بعد فترة وجيزة من الصمت , قال (نويل) بصوت خافت : " إنني أحسدك على قدرتك للمزاح في وقت كهذا .."

تمتم (ساي) وهو يخرج قطعةً من حلوى الكرز من جيبه ويقوم بإزالة غلافها الزاهي : " أعتقد أنني سأصاب بالجنون إن لم أفعل. تباً , إنها آخر قطعة من الحلوى في جيبي .. إسمعني , يجب عليك أن تحصل على قسط من الراحة , أستطيع رؤيتك وأنت تغفو من هنا. "

" وماذا عنك أنت ؟ "

" أنا ؟ أنت تعلم أنني لست مولعاً بالنوم عادةً. سأبقى مستيقظاً لأنبهكما في حال عاد ذلك .. الـ .. مهما يكن. سأوقظك لتحل مكاني بعد بضعة ساعات. "

" حسناً .. – تردد (نويل) قليلاً قبل أن يحسم أمره - .. إتفقنا, سأنام على الأريكة قليلاً. لا تقم بتشغيل الأغاني الصاخبة وإلا ألقيتك خارج الغرفة. "

" أعلم ذلك , أتظنني طفلاً ؟! إذهب فقط ! "

زفر (ساي) بحنق وهو يتمتم لنفسه: " تباً , على ماذا سأتسلى الآن ؟ "

لوَح له (نويل) وهو يستلقي على الأريكة المجاورة للسرير قبل أن يعطيه ظهره وينطلق إلى عالم الأحلام في زمن قياسي. يبدو أنه كان يجاهد ليبقى نفسه مستيقظاً فعلاً.

خيَم السكون على الغرفة الواسعة ولم يقطعه إلا صوت الخشب والنيران تأكله لتمد المكان ببعض الدفء , وقرر (ساي) بأن أفضل ما يقوم به لتمضية الوقت هو تفحص الكتاب الذي كانت تتصفحه (أمورا) والذي تركته على الرف الواقع بجانب السرير , فنهض ليحمل الكتاب الصغير ذو الغلاف الفاخر ويعود به إلى مكانه أمام المدفأة.

ولكن ما أن تحرك بضعة خطوات حتى تناهى إلى مسامعه صوت خافت إختلط بصوت النيران المتأججة .. صوت خطوات ثقيلة تقترب من باب الغرفة ببطء. فور أن سمع (ساي) ذلك الصوت توقف متسمراً وبدأت عيناه بالإتساع تدريجياً. ولكن الصوت الذي أصبح أمام الباب مباشرةً توقف لتتبعه لحظة من الصمت الذي لم يستمر طويلاً, حيث تلى ذلك ثلاثُ طَرَقاتٍ خفيفة على الباب الخشبي مع صوت خافت يهمس من الجهة الأخرى: "(ساي)؟".

تصلب (ساي) في مكانه بصمت للحظات وهو يشعر بأنفاسه ودقات قلبه تتسارع تدريجياً , ثم إستدار ببطء ليواجه الباب. هل سمع إسمه حقاً؟ لم يبد الصوت عدوانياً, ولكن كيف يعلم بأنه هذه ليست خدعة أو أنه ليس مجنوناً فعلاً؟ تواردت الأفكار في رأسه بسرعة البرق بينما إمتدت يده المحاطة بإسورة معدنية إلى داخل جيب معطفه الداخلي وخرجت وهي تحمل سكين جيب مطويةً قام بفردها بهدوء. تأمل النصل قليلاً , لا بأس به. نظر إلى رفيقيه النائمين, هذا جيد, لا حاجة لهم بأن يروه الآن.

توجه إلى المكان الذي كان يحتله قبل قليل أمام المدفأة وانحنى ليلتقط هاتفه المحمول من الأرض, ولدقيقتين من الزمن , ظل يكتب شيئاً ما بداخله بينما كانت أذناه تنصتان لصوت الخطوات البعيدة داعياً الله في سره بأن لا يحدث شيء قبل أن ينتهي مما يفعله.

وأخيراً, بعد أن إطمأن بأن صديقيه ما زالا نائمين بسلام , تقدم ليضع الكتاب وهاتفه المحمول بجانب (أمورا) النائمة.

كانت الأصوات متوقفةً تماماً منذ وهلة, ما من صوت خطوات أو طرقات, أو شخصٌ مجهول يناديه بإسمه.

أخرج مفتاح الباب من جيبه وقام بفتحه بحرص لكي لا يصدر صوتاً عالياً , أطل برأسه أولاً ثم تقدم عندما لم ير شيئاً أمامه, وحالما كان واقفاً خارج الباب قام بإغلاقه مرةً ثانيةً بالمفتاح من الخارج , ثم إنحنى ليدفع بالمفتاح للداخل عبر الفتحة الضيقة أسفل الباب.

" سأحاول أن أعود لكما , ولكن إن لم أفعل ... "

لم يكمل جملته , بل وقف ومضى قدماً بصمت يتفقد الممر الذي كان أكثر ظلاماً من الأفكار القاتمة التي ملأت رأسه.




الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة -إنتهى-


بدأت الأحداث بالتسارع قليلاً, فما رأيكم؟ هل تؤمنون بأنه شبح عابث؟ أم أنه شخص عدواني؟

أم أنه شيء غير هذا وذاك؟

ساي 09-22-2022 11:58 AM

. الفصل الرابع
-----------------------------------

هل تتذكرني ؟ هل تحاول أن تنساني ؟ أم أننا لم نلتقي من الأساس ؟

-----------------------------------

" وااااااو ! مجرد النظر إلى هذا المنزل يجعلني أشعر بالحماس , إنها المرة الأولى التي أرى فيها مكاناً كهذا عن قرب ! "

وقف (لورانس) واضعاً يديه على خصره وهو يتأمل المنزل بإبتسامةٍ عريضة , وقد بدا كأنه ينظر إلى لعبة مثيرة كبيرة الحجم. ولكن ملامحه كانت أبعد ما تكون عن الطفولة , فقد كان شعره المصبوغ باللون الكحلي متناثراً في إتجاهات عديدة, بالإضافة إلى تعمده إرتداء عصابة على عينه اليمنى لسبب ما , مما جعل الزرقة الصافية لعينه اليسرى أكثر تأثيراً ووضوحاً. الأقراط الفضية التي يرتديها كانت تلمع بهدوء تحت ضوء القمر الباهت. وبينما كان هذا الشاب اللطيف -ليس حقاً بذلك اللطف- يمشي بتمهل نحو الباب الرئيسي الضخم , تبعه شاب آخر طويل القامة , ذو شعر أشقر بلون القش , وعينان مسبلتان تميلان للون البني الفاتح. كان كل ما فيه هادئاً ورزيناً , إبتداءاً من ملامحه إلى السترة الطويلة ذات اللون السكري الشاحب , وإنتهاءاً بصوته الناعم الدافيء.

" حسناً يا عزيزي (لورانس) , فلتحاول أن لا توقظ الموتى بصوتك. ربما كانت الأشباح لا وجود لها , ولكن الحيوانات البرية موجودة فعلاً , وهي تخرج للصيد بعد غروب الشمس عادةً. "

كانت هذه كلمات (يوهانا) المرحة , والتي كانت تمشي بثاقل بسبب الحقيبة الكبيرة التي كانت تسحبها خلفها. لقد كانت ترتدي بنطالاً يصل لنصف ساقها و قميصاً بسيطاً بنفسجي اللون أظهر لون شعرها الأحمر , بينما توارت عيناها العسليتان خلف نظارة صغيرة ذات إطار وردي.

" شكراً لك يا آنسة المعلومات التي لم يسأل عنها أحد.. هذا غريب , لا أرى أثراً لقدوم (نويل) والآخرين إلى هنا. هل من الممكن أن تتحركي بشكل أسرع ؟ نكاد نموت بسبب الشيخوخة ونحن ننتظرك. " , قهقه (لورانس) الواقف بجانب الباب بصوت عالٍ حتى قام (آرثر) الرزين بإخراسه بضربة سريعةً على الرأس.

" ليس من اللائق أن تخاطب آنسةً بهذه اللهجة الفظَة , لقد فقدت الأمل وأنا أُلقنك هذه الدروس منذ أعوام .. "

تنهد (آرثر) واستدار عائداً أدراجه ليقوم بمساعدة (يوهانا) في سحب الحقيبة الثقيلة , وقابلت هي لطفه بإبتسامة شاكرة خلابة.

تمتم (لورانس) وهو يفرك مؤخرة رأسه : " مالذي تحملينه في هذه الحقيبة على أي حال ؟ كل ما يحتويه دولاب ملابسك؟ "

أجابت بمرح : " بل جميع أنواع الأطعمة الخفيفة التي يمكن أن تفكر بها ! لا أعلم إن كان الآخرون قد وصلوا أم لا , ولكن القرية تبعد مسافةً لا بأس بها عن هذا المكان , أشك بأنني سأتمكن من الذهاب إلى المتجر لشراء الأطعمة بسهولة. "

" يا إلهي .. يالك من.. كيف لفتاة ستصبح طبيبةً بأن تفكر طول الوقت في الطعام كالدببة القطبية ؟ "

" (لورانس) !! ", صاح (آرثر) بجزع وهو يسترق النظرات ناحية (يوهانا) التي لم يبد عليها التأثر بسخرية (لورانس) اللاذعة. يبدو أنها إعتادت على ذلك.

" تماماً كما يمكن لفتىً مثلك أن يتخرج من قسم البرمجة رغم إمتلاكه رأساً فارغاً ! " , قالتها باسمة وهي تنظر له بتهكم.

تلوَن وجه (لورانس) بمزيج من الغيظ والخجل , مما جعله يستدير ليفتح الباب بحنق ويندفع إلى الداخل بينما لحقه الآخران وهما يتضاحكان.

-----------------------------------

" جيد , لحسن الحظ أن الباب ليس مغلقاً. ولكن – دارت عينا (آرثر) في المكان بسرعة – لا يبدو أن هناك أحداً هنا. هل تأخر (نويل) والآخرون في القدوم؟ "

" يا له من منزل مرتب وأنيق , سيكون (نويل) محظوظاً إذا تمكن من شرائه. " , هتفت (يوهانا) وهي تقوم بإغلاق الباب خلفها.

" المكان نظيف , الإضاءة جيدة , هذه ليست أجواء القصور المسكونة على الإطلاق , لابد أن (ساي) سيحبط كثيراً عندما يصل إلى هنا ! أو ربما – إتسع ثغره بإبتسامة ماكرة – ربما كان عليَ أن أصنع له شيئاً مثيراً ! "

نظر له (آرثر) و قال ببرود : " إياك أن تفكر بفعل أي شيء أحمق .. نحن لسنا في منزل أحدنا , لاحظ أننا لم نجد المالك أو الحارس بعد. "

وعلى ما يبدو فإن (لورانس) قرر أن يتجاهل كلام صديقه حيث أنه كان متجهاً للسلم المؤدي إلى الطابق الثاني وهو ينادي بصوتٍ مرتفع متسائلاً ما إذا كان هناك أحد. بعد أن أطلق زفرةً يائسة , قام (آرثر) باللحاق به وهو لا يزال يحمل الحقيبة قائلاً : " إذا كان هناك شخص ما هنا فلا بد أنك قد أخفته بصوتك هذا , ستأتي الشرطة لحملنا للسجن بتهمة التعدي على أملاك الغير بلا شك. "

كانت (يوهانا) منشغلةً بتفقد البهو الواسع بإنبهار بينما وضع (آرثر) الحقيبةً جانباً حالما وصل للطابق الثاني , لابد من أن (لورانس) كان متحمساً جداً للإستكشاف فهو لم يره أمامه في أي مكان.

تناهت إلى أنفه رائحةٌ غريبةٌ بينما نادى بصوت متوجس : " (لورانس) ؟ أأنت هنا ؟ "

أتاه الرد مختنقاً , متحشرجاً .. كأنه صوت شخصٍ آخر. " أنا هنا .. "

" هنا .. أين ؟ " أجاب بإستغراب قلق .

لم يصله أي ردٍ هذه المرة , ولكنه تابع التقدم في الممر بينما الرائحةٌ تزداد قوةً. رائحةٌ هي مزيجٌ من الخشب المحترق والحديد الصدئ. ولكن سرعان ما اكتشف مصدر أحدهما.

برغم عدم شدة الإضاءة في هذا الممر إلا أن البقع الحمراء الصغيرة التي تناثرت على الأرضية كانت واضحةً, بدأ رأسه يدور وهو يتساءل عن مصدر ذلك , ولكن تساؤلاته لم تدم طويلاً ..

لقد رأى (لورانس) يخرج من إحدى الغرف التي كان بابها منفرجاً ووجهه شاحبٌ بشدة , مما كان أبلغ من أي كلمة.

-----------------------------------

" هذه القلادة ... أليست قلادة (ساي) ؟ "

بقي السؤال معلقاً في الهواء بلا إجابة في الغرفة الدافئة , ولكن الثلاثة الذين وقفوا بداخلها كانوا ينظرون لبعضهم بصمت مهيب حَمَل مخاوفهم.

على طرف السرير الصغير ذو الأغطية الفاتحة رَقَدَ شيءٌ معدني صغير ببراءة وقد تلوَنت معظم أجزائه بنفس لون البقع التي صبغت أرضية الممر.

بالرغم تلطخ معظم أجزائها ببقع متفاوتة الحجم من الدماء , إلا أن إسم (ساي) المحفور على القلادة الفضية بخطٍ منمق كان واضحاً. باتت القلادة بمثابة ثقبٍ أسودٍ قام بإمتصاص كل الدفء والمرح الذي كانوا يحسون به عند قدومهم إلى هنا.

تنقلت عينا (يوهانا) المذعورتان بين كلٍ من (آرثر) الذي إنتصب بجانب السرير وتعابير وجهه الهادئة متجمدة بشكل لا يظهر مالذي يفكر أو يشعر فيه كأي شرطي محترف, و (لورانس) الواقف بجانبه وهو يعقد ذراعيه بشكلٍ عصبي جعله يبدو على إستعداد للهرب عند أول فرصة.

" إنها فعلاً قلادة (ساي) ... – قالها (آرثر) وهو يمد يده ليرفعها أمام عينيه ويتمتم بصوت خفيض – ولكن ... ربما آذى نفسه بطريقةٍ ما ؟ هل أتى (ساي) إلى هنا مع (نويل) و (أمورا) ثم قاموا بالمغادرة عندما حدث ما حدث ؟ "

" ولكن ألم يكن الإتفاق أن يقوموا بالإتصال فور وصولهم ؟ لا أظنني تلقيت أي إتصال منهم .. " , أسرعت (يوهانا) وأخرجت هاتفها لتتأكد من عدم وجود أي إتصالات واردة ربما لم تنتبه لها مسبقاً , وبالفعل لم تكن هناك أي مكالمة. وبعد أن قامت بإخبار رفيقيها بذلك , قام (آرثر) بوضع القلادة الدامية في جيب معطفه واستدار ليمسك بكلتي يديهما ويسحبهما للخارج وهو يقول: " أتمنى أن لا تكون هذه مجرد مزحة ثقيلة من صنع (ساي) , ولكنني في نفس الوقت أفضل أن تكون مزحة على أن تكون شيئاً آخر... "

" لا أعتقد بأن (نويل) و (أمورا) سيدعانه يقوم بشيء كهذا..." , قالت (يوهانا) بحذر خائف.

" أعلم ذلك, ولكن هذا لا يجعلني أشعر سوى بمزيد من التشاؤم." , غمغم (آرثر) مفضلاً الإحتفاظ بأفكاره السوداء لنفسه.

-----------------------------------

لقد مر من الزمن أكثر من نصف ساعة.

قام ثلاثتهم في البداية بالتجول بحذر في أرجاء الطابق الثاني من المنزل الضخم محاولين إيجاد أصدقائهم , ولكن بدون جدوى. كانت أغلب الأبواب في الطابق الثاني مغلقة. بإستثناء بضع كلمات عصبية ألقاها (لورانس) هنا وهناك , كان الصمت سيد الموقف , لقد كان كلٌ منهم مشغولاً بأفكاره التي لم يرد أن يتلفظ بها خوفاً من أن تصبح حقيقةً بطريقةٍ ما.

استمر الوضع على ما هو عليه حتى وصلوا للبهو الرئيسي في الطابق الأول وقد تمكن منهم اليأس , كان الهدوء المحيط بهم يزيد الوضع سوءاً. وأخيراً تحدث (لورانس) بخفوت قائلاً: " ربما كان من الأفضل أن نغادر .. لا أثر لأي منهم هنا , إن بقاءنا لن يساعد أحداً."

إندفعت (يوهانا) معترضة: "لا يمكننا فعل ذلك ! ليس بعد رؤيتنا لتلك القلادة , ماذا لو كانوا في مكان ما –"

من الصعب شرح السبب الذي جعلها تتوقف في منتصف جملتها فجأةً. لربما كان التغير المفاجيء في الإضاءة التي بدا كأنها خفتت لوهلة , ربما كان الصوت الخافت القادم من مكان لا يمكن تحديده , ربما كان الشعور الغريزي الذي يخبر الشخص بأن شيئاً ما على وشك الحدوث.

(آرثر) هو أول من تحرك.

كانت الأحداث التالية تقع بسرعة جنونية. (لورانس) يتراجع وهو يطلق سيلاً من الكلمات والشتائم الغير مترابطة , بينما دوَت صرخة (يوهانا) الجزعة في أرجاء المكان وهي تحتمي خلف (آرثر) الذي أطاح بالحقيبة الثقيلة التي كان يسحبها طوال هذه المدة لتصطدم بالشيء الذي ظهر فجأةً في آخر الممر وانطلق نحوهم بسرعة جعلت رؤيته بوضوح أمراً مستحيلاً. كان صوت إرتطام الحقيبة بالشيء عالياً , تبعه صوت صرخة رفيعة لم تبدُ طبيعيةً , ولكن لم يكن أي شيء كذلك منذ قدومهم لهذا المكان.

وعندها فقط , تمكن ثلاثتهم من رؤية مهاجمهم بوضوح.

ملابسٌ أثريةٌ حملت طابع الفخامة وإن بدت باهتةً نوعاً ما, بشرةٌ بيضاء شاحبة تميل للون الرمادي ظهرت أسفلها عروقٌ دقيقةً باهتةٌ تقاطعت في كل مكان, وجه مستدير بملامح دقيقة توسطته عينان واسعتان كان لونهما الوحيد هو السواد اللامع ولا شيء آخر. كانت أطرافه تتحرك بعصبية لتستعيد توازنها بعد ضربة (آرثر) بينما إمتلأ البهو بأصوات أنين غاضب.

لقد كان أشبه ما يكون بطفل في الثانية عشرة من العمر, ولكن ما من طفلٍ بشريٍ تتلون بشرته وعيناه بهذه الألوان.

-----------------------------------

" ما هذا بحق الـ ... ! "

" لا يبدو لي كـ (ساي) , إلا إذا كان قد قام مؤخراً بقص شعره وازداد قُصراً." , قالها (آرثر) بهدوء حذر, مما جعل (لورانس) يلتفت إليه بعصبية مُزجت بنظرة غير مصدقة. حتى في أكثر المواقف جنوناً , يظل (آرثر) هو (آرثر). أما (يوهانا) فقد تشبث كفاها الصغيران بمعطف (آرثر) الأنيق بينما ظلت عيناها المذعورتان تراقبان تخبط الكائن. بالرغم من كونها أذكى الفتيات بدفعتها في الجامعة , إلا أنها عجزت عن الوصول لتفسير مقنع عن طبيعة هذا الشيء. لقد كان من الواضح بأنه ليس حيواناً , ومن الأوضح أنه ليس إنساناً أيضاً. لن تتعب نفسها حتى بأخذ فكرة الأشباح في الإعتبار حيث أنها على درجةٍ عاليةٍ من السخف. بينما تسارعت الأفكار في رأسها , لمحت (لورانس) يفتح فمه ليقول شيئاً ما , ولكنه لم يجد الفرصة ليخرج أي كلمة.

كانت الهجمة الثانية بسرعة الأولى , ولكن هدفها هذه المرة كان (لورانس) الذي وجد نفسه يندفع للخلف بعنف ليصطدم بالجدار خلفه , بينما صرخت (يوهانا) بإسمه ويداها تطبقان على المعطف بشدة. يبدو أن الكائن قد قرر أن يختار هدفاً مختلفاً بعد الضربة المؤلمة التي وجهها له (آرثر) , ولسوء حظ (لورانس) فإنه وجد نفسه ملقىً على الأرضية الرخامية على بعد أمتار منه.

تحرك (آرثر) بأسرع ما يمكنه ليساعد صديقه , ولكن الطفل القادم من الجحيم كان أسرع منه وهو يندفع بإتجاه (لورانس) بسرعة غير بشرية.

-----------------------------------

يقال بأن الأشخاص الموشكين على الموت يرون شريط حياتهم يمر أمام أعينهم قبل لحظاتهم الأخيرة , ولكن (لورانس) كان في حالة صدمة جعلته لا يرى أي شيء سوى الملامح اليائسة التي إرتسمت على وجه (آرثر) وهو يدرك بأنه لن يصل إلا متأخراً و (يوهانا) المتسمرة في مكانها كتمثال بشري متسع العينين.

أطبق عينيه بقوة وهو يزداد إقتناعاً بأنها نهايته بينما شَعَر بنفحة مفاجئة من الهواء تمر بجانبه. مرت ثانية , ثانيتان , ثلاث ثوان .. ولكن شيئاً لم يحدث. لم يشعر بأي ألم , لم يعد يسمع فحيح وأنين الطفل الشيطاني. فتح عينيه ببطء ليرى السبب واقفاً أمامه.

لقد كان (نويل) يقف حائلاً بينه وبين الشيء الذي غُرزت سكين مطبخ كبيرة في منتصف جبهته.

دوى صوت الصرخة الباكية في أرجاء البهو الضخم بقوة جعلت (يوهانا) تقوم بتغطية أذنيها بخوف. هتف (نويل) لـ (آرثر) صارخاً وهو يلقي له بشيء ما:
" (آرثر) ! أرنا مهارتك! "

تلقف الأخير المسدس الصغير -الذي يكاد أن يكون طبق الأصل لمسدس قوات الشرطة الذي يحمله معه دائماً - بمرونةٍ وسرعان ما رفعه ليلقم الكائن الصارخ رصاصةً إخترقت جانب رأسه , مسبباً المزيد من الصرخات المتألمة. كان كل هذا الوقت كافياً ليستعيد (لورانس) رباطة جأشه ويهرع ليساهم مع الشابين الآخرين وذلك بإختطاف الحقيبة الثقيلة من الأرض وتسديد ضربة ثانية للشيء الذي كان يتلوى بعنف وهو يهتف: "تباً لك ! إن كنتَ أنت بهذا السوء فأنا لا أريد تخمين مدى بشاعة والديك! ". ولكن الضربة الأخيرة كانت من نصيب (يوهانا) التي كانت تلهث بشدة بعد إندفاعها لتجذب إحدى التحف الثقيلة التي زينت المكان وركضها لتهوي بها على مؤخرة رأس الكائن الباكي.

لم يستغرق الأمر سوى دقيقة واحدة , تباطأت خلالها حركات الشيء تدريجياً حتى همدت تماماً , ولكن لم يكن أحد يجرؤ من الإقتراب منه خوفاً من أن يقوم بالنهوض فجأة مرةً أخرى. ولكنه , وأمام أعينهم المذهولة , بدأ ينكمش ببطء , بينما تحول لونه إلى الرمادي الشفاف قبل أن يبدأ بالذوبان , كقالب ثلج تم وضعه في فرن ساخن. قالت (يوهانا) بأنفاس متقطعة وهي تغطي فمها بيدها " يا إلهي ... إنه ... " , ولكن الشيء كان قد إختفى تماماً قبل أن تقوم بإنهاء جملتها , تاركاً وراءه قاعة صامتةً ومجموعة من الأشخاص اللاهثين.

-----------------------------------

بعد أن إستجمع الجميع أنفاسهم , كان كلٌ من (نويل) و (آرثر) يجلسان على درجات السلم الرخامي بينما إنشغل الإثنان الآخران بمحاولة إيجاد أي أثر لما حصل للتو , ولكن بالرغم من كونه قد طُعن بسكين وأُطلق عليه الرصاص , لم يبد أن ذلك الكائن قد ترك أي دماء على الإطلاق.

" لم تكن هذه المرة الأولى التي تواجه فيها هذا الشيء الـ ... غير مألوف , أليس كذلك (نويل) ؟" , كان (آرثر) يتحدث بهدوءه المعتاد بينما كانت يداه تقلبان المسدس الصغير الذي ألقاه له (نويل). من الغريب رؤية مسدس خاص بالشرطة في هذا المكان, هل كان أحدهم هنا من قبل؟ ما كان مصيره إن كان قد ترك مسدسه هنا؟ رفع (نويل) رأسه لينظر إليه بحيرة ثم يقول: "مالذي تتحدث عنه؟ لقد واجهتموه أنتم إيضاً بكل تأكيد, ألم تكونوا أول الواصلين إلى هذا المكان؟"

" هل تمزح ؟ " , لم يبدُ على (آرثر) أنه قام بتصديق ما سمعه للتو. " نحن لم نكمل ساعةً واحدةً حتى في هذا المكان , كما أنه كان من المفترض أن تَصلوا إلى هنا قبلنا."

" هذا صحيح يا (نويل) " -قالت (يوهانا) التي يبدو أنها سمعت الجزء الأخير من المحادثة -" لقد قامت (أمورا) بإرسال رسالة لي فور إنطلاقكم , كنا وقتها نقوم بإيقاظ الذكي (لورانس) الذي لا يعرف كيفية إستخدام خاصية المنبه في جواله على ما يبدو."

أتاها صوت (لورانس) الغاضب من بعيد: " لقد سمعت ذلك ! وأنت يا (نويل) , لا تتفوه بالترهات يا صاح. أنت تعلم أن الرحلة من المدينة إلى هذه القرية تستغرق ثلاث ساعات تقريباً."

توقع (آرثر) من (نويل) أن يقوم بالدفاع عن كلماته أو تبريرها , ولكن الأخر إكتفى بنظرة صامتة أتبعها بقوله "يبدو" – زفر بحدة وهو يغلق عينيه – " أننا نحتاج إلى الكثير من الإجابات , ولحسن الحظ ... أو لسوء الحظ ... أن لدينا الوقت الكافي للبحث عنها , كوننا محتجزون هنا كالفئران."

-----------------------------------




الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة -إنتهى-


وصلت بقية الشخصيات أخيراً, ولكن ما ينتظرهم ليس ما كانوا يتوقعونه. أين (ساي)؟ مالذي حصل له؟ ما قصة الطفل الغريب الذي يطاردهم عبر أرجاء المنزل؟

ساي 09-22-2022 12:02 PM

. الفصل الخامس
-----------------------------------
أين تبدأ الدائرة؟ وأين تنتهي؟
-----------------------------------



بعد إقتراح (نويل) بأن يقوموا بالتوجه للغرفة الواقعة بالطابق الثاني بما أن المفتاح كان بحوزتهم , مما يعني أنها المكان الوحيد الآمن لهم حالياً , ولكن قبل ذلك كان يجب أن يقوم بإحضار (آمورا). قام بالسير للممر الأيمن متقدماً المجموعة حتى وصلوا لباب مغلق قام (نويل) بطرقه أربع مرات متتابعة بهدوء. أتاهم صوت (أمورا) من الجانب الآخر وهي تتساءل عن الطارق. لم تتمالك (يوهانا) نفسها فهتفت بفرحة فور سماعها لصوت زميلتها:
" (أمورا) ! أنت بخير ! ". كانت ردة فعل (أمورا) هي فتحها للباب بسرعة لتلقي نظرةً ملأتها السعادة على الوجوه الأربعة التي وقفت أمامها.

أندفعت الفتاتان لتحتضنا بعضهما البعض بلهفة , وبدا أن التوتر بدأ يقل تدريجياً حتى أعاده (آرثر) بقوله: " أنا سعيد برؤيتك سالمةً يا (أمورا), هل (ساي) موجود هنا أيضاً؟".
خيم الصمت عليهم لوهلة قبل أن تقلب (أمورا) عينيها بينه وبين (نويل) بتعاسة.
كان صمتهم أبلغ من أي إجابة , لذا فقد قامت بفتح الباب ليتمكنوا من الدخول لما بدا أنه مطبخ فسيح , تقدمهم (نويل) وهو يقول: " لقد أخبرت (أمورا) بأن تنتظرني هنا , توجد غرفة أخرى في نهاية هذا الممر , ليس هناك الكثير ليقال عنها , ولكنها أحدى الغرف القليلة الغير موصدة في هذا المكان. حاولنا البحث عن (ساي) هناك ولكن دون جدوى.."

كان المكان نظيفاً ودافئاً , مما ساعد الجميع على الإسترخاء قليلاً بعد كل الجنون الذي مرَوا به قبل قليل.
بينما إنشغلت الفتاتان في محادثة خافتة كان (لورانس) يتجول في المطبخ ببطء وهو يتحدث: " على فكرة (نويل) , لم أكن أعلم أنك تملك مسدساً , يبدو أنك لست عديم الفائدة في المواقف الصعبة كما كنتُ أعتقد."

أجابه (نويل) وهو يهز كتفيه: " إنه ليس ملكاً لي , لحسن حظنا فقد وجدته بينما كنا نبحث عن (ساي). لا تلمس تلك السكين يا (لورانس) – إبتسم (نويل) بتهكم وهو يقولها , ناظراً لـ (لورانس) الذي كان يسحب سكيناً من أحد الأدراج – أنت أصغر عمراً من أن تعرف كيفية إستخدامها." غمغم (لورانس) برَد غاضب ما ولكن (آرثر) قام بقاطعته قائلاً: " في الحقيقة .. أظن أنه من الأفضل لنا أن نستخدم كل ما يمكننا إستخدامه كسلاح للدفاع عن النفس. لقد تمكننا من القضاء على ذلك الشيء بجهودنا الجماعية , ولكن ... – صمت للحظةٍ قبل أن يردف – لا نعلم مالذي قد يحصل لاحقاً , نحن في منزل غريب تجري فيه أمور غير طبيعية , و (ساي) ما زال مفقوداً."

تمتمت (يوهانا) لـ (أمورا) بقلق: " أتظنين بأنه بخير؟ أم ... " بالرغم من أنها قالتها بصوت خفيض , إلا أن الجميع سمعها , وعلى الفور , تبادرت إلى أذهانهم صورة القلادة الملطخة بالدماء.

عندما تذكر أنه لا يزال يحملها في جيبه , قام (آرثر) بإستخراج القلادة ورفعها أمام (نويل) - الذي اكفهر وجهه قليلاً - وكأنه يطلب تفسيراً لذلك. أشاح الأخير بوجهه وهو يقول: "ذلك الأحمق ... (ساي) الأحمق ... "

-----------------------------------

بعد فترة ليست بالقصيرة وشرحٌ مطول من قبل (نويل) لجميع ما حصل لهم منذ وصولهم, وأِخباره لهم عن مهاجمة الشيء لهم فور وصولهم , عن عدم قدرتهم على الخروج عن الطريق الباب أو النوافذ , عن إختفاء (ساي) المفاجيء من الغرفة بينما كانوا نياماً ومن ثَمََ عثوره على قلادته المغطاة بدماء طازجة في أحد الممرات القريبة من الغرفة قبل أن يقوم بحملها والعودة بها للغرفة حيث كانت تنتظره (أمورا).

يبدو أن (ساي) قام بكتابة رسالة على هاتفه المحمول أخبر صديقيه فيها بأنه سمع شخصاً يناديه وأنه خرج ليتفقد شيئاً ما, وذَيََلها بقوله: " سأحاول أن أعود لكما , ولكن إن لم أفعل ... "

كانت (يوهانا) تُصرُ بأن ما حدث – رغم غرابته – لا علاقة له بالأشباح والأرواح الشريرة , وهو رأي شاركها إياه الجميع بغض النظر عن عدم وصولهم لأي تفسير منطقي للأحداث. بناءاً على إقتراح (آرثر) السابق , قام الجميع – فيما عداه – بالبحث في المطبخ عن كل ما يصلح ليكون سلاحاً للدفاع عن النفس. كونه و (ساي) الوحيدين الذين يعرفان كيفية إستخدام الأسلحة النارية , فقد إحتفظ لنفسه بالمسدس الصغير , والذي كان يحتوي على بضع رصاصات باقية , لذا قام بتذكير نفسه بأنه من الحكمة إستخدامها بحذر, حتى وإن كان يحمل مسدسه الشخصي أيضاً. كانت "الأسلحة" الأخرى التي وجدها الآخرون أتعس حالاً بكثير من المسدس الصغير: مطرقة متوسطة الحجم , سكين فاكهة , سيخ يستخدم لتحريك الأخشاب في المدفأة , زجاجةٌ مكسورة. ولكنها أعطتهم القليل من الأمان, ولا تزال أفضل من لا شيء , خاصةً وأنهم لم يكونوا يعرفون مالذي يمكن توقعه في مكان كهذا.

" حسناً ... " , عقد (لورانس) ساعديه ثم أردف: " بما أننا الآن – أدار عينيه في محجريهما بتهكم واضح – "مسلحون" نوعاً ما , أعتقد بأنه قد حان الوقت للبحث عن (ساي) ومن ثم إيجاد طريقة للخروج من هنا."

أومأ (نويل) برأسه موافقاً ثم قال: " بالرغم من تَخَلُصنا من ذلك الكائن –" , قاطعه (لورانس) قائلاً: " (جوني) ", مما جعل (نويل) ينظر إليه كأنه طبيب يعاين مريضاً نفسياً قبل أن يكمل (لورانس) وهو يهز كتفيه بأريحية: " لا يمكننا أن نطلق عليه (الشيء) أو (الكائن) للأبد , لقد جَعَلتُ الأمر أكثر سهولةً لك."

غطََت (يوهانا) وجهها براحة يدها وهي تطلق زفرةً يائسة , بينما غمغم (نويل) بنبرة باردة: " لا أعلم عنكم يا رفاق , ولكنني لا أنوي البقاء هنا للأبد , خاصةً ونحن لا نعلم إن كان هناك غير هذا الـ .. (جوني). تباً لك يا (لورانس) , ما هذا الإسم السخيف ؟! أشعر بالحمق الفائق وأنا أنطقه ! ".

أطلق (آرثر) ضحكة هادئة أتبعها بوضع يده على كتف (نويل) قائلاً: " بغَضِ النظر عن رغبة (لورانس) في إطلاق الأسماء على الكائنات التي تحاول قتله , أعتقد أنه محقٌ بشأن البحث عن (ساي) سريعاً ثم الخروج من هنا."

بينما إنهمك الشبان الثلاثة بمحاولة وضع خطة لذلك , لم يلاحظ أيٌ منهم بأن (أمورا) لم تشاركهم الحديث على الإطلاق. كانت تضم حقيبتها إلى صدرها بقوة , وكأنما كانت تستمد منها بعض الأمان , بينما هي تسير ببطء قرب إحدى الدواليب العديدة بالمطبخ الواسع...

" هذه البهارات تبدو بحالة جيدة , والآن نحن نعلم على الأقل بأن هذا المنزل يحتوي على بعض الأطعمة الصالحة للإستهلاك."

كانت (أمورا) على وشك الصراخ لولا أن تمالكت نفسها في اللحظة الأخيرة بعد أن قطع صوت (يوهانا) حبل أفكارها. لم تشعر بتواجد (يوهانا) بجانبها إلى أن تحدثت الأخيرة. إلتفتت (أمورا) لها وابتسمت بإرتباك قائلة: " نعم , أليس هذا مطمئناً ؟", أطلقت ضحكة مصطنعة وهي تزيح خصلةً من الشعر عن عينها بتوتر ظاهر. بدت الفتاة على وشك الإغماء في أي لحظة.

قبل أن تتمكن (يوهانا) المندهشة من التعليق على تصرفاتها الغريبة , بدأ باب المطبخ يرتج بقوة مصدراً صوتاً عالياً بينما كان شيئاً ما يقوم بمحاولة كسره من الخارج.

-----------------------------------

لم يضيع كل من (نويل) و (آرثر) أياً من الوقت في تساؤلات عن هوية الشيء القادم , بل تبادلا نظرةً سريعةً قام (آرثر) بعدها بفحص مسدسه الصغير على عجل , بينما قام (نويل) بسحب (لورانس) من ذراعه قائلاً: " سنقوم أنا و (آرثر) بإبقاء هذا الكائن منشغلاً –", قاطعه (آرثر) متسائلاً بجدية: " سنفعل؟" , قام (نويل) بتجاهله وهو يكمل: "خذ الفتيات واصعد إلى الطابق الثاني , توجه إلى الغرفة التي تحمل (أمورا) مفتاحها, ثم إبقوا هناك !". غمغم (لورانس) وهو ينظر إليه بعين متسعة: " ولكن..." , قاطعه (نويل) بصرامة وهو يدفعه للجانب دفعاً: " ليس هذا بالوقت المناسب لكي تصبح إنساناً منطقياً أيها الأحمق! ثق بنا فقط!".

بدا وكأن (لورانس) سيجادل صديقه مرةً أخرى , ولكنه تراجع بصمت وهو يهز رأسه موافقاً , ثم أسرع ليمسك بيدي الفتاتين الخائفتين ويسحبهما إلى جانب الغرفة بعيداً عن الباب الذي بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وقع الضربات المتتالية.

وبعد عدة لحظات , إنهار الباب الخشبي كلياً مرسلاً سيلاً من الشظايا الخشبية الصغيرة إلى داخل الغرفة , تبعها شيء بدا مألوفاً , بالرغم من كونه من المفترض أن يكون ميتاً.

تقدم الطفل الذي أطلق عليه (لورانس) إسم (جوني) إلى الداخل , وكانت في إستقباله مقلاة قام (آرثر) بإلقائها لتصطدم بمقدمة رأسه , مما جعله يندفع غاضباً مزمجراً بإتجاه الأخير.

كانت هذه هي الفرصة التي ينتظرها (لورانس) الذي إنطلق بسرعة وهو يمسك بيدي (أمورا) و (يوهانا) بقوة , تاركين وراءهم شابين مرهقين بمواجهة كائن لا يمكن قتله.

-----------------------------------

تقدم (لورانس) موقفاً (يوهانا) قبل أن تحاول الإندفاع عبر الباب الذي كان موارباً: " إنتظري! لا تندفعي للداخل هكذا , نحن لا نعلم مالذي يمكن أن نجده بالداخل. دعيني أدخل أولاً."

لم يكن (لورانس) بهذه الشجاعة والشهامة عادةً , مما جعلها ترفع أحد حاجبيها بدهشة , ولكنها لم تعترض.

وضع الشاب المتردد يده ببطء على مقبض الباب المعدني البارد , وبحذر شديد , قام بفتح الباب الخشبي بينما راقبه من الخلف زوجان من الأعين المتوجسة. يبدو أن ثلاثتهم كانوا على إستعداد للركض في حال وجود شيء لا يسر بالداخل.

ولكن الغرفة كانت صامتة صمت القبور , ما زالت كما تركتها (أمورا) آخر مرة.

دلف ثلاثتهم إلى الداخل دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة, لم يكونوا بحاجة للكلام ليعرفوا بأنهم جميعاً يفكرون في ما يجري مع (نويل) و (آرثر) بالأسفل. "ليس هناك خيارٌ آخر", أقنع (لورانس) نفسه, "كل ما أستطيع فعله الآن هو الإنتظار."

إن (آرثر) رامٍ بارع وإن لم يظهر عليه ذلك. لم يصبح ضابطاً في هذه السن الصغيرة من فراغ, لذا فلا داعي لأن يشكك في قدرته على مواجهة طفل أصغر منه حجماً. ولكن لسببٍ ما, كان حجم الطفل يحمل في طياته أضعاف القوة التي يفترض أن يمتلكها جسم ضئيل كهذا.

محاولاً إلهاء نفسه بأي شيء يشغله عن التفكير, تقدم (لورانس) ليلقي نظرة على ساعة صغيرة إستقرت على إحدى الدواليب التي حملت عدداً من التحف الصغيرة. كانت عقاربها المتوقفةُ تشير إلى الساعة الواحدة ظهراً. بنظرة سريعة وجد أن ساعة يده تشير الى العاشرة مساءاً. لابد من أن الساعة الصغيرة تحتاج لإعادة معايرة , حملها بيده وأخذ يُقَلبها باحثاً عن طريقة لفعل ذلك.

" (أمورا) , (يوهانا) , كم الساعة الآن ؟ هذه الساعة العتيقة مصابة بالخرف الوقتي , وأريد أن أتأكد من الوقت الصحيح لإصلاحها".

" إنها تمام الثانية عشرةَ ظهراً".

" الساعة السابعة مساءاً وعشرون دقيقة".

نظرت الفتاتان لبعضهما بحركة سريعة , بينما توقف (لورانس) عما كان يفعله ورفع عينه لينظر إليهما بدهشة.

-----------------------------------

تردد صدى صوت الخطوات الثقيلة وهي تصعد السلم الرخامي للدور الثاني, كان (نويل) يسير ببطء بينما إستند على كتف (آرثر) ليحفظ توازنه. لم تكن معركتهم القصيرة مع الكائن بسوء سابقاتها حيث فقد عنصر المفاجأة خلال هجومه, ولكنه نجح في إصابة (نويل) في جانبه الأيسر. لم تكن إصابة بليغة ولكنه كان يتألم عندما يتحرك مما دفع (آرثر) للتوقف كل بضعة درجات ليسمح له بإلتقاط أنفاسه.

"هل تتوقع أنهم بخير؟", تمتم (نويل) بذلك وهو يعتصر خاصرته بألم.

"أعتقد ذلك, إلا إن كان حظنا خرافي السوء, وكان هناك أكثر من واحد من هذه الكائنات."

"مالذي يجري هنا يا (آرثر)؟ لا أستطيع التفكير بأي تفسير منطقي ولكنني أجد نفسي منشغلاً أكثر بالتفكير في طريقة تخرجنا من هنا.."

"لا أعتقد أن هذه هي المشكلة الوحيدة التي نواجهها حالياً, لا تنسى بأن (ساي) ما زال مفقوداً, وأنا لن أخرج من هنا قبل أن نجده.", قالها (آرثر) بحزم قبل أن يردف بخفوت: "لقد كان سعيداً عندما قدمنا إلى هنا, كان يغني ويلتهم الحلوى كطفل كبير, ولكن رأسي مليء بأفكار وصور سودواية عنه الآن..."

"لحظة..(آرثر)...؟", قاطعه (نويل) بحيرة.

"هممم؟ ماذا؟"

"كيف عرفت بأن (ساي) كان يغني ويلتهم الحلوى؟ لقد وصل إلى هنا معنا وليس معكم!"

-----------------------------------

"ما هذا الهراء؟!"

هتف (لورانس) بذلك في وجه الفتاتين المندهشتين ووجهه يحمل علامات الغضب والدهشة معاً.

"هذا ليس مضحكاً يا فتيات, من الواضح بأن إحداكن أتت إلى هنا مرتدية ساعةً بالية!"

وضعت (أمورا) يديها على خاصرتها وهي تقول بحنق: "هل تظنني بهذا الغباء؟!", بينما إكتفت (يوهانا) برفع ساعدها أمامه ليرى الساعة بنفسه.

"حسناً...شيء غريب آخر, يالسعادتي...-دفع (لورانس) شعره للخلف بعصبية قبل أن يردف-...لو كنا في وضع مختلف لقلت بأن هذه مجرد مصادفة, ولكن مع أخذ ما يجري حولنا في الإعتبار, لا أعتقد بأنها كذلك. كل ما أتمناه الآن هو أن لا يزداد وضعنا سوءاً."

تقدمت (أمورا) نحو (لورانس) وقامت بمواجهته وهي تقول بحزم: "لن أدع هذا يحصل!".

نظر إليها (لورانس) بعينه الزرقاء الواحدة ملياً ثم انفجر ضاحكاً.

"يا إلهي, منذ متى كانت (أمورا) بهذه الشجاعة؟ أعتقد بأن هذا يقع من ضمن الأشياء الغريبة التي تحدث فقط في هذا المنزل."

عقدت (يوهانا) ساعديها وهي تنظر إليه ببرود: "الفتاة المسكينة تحاول أن تخفف عنك كي لا تفقد عقلك الصغير جرَاء التفكير, وأنت تستهزئ بها!".

لم تسنح الفرصة لـ(لورانس) كي يقوم بالرد, حيث تحرك باب الغرفة مصدراً صريراً خفيضاً ليظهر خلفه كل من (نويل) و (آرثر) وهما يدلفان بصمت وعلامات الإرهاق بادية عليهم.

إندفعت (أمورا) نحو (نويل) وهي تهتف بإسمه بذعر, بينما لم تضيع (يوهانا) وقتاً في السؤال عما حدث وأسرعت تساعد (آرثر) في وضع (نويل) المصاب على الأريكة. أما (لورانس) فقد أنطلق تجاه الباب وأحكم إغلاقه بالمفتاح الذي أخذه من (أمورا) تحسباً لأي مفاجأت غير سارة من الطفل الذي يبدو أنه لا يموت.

-----------------------------------

"...وهكذا, تمكنا من "قتل" الكائن مجدداً, ولكنه على الأغلب سيعود مرة أخرى. إنه لا يبقى ميتاً على ما يبدو..", أنهى (آرثر) كلامه بعد أن شرح لهم ما حصل في الأسفل, كان الجميع يستمعون إليه بصمت لم يقطعه سوى صوت طرقات حذاء (لورانس) العصبية على أرضية الغرفة الخشبية. يبدو أن أعصاب (لورانس) الملتهبة بطبيعتها لا تستطيع تحمل الأحداث التي تجري حولهم.

لحسن حظ (نويل) فإن إصابته –التي أصرت (أمورا) على تفحصها-لم تكن جرحاً ولكن كانت هناك كدمة قاتمة اللون فوق خصره. وحيث أنه كان نائماً على الأريكة كان البقية يتكلمون بصوت خفيض خشية إيقاظه.

"أوه يا (نويل), إبن عمي المسكين..."

"...ما يحصل لا يجعلني متفائلاً أبداً حول مصير (ساي).."

"مالذي سنفعله الآن؟ لا يمكن أن نبقى هنا للأبد.."

"هناك شيء غريب يحدث هنا.", قالها (آرثر) وكأنه يفكر بصوت مسموع.

"نعم, من الجيد أنك لاحظت ذلك! هذا المكان بأكمله غريب!", كانت الجملة الغاضبة الساخرة قادمة من (لورانس), بالطبع.

"ليس هذا ما أقصده... –إستدار (آرثر) ليواجه الجميع قبل أن يكمل-...قبل قدومنا إلى الغرفة كنت أُحدث (نويل) عن سعادة (ساي) عند وصولنا إلى المنزل, ولكن (نويل) يُصر بأن (ساي) لم يأت معنا إلى هنا بل جاء معه ومع (أمورا)..."

قالت (يوهانا) بحيرة: "ولكنني أتذكر..بأن (ساي) كان معنا. لقد كان يتسابق مع (لورانس) للوصول إلى أعلى التل, كان يبدو متحمساً جداً..."

"لحظة..!", لم يدعها (لورانس) تكمل جملتها, "أنا لا أتذكر ذلك! كل ما أتذكره هو قدومي معك ومع (آرثر)! لابد من أن أحدكم مصاب بالخرف أو أنكم تمزحون."

"يا إلهي يا (لورانس)! كيف لا تتذكر ذلك؟ إن ذاكرتك في حالة يرثى لها!"

تجاهل (آرثر) الجدل العقيم الدائر بين (لورانس) و (يوهانا) وتوجه نحو (أمورا) لسؤالها عن من قَدِمَ معها لولا أن لاحظ النظرة البائسة الخاوية التي ملأت عينيها وهي تنظر إلى (نويل) النائم, مما جعله يطبق فمه ويتراجع عن ذلك. لابد من أنها عانت الأَمَرين منذ وصولها إلى هنا, الفتاة المسكينة.

-----------------------------------

"أشعر بالجوع..."

غمغمت (يوهانا) بكئابة وهي تضم ساقيها إلى صدرها بينما انسدل شعرها الأحمر القصير على وجهها. كان هذا هو الوقت الذي يقوم فيه (لورانس) عادةً بالرد عليها واصفاً إياها بالدب القطبي السمين, ولكن الأصوات المنبعثة من بطنه أظهرت بأنه يشاركها هذا الشعور.

(نويل) الذي استيقظ منذ فترة كان يشعر بالجوع والعطش أيضاً, مما جعل (آرثر) -الذي يشعر بأنه مسؤول عن سلامة الجميع- يفكر في النزول للبهو وإحضار حقيبة (يوهانا) المليئة بالطعام والتي نسوها تماماً إلى هذه اللحظة. ولكن لابد له من إصطحاب شخص آخر معه.

"أنا! أنا سأذهب معك!".

قفزت (أمورا) متطوعةً للذهاب معه بلهفة بعد أن شرح لهم (آرثر) خطته, مما جعل الأخير ينظر لها بتساؤل.

"ولكن (أمورا)... هل أنت متأكدة؟ لا يمكن لي أن أضمن لك عدم مهاجمة ذلك الكائن لنا مرة أخرى."

"لا مشكلة, ذلك الكائن قد يهاجمني هنا أو هناك. أنا لا أتوقع أي ضمانات."





الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة -إنتهى-


مالذي يكمن خلف الأبواب المغلقة؟ هل نجد خلاصاً ينتظرنا أم هلاكاً يتربص بنا؟

ساي 09-22-2022 12:10 PM

. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طاب يومكم جميعاً أعزائي.

أريد أن أُشارككم إعترافاً صغيراً, وهو أنني...أشعرُ بالذنب.

شعرتُ بأني عقدتُ الأمور عليكم كثيراً في القصة, لذا حاولتُ جاهدةً وضع الجزء الجديد بأسرع وقت ممكن تجنباً لأن يقوم بعضكم بكراهيتي.

(( إحم...وكذلك لأنني أمتلك ذاكرةً لا تعيش لأكثر من خمس ثوانٍ, لذا أريد وضع كلماتي في مكان آمن قبل أن أنساها للأبد. ))

سأكون صريحةً جداً معكم, لم أتوقع أن أشعر بهكذا متعة عندما بدأت الكتابة, فقد كنتُ أخبر نفسي بأنني لن أُفلح قطعاً, ومازلتُ أعتقدُ بأنني لم أصل للمستوى الذي أطمح إليه بعد, ولكن التحدي بيني وبين نفسي يزيد إلتهاباً بعد قراءتي لردودكم الرائعة.

فشكراً لكم جميعاً, أنتم من ساعدني لأصِل إلى هنا, وأتمنى أن أتمكن من إكمال مشواري بصحبتكم.

حسناً, بعد أن قلتُ ما أريد قوله, إليكم الجزء الجديد (الطويل نسبياً) والذي أرجو أن يعجبكم.
الفصل السادس
-----------------------------------

لا تُطِلِ النظر في الجحيم, وإلا سينظر الجحيم إليك.

-----------------------------------


لم يلبث على خروج (آرثر) و (أمورا) سوى بعض دقائق حتى بدأ (لورانس) و (يوهانا) أحد جدالاتهما مجدداً, وكان الموضوع هذه المرة هو محتويات الحقيبة من الطعام.
"كيف لك بأن لا تحضري الصلصة الحارة في رحلة كهذه يا (هانا)؟ ألا تعلمين أنني لا أتناول شيئاً بدونها؟ ألا تفكرين في أصدقائك أيتها البليدة؟".

"أمن الحكمة أن تصفني بالبليدة والطعام طعامي؟ أعتقد أنني سأتركك تتضور جوعاً كالكلاب المشردة!".

"بليدة وقاسية!".

كانت أصواتهما المتعالية تدفع (نويل) للإبتسام. في وقت كهذا, حتى والخطر يحيط بهم من كل جانب, كانت بعض الأشياء لا تتغير. (لورانس) و (يوهانا) مازالا يتجادلان كطفلين في ساحة المدرسة, (آرثر) ما زال متماسكاً وهادئاً كالجبال, وهو مازال يفكر في أعماله التي تركها للقدوم إلى هنا. ولكن شيئاً واحداً تغير بشكل كبير منذ وصولهم إلى هذا المنزل المشؤوم.

(أمورا).

لسبب ما, بالرغم من أنها ما زالت تلك الفتاة الرقيقة الخائفة التي رافقها منذ الصغر, إلا أنه يشعر بشيء ما يختلف عن كل ما يعرفه عن (أمورا), شيءٌ يتحرك ببطء قاتل تحت مظهرها الكسير, وكأنه سمٌ ينتشر في أرجاء روحها تدريجياً. ولكن, أخبر (نويل) نفسه, مَن من الناس سيبقى طبيعياً بعد حدوث كل هذا لهم؟ إنهم حتى لا يملكون وسيلة للخروج من المأزق الذي وقعوا فيه.

"...(نويل)؟"

قاطعت (يوهانا) أفكاره المتشائمة فنظر نحوها راسماً إبتسامة سريعة على شفتيه: "أوه, عفواً (هانا), يبدو أنني لم أكن منتبهاً. هل قلت شيئاً؟"

"هل تشعر بتحسن الآن؟", نظراتها القلقة دفعته للإبتسام أكثر ليظهر لها بأنه لا داعي للقلق.

"نعم, بكل تأكيد. لقد كنت متعباً فقط, إنها إصابة طفيفة."

"في هذه الحالة, هل لك أن تخبرني عن قدومك إلى هنا؟ متى أتيتم؟ ومن كان معك؟".

أطلق (نويل) ضحكة قصيرة قبل أن يجيبها: "يا له من سؤال غريب. ولكن حسناً, فلنر...هممم...لقد إنطلقنا من المدينة في تمام الساعة الثامنة صباحاً ووصلنا في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً على ما أعتقد وأكملنا الباقي سيراً على الأقدام, أنا و (أمورا) و...من أيضاً؟...أكان (ساي) معنا؟ أم (آرثر)؟". صمت (نويل) لبرهة وهو يقلب خبايا ذاكرته بينما شَعَرَ بقبضة باردة تعتصر قلبه فجأة.

"...يا إلهي...لماذا لا أستطيع تذكر ذلك؟".

وضع يده على جبينه وبات يعتصره وكأن ذلك سيتسبب في خروج المعلومات التي كان يحاول جاهداً تذكرها. كانت محاولاته لإسترجاع الوجوه التي رافقته إلى هنا تشبه محاولة النظر إلى تلفاز يستمر في تغيير قنواته كل ثانية. العديد من الصور السريعة تمر في ذهنه, ولكن أياً منها لم يكن واضحاً.

(ساي)؟ (أمورا)؟ أم كلاهما؟ أم شخص آخر مختلف تماماً؟ إنه لم يعد يثق في ذاكرته على الإطلاق.

-----------------------------------

كان البهو هادئاً وخالياً.

المصابيح الكريستالية مازالت تتوهج بخفوت لتضفي بعض الإضاءة والدفء على المكان, بينما لم تترك معركتهم السابقة مع الطفل الشيطاني أثراً في المكان سوى بعض البقايا الخزفية المحطمة. لمح (آرثر) الحقيبة التي جاؤوا من أجلها وهي ترقد على الأرضية الرخامية, وبنظرة سريعة حوله تأكد بأن المكان خال فعلاً قبل أن يتقدم نحوها ويحملها بحركة رشيقة.

"حسناً, يبدو المكان آمناً...حتى الآن...", قالت (أمورا) وهي تتبعه عن قرب وعيناها تدوران في المكان.

" إننا لا نعلم إلى متى سنبقى محتجزين هنا. ولكن لحسن حظنا فإن الماء متوفر وكذلك الكهرباء. وبما أن الغرفة التي تركنا البقية فيها واسعة بما فيه الكفاية, فأعتقد بأننا سنتمكن من الصمود إلى أن نجد حلاً يخرجنا من هنا."

لم يكن (آرثر) على إستعدادٍ لإخبار (آمورا) بأنه ليس متفائلاً جداً حول فرص نجاتهم لو استمر الوضع على ما هو عليه, يبدو أن طبيعة الضابط المتأصلة فيه تمنعه من ذلك.
بالرغم من معرفتهما بالنتيجة مسبقاً, فقد توقفا أما الباب الرئيسي وحاولا فتحه دون جدوى. بعد زفرة يائسة تخلى (آرثر) عن المحاولة واستدار ليتجه صوب السلالم. لقد كان محقاً, لابد لهم من إيجاد طريقة أخرى فهذا الشيءُ لن يتحرك.

هل هو خياله أم أنه يسمع صوتاً ما قادماً من الممر الأيسر؟

كان إتساع عيني (آمورا) يدل على أنه لا يتخيل الصوت الذي بدا كصوت طرقات مكتومة في مكان بعيد. لم يستطع تمييز ماهيته, ولكن الصوت كان يتوقف ثم ينطلق مرة أخرى بعد وهلة. شعر (آرثر) بالرغبة في حمل مسدسه ليشعر ببعض الأمان, فقام بإخراجه من جيبه وأمسك به وهو يسير بحذر مترقب نحو الممر الذي امتد على يساره.

"...(آرثر)...فلنذهب بسرعة, أرجوك..."

أصبح من الواضح بأن الصوت قادم من خلف أحد الأبواب الخشبية المنتشرة في الممر. وبالرغم من نبرة (أمورا) المتوسلة, لم يتمكن (آرثر) من مقاومة رغبته في محاولة فتح الباب. وقف بتأهب أمام الباب المقصود ومد يده نحو المقبض.

كان الباب موصداً بإحكام.

"...أرجوك, ليس هناك أي داع لنبقى هنا...فلننطلق إلى الأعلى ونعد للآخرين."

بعد لحظة من الصمت هز (آرثر) رأسه موافقاً (أمورا) على كلامها, وانطلق كلاهما عائدين للطابق الثاني قبل أن يقعا فريسة لأي هجوم مفاجئ بينما كان الصوت يخفت تدريجياً وهما يبتعدان عن الباب.

-----------------------------------

إنشغلت (أمورا) بترتيب الغرفة بعد الفوضى العارمة التي اجتاحتها, فقبل عدة دقائق لم يكن ليخطر على بال أحدٍ بأنهم كانوا مهددين بالموت سابقاً. جلسوا جميعاً لتناول الأطعمة الخفيفة التي حملتها الحقيبة بينما بدأ التوتر يتبدد تدريجياً من الغرفة مع صوت ضحكات (لورانس) الرنانة وهو يتمتع بإغاظة (يوهانا) كالعادة, وما لبث الجميع إلا برهة حتى بدأوا مشاركتهما ضحكاتهما.

بعد أن قضت المجموعة فترةً لا بأس بها في الأكل والمزاح –وكأنهم كانوا يحاولون لاشعورياً تجنب الواقع الأسود الذي أحاط بهم- قام (نويل) بإخبارهم أنه من الأفضل لهم أخذ قسط من الراحة ما دام الوضع مستتباً.

تم الأتفاق على أن تقوم الفتاتان بالنوم على السرير بينما يقوم الشبان الثلاثة بتدبر أمرهم. إنتهى المطاف بـ (لورانس) على الأريكة و (نويل) على الأرض بجانب السرير واضعاً رأسه على ساعده, بينما جلس (آرثر) مسنداً ظهره ورأسه للجدار المقابل لهم. لم تكن الراحةُ ترفاً يمتلكونه الآن ولكن ما باليد حيلة.

خيَم الصمت على المكان لبرهةٍ والجميع مستلقون في أماكنهم قبل أن يشقهُ صوت (أمورا) وهي تقول بحزن خفيض: " هل سنخرج من هنا أحياءَ يا ترى...؟"

لم تتلق جواباً مباشراً على سؤالها الكئيب الذي عَلِقَ في الجو لفترة كغمامة سوداء قتلت مرحهم المؤقت, ولكن سرعان ما ابتسم (آرثر) ورفع رأسه لينظر للسقف قبل أن يقول بنبرةٍ هادئة مُطَمئنة: "سنخرج حتماً, وسنخرج معاً. سنجدُ (ساي) ونترك هذا كله خلفنا, وستصبح مجرد قصةً نحكيها لأحفادنا مستقبلاً."

ضحكت (يوهانا) بتوتر: "تبدو واثقاً جداً من ذلك (آرثر)".

"إنه عملي, أي ضابط يحترم نفسه سيكون واثقاً مما يقوله, حتى وإن كنت مؤمنا بأن أحداً لن يصدقنا."

"لطالما كنت كذلك حتى قبل أن تصبح ضابطاً, (آرثر)", هتف (لورانس) بذلك وهو يُطِلُ على صديقه من الأريكة.

"لسببٍ ما, أفشلُ في استيعاب أن (آرثر) قضى أكثر من خمسة عشرة سنة برفقتك يا (لورانس), إنني لا أستطيع تخيلك كَطفلٍ حتى.", قرر (نويل) مشاركتهم الحديث فيما يبدو.

أجاب (لورانس) بإبتسامة مغرورة: "لقد كنتُ طفلاً ظريفاً للغاية!".

"أشكُ في ذلك بكل صراحة.", همست (يوهانا) وهي تسدد له نظرةً مُزجت فيها السخرية بعدم التصديق.

تَبِعَ ذلك ضحكةٌ من (نويل) نجح في كتمها سريعاً, بينما حاول (لورانس) جاهداً إقناعهم بصحة كلامه.

كانت (أمورا) هي الوحيدة التي لم تنضم إليهم, فبالرغم من جو الألفة والمرح الذي أحاط بأصدقائها, بقيت هي صامتةً و مفضلةً النوم ووجهها يقابل الجدار بجانبها حتى لا يتمكن أحدٌ من رؤية عينيها الباكيتين.

-----------------------------------

أصواتٌ بعيدةٌ متداخلةٌ تطفلت على نومها الذي خلا من الأحلام.

".... هذا مستحيل!".
أهذا صوت (لورانس)؟

" لست أعلم أكثر مما تعلمه أنت...فالــ..."
تقطعت الأصوات وهي تحاول تصفية ذهنها من آثار النعاس.

" ولكن من الذي فَعَلَ ذلك؟!".
لِمَ يبدو (نويل) غاضباً هكذا؟

"(أمورا)...؟ (أمورا)!"
صوتٌ أنثوي مرتبك ينطق بإسمها لينتزعها من براثن النوم نهائياً.

فتحت عينيها الجميلتين ليستقبلها وجه (يوهانا) القلق, يبدو أنها تحاول إيقاظها منذ مدة. لم تكن (أمورا) تتوقع بأنها ستنام بهذا العمق.
اعتدلت في السرير ببطء وهي تهز رأسها بخفة, وسرعان ما لاحظت بأن جميع الأعين في الغرفة موجةٌ إليها.
"ماذا...حدث؟", نظرت إليهم جميعاً بعدم فهمٍ منتظرة أن يقوم أحدهم بتفسير ما يجري.
ولكن بدلاً من ذلك, تقدم (آرثر) نحوها وهو يقدم لها شيئاً ما. مدت يدها النحيلة المرتجفة لتأخذه.

لقد كانت ورقةً مطويةً زاهية الألوان. تناولتها بحذر وهي ما زالت تتساءل عن ماهية ما يحدث, فتحتها لتجد بداخلها مفتاحاً برونزياً بسيطاً وبأن باطنها الأبيض قد خُطَت عليه عدة كلمات بخطٍ منمق.

" إتبعوا صوت الطرقات, الشخص الذي يتذكر سيخبركم بكل شيء."

قرأت الكلمات المبهمة بصوت متحشرج, ثم رفعت عينيها ببطء لتنظر إلى أصدقائها الذين بدت عليهم الحيرة والتوتر وقد شحب وجهها بشدةٍ ملحوظة.

كان (نويل) أول من يتحدث: "لقد وجدناها على الأرض, قام أحدهم بتمريرها أسفل الباب...ألا يبدو هذا مألوفاً؟".

"مالذي يفترض بنا فعلهُ الآن؟ لا نستطيع أن نصدق كلاماً مريباً كهذا ونحن حتى لا نعلم من قام بكتابته. مالذي يعنيه ذلك أصلاً؟", كان توتر (لورانس) ظاهراً بشدة في كلماته العصبية.

أجابته (يوهانا): "هل لدينا خيارٌ آخرٌ؟ ربما كان خلاصنا يكمن في تلبية هذا الطلب الغريب."

"وربما كان ذلك الطفل من الجحيم يحاول الإيقاع بنا!", هتف بها بحدة.

"بربك (لورانس), هل بدا عليه بأنه من النوع الذي سيلجأ لحيك المكائد؟ كل ما كان يفعله منذ وصولنا هو ملاحتقنا معتمداً على قوته الكاسحة!".

قبل أن يتصاعد جدلهما أكثر من ذلك, تنحنح (آرثر) وقال: "أعتقد بأنني أعرف المكان المقصود, لقد مررنا أنا و (أمورا) بباب تصدر من خلفه أصوات طرقات غريبة, ولكنه كان موصداً. لابد من أن هذا المفتاح سيتولى أمر فتحه."

"ولكن....", لم يبدُ على (نويل) الإقتناع وإن لم يكن يرغب أيضاً في الإعتراض فكلام (يوهانا) صحيح, ليس لديهم فعلاً خيارٌ آخر.

أتبع (آرثر) بحزم: " لن نخسر شيئاً من التجربة. أُفضِلُ قضاء نحبي وأنا أحاول عوضاً عن التقوقع هنا كحيوانٍ حبيس."

لم يكن هناك الكثير ليُقال بعدها.

-----------------------------------

لم يبدُ (آرثر) كضابط من قبل كما بدا عليه الآن, فقد كان يمشي في مقدمة المجموعة منتصباً وقد صُبِغت عيناه بالعزيمة التي طغت من روحه. كان يعاهد نفسه على أن يقوم بإخراج الجميع من هنا سالمين. إنها مسؤوليته, إنه واجبه تجاههم. ورغم أنه لا يستطيع توقع ما سيحدث عندما ينفتحُ هذا الباب الغامض, إلا أنه أولج المفتاح في فتحة القفل بكل ثبات, وقام بإدارته مرتين حتى سمع صوت تكة معدنية صغيرة.

لم يجرؤ أحدٌ على التفوه بشيء وقد حُبست أنفاسهم توتراً وترقباً لما سيجري, ولكن كل ما حدث هو دفعُ (آرثر) للباب لتظهر من خلفه مجموعةٌ من السلالم البسيطة المتجهة للأسفل.

" يبدو...أنه قبو..", قالت (يوهانا) وهي تُطِل من خلفه لتلقي نظرة.

لم يكن المكان مكتوماً بنفس الطريقة التي يمكن لقبو لم يفتح من سنوات أن يكون عليها, لابد من أن أحدهم كان هنا قريباً. إنتبه (آرثر) إلى أنه لم يسمع صوت الطرقات هذه المرة.

محاولاً الحفاظ على رباطة جأشه, تابع (آرثر) السير نحو السلالم ليهبط بيها إلى حيث تأخذه بينما تبعه الآخرون بتردد.

لقد كان فعلاً قبواً شبه مظلم.

لم تكن هنالك العديد من الأشياء في هذا المكان, فبإستثناء عدد من الصناديق الكبيرة التي غلفها الغبار, وبعض الأرفف الخشبية الثقيلة التي حملت أنواعاً متفرقةً من الأوعية والأدوات, لم يكن هناك شيءٌ غريب.

ربما بإستثناء الجسد الذي تكوم في أقصى الأركان وقد امتد حبلٌ سميك ليحكم إيثاق اليدين اللتان رُبطتا خلف ظهره بأحد الأرفف الخشبية. كان جسد الشخص يتحرك ببطء وهو يسحب أنفاسه بثِقَل ظاهر بينما كانت عيناه شبه المغلقتان تنظران بعدم تركيز إلى المجموعة التي بدأ يعتريها الجزع.

تقدم (آرثر) ببطء من الشخص الملقى وهو يشعر بدقات قلبه تتسارع, لم يكن يحتاج للإقتراب أكثر لكي يعرف من هو.

لقد كان (ساي).

-----------------------------------

صوت الأمواج التي ترمي بنفسها على أحضان الشاطئ الصخري مصدرةً سيمفونيةً رتيبة مُزِج برائحة الهواء الرطب الذي تشبع من ملوحة البحر وعبقه المميز ليُشكل خلفيةً رائقة لمنظر المحيط المتلألي تحت ضوء القمر الفضي, هي ليلةٌ جميلةٌ بحق.

(( "...لماذا؟..." ))

الحركة مؤلمة, أصابعه الصغيرة كانت ترتجف ببطء, يكاد الجفاف أن يفتك بحلقه لذا فقد فضل البقاء صامتاً رغم أن كل ما يريد فعله الآن هو البكاء بأعلى صوته.

(( "...لماذا فعلتَ هذا بي؟..." ))

قهقهةٌ عاليةٌ أتت من الغرفة المقابلة شقت بوقاحةٍ هدوء الليل بينما كان ذلك الشاب يقول لزميله شيئاً لا يدري هو عن كنهه.

(( "...أريد العودة..." ))

بقي جسده الضئيل متمدداً بلا حراك في ركن الغرفة التي صبغها الصدأ بلونٍ بنيٍ كئيب, كم هو بغيضٌ هذا المنظر. لقد اشتاق لغرفته النظيفة, لرائحة الكعك والزهور القادمة من المطبخ, لأصوات الطيور التي كانت تطربه كلما فتحَ النافذة صباحاً. ولكن هاهو الآن في هذا المكان العطن ذي اللون البني الكريه, وقد أصبح لا يدري إن كان سيعود لحياته السابقة مجدداً.

أغمض الطفل عينيه بقوة محاولاً سد الطريق أمام تيار الدموع الذي كاد يطفح من مقلتيه بينما ألقم نفسه طرف إبهامه ليعض عليه, لقد بكت عيناه بما فيه الكفاية, لدرجة أن الألم الحارق في عينيه بدأ ينافس أوجاع قلبه الصغير.

ولكن عذابه لم يدم طويلاً, حيث بدأ وعيه يخبت تدريجياً حتى إنطفأ تماماً, ولكن ليس قبل أن يسمع صوتاً بعيداً مكتوماً يناديه بإسمه تكراراً.
(ساي)؟...(ساي)!!".

رفرف جفناه ببطء لعدة مرات قبل أن يبدأ بالتفتح على مهل. نظرةٌ نَعِسةٌ ملأت العينين البنيتين الفاتحتين لوهلةٍ قبل أن يبدأ (ساي) في تجميع وعيه وأفكاره رويداً. هل حقاً يرى بحراً يتموج أمامه؟ بعد أن ضيق عينيه ليدقق فيما كان ينظر إليه بدأ نظره يصفو تدريجياً وإتضح له بأن ما كان يراه هو عينان واسعتان سبحتا في الدموع.

"....أمي؟".

"أنا لستُ أمك قطعاً ولكنني مسرورة جداً لأننا وجدناك سالماً...شكراً لله...", تبسمت (أمورا) الباكية وقد تلون وجهها بالإحمرار المصاحب للبكاء مع خطوط جافة شقتها الدموع على خديها.

وكأنما قام أحدهم بإلقاء الماء البارد عليه, إستعاد (ساي) صفاء ذهنه وذكرياته فجأة, وجاء معها شعورٌ بأن وجهه سيحترق من الخجل جراء ندائه لـ (أمورا) بأُمه, ولكنه أمسك بزمام شعوره هذا وأجبره على البقاء بعيداً عن ملامح وجهه.

"إذن لا تقتربي مني لهذه الدرجة! بربك (أمورا), ألم تسمعي بالمساحة الشخصية؟!".

بدأ يرفع جسمه ببطء عن السرير الذي حمله. هذا غريب, كيف وصل إلى هنا؟ آخر ما يتذكره هو وجوده في القبو مقيداً ومكمماً لمدة بدت كالدهر بعد أن قضى أغلبها في ركل الصناديق والأرفف الخشبية أملاً بأن يسمعه أحدهم. أعادت له هذه الأفكار مجموعةً من المشاعر المختلطة والتي نسيها لوهلة, ما زال يشعر وكأن رأسه يتمايل بخفة كبالون مملوء بالهواء.

تنقل نظره بسرعة عبر وجوه أصدقائه. (آرثر) الواقف في الخلف يبادله النظر بينما ارتسمت إبتسامةٌ مطمئنة على محياه الهادئ. كانت يدا (يوهانا) تعملان بنشاط لسحب الوسائد وترتيبها خلف ظهره حتى يتمكن من الجلوس, رغم أنه لم يكن بحاجة لذلك فعلياً. حتى (لورانس) الذي لم يتفق مع (ساي) يوماً كانت تبدو عليه أمارات الإرتياح. كانت سعادتهم شيئاً طبيعياً فقد توقعوا حدوث الأسوأ عندما وجدوه بتلك الحال المزرية في القبو.

وضع (نويل) يده بخفة على رأس صديقه ذو الشعر الطويل وهو يبتسم ببهجةٍ إبتسامته الصافية.
" مرحباً بعودتك يا فتى, سأجعلك تدفع ثمن القلق الذي سببته لي لاحقاً. ولكن أنا أسعدُ من أن أفكر في ذلك حالياً.", ها هو يعود إليهم سالماً بعد أن كاد اليأس أن يتمكن منهم. لقد كان (آرثر) محقاً فعلاً, فقد وجدوا (ساي) ولم يبق سوى إيجاد طريقة للخروج من هذا المكان.

"إبق كما أنت ولا تتحرك كثيراً, هذا كل ما تحتاجه حالياً. لقد قمت بغسل الجرح ولكنه لحسن الحظ ليس عميقاً, فلا تقلق.", قالت (يوهانا) بلهجة عمليةٍ وهي تقوم بتطبيق معطفه الذي لم ينتبه على أنه خُلع من فوقه سوى الآن.

" (ساي), مالذي حدث لك؟".
" لقد قلقنا عليك كثيراً...".
" من فعل بك هذا؟".

هز (ساي) رأسه ببطء وهو يرفع يده لتزيح بعض خصلات الشعر التي تناثرت على جبينه. كان هو نفسه يرغب بمعرفة أجوبة هذه الأسئلة.

" أنا...-رفع رأسه بتمهل شارد-...لا أعلم...", وقبل أن يعلق أحدهم على كلامه أردف قائلاً: " لقد تركت لكم رسالتي. أحدهم كان يناديني, لقد خرجتُ لأحاول معرفة مصدر الصوت, ولكن...", تحرك إبهامه إلى فمه ليقوم بعضِ طرفه في حركة يعرفها (نويل) جيداً, فقد كانت هذه إحدى الحركات التي يقوم بها (ساي) لاشعورياً في حالِ شعوره بالتوتر.

"...ولكن؟", حَثهُ (آرثر) على الإستمرار بينما بقي الآخرون ينصتون بإهتمام مترقب.

" أحدهم...شخصٌ ما هاجمني من الخلف حالما ابتعدتُ عن الغرفة. ذلك القذر السافل...لم تتسنى لي رؤيته ولكنه كان طويلاً وقوياً, لذا فلا يمكن أن يكون هو ذلك الطفل الشاحب الذي رأيناه مسبقاً. لقد قام بشل حركتي وضغط بأصابعه على عنقي بطريقةٍ ما, حاولت مقاومته ولكن...تباً...-تحركت يده لتمرر أصابعها على الجرح الممتد أسفل نحره وكأنه يحس به للتو بينما قبضت يده الأخرى على ملاءة السرير بحقد-...أكره الحقراء الذين يهاجمون الآخرين من الخلف!".

غمغم (آرثر) لنفسه بصوت لا يسمعه سواه: " حركة يمارسها أعضاء الجيش والشرطة لشل المجرمين العنيفين وإفقادهم وعيهم...", كانت عجلات دماغه تدور بأقصى سرعةٍ وهو يحاول تحليل هذه المعلومات التي تلقاها.

كاد (نويل) أن يتلفظ بشيء لتهدئة (ساي) الذي بدا عليه غضبٌ يتنافى مع طبيعته اللامبالية, ولكن (آرثر) لم يترك له الفرصة لفعل ذلك حيث ألقى لـ (ساي) بسؤاله التالي مباشرةً.

" (ساي), هل تتذكر مع من جئت إلى هنا؟".

"مالذي تقصده؟ أنا لستُ عجوزاً خَرِفاً بعد, بالطبع أتذكر! لقد أتيتُ إلى هنا برفقتك أنت و (نويل) و (أمورا), ألم تضطر (يوهانا) لإيقاظ اللوح (لورانس) وبالتالي تأخرا على موعد القطار واضطرا لأخذ القطار التالي؟".

"أدعوتني باللوح للتو يا وجه الفتاة؟! لم تصرون جميعاً على هذا المزاح الثقيل؟ ألا تلاحظون بأنكم تذكرون كلاماً مختلفاً في كلٌ مرة؟!".

"كلاماً مختلفاً في كل مرة؟", نظر (ساي) لمن حوله بحيرةً حقيقية, "هلا قام أحدكم بشرح ما حدث هنا عندما كنتٌ منشغلاً بكوني حبيساً؟".

"إن أياً من ذكرياتنا لا يتطابق, هذا يعني بأنه ليس هو "الشخص الذي يتذكر" على الأرجح.", زفرت (يوهانا) بيأس.

"..........أنا آسفة...."

كانت (آمورا) صامتةً طول هذا الوقت مما جعل الآخرين ينسون وجودها تماماً حتى تمتمت هي بهذه الكلمات. كانت تشهق بخفوت وجسدها يرتجف وكأنها على وشك البكاء مجدداً.

"....أنا آسفةٌ حقاً........لم أخبركم بذلك من قبل, ولكنني أنا التي أتذكر...أتذكر كل شيء...".

لم يتمكن أي منهم من سؤالها عما تقصد حيث فاضت دموعها التي تسابقت معها للإنهيار على الأرض.

-----------------------------------

الـــســـاعـــة الأولـــى

الرعب, الذنب, الألم, الحزن, الرغبة في النجاة.

كان إعصار المشاعر الذي يعصف بداخل (أمورا) يختلط مع ضربات قلبها التي تسارعت بجنون وهي تدفع باب الغرفة متجهةً للداخل هرباً من الكائن الشيطاني الذي سيأتي ليخطف حياتها لا محالة.

تحرك الباب بعنف إثر اندفاعها بينما إستقبلها صوت الساعة الخشبية الكبيرة التي وقفت بشموخ في الغرفة. صفقت الباب خلفها ثم أكملت إندفاعها نحو أحد المقاعد الثقيلة وسحبته بصعوبةٍ لتضعه خلف الباب على أمل أن ذلك سيمنع مطاردها من الوصول إليها. كانت تحادث نفسها بطريقة أشبه ما تكون بالهذيان.

"...يا إلهي...لا...هذا لا يحدث.....هذا لا يحدث...."

تباطأت خطواتها تدريجياً وهي تلهث وتشهق بعنف, ما حدث لم يكن ليفارق ذهنها ولو لثانية.

" لقد ذهبوا...............لقد ماتوا....جميعاً...ذهبوا وتركوني وحيدة....رباه لا تجعل هذا يكون حقيقياً...أين هذا المفتاح التعس؟...يا إلهي...فلينجح هذا, أرجوك...", تقطعت كلماتها وهي تبحث بيدٍ مضطربة في أرجاء حقيبتها بينما كانت تدعي في سرها بأن لا ينتهي أمرها هنا.

وكأنما كان ينتظر هذه اللحظة, إقترب صوت خطواتٍ من الغرفة زاد من جنونها وهي تدعي وتهذي, ولكنها وجدت ضالتها أخيراً فانطلقت نحو الساعة ويدها المرتجفة تحمل المفتاح الأسود النحيل المزخرف بنقوش بديعة, وبحركة سريعة أولجته في الفتحة التي توسطت قرص الساعة بينما تعالى صوت الضربات الغاضبة التي بدأت تنهال على الباب من الجانب الآخر.

أدارت المفتاح وهي تصرخ بكل ما أوتيت من قوةٍ: " يا إلهي لا تجعل هذه هي النهاية!!!".

-----------------------------------

الـــســـاعـــة الـــثــــانـــيــــة

"لم لا تصدقونني؟! (ساي)! توقف أيها الغبي الأحمق!".

هتفت (أمورا) بـ (ساي) الذي تخطاها بإتجاه باب المنزل القديم الضخم غير مبالٍ بصراخها, هز كتفيه وهو يقول بمرح: " صدقاً (أمورا), إن كنت لا تريدين المجيء فلا تفعلي. ليس هناك من داعِ لأن تخترعي قصة كهذه, لقد كنتُ أظنُ بأن لديك خيالاً أوسع من ذلك."

"(نويل)...أرجوك...أنت تصدقني, أليس كذلك؟", نظرت لإبن عمها بكلِ ما ملأ قلبها من رجاءٍ ليصدق قولها ويستمع لكلامها.

ولكن الشاب اكتفى بالإبتسام بلطف وهو يجيبها: " أنا أوافق (ساي), لا داعي لأن تجبري نفسكِ على الدخول من أجلي, سأحاول أن أنهي الأمر بسرعةٍ وبإمكانك إنتظارنا خارجاً إن أردتِ."

وضع (آرثر) يده على كتفها ليطمئنها: " فعلاً ليس لأحد أن يجبرك على الدخول, ولكن أليس من الخسارة بقاؤك في العراء بعد أن قطعتِ كل هذه المسافة؟".

"المشكلة ليست في وجودي داخلاً أو خارجاً أيها المغفلون!", صرخت بعصبية وهي تدق الأرض بعنف بقدمها وكأنما تحاول إخراج بعض حنقها منهم فيها, بينما تقدم الشبان الثلاثة نحو الباب الخشبي بخطى حثيثة متجاهلين تحذيرات صديقتهم الغاضبة.

-----------------------------------

الـــســـاعـــة الـــثــــالـــثــــة

"مالأمر يا (أمورا)؟ تبدين شاحبةً جداً. هل تعانين من شيءٍ ما؟".

"لا...لا, أبداً...هل تعلم إن وصل الآخرون؟", كانت الكلمات تخرج من فاهها برتابةٍ وهي تنظر أمامها بعينين خاملتين كأنها إنسانٌ آليٌ مبرمج.

نظر (نويل) إليها بتساؤل قبل أن يجيب: " لقد انطلقوا من المدينة قبلنا لذا أتوقع بأنهم قد سبقونا للمنزل, أتوقع أيضاً بأن (ساي) و (لورانس) يقومون بالتناحر لدرجة تجلب الصداع, إنني أشفق على (آرثر) و (يوهانا) لإضطرارهم لتحمل ذلك."

توقع منها رداً حماسياً موافقاً كما هي العادة, ولكنها اكتفت بهز رأسها بالإيجاب ببطء وكأنها لم تعي أصلاً ما قاله.

لم يصدقها أحدٌ المرة السابقة, رغم توسلاتها وبكائها وصراخها لم يصدقها أحد, وساروا جميعاً لحتفهم تماماً كالمرة الأولى. مالذي يفترض بها أن تفعله؟ أنها تعود في كل مرة أما باب المنزل الشؤوم التعيس, بدون أي خيار للتراجع أو إصلاح الأمور. كل ما بإمكانها فعله هو التقدم مع بقية أصدقائها رغم معرفتها بما ينتظرهم في الداخل. كانت تظن أنها ستتمكن من تجنب ما سيحدث بما أنها عاشتهُ مرتين سابقاً, كل ما عليها فعله هو جعلهم يتبعون مساراً مختلفاً من الأحداث هذه المرة, ربما....ربما كانت هذه هي الطريقة الصحيحة لمواجهة هذا الجنون.

-----------------------------------

الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة

لم تنجح محاولتها في المرة السابقة أيضاً.

بالرغم من تغير الأشخاص الذين تجدهم معها أمام المنزل في كل مرة, إلا أن النهاية بقيت كما هي, جميعهم يذهبون ويتركونها. فكرت لوهلةٍ أنه بإمكانها الهرب لوحدها على الأرجح هذه المرة أيضاً...ليس هناك شيء تستطيع فعله...تكرارها لنفس السلسلة من الأحداث لم ينقذ أحداً. ولكن جميع أفكارها بالهرب وحيدة تم قتلها في المهد من قِبل ضميرها الذي لم يسمح لها بتقبل فكرة ترك أصدقائها يلقون حتفهم هكذا, هنا في هذا المكان الداني, وبهذه الطريقة البشعة. إنها ليست أذكاهم ولا أشجهعم, والسبب الوحيد لنجاتها في المرة الأولى هو حظها في كونها التي وجدت الكتاب ومفتاح الساعة بالإضافة إلى كونها أسرعهم هرباً.

كان المنزل البغيض يلوح لها في الأفق بينما تبعها (ساي) و (نويل) بتمهل.

أغمضت عينيها وأخذت نفساً عميقاً من نسيم الربيع العليل وهي تتمتم لنفسها: "كوني قويةً يا (أمورا)....من أجلهم كوني (قوية). تصرفي بطبيعتك, لا تجعليهم يشعرون بشيء...بإمكانك تدبر هذا الأمر وحدك, قومي بتجنب الأخطاء التي وقعتِ فيها سابقاً, لابد من أن شيئاً ما سيتغير...."




الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة -إنتهى-


خطوةٌ أخرى نحو الطريق المؤدي إلى الحقيقة, ولكن هل تجعلك الحقيقةُ شخصاً أسعد؟
]

ساي 09-22-2022 12:30 PM

. مساء الخير والهناء والرضى لكم جميعاً..... أو مساء الإجتهاد والمذاكرة إن كنتم من الأشخاص الذين مازالوا يعانون من الإمتحانات.
(( إن كنتم كذلك, مالذي تفعلونه هنا؟! عودوا بسرعة للإستذكار! ))

حان الوقت لوضع جزءٍ جديد سيكون خاتمة هذه المرحلة من القصة, ولكن لن أُطيل عليكم بالتفاصيل وسأترك لكم التعليق بعد قراءته.

يجبُ علي إخباركم مسبقاً بأن هذا الجزء يحتوي على القلييييييل من الدماء, وعلى ذلك وجب التنويه.

الصورة المستعجلة التي قمتُ برسمها ليست جيدةً بما يكفي, ولكن ما باليد حيلة.

(( ملاحظةٌ صغيرة لذاتي: توقفي عن الكتابة تحت تأثير الشوكولاتة. ))

حسناً, يكفي ثرثرةً الآن, فلندخل إلى المنزل مرةً أخرى فاليل مازال في بدايته, وأمامنا الكثير لنراه هناك

الفصل السابع
-----------------------------------

ماهي النهاية؟ أوليست فقط نقطة البداية لشيء آخر؟

-----------------------------------



ساد الصمت المهيب على المكان والموقف.

لم يتحرك أحد, لم يتكلم أحد. ولكن وجوههم جميعاً حملت الكثير والكثير من الدهشة والخوف وحتى الإستنكار, فالقصة التي سمعوها للتو من (أمورا) بدت أقرب للمزاح منها للواقع. وبالرغم من أنها أخرجت كتاباً قديماً ومفتاحاً أسود اللون من حقيبتها ووضعتهما على الطاولة, إلا أن ذلك لم يجعل الأمر أسهل تصديقاً, وحتى (نويل) المساند لها دائماً وأبداً كان يلقي بنظرات متشككة نحو قريبته.

كانت (يوهانا) أول من يصدر صوتاً فقد تنحنحت بنعومة بعد أن شعرت بكمية الحرج والإنكسار الذي كاد يقطر من (أمورا) بينما الكلُ يفحصها بنظره ويشكك بسلامة عقلها, ثم أتبعت ذلك بإلتقاطها للمفتاح ورفعته للتأمله ملياً.

لم يبدُ كالمفاتيح العادية ولا كالتي رأوها سابقاً في هذا المنزل, بل كان هذا المفتاح خفيفاً رفيعاً نسبياً تزين طرفه الآخر بدائرة ملأتها النقوش الصغيرة. وبغض النظر عن لونه الأسود اللامع فلم يكن هناك شيءٌ آخر يستدعي الإنتباه فيه.

"مفتاحٌ غريبٌ فعلاً. أين وجدته يا (أمورا)؟".

رفعت (أمورا) عينيها وقد عاد إليها بصيص الأمل بوجود من يصدقها فأسرعت بالإجابة: "في الغرفة التي توجد بها الساعة بالطابق السفلي. وجدتُ الكتاب وكان المفتاح بداخله."

"ومالذي يحتويه هذا الكتاب؟", كان السائلُ هذه المرة هو (آرثر).

"أنها مذكرات أحد الأشخاص الذين سكنوا هذا المكان سابقاً. لم أتمكن من قراءته كاملاً ولكنني عرفتُ بأمر مفتاح الساعة منه."

تقدم (نويل) ببطء نحو الفتاة المضطربة وأمسك يدها بلطفٍ جعلها تنظر إليه بدهشة سرعان ما تحولت إلى الإمتنان. ها هو كالعادة يقفُ بجانبها ليحتوي لحظات ضعفها, تماماً كما كان يفعلُ منذ سنوات طفولتهما. حتى وإن لم يكن يصدق روايتها المجنونة فهذا اللطف يكفيها حالياً.

"حسناً...كانت هذه القصةُ مشوقةً فعلاً, ولكن هل توقعتِ منا تصديقها حقاً؟", قال (لورانس) وهو يحاول جاهداً أن لا يصرخ بوجهها.

"في الواقع –رفع (ساي) رأسه قليلاً وهو يفكر- قصتها لا تبدو مستحيلة التصديق بالنسبة لي."

"نعم, نعم...لا أحد يتوقع منك غير ذلك فأنت الذي تملأ رأسها بهذه الترهات عادةً!", رد عليه (لورانس) بحنق, كيف لهم بأن يصدقوا قصةً كهذه؟!

"إن كنتَ قد كلفت على نفسك بالتفكير لثانيةٍ واحدة للاحظت بأننا في منزل يوجد به صبي لا يموت!", نطق (ساي) الكلمات الثلاث الأخيرة بحدة متصاعدة شاركتها نظرة ثاقبة ثم أردف: "إننا لا نستطيع الخروج, الزمن مضطرب تماماً, ذكرياتنا متخبطة, يوجد كائن ما يلاحقنا, والعديد من الأشياء التي لا تفسير لها تجري هنا. هلا وجدت لي تفسيراً مقنعاً لكل هذا يا صاحب المنطق؟!".

إشتعلت عين (لورانس) بغضب متفجر بعد سماعه لكلمات (ساي) الحارقة وتحرك لا شعورياً بإتجاه الأخير وهو يضم قبضته بشدة, ولكنه سرعان ما وجد (يوهانا) تقف حائلاً بينه وبين (ساي) وهي تقول بحزم: "توقف يا (لورانس)! أنا أيضاً أصدق (أمورا). لا مصلحة لها في الكذب علينا وإختلاق قصةٍ كهذه أبداً. كما أن (ساي) على حق, كلٌ ما يحدثُ هنا غير طبيعي من الأساس."

هدأت نبرتها قليلاً وهي تتابع بعد أن رأت نيران غضبه تخمد ببطء: "ليس هذا بالوقت الذي نقوم فيه بمناقشة من المحق ومن المخطئ, كل ما علينا إيجاده هو طريقةٌ تخرجنا من هنا سالمين, أليس كذلك؟".

هز (آرثر) رأسه موافقاً كلمات الفتاة المتزنة ثم ساندها بقوله: "بإعتبار أن ما تقوله (أمورا) صحيح, إذن فما زال هناك أملٌ لنجاتنا. ومهما كانت (أمورا) محظوظةً فهي لن تستطيع إنجاز الكثير وحدها. من الأفضل أن نعمل سوياً دون الإعتماد على مفتاح الساعة هذا كثيراً, فنحن لا نعلم عن القواعد التي يسير عليها هذا المنزل, لا يبدو أن للمنطق مكاناً هنا."

تهدج صوت (أمورا) وهي تنقل بصرها بينهم متنفسةً الصعداء وكأن جبلاً من الهم إنزاح من فوقها: "شكراً....شكراً لكم جميعاً...إنني حقاً سعيدةٌ لأنكم صدقتموني أخيراً.."

"هذا لا يفسر الشخص الذي هاجمني وقام بحبسي, ولكن ما يهمني حالياً هو ما يجب علينا فعله الآن."

"هل نستخدم هذا المفتاح مجدداً لنعود إلى البداية؟", تساءل (لورانس) الذي يبدو أنه توقف عن محاولة إنكار صحة القصة بعد أن وجدهم جميعاً يدعمون (آمورا) بثقتهم في روايتها. يبدو أنه الوحيد الذي يجد الموضوع بأكمله مستحيل التصديق, ولكنه قرر بأنه لن يجادلهم أكثر, من الأفضل أن يحتفظ برأيه لنفسه.

هز (آرثر) رأسه نافياً: " لا, يبدو أن الشخص الذي يستعمل المفتاح هو فقط الذي يحتفظ بذاكرته, وإن فعلنا ذلك سنعود إلى مربع الصفر مجدداً."

وافقته (آمورا) قائلة: "هذه هي المرة الوحيدة التي تمكن الجميع فيها من البقاء أحياء لهذه المدة, في السابق كان...كنتم...-انخفض صوتها وهي تهمس بألم-...كنتم جميعاً تقتلون بعد فترةٍ وجيزة.", كانت عيناها المسبلتان تخفيان خلفهما الأهوال التي رأتها الفتاة الرقيقة الناعمة منذ أن وطئت قدمها هذا المنزل لأول مرة.

"ولكن هذا شيءٌ جيد, أليس كذلك؟", قال (ساي) بإبتسامةٍ واسعة وهو يتحرك ليفارق السرير وينهض على قدميه بخفة بعد أن نال أكثر من كفايته من الراحة وبدأ يخطو بإتجاه الحمام الملتحق بالغرفة.

"مالجيد في الموضوع بالضبط؟", تساءل (نويل) بحيرة.

"ألا يعني ذلك أننا نسير في الطريق الصحيح هذه المرة؟", أدار صديقه رأسه للخلف بينما وقف عند باب الحمام وأجابه بإبتسامة أكثر إتساعاً.

"والآن إسمحوا لي...أكاد أن أقتل نفسي إن بقيت رائحة ذلك القبو ملتصقة بي هكذا."

-----------------------------------

تحرك (ساي) بتمهل في الغرفة الصغيرة التي أغلق بابها خلفه, وقام برفع قميصه الأبيض بخفة ليخلعه عن جسده قبل أن يقوم بهز رأسه عدة مرات لينسكب بعدها شعره حول عنقه وكتفيه. الإبتسامة التي حملها وجهه تبخرت فور دخوله للغرفة المنعزلة.

تجاهل حوض الإستحمام تماماً واتجه نحو المغسلة الفاخرة عوضاً عن ذلك, فليس هذا بالوقت ولا المكان الذي يسمح له بأخذ حمام طويل. لقد كان صادقاً في رغبته بالإغتسال, ولكنه كان فعلياً يحتاج إلى بعض الوقت وحيداً ليقوم بإعادة ترتيب أفكاره ومشاعره. كان الكثير يحدث حولهم وهم لا يملكون من الأمر شيئاً سوى مجاراة الأحداث ومحاولة البقاء على قيد الحياة. إنه يكره هذا الشعور. الشعور بالعجز بينما العالم يخرج عن السيطرة حوله. ولكنه ما كان ليسمح لنفسه بإظهار عُقَده النفسية هذه أمام أي شخصٍ مهما كان. يبدو أنه مازال يحمل بداخله ذلك الطفل الذي لا يسمح لنفسه بالبكاء إلا إن كان وحيداً وبعيداً عن الأنظار.

ولكنه لن يبكي الآن قطعاً.

كانت أصابعه تعمل على خلع السلاسل الملتفة حول عنقه واحدةً تلو الأخرى, كانت أصوات أصدقائه تصلٌ إليه مكتومةً من خلف الباب السميك إلى أن قام بتحريك المقبض الذي اعتلى الصنبور لتبدأ قطرات الماء في الإندفاع مصدرةً خريراً ملأ أذنيه, وبدأ بغسل وجهه وشعره المنسدل رويداً قبل أن ينتقل إلى عنقه والجرح الذي امتد أسفله, إنه حتى لم يشعر به وقت مهاجمة المجهول له, فقد كان عقله مملوءاً بالرغبة في الخلاص من الذراعين اللتين أحاطتا به بقوةٍ لم يكن يملك ما يعادلها.

نفس الشعور مرةً أخرى... هذا لا يساعده أبداً.... تحسس الجرح ببطء بأطراف أصابعه قبل أن يطلق زفرةً قصيرةً يضع رأسه تحت الصنبور ليغطس في الماء والأفكار.

-----------------------------------

لم يمضِ على دخول (ساي) إلى الحمام وإغلاق الباب خلفه سوى عدةُ دقائق, وكأنما كانت هذه إشارةً ليقوم شيءٌ ما بالحدوث, سمعت المجموعةُ صوت خطوات متمهلة في الخارج تبعتها طرقتان خفيفتان على الباب الغرفة التي تجمع فيها الأصدقاء الخمسة.

تجمد كلٌ منهم في مكانه وقد أجفلتهم هذه المفاجأة الغير متوقعة, ولكن مفاجأةً أكبر كانت تنتظرهم بعدها.

"يجب أن يعيش ساي."
كان الصوت القادم من وراء الباب رخيماً وهادئاً, مألوفاً لهم وغريباً عليهم في نفس الوقت.

"من...من هناك؟!", تحرك (آرثر) الذي كان أول من تمالك نفسه بإتجاه الباب وهو ينتوي فتحه ليرى هوية محدثهم المجهول.

"إياك أن تفتح الباب يا (آرثر), إبق مكانك واستمع إلي إن كنتم تريدون النجاة.", تحدث الصوت مرةً أخرى وكأنه كان يرى ما يحدث في الجانب الآخر.

"كيف تعرف إسمي؟! من أنت؟!", رد عليه (آرثر) بدهشةٍ غلفتها الصرامة بعد أن توقف خلف الباب مباشرةً ويده تكاد تلمس المقبض.

"صدقني, ليس لدي ولا لديكم الوقت الكافي لهذا الحديث, لقد أتيتُ إلى هنا لأدلكم على طريقةٍ تخرجكم من هذه الحلقة المفرغة أحياء, فاسمعني إن كنتَ تريد أن لا تقضوا نحبكم جميعاً هنا. قم بإعطاء الكتاب والمفتاح لـ (ساي), يجب أن يعيش وأن يكون هو الشخص الذي يقوم بإستخدام مفتاح الساعة. أنا آسف ولكنكم لن تستطيعوا النجاة بدون ذلك. مهما كلف الأمر, أبقوه على قيد الحياة, ولا تخبروه إطلاقاً بما سمعتموه مني للتو."

تبادل الأربعة نظرات الحيرة والخوف بينما رد (آرثر) على الصوت المجهول بذات الصرامة: "أعطني سبباً واحداً يجعلني أقوم بتصديقك!".

صمت الصوت لبرهةٍ قبل أن يجيب: "ألم تجدوا (ساي) في المكان الذي تركتُ لكم مفتاحه؟ مالذي سيجعلني أكذب عليكم الآن؟".

بُهت الجميع بعد تلقيهم لهذه الكلمات, فمع تسارع الأحداث التي كانت تجري حولهم نسوا تماماً التفكير في هوية الشخص الذي ترك لهم الملاحظة التي قادتهم لـ (ساي), كما أنه كان يعلم بأمر (أمورا) أيضاً. من هذا الذي يقف خلف الباب؟ ولماذا لا يظهر نفسه لهم؟

أغمض (آرثر) عينيه وأخذ نفساً عميقاً.
".....أخبرنا مالذي يجب علينا فعله."

-----------------------------------

خرج (ساي) من الحمام وهو يبدو كشخص مختلف عن ذاك الذي دخله, فقد كان منتعشاً ويدندن لحناً ما لنفسه بينما انشغلت يداه بتجفيف شعره الطويل مستخدماً منشفةً وجدها بالداخل. ولكن حالما قام برفع عينيه توقف مكانه وهو يرمش بتساؤل, فقد كان الكلُ ينظرون بإتجاهه بصمت وكأنهم كانوا ينتظرونه وقد حملت وجوههم تعبيراً لم يتمكن من قراءته.

"إحم...هل إزددتُ وسامة خلال الدقائق العشرة التي قضيتُها بالداخل؟ مابالكم تحدقون بي هكذا؟".

"ألم تفكر في إحتمال كونك إزددت قُبحاً؟", لم يستطع (لورانس) الواقف عاقداً ذراعيه تضييع فرصةٍ يقوم فيها بالسخرية من (ساي).

"لا أريد سماع ذلك من مراهق ذو شعر ملون مثلك.", لم ينظر (ساي) لمحدثه – أو بالأحرى, الساخر منه-وهو يستمر في المسح على خصلات شعره التي تدلت بعفوية على كتفه.

"هل إنتهيتم؟ (ساي), هلا احتفظت بالمفتاح والكتاب بدلاً من (أمورا)؟ سأشعر بالإطمئنان أكثر إن كانوا معك.", تحدث (آرثر) وهو يحدج الشاب الحائر بنفس النظرة الغريبة التي لم يستوعب مغزاها.

لم يفهم (ساي) سبب هذا الطلب المفاجئ, ولكنه لم يجد أيضاً سبباً يدفعه للرفض, لذا فقد اكتفى بهز كتفيه وتقدم ليحمل الكتاب والمفتاح الأسود ومن ثم جلس القرفصاء على الأرض أمام المدفأة بينما توجه ظهره نحوهم.

"لا أتوقع بأنكم وجدتم شيئاً يمكننا فعله للخروج من هنا؟", تسائل وهو يقوم بتأمل أول صفحة من الكتاب.

"....ليس تماماً.", أجاب (نويل) بإقتضاب.

"توقعتُ ذلك. (نويل), هلا ناولتني هاتفي؟ لست أحبذ إضاعة الوقت بلا فائدة, أحتاج لبعض الموسيقى ليصفو مزاجي.", لم يستدر الشاب وهو يحدثُ صديقه بل اكتفى بفرد يده اليسرى وكأنما يتوقع من (نويل) وضع هاتفه هناك, وهو تماماً ما حدث. حالما استقر الجهاز في يديه, قام (ساي) بالتنقيب في جيب بنطاله ليخرج سماعاته ويوصلها بالجهاز ثم بأذنيه.

ثم بدأ في القراءة.

-----------------------------------

السابع عشر من مارس, 1884م:
أهدتني والدتي كتاب المذكرات هذا في عيد ميلادي الحادي عشر والذي كان الأسبوع الماضي, قالت بأنها طلبته خصيصاً لي وأن كتابتي لمذكراتي ستساعدني بعد إنتقالنا لمنزلنا الجديد على التأقلم مع حياتنا هنا. سأفتقدُ أصدقائي في المدينة كثيراً ولكن هذا المكان جميلٌ فعلاً. الحديقةُ واسعةٌ والمنزل كبير, كما توجد غابةٌ صغيرةٌ بقربه!
يجب علي أن آخذ (إيفانجيلين) وأذهب لإستكشاف القرية المجاورة يوماً ما.
أتساءل إن كانت معلمتنا الجديدة بنفس صرامة السيدة (لوري) التي كانت تدرسنا سابقاً.

الحادي والعشرون من مارس, 1884م:
الحياةُ هنا مختلفةٌ فعلاً, فوالدي يبدو أكثر ارتياحاً هنا من المدينة, ووالدتي تستمع جداً بزيارات نساء القرية وإطراءهن لمنزلنا.
ليس هناك الكثير من الزوار بأعمارنا أنا و (إيفانجيلين), ولكن لا بأس بذلك فنحن دائماً لدينا بعضنا البعض. بإمكاننا أن نستغل الوقت الذي تنشغل فيه أمي لإستكشاف أرجاء المنزل الجديد فهناك العديد من الغرف التي لم ندخلها بعد.
مُدرسَتنا الجديدة, السيدة (إليزابيث), لطيفةٌ جداً ولا تعطينا الكثير من الفروض, لذا فأنا سعيد جداً.

السابع والعشرون من مارس, 1884م:
لقد حدث شيءٌ غريب جداً اليوم...
عندما أتت ضيفات والدتي لتناول الشاي في المنزل, قمنا بتحيتهن كما علمتنا أمي ثم تركناهن وذهبنا نستكشف كالعادة. دخلنا إلى غرفة المعيشة الصغيرة التي تقع قرب المطبخ والتي قلما يزورها أحد. كانت هناك ساعةٌ كبيرةٌ يوجد في منتصفها مفتاح أسود. أنا لم أرَ ساعةً تحمل مفتاحاً من قبل. (إيفانجيلين) قالت بأن المفتاح قد يكون لمعايرة وقت الساعة, ولكن عندما حاولتُ إدارته لم تتحرك عقارب الساعة سوى مرة واحدةً فقط. ولكن ليس هذا هو الشيء الغريب...
لستُ أعلم كيف حدث ذلك, ولكنني وجدتُ نفسي و(إيفانجيلين) أمام والدتي وضيفاتها مرةً أخرى. كُنَ يتحدثن بنفس الأحاديث, ويستعملن نفس الكلمات التي سمعتهاً المرةً الأولى. نفسها تماماً! حتى إسقاط الآنسة (ماري) لكأس الشاي الخاص بها تكرر بحذافيره.
(إيفانجيلين) تُنكر تماماً معرفتها بموضوع الساعة, إنها تقول بأنني أكذب.
يبدو أنها لا تتذكر.

الثامن والعشرون من مارس, 1884م:
يظهر أن والدتي سمعت بموضوع الساعة من (إيفانجيلين), وأنا الآن معاقب لأنها مؤمنةٌ بأنني اختلقتُ القصة لأُخيف بها أختي الصغيرة....
لستُ مهتماً بالساعة البلهاء فقد تعرضتُ للتوبيخ بسببها, سأقوم برمي المفتاح في صندوقي ولن أذكُر الأمر لأحدٍ مرةً أخرى.

الخامس عشر من إبريل, 1884م:
(إيفانجيلين) ليست على ما يرام....
يبدو أنها أُصيبت بمرض ما, وأنا الآن لا أستطيع اللعب معها خارجاً أو حتى بداخل المنزل. إنها تتألم أغلب الوقت, وسعالها يزداد حدةً كل يوم. طبيب القرية يحاول جاهداً طمأنة والدتي ولكنها بدأت تُصاب باليأس فحالة أختي لا تبدي أياً من بوادر التحسن. بالأمس سمعتها تبكي بعد أن تمكنت (إيفانجيلين) من النوم أخيراً. حالةُ أختي سيئةٌ لدرجة أننا اضطررنا لنقل غرفتها لتصبح بجانب غرفة والدتي في الطابق الثاني حيث أنها تحتاج لرعايتها على الدوام. لقد إخترنا لها الغرفة الأبعد عن السلالم لكي لا يزعجها صوت الخدم والزوار.
إنني وحيد جداً, وحزين جداً. حتى دروس السيدة (إليزابيث) أصبحت كئيبةً عندما بدأت أتلقاها لوحدي.
أتمنى أن تُشفى (إيفانجيلين) قريباً.

الثامن والعشرون من إبريل, 1884م:
لم يتمكن أحدنا من النوم الليلة الماضية, فـ (إيفانجيلين) لم تتوقف عن البكاء والسعال طول الليل, وقد ارتفعت درجة حرارتها فجأة. والدتي تمنعني من الدخول عليها خوفاً من إصابتي بالعدوى, ولكنني أريد رؤيتها بشدة...
لم نلعب أو نتحدث مع بعضنا كما كنا نفعل سابقاً منذ أسبوعين, وأنا قلق عليها للغاية.
لقد طلبتُ من والدي أن يقوم بأخذها إلى مستشفى المدينة ولكنه يرفض بحجة أن السفر سيرهق صحتها أكثر, سأحاول إقناعه ثانيةً غداً.
يبدو أنها نائمةٌ بعمقٍ فالسكون يخيم على غرفتها منذ مدة.

-----------------------------------
اليد التي لمست كتفه خرجت به من عالم المذكرات والموسيقى الذي غطس فيه بعمق, وأعادته للواقع الذي تركه خلفه لوهلة.

رفع (ساي) رأسه الذي غطى الشعر الطويل جانبه وأزاح السماعات من أذنيه والتفت برأسه متسائلاً ليرى (نويل) وقفاً خلفه بوجوم لم يجد له مبرراً.

"(ساي), لقد كنا نتحدث فيما بيننا, وأعتقد أنه يجب علينا الذهاب للغرفة التي توجد بها الساعة."

"ولم عسانا نفعل ذلك؟ ألم يقل (آرثر) بأن لا فائدة ترجى من إستعمال المفتاح؟".

"نعم, ولكن...أليس من الأفضل أن نكون بقربها في حال وقع أمرٌ ما؟", أجاب (نويل) بتردد وكأنه لم يكن هو نفسه متأكداً من السبب.

ما هذه النبرة الغريبة التي يحملها صوت (نويل)؟

لم يعلق (ساي) على كلام صديقه بل اكتفى بإغلاق الكتاب وقام بإدخال المفتاح الأسود في جيبه ثم نهض من موضعه بتمهل واتجه صوب الباب وبصره يجول بين وجوه أصدقائه الخمسة. كان أغلبهم يحاول تجنب نظراته.

"....حسناً إذن, فلنذهب إن كان هذا ما تريدونه, ولكنني لا أرى الجدوى من ذلك."

لم يرد أي منهم عليه, مما أجج شعوره بوجود سرٍ ما. أحياناً يستطيع الإنسان أن يحس بالجو المكهرب حتى وإن كان كل شيءٍ يبدو طبيعياً في الظاهر. ما هذا الإحساس الكاسح الذي ينتابه بوجود شيءٍ خاطيء؟

لم يتسنى له الإستغراق في تحليلاته حول سبب غرابة أطوار الأشخاص الذين وقفوا خلفه في الغرفة وكأنهم لا ينوون الذهاب معه, فقد فوجئ بيدٍ قوية تمسك معصمه بصلابة, مما جعل رأسه يدور بسرعةٍ لينظر بدهشةٍ إلى (نويل) الذي كان واقفاً بجانبه وهو يعتصر يده.

"(ساي), إبق بالقرب مني طوال الوقت.", قالها الشاب ذو الملامح الهادئة دون أن ينظر بإتجاه صديقه الذي وجِهَت له هذه الكلمات, فقد كانت عيناه الخضراوان مركزتان بثبات على باب الغرفة.

هتف (ساي) بالشاب الأطول منه مستنكراً: " اترك يدي يا (نويل)! مالذي دهاك؟!", حاول سحب معصمه من القبضة التي أحاطت بها ولكن هيهات, فـ (نويل) كان يشد عليها بكل ما أوتي من قوة.

قبل أن يبدأ (ساي) بالتفكير جدياً في إيساع (نويل) ضرباً ليتمكن من تحرير يده, قام الأخير بسحبه فجأةً إلى الجانب وأحاطت ذراعاه به ليحمي جسد الشاب الأصغر منه حجماً بينما أطاح شيءٌ أشبه بالإنفجار بالباب الذي كان (ساي) يقف أمامه منذ ثوانٍ.

-----------------------------------

إتسعت العينان البنيتان لأقصى درجة ممكنة وهو يحدق في المكان الذي كاد أن يلقى حتفه فيه لولا تدخل (نويل) بينما همست شفتاه بذهول: "هذا مستحيل...منذ متى كان هذا الشيءُ قادراً على نسف الأبواب هكذا؟!".

ترنح (نويل) وهو يستعيد توازنه ولكنه لم يفلت معصم صديقه ولو للحظة. لمح الشاب القصير (أمورا) المذعورة بطرف عينه وهي تقوم برفع المسدس الصغير الذي وجده (نويل) سابقاً بيدين مرتجفتين نحو الصبي الشاحب وهي تصرخ به: "إبتعد عنه...إبتعد عن (ساي) وإلا...!".

هتف المذكور بها: "مالذي تفعلينه يا حمقاء؟! أنت لا تستطيعين إستخدام الأسلحة النارية, من المغفل الذي أعطاها هذا الشيء؟!".

ولكن الفتاة لم تستمع له, فقد أتبعت تهديدها بالفعل وقامت بالضغط على الزناد رغم عدم توازن يديها لتخرج رصاصةٌ طائشةٌ وتنطلق نحو عنق الطفل الذي كان ينظر نحوها بعينيه الميتتين. رغم أن المسدس يبدو صغيراً إلا أن قوة الطلقة دفعت بها إلى الخلف وهي تطلقُ صرخة جزعة تبعها صوت عواء الكائن الذي كان عنقه يحمل فتحةً صغيرة الآن. وكما هو متوقع, لم تخرج من مكان الطلقة أي دماء.

ولكن وإن كان هذا الشيء لا ينزف, إلا أنه بالتأكيد يتألم ويغضبُ بشدة في حال إصابته. فقد كان هدفه فور أن استعاد توازنه هو (أمورا), وكأنه يسعى للإنتقام الفوري مما فعلته به.

كان (ساي) يحاول بجنون أن يفلت من قبضة (نويل) وهو يشاهد ما يجري, ولكن يبدو أن الأخير كانت لديه مخططات أخرى غير إنقاذ (أمورا), فقد قام بسحب الشاب القصير سحباً إلى خارج الغرفة بينما دوى صوت طلقةٍ أخرى خرجت هذه المرة من مسدس (آرثر) الذي يحمله دوماً.

صرخت (يوهانا) بـ (نويل): "أسرع بأخذه بعيداً عن هذا المكان!".

"هل جننتَ يا (نويل)؟! مالذي تفعله؟! إنه يقتلهم...إنه يقتلهم!!!", كانت صرخات (ساي) المعترضة تملأ الممر بينما إنضم (لورانس) لـ (نويل) وأمسك بقميص الأول ليمنعه من الإفلات.

"فلتخرس أنت فكل ما نفعله نحن الآن هو لمصلحتك ومصلحتنا!", صرخ (لورانس) بوجهه بقسوة.

لم يعد بمقدور (ساي) رؤية ما يحصل في الغرفة وهو يُسحب كحيوان هائج نحو السلالم وإن كانت أصوات صراخ (أمورا) و طلقات (آرثر) تخترق أذنيه وروحه كسهام ثاقبة. لم يكن يفهم شيئاً مما يجري, ولكنه لا يهتم بالفهم الآن, تصاعُدُ غليان الغضب بداخله جعل كل ما يريده هو العودة وتلقين الطفل الحقير درساً لا ينساه مدى حياته الأبدية. ولكن الشابين استمرا في جرجرته بينما تبعتهما (يوهانا) الباكية وهي تلتفت للخلف بين الفينة والأخرى وكأنها تخشى العودة لمقابلة مصير الشخصين الذين تركوهم خلفهم, وفي نفس الوقت بدت وكأنها لا تستطيع إجبار نفسها على الهرب وتجاهل ما يحدث.

"إسمعني جيداً يا (ساي)...!", نظر المذكور لمحدثه بحقد شديد فهو مازال يسحبه من معصمه بعيداً رغم أن إبنة عمه تموت بالداخل. أي جنون هذا الذي أصابهم؟! ولكن....ما هذا التعبير المتألم الذي يرتديه وجهه؟ تعبير يُظهرُ عذاباً لا تستطيع بساطة الكلمات وصفه. كاد (ساي) يقسم لنفسه بأن (نويل) يبكي, فقد تلألأ شيءٌ ما في عينيه التي لم يوجههما مباشرةً تجاه صديقه.

"يجب عليك إستعمال المفتاح, وإلا فإن كل ما نفعله الآن سيذهب سدى. لا تنظر إلي هكذا, إسمعني فقط! يعلم الله بأنني لا أريد تركها هكذا, ولكن إن لم نفعل شيئاً فسنبقى جميعاً هنا لنموت مرةً تلو الأُخرى!".

"مالذي تهذي به أيها المعتوه؟! هل تعي ما تقوله؟! أتطلب مني الهرب كالأطفال وترككم جميعاً؟! أتريدني أن أقف متفرجاً بينما هذا الكائن السافل يقوم بقتل (أمورا)؟! إنها إبنةُ عمك أيها الجبان!! لقد ظننتُ أنك تهتم لأمرها أكثر من أي شخص آخر!!".

"وهذا ما أحاول فعله!!!", تزامنت صرخة (نويل) مع سحبه بقوةٍ لمعصم (ساي) ليقترب وجهه منه للغاية وهو يتابع صارخاً: " إنني أفعل هذا من أجلها!! لا أريدها أن تبقى عالقةً هنا لتواجه مصيراً أسوء من الموت, لقد عانت الفتاة بما فيه الكفاية!!".

لم يتذكر (ساي) بأنه رأى (نويل) بهذه الحالةِ يوماً, لذا فقد بُهت من إرتفاع صوته والكلمات المتفجرة التي خرجت من فمه, والتي لم تتطابق مع تعابير وجهه الذي ملأته الحسرة والألم. كانت عيناهما المتقاربتان تنطقان بالكثير من الأمور التي لم تنطقها شفاههما. مالذي كان يفكر فيه هذا الشاب وهو يقوم بإدارة ظهره لها؟ ماهو شعوره وهو يسمع صرخاتها؟ بدأ (ساي) يستشعر هول الموقف الذي كان (نويل) يواجهه, والذي زاده كلام (ساي) المندفع سوءاً بلا شك.

ولكن هذا لم يكن بسوء ما حدث بعدها.

فما أن بدأوا بالنزول عبر السلالم حتى خرج الكائن من الغرفة ببطء وقد تلونت بشرته الشاحبة وشعره المتناثر وملابسه التي كانت فخمة في يومٍ ما بلون أحمر لا يجهل أحد مصدره.

صرخة (يوهانا) الملتاعة نبهت (ساي) إلى أنه لم يعد يسمع صوت (أمورا) أو طلقات (آرثر), وبسرعةٍ شديدةٍ أخذ يقلبه يخفق بينما انتشر البرد في أطرافه وهو يستوعب معنى ذلك.

-----------------------------------

لم تعش (يوهانا) طويلاً بعد إطلاقها لصرختها تلك.

كونها الوحيدة التي لم تصل إلى السلالم بعد, فلم يكن من الصعب على الصبي القاتل الوصول إليها في غضون ثوانً., وبإندفاعةٍ سريعةٍ قام الصبي بالإطاحة بالفتاة التي وجدت نفسها تحلق من الدور الثاني لتهوي نحو الأرضية الرخامية لبهو الدور الأرضي في مشهد جعل الشبان الثلاثة يتجمدون في أماكنهم.

الصدمة كانت كفيلة بجعلها تكتفي بالتحديق في مهاجمها بعينين جاحظتين وهي تدرك في أعماقها إقتراب نهايتها, الوجه الصغير الذي تلون بالعروق الظاهرة بادلها النظر بجمودٍ جليدي.

لم يصدر منها أي صوت, لم تصرخ أو تتحرك بعد إرتطامها بالأرض التي استقبلتها بقسوة, بقي جسدها هامداً بينما بدأ لون الأرضية تحتها يتغير تدريجياً.

"....(هانا)............؟"

أكان هذا الصوت المخطوف الأنفاس والمتشبع بغصة الدموع فعلاً صوت (لورانس)؟ لم يسمع رداً من صاحبة الإسم التي بقيت مكانها وقد استلقت نظاراتها المحطمة بجانبها. هز الشاب المفجوع ذو العين الواحدة رأسه نافياً ببطءٍ وكأن عقله يأبى تصديق ما حدث أمامه.

لم يكد (ساي) و (نويل) يبدأون في إستيعاب ما حصل للتو حتى رأوا ظهر (لورانس) أمامهم وهو يهجم بجنون على الشيء الذي كان يخطو على آخر درجات السلم الرخامي متوجها نحو المجموعة الصغيرة وقد اخترقت جسده الصغير عدةُ طلقات في أماكن متفرقة, مما قد يفسر سبب سيره المتباطئ وكأنه ليس على عجلةٍ من أمره للقضاء عليهم.

"(لورانس)!!".
" توقف!!!!".

صرخ الشابان محذرين المذكور في نفس الوقت, ولكن التصرفات المنطقية لم تكن ما يحتل تفكير (لورانس) الآن. كلُ غضبه, كلُ حزنه, كلُ ألمه اجتمع ليجعل منه شخصاً لا يبالي بوجه الموت الذي كان يحدق فيه مباشرةً. صورة (يوهانا) وصوتها ترددا في رأسه فهي تارةً تضحك, وتارةً تؤنبه على عصبيته, وأخرى تغيظه بذكاءٍ مازح.
"لقد قتلتها!! أيها القذر الحقير!! كيف تجرؤ على فعل هذا بـ (هانا)؟! مالذي فَعَلتهُ لتستحق ذلك؟!", كانت حمم مشاعره الملتهبة تخرج متدفقة من فمه وعينه التي قابلتها نظرةٌ متجمدةٌ من عينين غُمستا في السواد الحالك.

كل ما حدث ومازال يحدث جعل (نويل) يقف كالصنم وقد تبلد عقله تماماً, لذا فقد تمكن (ساي) أخيراً من تحرير معصمه الذي كان حبيس قبضة الأول بسحبةٍ قويةٍ مفاجئة. لم يضيع ثانيةً واحدة بل إندفع خلف الشاب الذي سبقهٌ محاولاً الوصول إليه قبل أن يتسبب بغضبه الأعمى في قتل نفسه.

ولكن يد الصبي كانت أسرع منه بالرغم من أنه وصل على بعد خطوات من (لورانس) فقط.

شَعَرَ (ساي) بسائل دافئ يرتطم بوجهه ليغمر أنفه برائحة نفاذة جعلت ساقيه تتوقفان عن الحركة تماماً.

(لورانس) الذي كان يثرثر أكثر من أي شخص آخر, (لورانس) الذي كان صوت ضحكاته يصل لعنان السماء, (لورانس) العصبي المشاكس الذي كان يملأُ الحياة حوله ضجيجاً وصخباً....

(لورانس)....لن يضحك أو يصرخ أو يسخر من أي شخصٍ مرةً أخرى.

-----------------------------------

"....هذا لا يحدث....لا يمكن بأن هذا يحدثُ فعلاً...".

وصل (ساي) لمرحلةٍ الهلوسة وهو ينقل عينيه بين جسد الفتاة المحطم الذي توسط البهو وبين الشاب الذي لم تمض أكثر من ثانيتين على إغلاقه لعينه الزرقاء الصافية لآخر مرة في حياته.

بالرغم من أنه لم يجد صعوبةً في تصديق قصة (آمورا) سابقاً, إلا أنا ما يشاهده الآن كثير جداً. كيف تمكنت تلك الفتاة الهشة من تحمل هذا العذاب قبلاً؟ إنه يفضل الموت قطعاً على رؤية أصدقائه القلائل في هذا العالم يقتلون هكذا. ربما كان بإمكانه أخذ هذا الشيء الجحيمي معه قبل أن يَقضى عليه هو الآخر.

نعم.... سيفعل ذلك.

إمتدت يده إلى جيبه بسرعة ليخرج شيئاً ما.

مازالت السكين معه, السكين التي لم تفارقه يوماً منذ سنوات. سيستعملها كما إستعملها سابقاً, للقضاء على أولئك الذين يحاولون إيذاء من يحب. سيقتله هذا الكائن السفاح حتماً, ولكنه لن يسمح لنفسه بالموت قبل أن يرد له ما فعله بأصدقائه أضعافاً مضاعفة.

نظر إلى خصمه الصغير بعينين حملتا منتهى الغضب والتوحش ثم حرك السكين بخفة لينفرد النصل الفضي اللامع بينما تبخر أي خوف كان يحمله في أعماقه من إنتهاء حياته, إنه لا يبالي حقاً الآن.

-----------------------------------

"لن أسمح لك!".

(نويل) يقبض على معصمه مرةً أخرى!

تحركت العينان المتسعتان اللتان أعمتهما الشراسة لتنظرا إلى الشاب الذي تغلب عليه جنون من نوعٍ آخر.

جنون الخوف.

لماذا يُصرُ (نويل) على إيقافه؟ لماذا كان على البقية أن يموتوا هكذا؟ لماذا عليه هو أن ينجو؟ لم يكن يريد الآن سوى أن يذيق هذا القاتل العقاب الذي يستحقه. لن يكتفي بتعذيب الطفل المقيت مرةً واحدة, سيقتله مراراً وتكراراً, سيظل يقتله للأبد إن كان فعلاً لا يموت.

اللكمة التي تلقاها في معدته أوقفت أفكاره الدموية وأجبرته على السقوط على ركبتيه ليشعر بنفسه بعدها يُحمل حملاً على كتف (نويل) الذي انطلق نحو الغرفة التي تحوي الساعة, بينما رأت عيناه اللتان بدأتا تفقدان تركيزهما هدفه يتبعهما بإصرار بطيء.

لم يحس بالوقت الذي استغرقه وصولهما للغرفة ووعيه يتأرجح بين اليقظة والإغماء, ولكن سرعان ما سمع صوت باب خشبي يُركل وتبع ذلك إنزال (نويل) للجسد الذي حمله بأقصى درجات العناية التي تسمح بها الظروف. هكذا هو (نويل) فعلاً, يظل هذا الشاب مهتماً بصديقه المتهور حتى النهاية. حتى والخوف يمزق ما تبقى من عقله.

محاولات (ساي) للنهوض لم تكلل بالنجاح, فقد كان يجد نفسه يترنح ويعود للأرض مجدداً, وهو ما كان يريده (نويل) تماماً, فهو لا يرغب في أن يجد (ساي) يندفع بجنونه المعهود نحو حتفه. ليس الآن.

لقد تحملت (أمورا) عبء هذا العذاب وحدها سابقاً, ومستقبلهم المجهول سيقع على عاتق صديقه المتهور القصير, وهو يعلم مسبقاً نوع الألم الذي سيتوجب على (ساي) تحمله.

ولكن الآن, من أجلهم جميعاً, عليه أن يسير هو إلى حتفه.

إنحنى الشاب الطويل ليسحب السكين التي استقرت في راحة صديقه برفق, وقد تقابلت نظراتهما لثانيةٍ واحدة قبل أن يعتدل وهو يبذل أقصى جهده في لملمة شتات أعصابه قبل أن يستدير ليقف عند باب الغرفة أمام عيني (ساي) المشدوهتين.

-----------------------------------

لم يكن الممر الضيق الطويل الذي يسير فيه الطفل بتمهل هو المكان الذي يرغب (نويل) بالتواجد فيه حالياً, ولكن ما باليد حيلة. لا مجال للتراجع الآن, عليه أن يمضي قُدُماً فيما يتوجب عليه فعله. تسارعت أنفاسه وضربات قلبه منتظراً وصول النهاية القادمة لا محالة.

"(ساي)...علي الإعتذار إليك بينما أنا أمتلك الفرصة لذلك, أعلم أنك لا تفهم ما يجري, وربما كرهتني لما فَعَلتهُ بك, ولكنني أريد لك أن تعيش لتنقذ (أمورا), لتنقذنا جميعاً."
صوت الخطوات بدأ يصبح أكثر وضوحاً, مما يعني أن الكائن يقترب منهم حثيثاً.

"....إنني خائف لأصدقك القول....إنني خائف يا (ساي)....ولكن إن كان لابد لي من الموت فأريد أن أكون مفيداً على الأقل..."

ما بال (نويل) الأحمق يثرثر عوضاً عن الهرب؟! أراد (ساي) أن يصرخ بذلك ولكن صوته لم يسعفه فلم يسمع سوى صدى أفكاره يملأ رأسه.

" لذلك...أرجو أن تعيش يا (ساي)...يجب أن تعيش, من أجلنا جميعاً."

بالرغم من عدم وضوح الرؤية إلا أنه لاحظ شحوب وجه (نويل) المفاجئ.

لقد وصل الطفل.

"(نويل)!!!".

لم يعبأ المذكور بالصرخة المتألمة التي خرجت بصعوبةٍ حاملةً إسمه بينما كان هو يندفع فجأة ليدفن السكين القصيرة في منتصف جبهة الصبي الذي فتك ببقية أصدقائه, وهاهو دوره يحين الآن.

الصرخة الشيطانية التي أطلقها الصبي الشاحب لم توقف (نويل) الذي انتزع السكين من مكانها ليهوي بها مرةً أخرى على عنق الكائن الذي توالت صرخاته النائحة بلا إنقطاع.
تحرك (ساي) الذي تمكن لتوه من النهوض وهو يترنح ويعب الهواء عباً آملاً في أن يتمكن من إنقاذ (نويل) من موت محقق, يجب عليه أن يفعل ذلك ولو كلفه ذلك روحه, لن يترك صديقه يموت كالبقية. واحد فقط...يريد إنقاذ شخص واحد فقط على الأقل.

ولكن في نفس اللحظة, إخترقت يدٌ صغيرةٌ منتصف بطن الشاب بعنف مرسلةً رسالةً حمراء صاحبتها شهقةٌ متألمة أعلنت لـ (ساي) بكل وضوح عن فشله الذريع في تنفيذ ما عقد العزم عليه.

ثانيةٌ واحدة, ضربةٌ واحدةٌ سلبته أقرب وأعز صديق حصل عليه في حياته...أمام عينيه....وهو لم يستطع فعل شيء لمنع ذلك...

تراخى جسد (نويل) كدمية إنقطعت خيوطها ليسقط على ركبتيه وقد بدأ يشعر بالتنفس يصعب عليه بينما انحدر خطٌ قرمزي من ركن فمه الذي طالما حمل الإبتسامة للجميع.

كان (نويل) يبتسم الآن أيضاً. يبتسم برضى وهو ينظر نحو إنجازه حيث بدأ الكائن الصارخ ينكمش ويذوب مرةً أخرى.

إلتفت وجهه الذي تحول من البياض إلى الشحوب في غضون ثوانٍ ليواجه (ساي) بنفس الإبتسامة, منظرٌ جعل الأخير يغص بمشاعرٍ لم يكن يدري أنه يحملها. هذا القهر الساحق الذي اندفع عبر كل عرق في جسده كصاعقةٍ دمرت آخر معاقل التحمل لديه يوشك على يقتله, إنه يكاد يسمع صوت شيء ما يتكسر بداخله مثل جدار من زجاج يتهاوى تحت ضربات القدر.

أهو قلبه؟ عقله؟ روحه؟

"(ساي)....هل تبكي؟...لا تفعل...ستراني مجدداً...هناك (نويل) آخر...يحتاج ذهابك لإنقاذه...لإنقاذ الجميع...".

لم يكن (ساي) يشعر حتى بالقطرات التي انحدرت من ركني عينيه الجاحظتين لتصل إلى شفتيه المرتجفتين. إنه يريد أن يصرخ بأعلى صوته عله يفرغ بعض هذا الألم الذي يعتصره من الداخل, إذن لماذا تأبى حنجرته أن تطيعه؟ وجد نفسه يندفع رغم عدم توازن ساقيه ليترك جسده يتهاوى كيفما اتفق بجانب الشاب المحتضر وذراعاه تمتدان لتحتويا الجسد الدامي أمامه بقوةٍ حملت كل ما يتأجج بداخله من أحاسيس.

سعل (نويل) مرةً وهو يجاهد ليبقي الهواء في رئتيه, ترك جسده المنهك يسترخي بين ذراعي (ساي), الشخص الوحيد الذي كان (نويل) يعلم يقيناً بأنه على إستعداد للموت من أجله لولا أن اتخذ هو احتياطاته لمنع ذلك.

كان الشاب الوسيم يتألم جسدياً ونفسياً كما لم يتألم من قبل في حياته, ولكن حياته كانت الآن تتسرب بسرعةٍ جعلت الألم يُستَبدلُ بخَدَرٍ بدأ ينتشر في أطرافه. جفناه يصبحان أكثر ثقلاً بمرور الثواني لينسدلا ببطء على العينين الخضراوين اللتين بدأتا تفقدان بريقهما الهادئ تدريجياً.

"الوداع.........إلى وقتٍ قريبٍ....كما أتمنى...."

-----------------------------------
كان هو وحده الذي يعلم السبب.

لقد ضحوا جميعاً بأرواحهم مقابل منحه هو فرصةً للنجاة. فرصةٌ لا يريدها إن كانت تعني الحياة وهو يحمل ألم فقدانهم في قلبه. ولكن إن ألقى بهذه الفرصة الآن فسيخسر أكثر من سلامة عقله: سيخسرهم للأبد. أصدقاؤه الذين لم يفكر يوماً بأنه سيفقدهم هكذا, لقد كانوا هناك فقط, لم يضع في إعتباره أبداً بأنه سيصل إلى زمنٍ لا يكونون فيه هناك كما عَهِد. لم يريدوا أكثر من إجازة يقضونها سوياً. كيف تحول الأمر إلى مجزرة سلبت حياتهم ومستقبلهم وأحلامهم؟.

لم يكن من السهل عليه حمل الجسد النازف الذي فقد دفء الحياة إلى داخل الغرفة, لذا فقد كان يسحبه من ذراعه مخلفاً وراءه خطاً عريضاً أحمر اللون بينما انتكس رأسه ليغطي الشعر الثائر عينيه الدامعتين. شهقاته القصيرة اختلطت بصوت حفيف الملابس وهي تتحرك على الأرضية الخشبية.

لا فائدة مما يفعله الآن فالموتى لا يشعرون بشيء ولا يبالون بما يحل بأجسادهم, ولكنه رغم ذلك لم يكن ليترك جسد الشاب -الذي قُتل بلا ذنب سوى أنه أراد حمايته-متكوماً في الممر الدامي. برفق شديد, وكأنه يعامل طفلاً حديث الولادة, قام بتسجية الجسد على ظهره, ثم تحرك ليضع اليدين المتراخيتين واحدةً فوق الأخرى على صدره الذي اصطبغ بالدماء التي لم تتوقف عن الخروج بعد.

"....أنت لا تستحق هذه النهاية....لا أحد منكم يستحقها...لماذا جعلتموني أعيش؟...لماذا فعلتهم هذا بي؟....كل ما أريده الآن هو العودة لكم حيثما كنتم...".

امتدت يده الدامية نحو نحره لتسحب القلادة التي تدلت من طرفها الوردة السوداء اللامعة وتقطع السلسلة التي جمعتها بعنقه.

" سامحني فهذا كل ما أملك الآن...", ما باله يتكلم وكأن صديقه سيرد عليه؟

قام بوضع الوردة بين أصابع الشاب الذي ازداد جلده برودة, ثم اعتدل متباطئاً وكأنما كانت أكتافه تعتليها صخرة لا قِبل له بحملها.

واقفاً في الغرفة التي توسطها جسد آخِر أصدقائه وقد فارقته الحياة, كان ينظر بعينين خاملتين إلى وجه الفتى الملقى على الأرض , كأنه نائم لا غير. لم يكن يعرف أين ينتهى الشَعر وتبدأ الدماء , لقد كان كل ما يحيط برأسه هو هالة داكنة جعلت لون بشرته الأبيض يبدو أكثر شحوباً .

الساعة الكئيبة تصدر صوتاً رتيباً في خلفية المشهد الصامت .

في غُرفٍ أخرى متفرقة , كان باقي أصدقائه يرقدون وقد واجهوا نفس المصير. وفي كلِ مرةٍ كان يفقد فيها جزءاً من عقله. ولكن ها هو ذا , لقد وصل إلى النهاية. لربما كان هو الوحيد الباقي على قيد الحياة , ولكن شيئاً ما تحطم للأبد بداخله.

قطرات من سائلٍ قاتمٍ تنساب من بين أصابعه لتتساقط على الأرض برتابة , وما زال الشاب صامتاً.

لماذا ؟ ربما كان السبب معروفاً لديه , ولكن ذلك لا يساعده بأي حالٍ من الأحوال في منع الإنفجار العاطفي الذي يشعر بإقترابه حثيثاً. إنه لم يعد قادراً على تحديد شعوره في هذه اللحظة. ولوهلةً ما , أقنع نفسه بأنه فعلاً لا يحس بشيء.

ولكن هذه القناعة الزائفة لم تدم لأكثر من ثانيتين , وهي المدة اللتي إستغرقها لتذكر آخر كلمات قالها له صديقه مقترنةً بإبتسامة ناعمة. وعلى الفور, تماماً كما ينهار سدٌ من ورقٍ أمام طوفان جارف , سقط الشاب على ركبتيه وهو يحتوي وجهه بكفيه.

لقد أتى الإنفجار, وهو أسوأ أنواع الإنفجارات على الإطلاق...
إنه ذلك الإنفجارُ الذي لا يسمعه أحد...

-----------------------------------

VJdo0


نـــهـــايـــة الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة -إنتهى-


لا يمكن لنا إصلاح الزجاج المكسور, ولكن يمكننا إستخدامه لشق مستقبل جديد في نسيج الزمن.

ساي 09-22-2022 12:34 PM

. مساء الخير والنور والرضى والسرور لكل من يقرأ كلماتي هذه.

كيف كانت إمتحاناتكم؟ هل أبليتم جيداً؟ أغلب ظني هو أن الجميع إنتهى الآن, لذا سأبارك لكم قدوم الإجازة الصيفية والتي أرجو أن تقضوها فيما يسعدكم ويفيدكم ويمتعكم.

لقد أطلتُ الغياب بما فيه الكفاية, لذا أعود اليوم من جديد بجزءٍ قصيرٍ نوعاً ما عله يشفع لي تقاعسي في الفترة الأخيرة.

(( سأكون كاذبة إن قلتُ بأنني لم أشتق للكتابة خلال هذه الفترة. ))

هاقد عدنا إلى المنزل من جديد, فمالذي سيحدث بداخله هذه المرة؟

الفصل الثامن
-----------------------------------

جميع الأشخاص طيبون في الأساس حتى تدفعهم الظروف ليصبحوا غير ذلك.

-----------------------------------


الربيع هو فصل البدايات الجديدة. فصل السعادة والجمال. فصل الدفء الذي يمحو ما قبله من برد وفتور. كلٌ شيء يرتدي حلةً جديدةً زاهية, وكأنها فرصةٌ للعودةٍ إلى رونق الحياة بعد وقتٍ طويل إنقضى على مضض في السكون.

ليس من المستغرب إذاً أن تبرق الشمس وكأنها تزهو بطلتها البهية وتتلون الأرض بالأعشاب الخضراء التي تمايلت بتبختر مع نسمات الهواء الناعمة في هذا اليوم الربيعي. كل ما بالجوار يستمتع بهذه الأجواء, وذلك يتضمن الشخصين الضاحكين الذين كانا يسيران متقاربين بينما كان ثالثهما يقف على مسافةٍ قريبةٍ منهما وهو يرمش ببطء وقد راقص النسيم خصلات شعره الذي يميل للطول.

لم يكن (ساي) متأكداً مما حدث للتو, فقد كان يتذكر بوضوح تواجده منذ عدة ثوانٍ بداخل المنزل الذي كان يلوح في الأفق أمامه الآن وهو يتفجر غضباً وحزناً قبل أن يقوم بتنفيذ وصية (نويل) له بإستخدام المفتاح في الساعة. وهو ما فعله تماماً بعد أن قام بعمل شيء آخر خطر على باله حينها. ما أن أغلق عينيه وفتحهما حتى وجد نفسه هنا.

تحركت يده التي أحاط بمعصمها سوارٌ جلدي لتلمس خده برفق.
لا شيء. لا دموع. لا دماء. كل ما شعر به هو الدفء الذي أسبغته أشعة الشمس على جلده.
إنتقلت أصابعه بسرعة لتتحسس المنطقة التي توسطت المسافة بين أسفل رقبته وأعلى صدره.
لا شيء أيضاً, لا أثر للجرح الذي كان هنا سابقاً.

صوت ضحكات أنثوية مرحة قطع حبل أفكاره جاعلاً إياه يرفع عينيه الواسعتين بحركةٍ سريعة ليسقط بصره على الشخصين الذين سبقاه بمسافة قصيرة. الفتاة ذات الشعر الأشقر المنسدل على ظهرها والشاب الطويل ذو الشعر البني الناعم يستمتعان بوقتهما سوياً على ما يبدو.

"...(أمورا)...(نويل)...", همس بذلك نفسه وسط أنفاسه.
هل هو في حلمٍ الآن؟ أم أن ما حدث قبلاً, ما يتذكره من أهوال, هو الحلم؟ جميع المشاعر التي غرقت مؤقتاً بداخله بدأت تطفو من جديد بينما شريط الذكريات يعيد نفسه أمام ناظريه. مالذي يفترض عليه أن يحس به الآن؟ هل يبتهج لوجودهم سالمين هنا؟ هل يبكي أصدقاءه الذين يرقدون بلا أرواح للأبد في مكان ما, في زمن ما؟ هل يكره نفسه, كونه الذي شاء القدر أن يجعله الناجي الوحيد؟ هل الشخصان الذان يراهما أمامه الآن هما (أمورا) و (نويل) "الحقيقيان"؟ أم أن الحقيقين هما أولئك الذان تركهما خلفه؟ لم يستطع تحمل كم الأفكار والكلمات التي ضج بها عقله المضطرب.

...لم يكن هناك خيار آخر...الكثير من الصراخ والدماء...(نويل) يبتسم...عينان سوداوان...صوت الساعة الرتيب...رائحةٌ صدئة...دموع لم يكن يقصد ذرفها ولكنها أبت إلا أن تغسل وجنتيه...مفتاح أسود منقوش...

نفض الشاب رأسه بعنف تطايرت على أثره خصلات شعره لتـنـتـثر حول وجهه وكأنه بذلك يفرغ رأسه مما ملأه, ولكن الأمر لم يكن لينتهي بهذه السهولة. ليست هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها الموت عن قرب هكذا, ليست المرة الأولى التي يشاهد فيها هذا الكم من الدماء. إذن لماذا هو ضائع هكذا؟

"...(ســاي)؟", صوت أنثوي آخر ينطق إسمه بتساؤل.
لحسن حظه فقد تمزق حبل الأفكار مرةً أخرى قبل أن يؤدي به إلى الجنون.
" هل ستظل واقفاً هنا حتى نهاية اليوم أم ماذا؟ مالذي حدث للشخص الذي كان يتشدق بأنه يستطيع أن يسبق (لورانس) إلى المنزل في غضون دقيقتين؟", رافقت هذه الكلمات المازحة يدٌ وضِعت بخفة على كتفه بينما تجاوزه صاحبها الأطول منه ذو الشعر الأشقر والملامح الهادئة.

"هذا القصير ليس قادراً حتى على المشي كالبشر الطبيعيين على ما يبدو.", هذه النبرة الساخرة التي طالما أزعجته بدت كأروع شيء يمكن لـ (ساي) أن يسمعه الآن.
"صدقاً يا (لورانس), عليك أنت و (ساي) أن تجدا هوايةً أخرى غير السخرية من بعضكما البعض. يالكما من طفلين كبيرين!", كلمات (يوهانا) الضاحكة رسمت إبتسامةً صغيرةً على ثغره زادها منظر (آرثر) وهو يسير بثباته المعهود إتساعاً.

جميعهم هنا, جميعهم أحياء. إنتعش الأمل في روحه وهو يتمتم بذلك. لا أحد منهم يتذكر ما حصل في السابق على الأغلب, ولكن هذا أفضل لهم, هذا سيكون سره الصغير في الوقت الحالي. سيضطر لإخبارهم بالقصة كاملةً لاحقاً بلا شك, ولكن ليس الآن. إن كانت تجربة (أمورا) قد أخبرته بشيء فهو أن لا يتسرع حتى لا يجازف بأن يبدو كشخص معتل عقلياً يروي قصةً من وحي الخيال فذلك لن يساعده أبداً, بل قد يجعل محاولته في حل هذه المعضلة أكثر صعوبة. إن إنطباع الناس عنه كشخص غريب الأطوار لم يضايقه يوماً, ولكنه في هذه اللحظة تمنى أن يكون شخصاً يثق الآخرون فيه كـ (نويل) أو (آرثر).

"تباً لهذا الوضع...أنا لست غريب الأطوار! كل ما في الأمر هو أنني...مختلف عنكم قليلاً!", همهم لنفسه بحنق وهو يزفر يائساً فالتمني لن يحل مشكلته هذه. كانت المحادثة بين (يوهانا) و (لورانس) ما تزال مستمرة.

"أنتِ تتصرفين وكأنني أقوم بجرح مشاعره أو شيء من هذا القبيل. دعيني أخبرك بأن هذا الكائن لا مشاعر لديه من الأساس. بما أننا لسنا قططاً أو حيوانات, لن يرف له جفن حتى وإن كنا نُقتل أما عينيـ-", لم يكن (لورانس) يتوقع الركلة التي حصلت عليها ساقه جزاءً لكلماته التي أشعلت غضب (ساي) لسبب لا يعلمه – أو يتذكره – الأول.
"أوتش!!...(ساي)! أيها الحقير! لم فعلتَ ذلك؟!", هتف الشاب ذو العين الواحدة متألماً وهو يتحسس مكان الركلة بـِغِل.

"ربما يساعدك ذلك على تحسين حس الدعابة الرديء الذي تمتلكه يا عزيزي.", رد عليه (ساي) ببرود وهو يسير واضعاً يديه في جيبي معطفه الأماميين غير مبالٍ بزمجرة (لورانس) الغاضبة خلفه.

الأحمق لا يعي بأن كلماته سببت قشعريرة باردة غزت جسد (ساي). تلك الكلمات جعلته يعي حجم العبء الساحق الذي يحمله. لم يكن يخشى كثيراً على حياته هو, لقد راوغ الموت سابقاً وخرج حياً, ولكن أي تصرف خاطيء قد يكلفه حياة البقية, وهو شيء لن يسامح نفسه عليه إن حدث فعلاً.

بدأ (ساي) يفكر جدياً في طريقةٍ تجعله قادراً على إيقاف هذه الحلقة المفرغة دون أن يعرض أصدقاءه للخطر, وأخذت المعطيات تتوارد في ذهنه تباعاً وهو يجاهد لوضعها في الترتيب الصحيح.

إنه الوحيد الذي يتذكر ما حدث في المرة السابقة. تطلب الأمر من (أمورا) أربع محاولات حتى تصل إلى ما وصلت إليه, رغم أن النهاية ظلت كما هي تقريباً. لماذا؟ ربما تمكنوا من الصمود لفترة أطول من السابق كما قالت, ولكن شيئاً ما ظل ناقصاً...شيءٌ ما يجب عليهم فعله, أم يجب عليهم عدم فعله؟ أين الحل؟ كيف يستطيع إيجاده وهو لا يعلم أين العقدة أصلاً؟

كل الخيوط تؤدي إلى الساعة والقاطن الوحيد بالمنزل, الصبي الشاحب.

لم يكن من الصعب على (ساي) التوصل إلى خطة مبدئية حيال ذلك الصبي, ولكن يبقى السؤال فيما إذا كان الأمر سيسير كما يرجو أم لا. من الصعب جداً التنبؤ بعاقبة ما يفكر في فعله.

بينما كان الشاب مستغرقاً في التفكير لمح صديقته ذات الشعر الأشقر الطويل تلوح له من بعيد وقد شارفت على الوصول إلى مدخل المنزل مع إبن عمها الباسم, لذا رفع يده بشرود ليرد لها الحركة وهو يحث الخطى نحوهما. كان النظر إلى (نويل) يتسبب في إنقباض قلب (ساي) الذي لا يفتأ يتذكر نفس هذه الإبتسامة وهي تستقر في وجهه قبل أن يفقد الحياة, ولكن إن كان (ساي) يجيد أي شيء لدرجة الإحتراف فهو عدم جعل ما يشعر به يتراءى لغيره, لذا فقد ألبس وجهه قناع شخص لا هم له في الدنيا بينما كان يقترب رويداً من المنزل الذي قد يتسبب في قتلهم جميعاً...مرةً أخرى.

-----------------------------------

" حسناً ... لم أكن أتوقع هذا, بكل صراحة. إنه .. أممم .. كيف أقولها ؟ إنه مميز نوعاً ما , بدون شك , و – ".
" يا له من منزل مرتب وأنيق, سيكون (نويل) محظوظاً إذا تمكن من شرائه! ".
يبدو أن عجلات القدر بدأت تدور من جديد فها هو شريط الأحداث يكرر نفسه مجدداً, وهاهم بداخل المنزل يتبادلون التعليقات حول المنظر الداخلي الغير متوقع للمكان.

"(آرثر), هل لي برؤية مسدسك قليلاً؟".
نظر المذكور بحيرة إلى محدثه الذي إبتسم بحلاوة وبسط يده ليؤكد طلبه الغريب, مالذي يريده (ساي) بمسدسه فجأة؟ ولكن بالرغم من كونه متهوراً في أغلب الأحيان, إلا أن (آرثر) يعلم بأن (ساي) أكثر حرصاً من أن يعبث بسلاح ناري لمجرد اللهو, لذا فقد أذعن لهذا الطلب المفاجئ ومد يده بداخل جيب معطفه الطويل لتخرج حاملة المسدس الصغير وتُناوله للشاب القصير بحذر.

"لستُ أمانع أعطاءك إياه ولكن هل لي أن أعرف لم تريده؟".
أجابه (ساي) دون أن يرفع عينيه عن السلاح الصغير الذي استقر في راحته: "أوه...صدقني, سنحتاجه قريباً. قريباً جداً". كان هذا الجواب الغامض كفيلاً بجعل (آرثر) يعقد حاجبيه بشك وهو يحاول إيجاد المعنى الخفي خلف تصرفات (ساي) العجيبة.

لم يكن (ساي) منتبهاً لنصف الأشياء التي كان الآخرون يقولونها وهم يتمازحون غير مدركين لما هو قادم لهم, فقد كان أكثر إنشغالاً بتقليب المسدس بين يديه بإستعجال قبل أن يقوم بسحب زر الإمان جاعلاً السلاح في وضع الإطلاق أما عيني (آرثر) المبهوتتين.

"(ساي), مالذي تفعله؟! مالـ-", قبل أن يتمكن (آرثر) من إكمال جملته, إلتفت (ساي) بوجهه نحوه وقد انتصبت سبابته أمام شفتيه المزمومتين حاثاً صديقه على السكوت. لا وقت للكلام الآن, عليه أن يتحرك أولاً ويشرح آخِراً. سيعود لاحقاً للغرفة التي توجد بها الساعة فهو يعلم – من خبرة (أمورا) السابقة – بأن المفتاح والكتاب هناك, ولكن هناك شيءٌ أكثر أهميةً يجب عليه فعله حالياً.

وكأنما قرأ منزل الشؤم أفكاره, فقد بهتت الإضاءة التي غمرت البهو الواسع لعدة ثوانٍ قبل أن تعود لسابق عهدها. كان (ساي) يعلم ما يعنيه ذلك, لذا فقد تحرك بسرعةٍ أكبر نحو منتصف المكان وهو يتجاوز البقية الذين خفتت أصواتهم تدريجياً وقد بدأوا يلاحظون ما يحمله في يده.

"(ساي), مالذي يجري؟! لم تحمل هذا الشيء؟", هتف (نويل) بدهشة عندما مر الشاب الأقصر منه بجانبه ولكنه لم يتلق جواباً على تساؤلاته.
"اسمعوني جميعاً, توجهوا للطابق الثاني, الباب الثالث على اليمين, لا تحاولوا تضييع الوقت في محاولة الدخول للغرف الأخرى فأغلبها موصدة. مفهوم؟", هتف (ساي) بالبقية وعيناه تجولان في المكان بترقب.

"....ماذا؟! مالذي تهذي به أيها المختل؟", عقد (لورانس) حاجبيه وهو عاجز عن إستيعاب ما يحدث فرغم أن (ساي) كان يقول كلاماً غير مفهوم أبداً إلا أنه لم يبدُ مازحاً على الإطلاق.
"نعم, نعم...أعلم أنكم لا تفهمون ما يجري, ولكنني سأشرح لكم كل شيء بعد خمس ثوانٍ.", أغلب الظن أنه سيأتي من الجانب الأيسر فهذا ما حدث في المرة السابقة, لذا فقد ركز نظره على تلك المنطقة وقد وضع سبابته اليمنى بخفة على الزناد المعدني البارد.
"خمسة...هاه؟! ما هذا المزاح الثقيل يا (ساي)؟", وضعت (أمورا) يديها على خصرها بإحتجاج وكأنها أم توبخ طفلها بعد أن قام للمرة الألف بعمل شيءٍ لا يفترض به فعله.
وقبل أن تنقضي الثواني الخمسة التي وعد بها (ساي), ظهر الطفل.

-----------------------------------

إنحبست جميع الأنفاس في الصدور فور أن إجتاح المكان ذلك الشعور الخانق الذي لا يمكن أن يعني شيئاً جيداً, وبالتأكيد لم يكن ما تراه عيونهم المتسعة أمامهم الآن بالشيء الجيد.

بشرةٌ شاحبةٌ جداً تكاد تميل للون الرمادي الباهت أظهرت أسفلها العديد من العروق البارزة المتقاطعة, عينان حملتا السواد الكالح فقط وكأنهما قطعتان من غياهب الجحيم, الشعر الناعم المتناثر حول وجهٍ فتيٍ حمل ملامح إحتفظت ببعض وسامتها السابقة وإن كان ذلك لا ينقص الكثير من القشعريرة التي تسببها للناظرين إليها.

إن هول المفاجأة كان كفيلاً بمنع الصرخة المحتبسة في حنجرة (أمورا) التي كانت أقرب الموجودين إلى حيث يقف هذا الطفل الشاحب.

كسر صوت (ساي) تعويذة الصمت التي ألقاها ظهور الفتى المفاجئ على الخمسة الآخرين.

"لا تقفي هكذا يا بلهاء!!", رافق ذلك قيامه بسحبها من ياقة فستانها للخلف بحركة عنيفة أخرجت الصرخة التي كانت حبيسة حلقها بينما تحرك (نويل) المتحجر خوفاً أخيراً ليقوم بتلقفها قبل أن تسقط على الأرض. ربما كانت الضرورات تبيح المحظورات ولكن (ساي) استوعب متأخراً بأنه القاها للخلف بقوة أكثر من المحتاج, لو كانوا في ظروف أخرى لقامت الفتاة بالصراخ عليه لساعات, ولكنه في مأمن من هذا الآن.

"(أمورا)! هل أنتٍ بخير؟!".
"من هذا....ما هذا؟!...".
"يا إلهي..!!".

العديد من الهتافات الشاهقة والتساؤلات الخائفة, بينما كان الطفل يلتزم الصمت التام كما هي عادته وهو يرمق الشاب الذي وقف بمواجهته مصوباً مسدساً إليه. كانت يد (ساي) اليمنى تحمل السلاح بينما أسندتها يده اليسرى من الأسفل. وقبل أن يتمكن الطفل من التحرك, دوى صوت هادر بين جدران المنزل الواسع وخرجت الطلقة النارية لتخترق الكتف الأيمن للصبي الذي دفعته الرصاصة للخلف وهو يعوي. نفخ (ساي) الفخور بإنجازه على فوهة المسدس وهو يبتسم برضىً عن نفسه, لقد توقع أن تطيش رصاصته الأولى فهو لم يحمل مسدساً منذ سنوات, ولكنه أصاب المكان الذي كان يصبو إليه تماماً.

"(أمورا), للعلم فقط, لا أحد يطلق المسدس بينما تمسك كلتا اليدان بالمقبض, هذا لا يعمل سوى في الأفلام. عليكِ إسناد يدكِ بالإخرى وإلا تسبب إرتجاع المسدس في تحطيم ساعدك. لا تنسي هذا فربما تحتاجين لإطلاق النار في يوم من الأيام."

لم يفهم أي منهم مالداعي لهذا الدرس القصير عن إطلاق المسدسات بينما يوجد كائنٌ مرعب المنظر يتلوى أمامهم, ولكن ليس بإمكانهم حقاً التنبؤ بالوقت الذي يروق لـ (ساي) فيه التحول إلى شخصه العشوائي غريب الأطوار. وقبل أن يتمكن أي منهم من التعليق على ذلك, تبدلت ملامح (ساي) لتحمل تعبيراً جدياً من النادر أن يروه: "إلى الطابق الثاني! الآن!! هذا إن كنتم تفضلون عدم التسبب في قتل أنفسكم هنا.".

"مالذي تقوله؟! مالذي يجري هنا أصلاً؟ وماذا ستفعل أنت؟!", كاد شحوب وجه (نويل) يعادل شحوب الصبي وهو مازال ممسكاً بالفتاة الشقراء وعيناه تحدقان بالصبي الذي استعاد توازنه مجدداً.

همست (يوهانا) بذهول: " لا دماء...لقد أصابته رصاصةٌ ولكن ليست هناك دماء....".

" آه, نعم. إنه لا يموت أيضاً. كلُ ما أقوم بفعله الآن....", أوقف (ساي) كلماته بينما رفع يديه مرةً أخرى وأغمض إحدى عينيه مستهدفاً الساق اليسرى بطلقةٍ ثانيةٍ نجحت في جعل الصبي يترنح ويسقط على ركبته مطلقاً المزيد من الصرخات قبل أن يلتفت ليواجه باقي أصدقائه, "....هو أنني أقوم بكسب بعض الوقت حتى تقرروا الإستماع لما أطلب منكم فعله منذ فترة! تباً يا (آرثر), هل لا جعلت نفسك مفيداً وقمت بأخذهم إلى الأعلى؟ هذا الشيء ليس بالضعف الذي يبدو عليه, إنه يزداد قوةً في كل مرة. سألحق بكم فور أن أنتهي من تولي أمر هذا الطفل اللطيف. لا تبدأ بسرد المواعظ علي فهو ليس إنساناً طبيعياً أصلاً لذا فإطلاق النار عليه مقبول تماماً, إتفقنا؟".

لم يكن موقف (آرثر) يسيراً فهو لم يستوعب بعد ما يجرى في هذا المكان العجيب, ولكنه في نفس الوقت يرى بوضوح أن (ساي) يبدو عليماً بما يجب فعله لسببٍ ما. رغم عدم منطقية الأمر, إلا أنه قرر تنفيذ ما يقوله المتهور القصير في الوقت الراهن, سيكون هناك وقتٌ آخر للأسئلة حتماً.

أومأ الشاب الأشقر ببطء حازم قابلتهُ إبتسامة شاكرة من (ساي) الي بدا مستمتعاً بما يجري أكثر مما يجب. كيف لا وقد سنحت له الفرصة ليرد جزءاً من العذاب الذي ناله أصدقاؤه لمن فعل ذلك بهم؟ لربما كان بارعاً في إخفاء مشاعره عن غيره, ولكنه صادق مع نفسه لدرجة أنه لا يشعر بأدنى درجات الذنب لإستمتاعه بما يفعله.

ببضعة كلمات نجح (آرثر) في جعل البقية يتبعونه عبر السلالم تجاه الطابق الثاني, راقب (ساي) تحركاتهم المضطربة حتى إطمأن بأنهم ابتعدوا عن الخطر, للآن على الأقل. ما أن تأكد بأنه الوحيد الذي بقي مع الصبي المترنح حتى أنزل يده الحاملة للمسدس ببطء وهو يزيح خصلات شعره التي تناثرت بتمرد أمام عينه.

" حسناً, ليس هناك أحد سوانا الآن, لذا بإمكاننا أن نتحدث براحتنا.... أليس كذلك يا (فرانسيس)؟".

-----------------------------------




بـــدايـــة الـــســـاعـــة الــخـــامــــســـة -إنتهى-


فقط عندما نواجه الخوف وجهاً لوجه, حينها نعلم قوانا الحقيقية.

ساي 09-22-2022 12:37 PM

. مساءٌ عَطِرٌ لكم جميعاً.

يا إلهي...أدرك جيداً بأنني تأخرتُ كثيراً, ولكن قدومي اليوم بمثابة زيارة قصيرة للسطح قبل أن أعود للغطس في بحر الألعاب وأعمال الرسم المتراكمة علي.

((الحقيقة أنني أستمتع بوقتي جداً, ولكنني في نفس الوقت اشتقت لكم ولكلماتكم.))

حسناً, أعلم أن هذا قد لا يشفع لي تأخيري, ولكنني أتيتكم اليوم بجزء قصير يمكنكم إعتباره "وجبة خفيفة" قبل أن تبدأ أحداث النهاية.

.فلنبدأ إذاً.
الفصل التاسع
-----------------------------------

الجدران التي نبنيها حول أنفسنا لتمنع الحزن إنما هي تحرمنا السعادة أيضاً.

-----------------------------------



خيم صمت مهيب على البهو الواسع لعدة لحظات ٍ مضت ببطء الدهور, أو على الأقل, هذا ما كان (ساي) يشعر به وهو يقف هناك مُثبتاً عينيه على الصبي الذي وقف مكانه بثبات رغم الرصاصتين اللتين استقرتا في جسده. إن كان الفتى قد سمع كلمات (ساي) وفهمها, فملامحه الميتة لم تكن تدل على ذلك. ولكنه لم يتحرك بإتجاه (ساي), لم يحاول الهجوم أو حتى الهرب, مما أعطى الشاب حافزاً للإستمرار في حديثه وهو يضع يديه في جيبيه بإستراخاء وكأنه يتبادل أطراف الحديث حول الطقس مع أحد زملائه.

" (فرانسيس كينزي), إسم ظريف جداً لو لم تكن مجرد كائن لا يمت للبشري الذي كانه بصلة. أنت تدرك ما أنت عليه الآن, أليس كذلك؟ يبدو أن ما حصل لـ (إيفانجيلين) كان أكثر مما يمكنك تحمله.", كان يراقب وجه الصبي الصامت وهو يتكلم إنتظاراً لأي ردة فعل تثبت بأنه يستمع إليه فعلاً, وقد حصل (ساي) على مبتغاه فور أن نطق بإسم (إيفانجيلين) فقد إلتوت شفتا (فرانسيس) بحركة بسيطة لا تكادُ تُلاحظُ لولا أن ملامحه كانت تحمل سابقاً تعبيراً جامداً لا يتغير.

تقدم (ساي) خطوةً للأمام وهو يكمل : "بما أنك لست من هواة الثرثرة, أو المحادثة عموماً, فدعني أحزر ما حدث... (إيفانجيلين) لم تستيقظ في ذلك اليوم, لقد فاضت روحها بينما كنت أنت تعد نفسك بمحاولةٍ ثانيةٍ لإقناع والدك بأخذها إلى المشفى. لستُ أشكُ بأن حجم الصدمة أعماك عن عدم جدوى إستخدام المفتاح. من كان سيصدق صبياً يروي لهم بأنه عاد من مستقبل ماتت فيه أخته بواسطة ساعة ما؟ لم تتمكن من تغيير شيء وانتهى الأمر بتكرار الأحداث نفسها. أستطيع تخيل ردة فعل والديك حيال ذلك. هل إتهماك بالجنون؟ هل عاقباك على ما ظنَا بأنه كذبةٌ قاسية؟ هذا ما حدث, أليس كذلك؟ ولكنك لم تتوقف....".

حتى بالنسبة لشخص لا مبالٍ كـ (ساي), فقد كان تخيل هذا الموقف كفيلاً بجعله يُحِسُ بشيءٍ من الشفقة الخفية تجاه (فرانسيس), إنه يفهم هذا الشعور جيداً, ويعلم عواقب الغرق فيه. ولكن هذا الشعور هو نفسه الذي يجعله يجازف بخوض هذه المواجهة الخطرة.

إنخفض صوت (ساي) لا إرادياً وهو يكمل محادثته ذات الطرف الواحد: "من الغريب علي قول ذلك بعد كل ما سبَبتَهُ لأصدقائي من رعب وآلام, ولكنني لا ألومك على ما فعلته فأنا كنت سأفعل الشيء نفسه...لا...أنا فعلتُ الشيء نفسه تقريباً. اليأس, الحزن, الخوف من مستقبلٍ لا يوجد فيه من تُحب. كلها أمور تدفع بالشخص نحو هاوية مظلمة يفقد فيها بصيرته. كم مرة قمتَ بإستعمال المفتاح؟ كم من الوقت مضى وأنت تحاول؟".

لم يكن (ساي) بحاجة للإجابة فالقليل من التفكير كفيل بحَلِ ذلك.

من الواضح بأن مرور الوقت يختلف داخل المنزل عن خارجه, كون الزمن يسير بشكل طبيعي في الخارج. من البديهي إذاً أن يكون الرابط بين المنزل وإختلال الزمن فيه هو ما حصل بسبب الساعة التي قام (فرانسيس) بإستعمالها مراراً وتكراراً.

مئتي عام ونيف...

ما من بشر سيظل بشراً بعد العبث بالزمن بهذه الطريقة, ولكن من ذا الذي يستطيع توبيخ صبي في الثانية عشرة كان يحاول ملتاعاً إنقاذ شقيقته دو التفكير في العواقب؟
العينان السوداوان تنظران إليه بثبات بينما بدا صاحبهما وكأنه تجمد في مكانه كما تجمد في الزمن, ولكن لم يَفُت على (ساي) ملاحظة يدي الصبي اللتان انقبضتا بصلابة إلى جانبه وكأنه يعوض بذلك عدم قدرته على الرد. ولكن هل هوغير قادر على الكلام حقاً؟

أكمل (ساي) مسيرته نحو (فرانسيس) وقد اصطبغت ملامح وجهه بشيء من الأسى, إنه حقاً يتعاطف مع الفتى أكثر مما كان يتوقع. وفي تلك اللحظة عَلِم (ساي) بأنه لا يريد إنقاذ نفسه وأصدقائه من براثن هذا المنزل فقط, لقد أصبح يريد أيضاً إعطاء هذا الصبي التعس فرصة للخلاص من الجحيم الذي أوقع نفسه به.

"أعتقد بأنني أستطيع مساعدتك, أو على الأقل, أستطيع المحاولة. ولكن لن أتمكن من فعل ذلك ما لم تساعدني أنت أولاً. هذا الإتفاق ليس سيئاً إن فكرت فيه, كلانا سيحصل على ما يريد إن سارت الأمور كما يجب. بست أتوقع بأنك تحبذ الإستمرار في العيش و أنت...هكذا.", كانت الكلمة الأخيرة هي كل ما إستطاع (ساي) قوله لوصف حالة (فرانسيس) المزرية دون أن يقوم بالمجازفة بقول شيءٍ يثير حنقه, عليه أن يكون حذراً جداً إن أراد أن يكون مُقنعاً.

فوجئ (ساي) برؤية (فرانسيس) يفتح فمه ببطء وكأنه ينتوي الرد عليه, ولكن اللحظات مرت دون أن يخرج أي صوت من بين شفتيه الشاحبتين.

كان يقف الآن أمامه تماماً, لا يفصل بينهما سوى مسافة بسيطة قد تعني حياة (ساي) إن قرر (فراسيس) مهاجمته الآن, ولكن الأول لم يكن يفكر في ذلك, كل ما كان يراه أمامه الآن هو طفل كسير مثير للشفقة. لم يتردد (ساي) في الركوع على ركبة واحدة أمام الصبي وهو يمد يديه ببطء حذر لتلمس الخدين الذين تجردا من تورد الحياة, ياله من جسد بارد, ولكنه لم يكن يتوقع غير ذلك. سرت القشعريرة في جسده لعدة أسباب كان أحدها بالتأكيد هو إقترابه من العينين السوداوين لهذه الدرجة, كانتا لا تحملان من المشاعر شيئاً ولكن هذا بحد ذاته يثير قلقه, إنه لا يحب كونه لا يعلم مالذي يفكر فيه هذا الصبي.

ولكن رغم قلقه وتوتره إلا أنه نظر إليهما مباشرةً وهو يقول بخفوت: "أخبرني...كيف أستطيع مساعدتك؟".

-----------------------------------

"يجب علينا أن نساعده!".

"...ولكن...مالذي يمكننا أن نفعله؟...أنا لا أفهم مالذي يجري هنا أصلاً...!".

"هذا لا يعني أن نترك (ساي) لوحده بمواجهة ذلك الشيء يا (لورانس)!".

"لقد كان محقاً...", أخبر (آرثر) نفسه وهو يجول ببصره في الغرفة التي قال (ساي) بأنهم سيجدونها مفتوحة, وهذا ما حصل فعلاً قبل أن يقوم هو بإغلاق الباب خلفهم بالمفتاح الذي وجده عليه. إن كان هذا يعني شيئاً فهو بأن الأخير لم يكن يكذب عندما قال بأنه يعلم ما يجب فعله. ولكن هذا لا يشرح لـ (آرثر) كيف تمكن (ساي) من معرفة ذلك, فهو على حد علمه لم يأتِ إلى هذا المكان قبلاً.

أم أنه فعل...؟

الأصوات المختلطة خلفه منعته من التفكير في الأمر مطولاً, فبين شهقات (أمورا) المذعورة ونزاع كلٍ من (يوهانا) و (لورانس), تذكر بأن (ساي) مازال وحيداً بالأسفل. (يوهانا) على حق, يجب عليه أن يعود لنجدته, ولكنه طمأن نفسه مردداً أنه لا يتوقع من شخص كـ (ساي) أن يتسبب بقتل نفسه بهذه السهولة.

تقدمت (آمورا) بإتجاهه والدموع محتبسة بمقلتيها الجميلتين يتبعها (نويل) الذي إكتسب وجهه لون الورق, لم يكن من الصعب عليه معرفة مالذي يريدون قوله.

"(آرثر)...أرجوك...لا تترك (ساي) وحيداً...أرجوك أعده سالماً ولنخرج من هنا حالاً...".

في موقف كهذا لم يكن بوسع (آرثر) سوى إفتعال إبتسامة لتهدئتها وهو يقول: "لا تقلقي يا (آمورا), لقد كنت على وشك الذهاب للتو, ولكن لن يحدث شيءٌ سيءٌ على الأرجح, هذا (ساي) الذي نتحدث عنـ-...".

لم يغادر الحرف الأخير شفتيه قبل أن يدوي صوت صرخة طويلة مفاجئة قدمت من الأسفل وحملت الكثير من الألم, كما حملت صوت الشخص الذي كانوا يتحدثون عنه للتو.
شيءٌ سيءٌ ما حدث لـ (ساي).

-----------------------------------



الـــســـاعـــة الــخـــامــــســـة -إنتهى-


لا تستطيع معرفة ما يوجد في نهاية الطريق إلا إذا سلكته. ولكن ماذا سيحدث إن سلكت الطريق الخطأ؟

ساي 09-22-2022 12:40 PM

. صباح الخير والنور والسرور للقُراء الكرام.

وأخيراً تمكنتُ من العودة للسطح مجدداً! ولولا لطف الله لكنتُ على وشك الإنجراف نحو رحلة غطس أُخرى, ولكنني قررتُ تأجيلها لما بعد هذه الفترة.

ولذا, فقد أتيتُ إليكم أخيراً بجزءٍ محترم الطول نوعاً ما. (( أو هذا ما أعتقده أنا, على الأقل. ^^ ))

لم يتبق الكثير على النهاية, ولذا سأحاول جهدي بأن أقوم بإكمال الباقي قريباً بإذن الله.

الفصل العاشر
-----------------------------------

إن كنتَ تريد نتيجةً عظيمة, فلابد من أن تكون تضحيتك أعظم.

-----------------------------------


كانت المفاجأة كافية لجعل (آرثر) ينسى أشياءاً ظنها جزءاً لا يتجزأ من شخصيته, فطالما كان هو المعروف بكونه صاحب التصرفات السليمة والإتزان وقت المِحن, ولكن ليس هذه المرة.

صرخةٌ كهذه, والتي بدت وكأنها صادرة من حيوان جريح, هي كفيلةٌ بطمس كل ما كان يفكر فيه قبل عدة ثوانٍ وإستبداله بذعر متشائم حول مصير (ساي). ولكن (آرثر) لم يبق في مكانه ليتفكر في ذلك, بل تحرك بشكل شبه لاشعوريٍ نحو الباب ليفتحه بعنف وينطلق نحو الدور الأرضي وخطواته تسابق دقات قلبه.

لم تكن ردة فعل البقية بهذه السرعة, فقد تعالت الشهقات وشحبت الوجوه قبل أن يتبادلوا نظراتٍ مذعورة, (نويل) كان أول من تمالك نفسه وانطلق ركضاً ليلحق بـ (آرثر) وهو يهتف بإسم صديقه بأنفاس لاهثة محدثاً نفسه بأنه سيجده هالكاً لا محالة.

لم يستغرق (آرثر) أكثر من نصف دقيقة ليصل إلى بهو الدور الأرضي وعقله يتأهب لرؤية ما لا تحمد عقباه, بينما عيناه تمسحان المكان بحثاً عن الصبي الشاحب أو (ساي), ولكن ما دله على الأخير هو صرخاته القصيرة المتقطعة التي تبع صوتها نحو الممر الأيسر ليقع نظره على (ساي) الذي سقط على ركبتيه وهو يميل ليلمس جبينه الأرض بينما اندفن وجهه بين راحتيه اللتين ضغطت أصابعهما بقوة على رأسه وقد تناثر شعره الطويل حوله, كان يشهق بشدة وهو يردد كلمات لم يفهمها (آرثر) المصدوم حيث أنها كانت تخرج بالكاد وبصوت تخنقه المعاناة.

اندفع (آرثر) نحو الشاب المتألم ليركع بجانبه وهو يهتف: "(ساي)!! ماذا حدث؟! مالذي أصابك؟!", لم يتمكن الأخير من الإجابة فوراً بل أخذ عدة أنفاس سريعة وهو يهز رأسه بخفة قبل أن يجيب بصعوبة دون أن يتحرك من وضعيته: "...(آرثر)...أهذا أنت؟...تباً يا (آرثر)...هذا مؤلم...يا إلهي... هذا مؤلم جداً...".

لم يكن هناك إحتمال سوى أن ذلك الشيطان الذي يبدو كصبي صغير قام بإصابة (ساي) في مكان ما, ولكن نظرةً سريعة من قِبل (آرثر) على الأرضية بينت له إنعدام أي دماء أو مؤشرات قد تدل على وجود جرح أو إصابة. لم يكن هناك أي أثر للصبي أصلاً, وكأنه لم يكن موجوداً هنا من الأساس.

مالذي حدث إذن؟

لم ينتبه لوصول (نويل) خلفه إلى أن سمع صوته متساءلاً بجزع: " (ساي)! هل هو بخير؟!".

التفت (آرثر) نحوه وقد تذكر فجأة بأنه اندفع من الغرفة تاركاً الجميع بداخلها ناسياً سلامتهم والتي قد يتم تهديدها في أي لحظة. أي مكان مشؤوم هذا الذي أتوا إليه؟ كاد يهم بإخبار (نويل) بما لاحظه لولا أن لمح بطرف عينه باقي المجموعة وهم يسيرون على السلالم بخطى مترددة حيث تقدم (لورانس) الفتاتين بينما تشبثت (أمورا) التي يكاد الخوف أن يطير بصوابها بملابسه.

"(لورانس), توقف! خذ الفتاتين وعد إلى الغرفة, ذلك الشيء ليس هنا, وقد يعود مجدداً في أي لحظة!", صرخ (آرثر) لصديق طفولته وقد عاد إليه توازنه الذي تبخر سابقاً.
"ولكن...", تنقلت عين (لورانس) بين (ساي) المتكوم وبين (آرثر) الذي أردف بحزم وقد لاحظ نظرته: " أنا و (نويل) سنقوم بإحضار (ساي) إلى الأعلى, فاسبقونا إلى هناك. إنه حي يرزق ويبدو سليماً ولكنه يتألم لسبب ما. إذهب!".

لم يحاول (لورانس) مجادلة كلمات (آرثر) الصارمة أكثر, فهو يعلم بأن اتباع ما يقوله هو أكثر الطرق ضماناً لسلامة الفتاتين, وهو يثق بأن (آرثر) يعني ما يقوله, لذا فقد هز رأسه موافقاً ثم استدار على عقبيه وهو يمسك بمعصم (يوهانا) التي بدا وكأنها ستتجاهله و (آرثر) وتندفع نحو الشاب المتأوه على أي حال. إنها فعلاً طبيبة حتى النخاع.
" (نويل)... هل (نويل) هنا؟", همس (ساي) وقد تحركت إحدى يداه وكأنها تستقصي شيئاً تتشبث به بينما استمرت الأخرى في الضغط على رأسه, وتحديداً حول عينيه.
لم يكذب المذكور خبراً فقد انطلق ليمسك باليد التي كانت تبحث عنه ويضغط عليها بقوة وهو يجيب بلهفة قلقة: " أنا هنا يا (ساي)! مالذي حدث؟ هل أنت مصاب؟!".

بقي (آرثر) في مكانه منتظراً إجابة (ساي), أو بالإحرى, إجابات (ساي). لقد كان الوحيد الذي يعلم ماهية المصيبة التي تحيق بهم الآن, وقد وعدهم بأنه سيشرح لهم الأمر لاحقاً, ومع ما يجري الآن فيبدو بأن الشرح سيتأخر أكثر.

أخذ الشاب القصير نفساً طويلاً وكأنه يحاول السيطرة على أوجاعه قبل أن يقول بصوت متحشرج: " أعتقد...بأن هناك... مشكلة صغيرة...", كان (ساي) يرفع رأسه ببطء ليتحرر من براثن أصابعه التي تركت أظافرها علامات جلية على جلده.

كاد (نويل) أن يسأله عما يعني لولا أن (ساي) استدار بوجهه نحوه موفراً عليه عناء الإستفسار.

فوجيء (آرثر) الذي كان واقفاً خلف (ساي) برؤية (نويل) يرتد إلى الخلف وقد اتسعت عيناه عن آخرهما وتلاشت الدماء من وجهه فوراً. ردة الفعل هذه دفعت (آرثر) ليسارع ويلقي نظرةً على ما عساه يجعل (نويل) يتصرف وكأنه رأى وجه شيطان ما, وليس صديقه الأقرب. ولكن ما أن قادته خطواته إلى حيث تمكن من رؤية وجه (ساي) حتى كانت ردة فعله مطابقة لـ (نويل).

ما قابله كان زوجاً من الأعين التي إنغمست في سواد كامل بدا قادماً من قلب الجحيم.

-----------------------------------

"أخبرني...كيف أستطيع مساعدتك؟".

بطبيعة الحال لم يكن (ساي) ينتظر جواباً منطوقاً, ولكنه كان يريد شيئاً ما, أي إستجابة, أي شيء يوجهه نحو الطريق الصحيح.

مرت الثواني تباعاً, بطيئةٌ ثقيلة, ولكن جمود (فرانسيس) لم يتغير.

زفر (ساي) بيأس مغمضاً عينيه وقد بدأ يحس بأن كل ما يقوم به لا معنى له, وغمره شعور عارم بحماقة ما يفعله وعدم جدواه... مالذي كان يأمل حدوثه بالضبط؟ لقد قالها بنفسه منذ قليل, هذا الصبي لم يعد ما يمكن تسميته بشراً, لم ظن (ساي) بأنه يستطيع التفاهم معه أصلاً؟

ملمس شيءٍ بارد على خديه أجبره لفتح عينيه وقد باغتته المفاجأة, فقط ليكتشف بأن يدي الصبي كانتا تستقران هناك وكأنما كان يقلده ليعلن له عن موافقته. هذه الحركة البسيطة أعادت جميع آمال (ساي) التي كادت تتسرب كالرمال من بين يديه قبل لحظات. ولكن ما حدث بعدها لم يكن يدعو للتفاؤل, فقد بدأ (فرانسيس) بالإنتقال إلى حالة الذوبان تلك أمام ناظريه وهو يغطس بسرعة عبر الأرضية الرخامية الصلبة, ولكنه لم يكن يفعل ذلك وحده, لقد كان (ساي) المبهوت نفسه يشعر أنه يغرق في مستنقع عميق بارد, وهو ما جعله يغمض عينيه ويحبس أنفاسه في حركة غريزية لم يكن لها أي داعٍ, فما أن استوعب عقله بأنه ليس بداخل الماء فعلاً حتى قام بفتح عينيه ببطء ليقابله ظلام حالك هبط على المكان كما الليل في ليلةٍ حُجب عنها القمر, لم يكن يرى ما يقف عليه أصلاً, فقد كانت درجات السواد تلف كل شيء لتعطيه مظهراً أشبه بقطعة من العدم غلفتها طبقة سميكة من الصمت. شيءٌ وحيد كان يشق حجاب الظلمة من بعيد كبؤرةٍ من الضوء الساطع, ولكن مجرد النظر لم يوضح لـ (ساي) طبيعتها.
رمش جفناه لعدة مرات وهو يحاول إستيعاب ماهية هذا المكان الغريب الذي أحضره إليه....(فرانسيس)؟! لوهلةٍ نسي (ساي) أمر الصبي كلياً مما دفعه للتلفُت حوله باحثاً عنه فهو لا يحبذ كونه في مكان كهذا وحده, ولحسن حظه فقد كان الصبي الشاحب هناك, واقفاً وراءه بجموده المعتاد. من الغريب أن يشعر بالإرتياح لرؤية شخص كان يعتبره حتى فترةٍ وجيزةٍ عدواً له. وكأنما كان الفتى بإنتظاره فقد رفع يده اليسرى ببطء ليشير إصبعه نحو النور القاصي وكأنما يحثُ (ساي) على التوجه إلى هناك.

"لا داعي لأن تخبرني...علي الذهاب إلى هناك, صحيح؟", قال (ساي) بتوتر مازح, فهو يعلم في قرارة نفسه بأنه ما من إتجاه آخر يبدو واضحاً في هذا الفراغ الميت, لذا فمن الطبيعي أن يكون ذلك الضوء هو المكان الوحيد الذي يستطيع التوجه إليه.

لدهشته فقد هز (فرانسيس) رأسه ببطء موافقاً (ساي), وهو ما جعل الأخير يرفع أحد حاجبيه بإستغراب فهو لم ير إستجابة كهذه من (فرانسيس) سابقاً. ولكن ذلك أفضل من لا شيء بلا شك, ذَكرَ (ساي) نفسه وهو يبتلع ريقه ويستدير ليبدأ السير نحو وجهته.

لم يبدُ من الممكن تقدير المسافات والأبعاد في مكان كهذا, لذا لم يكن (ساي) متأكداً من الفترة التي سيستغرقها للوصول إلى مبتغاه. ولكنه استمر في السير بثبات وهو يفرغ توتره من المجهول عن طريق همهمة لحنٍ ما لنفسه وهو يرى الضوء يكبر روياً كلما إقترب منه وهو يبرق بحدة أجبرته على إغلاق عينيه وهو يتخذ الخطوة الأخيرة التي قادته إلى قلب النور مباشرةً.

ما رآه أمامه كان...بحراً من الألوان.

لم يكن تعبير "بحر من الألوان" مجازياً بأي حال من الأحوال, ولكن (ساي) ضيق عينيه ليدقق النظر فيها. ما بدا له في البداية كألوان اتضح بأنه الآلاف من الصور المتحركة بسرعة خيالية أحاطت بهذا المكان الذي إتخذ شكل النفق من كل جانب. حيثما توجه بصره فقد كانت هناك. صور لأشخاص وأماكن لم يرها قبلاً, ولكنها بدت مألوفة لسببٍ ما. ملايين الكلمات, مئات الأصوات, جميعها ترددت في وقت واحد بينما استمرت الصور حوله في حركتها الرتيبة السريعة. شَعَرَ الشاب بأنفاسه تضيق فجأةً بينما أخذت الأصوات بالإرتفاع تدريجياً لتملأ رأسه بضجيجٍ منعه حتى من سماع أفكاره. هل هو يتخيل أم أن الصور بدأت تسرع أكثر أيضاً؟

"لمَ لا تصدقينني؟ لقد كنتِ معي!! والآن تظنُ والدتي بأنني أكذب!!".
"لن أدع هذا يحصل!".
"إبق كما أنت ولا تتحرك كثيراً, هذا كل ما تحتاجه حالياً. لقد قمت بغسل الجرح ولكنه لحسن الحظ ليس عميقاً, فلا تقلق.".
"هذا الصغير يقول أشياء مجنونة...إنه يخيفني...".
" إنه صوت دقات ساعةٍ ما .. ".
"(لورانس)!!".
"سأخذكِ إلى القرية يوماً ما يا (إيفانجيلين), ولكن عليك أن تهتمي بنفسكِ وتتحسني أولاً!".
"....(إيفانجيلين)؟.....".
"....هذا لا يحدث....لا يمكن بأن هذا يحدثُ فعلاً...".

تداخلت الكلمات والأحرف في رأسه بينما إستمرت الصور بحركتها السريعة الجنونية, إختلط هذا وذاك في مزيج أصابه بالدوار, ولكنه لم يتمكن من الحركة, لم يستطع الكلام أو حتى إغلاق عينيه. كان عديم الحيلة تماماً بينما بدا وكأن الصور تزداد سطوعاً مطلقة سهاماً لا ترحم من الألم نحو عينيه.

كل ما كان في هذا المنزل, كل ما أمكن أن يكون, في كل زمن وكل عالم إنهار بسبب العبث بالوقت... كل ذلك كان يمر أمام ناظريه كشريط لفيلم لا منطق فيه ولا ترابط. رأى (فرانسيس) بشكل يختلف عما هو عليه الآن, وجه فَتيٌ وسيم, لابد من أنه ما كان يبدو عليه قبل مائتي عام. رأى فتاةً صغيرة حلوة المظهر في أماكن مختلفة, تارةً تلهو في ممرات المنزل الواسعة وقد تطاير فستانها المخملي وراءهه, وتارةً تشيح بوجهها وقد اكتسى محياها الصغير بغضب طفولي, و تارةً أخرى وهي ترقد بلا حراك وحيدةً في غرفة لا تحمل سواها. رأى أناساً يرتدون ملابساً هي جزءٌ من التاريخ بالنسبة له, كانوا يقومون بأعمالهم اليومية بروتينية منظمة, وتكرر له منظر سيدة جميلة حملت كل معالم الرقي والأبهة وهي تحدث هذا أو تضحك مع ذاك. رأى نفسه وأصدقاءه وهم يضحكون, يركضون, يبكون, وحتى...يموتون.

كان (ساي) ينظر إلى ما ليس بالمفترض على أي بشر النظر إليه.

-----------------------------------

"....وبعدها, وجدتُ نفسي هنا وعيناي تكادان تتفجران ألماً....", أخذ (ساي) نفساً عميقاً أتبعه بزفرةٍ طويلة بعد أن أنهى ترديد قصته – وقصتهم – الطويلة جداً على مسامع (نويل) و (آرثر) محتفظاً ببعض التفاصيل الصغيرة لنفسه. لم يكن يتوقع منهم تصديقه فوراً ولكنه أيضاً لم يكن على إستعداد للجدال, لذا فقد أسند رأسه على الجدار الذي جلس على الأرض متكئاً عليه وهو يفرك عينيه بشدة وكأن ذلك سيصلح ما أصابهما.

"....هل تستطيع الرؤية؟", كان هذا السؤال الخافت هو أول ما قاله (نويل) الذي وضع الإستفسار عن صحة صديقه في مقام يسبق الإستفسار عن طبيعة الحكاية المجنونة التي سمعها للتو.

هز (ساي) رأسه نفياً قبل أن يجيب: "أنا أرى...شيئاً ما...إنه أنت, ولكنه ليس أنت. لست أدري كيف أشرح ذلك. لا يهم إن أغلقتُ عيني أو فتحتهما, أنا لا أرى سوى الظلام, وكل ما أراه منك هو جسدك وكأنه صُنع من الضوء, وهناك ما يشبه باباً من الضوء في الجدار المقابل. ولكن هناك أمراً غريباً آخر...إنني أكادُ أسمع نبضات قلبك المتسارعة. إنني حتى أسمع أنفاس (آرثر) على يميني.", فور أن أنهى (ساي) حديثه حبس (آرثر) نَفَسهُ متفاجئاً من هذا التطور الغير المتوقع. كان الوضع أكبر مما كان حتى يحلم به. القصة التي رواها لهم (ساي) لم تكن معقولةً ولا حتى منطقية, ولكن ما يراه أمامه الآن ليس مما يجاري المنطق قطعاً. وحتى إن قرر تصديق هذه الرواية الخيالية, فإن هذا يعني بأن وضعهم أسوأ من السوء بذاته.

"(نويل), أتذكر أنك ترتدي ربطة عنق, أليس كذلك؟ هل لي أن أخذها؟", باغت ذلك المذكور وهو يتساءل عن سبب هذا الطلب المفاجئ الذي لم ير له علاقة بما يحصل, ولكنه قام بحلها من حول عنقه وهو يقول بإستغراب: "مالذي تريده بها؟", ورغم إرهاقه الواضح بعد كل ما حصل له قبل قليل, إبتسم (ساي) إبتسامةً صغيرةً وهو يجيب: "لستُ أريد إرتداها بكل تأكيد فلونها الأخضر بغيض جداً, ولكنني أيضاً لستُ أريد للآخرين رؤية عيني هاتين...وبالذات (أمورا).".

فهم (نويل) مقصده وقام بمناولته الربطة بصمتٍ وهو يتبادل النظرات مع (آرثر) والذي بدا وكأنه يشاركه نفس الأفكار, أخذا يذكران نفسيهما بأنهما يتعاملان مع (ساي), الشخص الذي يهتم بتفاصيل غريبة في أوقات غريبة. وأما ناظريهما قام الأخير بلف الربطة حول رأسه مرتين لتغطي عينيه قبل يربطها بإحكام, وأتبع ذلك بوقوفه البطيء وكأنه يخشى السقوط في أي لحظة, وما أن استوى واقفاً حتى إتجه نحو أحد الأبواب في الجدار المقابل له وهو يتحسس سطحه في منطقة معينة بأطراف أصابعه قبل أن تتحرك لتمسك بالمقبض, ولدهشتهما فقد وجدا بأنه انفتح بسلاسةٍ وكأنه لم يكن موصداً أصلاً, بالرغم من أن (ساي) نفسه كان على يقين بأنهم قد حاولوا فتح جميع الأبواب مسبقاً ولكن أغلبها لم يستجب.

"هذا ليس باباً حقيقياً...إنني أسمعهم...", غمغم بغموض خافت وهو يرهف سمعه أكثر, ولكنه لم يكن بحاجةٍ لفعل ذلك فحتى (نويل) و (آرثر) تمكنا من سماع الأصوات التي وصلت إليهم جليةً من خلال الباب الموارب.

" ربما كان من الأفضل أن نغادر .. لا أثر لأي منهم هنا , إن بقاءنا لن يساعد أحداً."
" لا يمكننا فعل ذلك ! ليس بعد رؤيتنا لتلك القلادة , ماذا لو كانوا في مكان ما –"

"أهذا...صوت (لورانس) و (يوهانا)؟ مالذي يجري هنا؟", كانت نبرة (نويل) القلقة جلية وهو ينظر نحو الشاب الذي بدا مستغرقاً بالتفكير في عالم آخر بعيد.

"إذن هكذا كان (فرانسيس) يصل إلينا. لم يكن يتنقل عبر المكان بل عبر الزمان. كان يختفي من أحد الأزمنة ليظهر في الآخر عن طريق هذه...هذه الأبواب في جدار الوقت.", لم يكن (ساي) يتكلم مع شخص معين بل كان يبدو وكأنه يحادث نفسه, وبالرغم من ذلك فقد استمع (آرثر) إليه وهو يحاول ربط ذلك بما سمعه من (ساي) قبلاً.

"أعتقد بأنه من الأفضل لنا التوجه للأعلى لننضم إلى الآخرين, لقد أبقيناهم ينتظرون لفترة ليست بالقصيرة.", أخيراً تحدث (آرثر) الذي كان يقف صامتاً عاقداً ساعديه منذ مدة, وإن كان يجاهد نفسه جهاداً للبقاء متماسكاً بعد كل ما رآه وسمعه.

"حسناً, ولكن سيكون عليكما أن تشرحا القصة بأكملها لهم فأنا لا طاقة لي بإعادة سردها مرةً أخرى. ليس هناك من داعٍ لأن تخشوا ظهور ذلك الصبي مجدداً, فهو لن يفعل على الأرجح.".

-----------------------------------

....ها؟!...نحن قَدِمنا إلى هذا المكان سابقاً والزمن يعيد نفسه و ذلك الطفل لم يمت منذ مائتي عام وكلنا قُتلنا من قبل و (ساي) هو الوحيد الذي لم يمت..؟! مالذي...أنا حتى لا أجد هذا الهراء مضحكاً!!".

للأمانة فلم يكن أيٌ من الشبان الثلاثة الآخرين يتوقعون ردة فعل غير هذه من (لورانس) بعد أن اشترك (آرثر) و (نويل) في قَص ما يحدث عليهم بينما لَزِم (ساي) مكانه المعتاد على الأرض أمام المدفأة متعمداً تجاهل الجميع وإعطاءهم ظهره فهو فعلاً لا يشعر برغبة في خوض جدال مع (لورانس) الآن, إن أفكاره تدور في محور مختلف تماماً. إنه ليس معتاداً على هذا الظلام الذي أحاط بعالمه بعد, ورغم إقتناعه بأن (فرانسيس) لم يكن ليفعل هذا به إلا إن كان هناك سبب مقنع إلا أن هذه القناعة لم تكن تساعده في تقبل كونه بات لا يستطيع رؤية شيء. لقد تولى (نويل) أمر شرح ما حصل لعينيه للبقية, ولحسن حظه فقد تمكن بطريقة ما من إقناع (يوهانا) بأنه ما من داعٍ لفحصهما رغم إصرارها العنيد في البداية, إنه يعلم أنا ليست بفتاةٍ ضعيفة القلب ولكنه يكره مجرد التفكير فيما سيشعرون به إن نظر إليهم بعينين كهاتين, بالإضافةٍ إلى أنه لا يريد أي نوع من أنواع الشفقة تجاهه.

وصلت إلى مسامعه كلماتٌ دامعةٌ لم يكن بحاجة للكثير من التفكير لمعرفة مصدرها.

"هل...هل سنموت جميعاً هنا؟ كيف لنا أن ننجو إن كان ما يقوله (آرثر) صحيحاً؟ يا إلهي...", تهدج صوت (أمورا) وهي تنظر نحو (نويل) وكأنما ترجو أن يخبرها بأن ما قيل هو مجرد مزحة, ولكن النظرة الكئيبة التي قابلها بها كانت خير دليل على أنه لا مجال لآمال كهذه. تحرك إن عمها ليقترب منها وقد فهم ما يدور بخلدها, وإن كانت الكلمات لا تساعد وضعهم الآن, إلا أنه أمسك بيدها بحنانه المعتاد وهو يهمس لها بشيء ما جعلها تهدأ بشكل ظاهر.

"في الحقيقة يا (نويل)...", قال (ساي) دون أن يتحرك من مكانه, "إن (أمورا) أقوى مما تتوقع. في المرات الأولى كانت تناضل وحيدةً دون علم أي منا لإيجاد مخرج لنا جميعاً, ولكننها على الأرجح لا تتذكر ذلك.".

إحمر وجه (نويل) قليلاً فهو قد نسي بأن صديقه إكتسب حدة سمعٍ مضاعفة عندما فقد بصره, وعزم في نفسه على أن ينتبه لما يقوله لاحقاً. بينما تورد خدا (أمورا) وحمل وجهها تعبيراً مزج الخجل بالمفاجأة, لم تكن تدري إن كان (ساي) يقول الحقيقة أم يحاول تشجيعها فقط.

"(لورانس), لستُ مستغرباً من ردة فعلك الطفولية هذه, فقد رأيتها في المرة السابقة أيضاً. إن كان لديك تفسير أو حل آخر, فلا تبخل علينا به أيها العبقري. (يوهانا) ستقول شيئاً ما عن كون هذا الإحتمال المنطقي الوحيد لما يجري وبأنه من الأفضل لنا أن لا نفكر في من المصيب ومن المخطئ.", تململ (ساي) في مكانه وهو يتحدث بينما نظر إليه المذكوران بدهشةٍ ربما كان مصدرها هو نبرته الجادة أكثر من كونه الكلمات التي قالها.

"لقد كنتُ فعلاً على وشك قول ذلك...", نظرت (يوهانا) بإتجاه (لورانس) لتثبت بأن ما قاله (ساي) صحيح.

وضع (آرثر) يده على كتف صديق طفولته بخفةٍ قائلاً: "أنا أصدقه يا (لورانس).", وقد كان ذلك كافياً لجعل المذكور ينسى فكرة تكذيب قصة (ساي) على مضض, وإن حمل وجهه تقطيبةً واضحةً إختفت تدريجياً بعد إبتسامة مشجعة من (يوهانا).

"حسناً...إن افترضنا بأن كل هذا الجنون صحيح فعلاً, فمالذي يمكننا فعله للخروج من هنا؟ لابد من أنك تملك الجواب أيها الخبير.", كان (ساي) يعلم بأنه المقصود بكلمات (لورانس) التي حملت آخرها بعضاً من سخريته المعتادة, لذا فلم يتردد بالرد عليه بالمثل.

"نعم, والخطوة الأولى من ذلك هي أن تخرس وتدعني أفكر.", لم يقاوم (ساي) رغبته في الإبتسام وهو يقول ذلك.

"وماهي الخطوة الثانية؟", تدخل (آرثر) خشية أن يتحول الأمر إلى جدل عقيم آخر, ولكن (ساي) إستعاد جديته النادرة وهو يجيب: " كما أخبرتكم, في المرة السابقة قام شخصٌ ما بمهاجمتي, ولكن على ما يبدو فإن شخصاً ما "آخر" قام بترك مفتاح القبو الذي احتُجِزتُ فيه لكم. رغم أنني أعلم كيف كان (لورانس) يتنقل الآن, إلا أنه من غير المعقول بأن يكون هو الفاعل في كلتا الحالتين. ".

قال (آرثر) وهو ينظر للأعلى مفكراً: "إذن فإن الشخص الذي احتجزك لم يكن ينوي إيذاءك فعلاً وإلا لفعل ذلك من الأساس, فلا داعي له لإحتجازك أصلاً.".

شاركه (نويل) التفكير بصوت مرتفع وهو يقول بحيرة: "هل من الممكن أن يكون المهاجم هو نفسه الشخص الذي ترك المفتاح؟ ولكن لم عساه يفعل ذلك؟".

إنضم (لورانس) إليهم قائلاً: "ربما كان هدفه إبعاد (ساي) عنا لسبب ما؟".

إبتسمت (أمورا) وهي تقول: "ولكن ألسنا محظوظين لأنه فعل ذلك؟ بدون ما حدث فلن يكون (ساي) يتذكر ما حصل سابقاً, ولن تكون بإستطاعته رؤية هذه الأبواب التي تتيح له عبور الزمن, أليس ذلك؟".

حالما أنهت جملتها, رفع (ساي) رأسه تجاهها بحركةٍ حادة شاركته إياها (يوهانا), وقد بدا أن كليهما خطرت له نفس الفكرة في ذات الوقت.

"هذا صحيح...نحن محظوظون...!", هتف (ساي) بسعادةٍ وكأنه يستوعب شيئاً ما للمرة الأولى.

"الأمر واضح جداً, لمَ لَم نفكر في ذلك من قبل؟", قالت (يوهانا) بحماس وثغرها يحمل إبتسامةً منتصرة.

نقل الأربعة الآخرون أنظارهم بين الإثنين بتساؤل جعل (يوهانا) تستطرد: "الشخص الذي هاجم (ساي) وقام بحبسه والشخص الذي ترك مفتاح مكان احتجازه, إنهما ليسا نفس الشخص, إنهم أشخاص عِدة.... إنهم نحن!".

-----------------------------------


الـــســـاعـــة الــخـــامــــســـة -إنتهى-


ليس من الصعب علينا خداع أنفسنا, فنحن لا نعلم عنها إلا الشيء اليسير.

ساي 09-22-2022 01:58 PM

[size="4"][center]. أسعد الله صباحكم هذا بكل ما يسركم.

حيث أنني - وبطريقةً ما - تمكنتُ من إنهاء كتابة الجزء قبل الموعد الذي توقعتهُ, لذا قررتُ وضعهُ فوراً قبل أن أقوم بإفساده بكثرة التعديلات.

إن أردنا أن نعلم سبب كون الأشخاص ما هم عليه في الحاضر, سيكون علينا النظر إلى الماضي, لذا سيكون هذا الجزء رحلةً إلى الماضي بكل أنواعه: القريب, والبعيد, والذي ظل سراً مدفوناً على مر السنين.

ليس كل ما يجري من أحداثٍ هنا مرتبطاً بالحاضر, ولكن من أراد أن يخوض هذه الرحلة الطويلة في أعماق الزمن فليتفضل.

الفصل الحادي عشر
-----------------------------------

لا شيء يقتل البراءة سوى الزمن.

-----------------------------------


سار الشاب الطويل في الممر شبه المظلم بحذر محاولاً إبقاء تحركاته صامتةً قدر الإمكان, تبعته الفتاة بخطواتٍ رشيقة وهي تلتفت حولها وكأنها تخشى أن يفتضح أمرهما في أي لحظة, جعلها ذلك تشعر وكأنهما لِصان يحاولان السطو على منزل أحدهم.

"أكاد لا أصدق بأن الفكرة نجحت, لقد فعلها (ساي) حقاً. ولكن علينا أن لا نفسد هذا الأمر وإلا خسرنا كل شيء.".

"إطمئني, أنا لستُ حديث العهد بهذا, ولكن كل ما أخشاه هو أن يرى وجوهنا إن لم نكن حذرين.".

ردت عليه الفتاة مبتسمة: "ولهذا السبب أنا هنا.".

رغم أنه لم يكن من النوع سهل التوتر, إلا أنه بدا قلقاً وهو يقول: "هل عليناً حقاً فعلُ ذلك؟ ربما كانت هناك طريقةٌ أخرى ما...".

هزت الفتاة كتفيها وهي ترد عليه ببساطة: " هذه هي أضمن وأسرع الطرق, هل تتخيل أنت بأنه سيحافظ على حياته إن طلبنا منه ذلك مباشرة؟ أنت تعلم أي نوع من الأشخاص هو, سيندفع بلا تفكير عند أول بادرة للخطر وكأنه بطلٌ ما, وما نحتاجه الآن ليس بطلاً.".

صحيح, للحظة كاد ينسى عن أي الأشخاص يتحدثان, إنها محقةٌ تماماً فيما قالته.

لم يكونا يحتاجان لإعادة سرد خطتهما الصغيرة مرة أخرى, ففور وصولهما إلى المكان المقصود تقدمت الفتاة بخطواتٍ ثقيلة ثابتة ناقضت خطواتها الخفيفة السابقة نحو أحد الأبواب لتطرقه برفق لثلاث مراتٍ وتنبس بشيءٍ ما, بينما سارع الشاب ليخفي نفسه عن الأنظار في غياهب الممر المقابل وهو يأخذ نفساً عميقاً مؤهباً نفسه لما سيحصل لاحقاً.

لم ثلبث الفتاة إلا عدة ثوانٍ قبل أن تسرع الخطى نحو الجهة الأخرى وهي تشير له بيدها بأن يستعد, فهز رأسه موافقاً وهو يلتصق بجسده في الجدار منتظراً الخطوة التالية. مرت الدقائق ببطء الأعوام وهما لابثان كلٌ في مكانه المتفق عليه, حتى صدر صوت صرير خفيض لأحد الأبواب وهو يُفتح ببطء, تبعه خروج شابٍ قصير من الغرفة التي خيم عليها السكون وهو يلتفت يميناً ويساراً بحذر قبل أن يخطو للأمام ويقوم بإغلاق الباب خلفه بنفس الحذر. كل شيءٍ يسير كما هو مخطط له إلى الآن.

ما أن همَ الشاب القصير بالتقدم نحو الممر المظلم حتى تعمدت الفتاةُ –التي كانت واقفةً في زاوية ذلك الممر-إصدار صوتٍ يلفت إنتباهه, وقد كان ذلك الصوت أيضاً إشارةً لزميلها بأن دوره قد حان.

وفور أن وصل إليه ذلك الصوت المنتظر, قام (آرثر) بالتحرك من مخبئه بسرعةٍ مذهلة, وبحركةٍ مدروسة كانت إحدى يداه تُكمم فم (ساي) بينما إلتَفَت الأخرى حول عنقه.

-----------------------------------

"كل هذا يبدو كحلمٍ ما, حلم سيء, ولكنه يحدث بالفعل...".

لم يكن البهو الصامت يروق لـ (أمورا) على الأطلاق, خاصةً بعد ما رأته فيه سابقاً, ولكنها تمالكت نفسها وأطبقت بيديها على المسدس الذي حملته وكأنه كنزٌ ما. لم تكن واثقةً تماماً من قدرتها على فعل هذا, ولكن هل من خيارٍ آخر؟ جميع أصدقائها يحاولون جهدهم لتنفيذ هذه الخطة الغريبة التي قد تحمل خلاصهم, إن كان كلام (يوهانا) صحيحاً. أقل ما يمكنها فعله هو بذل قصارى جهدها.

"آخر الممر...ثم إلى اليسار...أعتقد بأن هذا هو المكان الذي ذكره (ساي).", أحكمت أصابعها على مقبض الباب الخشبي الذي واجهها متوقعةً أن تجد مصيبةً ما خلفه, ولكنه انفتح بسهولةٍ فهو لم يكن موصداً من الأساس, ولم تجد خلفه ما يدفعها للخوف. مجرد مطبخ بريء وإن كان قديم التصميم نوعاً ما.

"كل ما علي فعله هو وضع هذا الشيء في مكان واضح ليسهل على (نويل) العثور عليه, صحيح؟", لم يكن برفقتها أحد ولكن ذلك لم يمنعها من الحديث بصوت مسموع وكأنها بذلك تخفف حدةَ توترها.

لم يكن عليها التفكير طويلاً في مكانٍ تضع فيه السلاح المعدني البارد, فقد تقدمت نحو الطاولة التي توسطت المكان ووضعته عليها, لن يمكن لأي شخص بأن لا يراه هنا.
"يا إلهي, فلينجح هذا...أرجوك...".

-----------------------------------

"إن لم تنجح هذه الخطة فسيُقضى علينا, أتمنى بأن (ساي) يعلم ما يفعله...لستُ متفائلاً جداً لولا أن (يوهانا) تشاركه الرأي.".

غمغم (نويل) لنفسه وهو ينظر للورقة الصغيرة ذات الألوان الزاهية التي استقرت في راحة يده وهي تغلف شيئاً معدنياً صغيراً, راجياً الله في سره بأن تسير الأمور كما هو مفترض بها. إن المهمة التي أوكلت له ليست بالهينة, ولكنه وافق عليها عالماً بأنه ما من أحد غيره سيمكنه فعل ذلك. إن (آرثر) و (يوهانا) مشغولان بما أوكل إليهما, و ليست هذه بالمهمة التي يمكن إسنادها لفتاةٍ كـ (أمورا). (لورانس)؟ تبسم رغماً عنه للفكرة, ليس من الحكمة أبداً الجمع بين (لورانس) والديبلوماسية.

شعورٌ غريبٌ ينتابه الآن, فهو يسير في نفس المكان الذي كان به منذ وهلة, ولكنه ليس نفس المكان فعلاً.

حبس الشاب الوسيم أنفاسه وأرهف سمعه عندما اقترب من الغرفة التي كان يقصدها, ووقف أمامها لعدة ثوانٍ بصمتٍ قبل أن ينحني ليدفع بالورقة الصغيرة وما تحمله للداخل عبر الفتحة الرفيعة أسفل الباب الخشبي السميك.

لم ينتظر بعدها ولا للحظةٍ إذ سارع بالإتجاه نحو السلالم المؤدية للدور الأرضي قبل أن ينتبه الأشخاص في الغرفة لما وضعه, سيكون عليه أن يقابل (أمورا) في المكان الذي حدده (ساي) وينتظر معها حتى يتمكنوا من تنفيذ الجزء الثاني من الخطة.

-----------------------------------

تنهد (ساي) وهو يحرك الحلوى المصاصة التي استقرت في فمه بشيءٍ من الملل بينما انشغلت يداه بفرد وطوي سكين الجيب التي لا تفارقه مراراً وتكراراً بشرود, وكأنه يرى في هذه الحركة البسيطة مهرباً من الضجر الذي أَلَم به وهو يجلس وحيداً في الغرفة بعد أن غادر الجميع. إن تتبع أصوات أنفسهم السابقة والوصول إلى الباب المرتبط بكل فترةٍ أخذ من طاقته الشيء الكثير, ولكنه لن يسمح لنفسه بالتذمر من الإرهاق بينما هم جميعاً يخاطرون بحياتهم بعيداً وهو يجلس هنا منتظراً. لطالما كان يكره لحظات الإنتظار...

"توقف عن الحركة ذهاباً وإياباً في الممر يا (لورانس), إن صوت خطواتك يحطم أعصابي.".

جاوبه الصمت لعدةٍ لحظات قبل أن يأتيه صوت (لورانس) قائلاً: "يا لك من مرهف.".

"لمَ أنت هنا أصلاً؟", زفر (ساي) وهو يحرك رأسه بإتجاه الصوت في حركةٍ غريزية إكتسبها منذ أن فقدت عيناه بصرهما. إنه يتأقلم على وضعه الجديد أسرع مما كان يتوقع.

"إن (يوهانا) لم تطلب مني فعل أي شيء.".

"أستطيع تفهم ذلك, فنحن لسنا بحاجة للمزيد من المصائب.".

بالرغم من تهكم (ساي) الواضح, إلا أن (لورانس) أطبق فمه على مضض. لم يكن يريد إخبار الأول بأن (آرثر) هو من طلب منه البقاء معه إحتياطاً وتحسباً لأي أمر غير متوقع قد يحصل بينما الجميع مشغولون في أماكن متفرقة. في حالته الراهنة, لم يكن (ساي) ليستطيع عمل الكثير وحده.

ألقى (لورانس) بجسده على الأريكة المجانبة للمدفأة بينما استرقت عينه النظر على الشاب الذي جلس على الأرض على مقربة منه محاولاً استشفاف ما يفكر به. بالرغم من أن (نويل) و (آرثر) شرحا للجميع ماهية ما أصابه, إلا أنه لم يلبث أن تساءل بينه وبين نفسه عما يقبع تحت قطعة القماش التي غطى بها (ساي) عينيه. تحركت يده لا شعورياً لتلمس عينه المغطاة منذ سنوات. لقد إعتاد هو على ذلك, ولكنه على الأقل احتفظ بالعين الأخرى. ترى مالذي يشعر به شخص فقد بصره كلياً في غضون ثوانٍ؟

"إنني أشعر بالملل...", غمغم (ساي) بنبرةٍ نائحة.

"ومالمطلوب بالضبط؟ هل تتوقع مني تسليتك؟", رد عليه (لورانس) بحنق وهو يلوم نفسه لأنه حاول التعاطف مع هذا الطفل الكبير أصلاً.

أخرج (ساي) الحلوى من فمه ورد بعفوية وكأنه يسرد حقاً بديهياً من حقوقه البشرية: "نعم. بما أنك هنا, فأجعل نفسك مفيداً على الأقل.".

هَم (لورانس) بإعطائه رداً حاذقاً آخر لولا أن (ساي) سبقه قائلاً: "ما رأيك بلعبة "التحدي أو الحقيقة" ؟".

بإبتسامةٍ ماكرةٍ لم يرها (ساي) بطبيعة الحال, قال (لورانس) بثقة: "لا مشكلة لدي في ذلك, سأختار "التحدي" إذاً.", لم يكن (لورانس) يخشى الخوض في التحديات لذا فقد اتسعت ابتسامته وهو ينتظر رد (ساي), ربما كانت هذه فرصة له ليجعل (ساي) يندم على حذلقته المعتادة.

"جيد, سأختار أنا "الحقيقة", وبما أنني من سيبدأ, أتحداك بأن....", أخذ (ساي) نفساً عميقاً قبل أن يكمل, "...أن تخبرني بسبب ارتدائك لعصابة العين هذه.".

بُهت (لورانس) بهذه الكلمات فهو لم يكن يتوقع شيئاً كهذا أبداً. هذا الموضوع هو أمر تجنب الحديث فيه على مدار سنوات, ولم يكن يعلم بحقيقته سوى صديق عمره (آرثر). لِمَ كان على الخبيث (ساي) إختيار هذا التحدي بالذات؟! لقد وقع في فخ (ساي) كغر ساذج!

"أي نوعٍ من التحديات هذا؟!", هتف (لورانس) معترضاً.

"مالأمر؟ هل تريد الإنسحاب قبل بدء اللعبة حتى؟ لم أكن أتوقع أنك بهذا الضعف, ياللعار!", تعمد (ساي) أن يهز رأسه ممثلاً الأسى وهو يبتسم إبتسامةً جانبية.

اشتعلت أعصاب (لورانس) النارية فور سماع ذلك, وانحنى للأمام وهو يجيب بحدة: "من هذا الذي تنعته بالضعف؟!".

" أوتش! لا تصرخ هكذا, أتريد إصابتي بعاهة سمعية؟!", غطى (ساي) أذنيه بكفيه وهو يستطرد, "كل ما في الأمر هو أن الفضول ينتابني, فأنت لم تخبرنا عن السبب أبداً.".

"وماذا عنك أنت؟ لقد إخترت "الحقيقة", أليس كذلك؟ إذن سأجعلك تخبرني بحقيقة هذه السكين التي تحملها معك دائماً. منذ أن عرفتك وأنت لا تدعها تفارق جيبك, كما أنني أعلم أنك تتحاشى التحدث عن سبب حملك لها فقد سمعت (أمورا) تسألك عنها عدة مرات ولكنك تتجاهلها دوماً.".

التعبير المتفاجئ الذي طغى على وجه (ساي) كان خير إنتقام بالنسبة لـ (لورانس) الذي جعله ذلك يشعر بنشوة الإنتصار, لقد تمكن من مباغتة (ساي) بنجاح على ما يبدو.

"لستُ متأكداً بأنك تريد فعلاً سماع قصة هذه السكين, ولكن...قد أخبرك بها إن أخبرتني أنت عما سألتُك عنه أولاً.", كانت نبرة (ساي) وهو يقول ذلك غريبةً نوعاً ما, وقال لنفسه بأنه لا مجال للتراجع الآن, ليس بعد أن وصف (لورانس) بالضعف عندما حاول الإعتراض قبلاً. لقد حاصر كل منهما الآخر, وبطريقةٍ ما, يكون الذي ينسحب الآن هو الخاسر, وقد كان كل منهما يفضل المجازفة على إظهار ضعفه أمام الآخر.

ما بدأ كلعبة تحول الآن إلى أمر أكبر من ذلك.

-----------------------------------
. الثالث من مارس, الساعة الثانية وعشر دقائق ظهراً.

كان صخب الفتيان والفتيات يعم أرجاء مبنى المدرسة الثانوية الواسع وكل منهم يسير عبر ممراتها منطلقاً إلى منزله بعد إنتهاء اليوم الدراسي, رافق ذلك العديد من الضحكات المرحة والتحايا المتفرقة. ولكن أحد الممرات الجانبية كان أقل ترددا من قِبل الطلبة فهو لا يؤدي سوى إلى معامل الكيمياء والأحياء التي تراصت بجانب بعضها على طول الممر,في الواقع كان هذا الممر شبه خالٍ من الحركة والأصوات لولا تواجد شخصين بداخل معمل الكيمياء الرئيسي ذو الباب الموارب.

تحرك الطالب الطويل ذو الشعر الأشقر الباهت بهمةٍ في أرجاء الغرفة التي حفتها الطاولات ذات المغاسل والأرفف الحاملة لجميع أنواع المواد الكيميائية التي تتطلبها دروس الكيمياء العملية وهو يمسك بيده ورقةً وقلماً, ولكن زميله ذو الشعر الأسود الذي يصغره سناً لم يكن يشاركه نشاطه, بل اكتفى بالوقوف متكئاً على أحد الدواليب وقد علت علامات الضجر وجهه منتظراً إنتهاء صديقه مما يفعله ليتمكنا من الإنصراف كباقي الطلبة.

"هل سنبقى هنا إلى الغد يا (آرثر)؟ لم كان علي أن أكون صديقاً لطالب مثالي لا يرفض للمعلم طلباً؟".

"إعتراضك هذا متأخر عشرة أعوام يا (لورانس).", رد (آرثر) صديق عمره دون أن يرفع عينيه عن الورقة التي حملت أسماء بعض المواد الكيميائية المفترض عليه تنظيمها, إنه شاكر لوجود (لورانس) معه فتذمر الأخير المستمر يبقيه مستمتعاً على الأقل. إنه عمل رتيب فعلاً ولكن على شخص ما القيام به, وهذا الـ "شخص ما" ينتهي دوماً بكونه (آرثر).

"دعني أحزر...بعد انتهائك من عملك الممل هذا ستنطلق فوراً إلى المنزل لتقوم بالدراسة, أليس كذلك؟", أدار (لورانس) عينيه في محجريهما وقد كانت لهجته اللائمة تشي جلياً بمدى تضايقه من ذلك. لم يكن الفتى مهملاً في دراسته هو الآخر, ولكن شح الوقت الذي يقضيه مع صديقه مؤخراً بسبب الإمتحانات يجعله يتحين الفرص للتعويض عن ذلك, حتى وإن كان هذا يعني البقاء معه بعد إنتهاء الدوام المدرسي ومراقتبه وهو يؤدي مهامه هذه.

"توقف عن التنهد هكذا, أنت تشعرني بأنني أكثر الأشخاص إثارة للسأم على وجه الأرض. لم يتبق لي سوى الشيء اليسير.".

"ولكنك فعلاً كذلك!".

إلتفت الإثنان نحو مصدر الصوت السليط الذي اقتحم محادثتهما بلا إذن مسبق, ليسقط بصرهما على طالبٍ كانت جميع ملامحه وتحركاته تشي بالوقاحة. إبتداءاً من وقفته المرتخية اللامبالية, مروراً بزييه الذي لا يحظى بالكثير من الإهتمام كما هو واضح, وانتهاءاً بنظراته السافرة نحوهما, كأنه حيوان مفترس يعاين فرائسه.

"يا إلهي...أي ريحٍ نحسة ألقت بـ (جوني) إلى هنا؟", غمغم (لورانس) بحنق وقد زاد هذا الظهور المفاجئ من تعكر مزاجه.

ولكن (آرثر) لم يبد عليه التأثر أو الإهتمام, فقد عاد للانشغال بما يفعله وهو يخاطب القادم الجديد ببرود هادئ: "للأسف ليس إعجابك بشخصي ضمن قائمة أولوياتي يا (جوناثان).".

هز المذكور كتفيه وابتسامته الوقحة لا تفارق ثغره بينما تحرك ليقترب منهما ببطء ويميل نحوهما متكئاً بيديه على سطح المنضدة المعدنية التي تفصله عنهما. لم يكن (جوناثان) يعرف أياً منهما معرفة شخصية, ولكن كون (آرثر) هو تلميذ جميع المعلمين المفضل كان حرياً بجعله مستهدفاً من قبل أولئك الذين لا يبلون حسناً في حياتهم الدراسية, بالإضافة إلى أن (جوناثان) –الذي كان في صف (آرثر) – مشهور في أرجاء المدرسة بكونه متنمراً عتيداً لم تتمكن حتى الإدارة من السيطرة عليه رغم تكرار سوابقه وفصله التأديبي المستمر. تساءل (آرثر) في سره عن نوع البيئة التي يمكن أن تنتج شخصاً كهذا.

حملت يد (جوناثان) إحدى القوراير الزجاجية التي ملأت سطح المنضدة وتظاهر بتأملها وهو يقول: "يالك من طالب نموذجي مزيف. أراهن بأن المديح المستمر الذي تحصل عليه يعود لكون والدك رئيس الشرطة في المدينة, ألا تعتقد ذلك؟".

لم يكن (آرثر) هو الشخص الذي رد عليه, بل تكفل (لورانس) بذلك مزمجراً في وجه (جوناثان) وهو يقول: "أتتخيل بأن جميع الطلبة فاشلون بطبيعتهم مثلك يا (جوني)؟ ليس (آرثر) كذلك بكل تأكيد, فهو على الأقل سيملك مستقبلاً مشرفاً بخلافك, إن شاكلتك ينتهون دائماً بكونهم حثالة المجتمع!".

رفع (جوناثان) عينيه بحدةٍ لتلتقيا بعيني (لورانس) الزرقاوين وقد تأججت نيران الغضب فيهما وكأنه لا يصدق بأن طالباً في الصف الأول يقوم بالرد عليه بهذه الجراءة: "لستُ أتذكر مخاطبتك أيها الجرو, فلتصمت وتدع الكبار يتحدثون إن كنت تعلم ما هو خيرٌ لك!".

"توقف يا (لورانس), إنه لا يستحق حتى إهتما-...", لم يصغ المذكور لكلمات صديقه المهدئة بل استمر مندفعاً: "اجعلني أصمت إن كنتَ تستطيع ذلك, لربما كنت معروفاً بهمجيتك بين الطلاب ولكنني أكثر من مستعد لتحطيم وجهك. أنا لستُ (آرثر) ولن أتردد في زرع قبضتي في فمك القذر هذا!", كانت نبرة (لورانس) الحادة تتعالى مع كل كلمة ينطقها وقد فارت الدماء في عروقه غضباً لإهانة شخص دنيء كهذا لـ (آرثر) أمامه. وكذلك كان غضب مواجهه (جوناثان) الذي تحرك بسرعةٍ ليلتف حول المنضدة ويشتبك مع (لورانس). وقبل أن يتمكن (آرثر) الذي أخذته المباغتة من التدخل كان كلاهما يتبادلان الضربات الحانقة أمام ناظريه.

لم يكن قتالاً عادلاً بأي مقياس من المقاييس, فقد كان (لورانس) أصغر عمراً وحجماً من مهاجمه, لذا وجد نفسه تحت الفتى الأضخم جسداً في غضون لحظات قبل أن تنهال عليه اللكمات والشتائم. ولكن لحسن الحظ فقد ظهر (آرثر) بسرعة خلف (جوناثان) ليسحبه ويلقيه أرضاً قائماً بتحرير صديقه الذي تلوى متألماً على الأرض.

صرخ (آرثر) اللاهث في وجه (جوناثان) الذي بدأ يستعيد توازنه بصرامة خالجها الإضطراب فهو لم يكن معتاداً على خوض النزاعات بالأيدي هكذا: "هل جننت أيها المختل؟! ألا تعلم أنك بصدد الحصول على فصل نهائي إن تسببتَ بجروح خطرة لأحد الطلبة؟!".

زمجر الفتى الذي وجه (آرثر) كلماته له وبات واضحاً بأنه لا يأبه لأي شيءٍ مما قيل له, فهو لم يبد أي علامةٍ تدل على نيته للتراجع أو التوقف, لقد طغى غضبه الأعمى وكبرياء المراهقة بداخله على كل شيء آخر.

"اخرس واحتفظ بمثاليتك الزائفة هذه لنفسك! أتظن بأنني سأتركك وصديقك الصغير هذا تنجوان بفعلتكما؟!".

"نحن لم نفعل شيئاً سوى الدفاع عن أنفسنا ضد جلف بربري مثلك!", كانت رباطة جأش (آرثر) تتسرب سريعاً فقد اتخذت الأحداث منحنىً لا يترك مجالاً للهدوء والتفاهم, ونظرة (جوناثان) الشرسة لا تبشر بالخير قطعاً.

-----------------------------------

الثالث من مارس, الساعة الرابعة عصراً.

كانت الحديقة الغناء التي تحف أطراف المبنى الأبيض الشامخ تسر الأنظار بأشجارها وزهورها التي تم تنسيقها بشكل فني أنيق لولا أن تخلل المنظر البديع صوت نحيب سيارة الإسعاف المتوقفة أمام الباب الرئيسي للمستشفى الوحيد في المدينة.

أطل الفتى المراهق الذي أسند جبهته على زجاج نافذة الغرفة الواقعة في الطابق الأرضي نحو المنظر متابعاً تحركات الممرضات اللواتي سارعن بإنزال الحمالة التي احتوت الشخص الذي احتل سيارة الإسعاف وقد بدا من أطرافه المتراخية بأنه فاقد للوعي, لم يكن المنظر واضحاً جداً من حيث يقف هو, لكن الدماء التي صبغت ملابس وجسد الشاب ببقع كبيرة كانت ظاهرةً بما فيه الكفاية. ضحية حادث سير على الأرجح...

من المضحك المبكي أن مشاهدة منظر كهذا جعله يحس ببعض العزاء تجاه ما حدث, هناك دائماً شخصٌ أسوأ حالاً وحظاً, ومعرفة ذلك تجعلنا نشعر بالرضا عن مصائبنا الأصغر حجماً, حتى وإن كان ذلك الرضا مؤقتاً.

التنهيدة التعسة التي فرت من بين شفتيه كانت العامل الذي كسر حاجز الصمت المتغلغل في الغرفة الصغيرة, بالرغم من نظافتها واصطباغ أغلب أجزائها باللون الأبيض النقي إلا أن التواجد هنا كان خانقاً.

"..... ليس الخطأ خطأك يا (آرثر), عليك أن تعلم ذلك جيداً.", هذه النبرة الخفيضة المسطحة لم تكن معتادةً أبداً من قِـبل (لورانس), وقد كان (آرثر) يعلم أنها ليست ناتجة عن الإرهاق وإن بدا التعب جلياً على ملامح صديقه, وعلمه بذلك كان يعتصر قلبه بقبضة الذنب أكثر وأكثر.

"لقد ظللتُ أفكر في الأمر ملياً, ولستُ أرى كيف أن الذنب ليس ذنبي...", لم يكن (آرثر) قادراً أو حتى راغباً في النظر إلى وجه (لورانس) وهو يحدثه.

"أأنت من طلب من (جوناثان) بأن يقوم بإلقاء زجاجة الحمض تلك نحوك؟".

"....لا, ولكنني أيضاً لم أطلب منك بأن تقوم بدفعي بعيداً عن طريقها, ولكنك فعلتَ ذلك على أي حال... لم كان عليك أن تفعل ذلك؟...", محاولاتٌ فاشلةٌ لإخفاء تهدج صوته لم تسفر عن شيءٍ سوى جعل (لورانس) ينفعل أكثر.

"لست أفكر حتى بالإجابة عن سؤال سخيف كهذا, أنت تعلم بأنني لم أكن لأظل متفرجاً وأنا أرى حدوث ذلك. إن لومك لنفسك هو أكبر إهانة تقترفها تجاه نفسك وتجاهي! إن لم أكن أنا المصاب فستكون أنت, أعتقد أنه من الأنانية قول ذلك, ولكنني لا أريد لنفسي أن أقف متفرجاً عليك وأنت تخسر مستقبلك الذي طالما تمنيته بسبب وغد وضيع.".

"وماذا عن مستقبلك أنت؟!".

"لا تفتأ تتحدث وكأنني أصبحتُ عاجزاً, إنها مجرد عين واحدة يا (آرثر).", تحسس (لورانس) الضماد الذي غلف عينه اليمنى بأطراف أصابعه قبل أن يستطرد, "لست أنوي الكذب عليك...هذا مؤلم لدرجة كبيرة, ولكنها ليست نهاية العالم. بالإضافة إلى أن رؤية (جوني) يُفصل نهائياً من المدرسة لهو أمر يسرني, لطالما كان القذر يستحق ذلك.".

كانت والدة (آرثر) ترافق والدة (لورانس) لإنهاء إجراءات إخراج إبنها من المستشفى بعد عملهم لكل ما يستطيعونه حالياً. لم يكن الحمض الذي تلقاه (لورانس) في عينه وجانب صدغه قوياً, فهو لم يتسبب سوى بحروقٍ بسيطة تركت لوناً محمراً واضحاً لن يلبث أن يزول تدريجياً حسب كلام الأطباء. ولكن العين عضو أكثر حساسيةً بكثير من الجلد, لذا فقد كان الضرر الذي لحق بها مستحيل الإصلاح, وعلى ذلك فقد حُكم على (لورانس) بالعيش بقية عمره بعين واحدة فقط.

كيف يمكن لطيش لحظات أن يقلب حياة الإنسان هكذا؟ رغم علمه بأن (جوناثان) سيحصل على ما يستحقه جزائياً, إلا أن هذا لم يكن كافياً ليشفي غليل قلبه.

وقبل أن يستدير (آرثر) ليواجه صديقه الذي فعل ما فعل لأجله, اقسم بأنه لن يسمح لنفسه بجعل (لورانس) يعاني أمامه مرةً أخرى.

-----------------------------------

التاسع من أكتوبر, الساعة الثانية عشرة ظهراً.

جلس الطفل أشقر الشعر ذو السنوات الثمانية مسنداً ظهره للشجرة الباسقة التي إحتلت ركن الحديقة, كان منهمكاً بالكتابة في الدفتر الذي استقر في حِجره لدرجة أنه لم يلق بالاً للطفل الأصغر عمراً الذي يسدد كرته نحو الجانب الآخر من الشجرة مرةً تلو الأخرى, وكأنه ينتظر ردة فعلِ ما من صديقه. وعندما لم يحصل على مبتغاه, حمل الطفل أسود الشعر الكرة وتقدم نحو الآخر زافراً بضجر: "متى ستنتهي من الكتابة يا (آرثر)؟ بإمكانك عمل فروضك في المنزل, أليس كذلك؟ ليس من الممتع لي اللعب وحدي هكذا.".

"أعطني بضع دقائق يا (لورانس), أكاد أنتهي.", أجابه (آرثر) الصغير بهدوء دون أن يرفع عينه عما يفعله.

"ما هذا أصلاً؟ أنت تكتبُ منذ فترةٍ طويلة, أهو فرض الحساب؟", تساءل (لورانس) بفضول.

"إنه تعبير حر, لقد طلبت منا المعلمة الكتابة عما نريد أن نكونه عندما نكبر.".

إتسعت عينا (لورانس) لتنافس زرقتهما الصافية لون البحر وهو يقول بدهشة: " هل تفكر فيما تريد أن تكونه عندما تكبر منذ الآن؟ أراهن بأنك تريد أن تصبح شرطياً مثل والدك!", نطق الطفل الكلمات الأخيرة بحماسٍ طفولي وهو يبتسم بثقة.

"هذا صحيح, إنه حلمي فعمل والدي مهم جداً, وأريد أن أصبح مثله يوماً ما!", أخيراً رفع الطفل الآخر رأسه لينظر إلى صديقه وهو يبادله الإبتسامة, فلطالما كان هو منبهراً بوالده الذي يشغل مركزاً مرموقاً في شرطة المدينة الصغيرة التي يعيشون فيها.

"وماذا عنك أنت يا (لورانس)؟ مالذي تريد أن تكونه؟".

"أنا...؟", رمش المذكور بتساؤل فهو لم يفكر في أمور كهذه من قبل أبداً, ولكن رؤية حماس صديقه جعله يفكر في الأمر ملياً محاولاً إيجاد الإجابة قبل أن يقول ببراءة: "بما أنه لا والد لي, فأعتقد بأنني أريد أن أصبح أباً!".

إنفجر (آرثر) ضاحكاً ملء فمه من هذه الإجابة الساذجة بينما شيعته نظرات (لورانس) المتسائلة, فسارع (آرثر) بالتوضيح بعد أن تمكن من السيطرة على ضحكاته: "هذه ليست وظيفةً أيها السخيف! عليك التفكير بشيء آخر. هل هناك أمرٌ ما تود تحقيقه؟".

لم يفهم (لورانس) لم كان حلمه الأول يبدو سخيفاً بالنسبة لـ (آرثر), ولكن الأخير يكبره عمراً فلابد من أنه يعلم العديد من الأمور المعقدة التي لا يستوعبها (لورانس) ولا يلقي لها بالاً. لم يكن فرق العمر بينهما يتجاوز السنتين والنصف ولكن لطالما كان (آرثر) يشبه الكبار في عيني (لورانس), إن ذلك أحد أسباب إنبهاره به وقربه منه.

"شيءٌ آخر...؟ حسناً...هممم...", رفع الطفل رأسه لينسدل شعره الأسود الناعم خلفه بينما قابلت عيناه الواسعتان السماء الخريفية, "أريد أن أطير!".

"إذن...تريد أن تصبح طياراً؟", لم يرغب (آرثر) بأن يشرح لـ (لورانس) بأن لا طريقة آخرى هناك لجعله "يطير".

ولكن لم يكن هناك داعٍ للشرح فقد إلتفت الطفل إليه بنظرة ملأتها الآمال والأحلام: " نعم! ألن يكون ذلك رائعاً؟ ستكون أنت ضابطاً وسأكون أنا طياراً!".

أغلق (آرثر) دفتره عقب إنتهائه من فرضه واستوى واقفاً قبل أن ينفض ملابسه ومن ثم التفت الى صديقه المتحمس قائلاً بشيء من العبث: "إذا سيكون عليك أن تبدأ بالتوقف عن نسيان فروضك والتعرض للعقاب من قبل المعلمة, وسنتحدث عن الطيران بعدها.".

-----------------------------------
التاسع من أكتوبر, الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً.

"(ساي), توقف عن إلتهام غدائك دون مضغه جيداً, هذا ليس صحياً!".

هتفت السيدة جميلة الملامح بطفلها بنبرةٍ حملت توبيخاً هادئاً, فهي لم تكن يوماً من الأمهات اللاتي يستعملن الصوت العالي لإيصال ما يردن لأبنائهن. ولكن المُخاطب توقف عن الأكل قبل أن يدفع بكرسيه الذي كان يجلس عليه إلى الخلف ويركض نحو مغسلة المطبخ بمرح: "ولكنني انتهيت أصلاً!", كان يحدث والدته وهو يقوم بغسل وتجفيف يديه وفمه باستعجالٍ قبل أن ينطلق نحو باب منزلهم الفخم ويفتحه وهو يهتف: "سأذهب الآن, لن أتأخر عن موعد العشاء فلا تقلقي.", ولكن قبل أن تخطو قدمه خارج المنزل, إقترب منه أخوه الصغير وهو يتهادي يميناً ويساراً محاولاً الحفاظ على توازنه وهو يمد يده الصغيرة مطلقاً سيلاً من الكلمات المتداخلة وكأنه يطلب من أخيه أن يأخذه معه, وعلى الفور تبدلت تصرفات الصبي وهو يتقمص دور الأخ الأكبر ويستدير مائلاً إلى الأمام ومسنداً يديه على ركبتيه بينما هو يخاطب أخاه الصغير مبتسماً: " لا أستطيع أخذك معي يا (إيدن), ولكنني سأعود قريباً ومعي هديةٌ لك.".

لم يفهم الطفل الصغير شيئاً مما قيل له, ولكن إبتسامة أخيه انتقلت اليه بينما حملته والدته بحنان لتقبل رأسه الذي اكتسى بشعر ناعم بني كأخيه وهي تحتضنه قريباً منها. إن إبنها الأكبر (ساي) كان طفلها الوحيد لمدة تسع سنوات, لذا فإن قدوم (إيدن) كان بمثابة هدية من السماء لعائلتهم الصغيرة المكونة من ثلاث أفراد, فحتى إن كان لم يتذمر يوماً, إلا أنها كانت تدرك مدى وحدة طفلها دون أخ أو أخت يقضي معهم وقته, بالإضافة إلى أنه كان من النوع الخجول الذي يصعب عليه تكوين صداقاتٍ مع الأطفال في مثل سنه. كان يقضي وقته في القراءة أو التجول وحيداً في أرجاء المدينة حتى يصل إلى شاطئ البحر الذي يحد أطرافها, ولكنه وبالرغم من إنطوائته لم يبد تعيساً أبداً, وكأنه لا يرى أي مشكلة في إنعزاله الدائم هذا.

"حسناً, علي الذهاب الآن حقاً.", التفت نحو الباب مرةً أخرى ليندفع خارجاً ويعبر حديقة منزلهم بخطواتٍ سريعة قبل أن يصل إلى الشارع الواسع الذي امتد وسط الحي السكني الراقي والذي تجرد من المارة في هذا الوقت.

لم يكن المكان الذي يقصده ببعيد, فقد كان السير إليه يستغرق خمسة عشرة دقيقة تقريباً, لذا فقد تباطأت خطواته الراكضة رويداً وأخذ يجول ببصره بين الأشجار المتلونة التي حفت جانبي الطريق وأصوات سكانها من العصافير تتناهى إلى مسامعه. يومٌ آخر جميل.

بعد فترة من الزمن, والعديد من التغييرات في مسار الطريق, وصل أخيراً إلى الحي الذي يريده, واتجه مباشرةً صوب المبنى الصغير الذي احتل ركن الشارع وقد استقرت على بابه لوحة خشبية نقش عليها بحروف كبيرة إسم المكتبة الواقعة تحتها, والتي كان يتردد عليها بإستمرار في الأسابيع القليلة الماضية.

تعالى صوت جرسٍ رنان عندما دفع (ساي) الباب ليخطو إلى الداخل بأريحية وكأنه بيته الثاني, وفور أن رأى مالك المكتبة الوقور وجه زائره الصغير, بادره محيياً بلطف: " مرحباً بك يا (ساي), لقد أتيت في موعدك كالعادة.".

بادله الصبي التحية قائلاً وهو يحني رأسه: " مرحباً يا سيدي, هل (روهان) موجود هنا؟", لم يكن هناك داعٍ لهذا السؤال فـ (روهان) يعمل هنا, ولكن جولة سريعة بعيني (ساي) لم تظهره في المكان, مما دفعه لذلك.

"إنه في المخزن العلوي يقوم بتفريغ بعض صناديق الكتب التي وصلت هذا الصباح.".

لمعت عينا (ساي) وهو يبادره بالسؤال: " هل من شيء عن الحيوانات ضمنها؟".

أطلق الرجل كبير السن ضحكة صغيرةً قبل أن يجيبه: " أعتقد بأن هناك مجموعة من الكتب التي ستعجبك, لم لا تذهب للأعلى وتلقي نظرة؟".

لم يكذب الفتى المندفع خبراً فقد إنطلق قبل أن ينهي الرجل جملته حتى, لمح في طريقه عدداً من الكتب المصورة الخاصة بالأطفال صغار السن, فأخبر نفسه بأن يتذكر إستعارة أحدها لـ (إيدن) عند خروجه.

كانت عدة خطوات كفيلة بنقله للأعلى عبر السلم القصير الذي استقر في زاوية المكان, وأطل برأسه ليلمح فوراً الشاب ذو الشعر الأحمر والعينين العسليتين وهو ينحني ليضع صندوقاً بدا عليه الثقل على إحدى الطاولات.

" (روهان), مرحباً!".

رفع الشاب رأسه لينظر إلى الصبي قبل أن ترتسم على محياه ابتسامة دافئة: " ربما كان من الأفضل أن تقوم بالمبيت في المكتبة عوضاً عن القدوم إليها كل يوم في نفس الوقت. أهلاً (ساي).".

أطلق المذكور ضحكة مرحة وهو يقول: " لستُ أمانعً ذلك إطلاقاً ولكن والدي لا يسمحان لي بالبقاء خارج المنزل بعد حلول المساء.".

استقام الشاب وهو ينفض يديه بعد أن أنهى نقل الصناديق وتقدم نحو (ساي) ليربت على رأسه: "يالك من فتى مطيع.".

انتفخت أوداج الصبي الصغير فخراً بهذا المديح الذي تلقاه من شخصٍ يحبه جداً. لطالما كان (روهان) شاباً لطيفاً ومرحاً, كما أنه يعلم نوع الكتب التي يفضلها (ساي), ويقوم دائماً بتوفيرها له وحتى قراءتها معه أحياناً. لابد من هذا هو ما يشعر به من يمتلكون أخاً أكبر, ولكن (ساي) ليس لديه واحد, لذا فهو يرى بأن (روهان) هو أقرب شيء سيحصل عليه لأخ أكبر.

"حسناً, ربما لم يكن مسموحاً لك البقاء خارجاً لوقت طويل, ولكن لديك الوقت الكافي للذهاب معي إلى الشاطئ, صحيح؟ لدي شيءٌ لك هناك.", كان (روهان) يتحدث مع (ساي) معطياً إياه ظهره وهو يفرغ محتويات الصناديق من الكتب ويقوم بترتيبها بإحتراف.

"شيءٌ لي..؟", كرر (ساي) الكلمات بتساؤل قبل أن يستطرد وقد بدأ حماسه وفضوله يزدادان, "ما هو؟".

إلتفت (روهان) بوجهه نحو (ساي) الذي اتسعت عيناه بترقب ليجيبه وهو يبتسم إبتسامةً واسعة: "إنها مفاجأة".

-----------------------------------

التاسع من أكتوبر, الساعة السابعة مساءاً.

"يا إلهي, لم أشعر بمرور الوقت إطلاقاً, ستوبخني والدتي لعودتي متأخراً.".

"لا تقلق, لقد غربت الشمس منذ قليل فقط.".

مشى الطفلان بجانب بعضهما وقد بدأت عباءة الليل تهبط ببطء لتغلف الكون, كان (لورانس) يتسلى بركل الكرة بين الفينة والأخرى بينما سار (آرثر) متقدماً إياه ليقف على عتبة الباب الخلفي الذي تتركه أمه مفتوحاً لهما. لم يكن من غير المعتاد قدوم (لورانس) مع (آرثر) إلى منزل الأخير فوالدتاهما صديقتان حميمتان, وهو ما نتج عنه صداقة إبنيهما أيضاً.

دفع (آرثر) الباب الخشبي الصغير بحذر خشية أن تستقبله والدته بمحاضرة صارمة أخرى عن التأخر في القدوم إلى المنزل, ولكن ما استقبله كان صوت التلفاز العالي الذي تردد في أرجاء غرفة المعيشة بينما كانت والدته تقف على مقربة من الجهاز واضعةً كفها على فمها وقد بدت على وجهها ملامح الأسى, كانت مندمجة مع ما يتم عرضه لدرجة أنها لم تنتبه لقدومهما إلى أن قام (آرثر) بمناداتها بصوتٍ عال طغى على صوت المذيع للحظة.

"أوه, (آرثر), (لورانس), مرحباً بعودتكما. تفضلوا يا أعزائي, سيكون العشاء جاهزاً خلال دقائق.", بالرغم من قولها ذلك إلا أنها ألتفتت لتكمل ما كانت تشاهده بينما تنفس (آرثر) الصعداء فيبدو أنه نجا مما كان يخشاه. مهما كان الشيء الذي يشغلها فهو شاكر له.

تقدم الطفلان نحو المطبخ بينما تبعهما صوت المذيع الرتيب.

"...لم يعد منذ خروجه من منزله ظهر هذا اليوم, وتحتفظ الشرطة بإسم الطفل الذي يبلغ من العمر أحد عشر عاماً, والذي ترون صورته هنا. كما أن عائلة الطفل تناشد أي شخص يراه بالتواصل معهم فوراً.".

لم يعبأ الطفلان بما يعرض أو يلقيا بالاً له, وبينما كان (آرثر) يصب لنفسه كأساً من الماء حدث والدته من داخل المطبخ الذي جاور غرفة المعيشة رافعاً صوته لتتمكن من سماعه: "أين والدي؟ ألم يعد من العمل بعد؟".

دلفت السيدة مطبخها حينها وهي تجيبه: "مع ما يجري الآن, لا أتوقع بأنه سيتمكن من الإنضمام لنا على العشاء. يا إلهي, مالذي يجري في هذه الدنيا؟ يالطفل المسكين.".

مط (آرثر) شفتيه ولم يكلف نفسه عناء الإستفسار عما تقصده رغم أن الأسى لم يفارق وجهها المليح, فقد كان أكثر إنزعاجاً من كونه لن يرى والده الليلة. ولكن هكذا هو عمل الشرطة, عليه أن يكون معتاداً على ذلك الآن.

-----------------------------------

صوت الأمواج التي ترمي بنفسها على أحضان الشاطئ الصخري مصدرةً سيمفونيةً رتيبة مُزِج برائحة الهواء الرطب الذي تشبع من ملوحة البحر وعبقه المميز ليُشكل خلفيةً رائقة لمنظر المحيط المتلألي تحت ضوء القمر الفضي, هي ليلةٌ جميلةٌ بحق.

(( "...لماذا؟..." ))
الحركة مؤلمة, أصابعه الصغيرة كانت ترتجف ببطء, يكاد الجفاف أن يفتك بحلقه لذا فقد فضل البقاء صامتاً رغم أن كل ما يريد فعله الآن هو البكاء بأعلى صوته.

(( "...لماذا فعلتَ هذا بي؟..." ))

قهقهةٌ عاليةٌ أتت من الغرفة المقابلة شقت بوقاحةٍ هدوء الليل بينما كان ذلك الشاب يقول لزميله شيئاً لا يدري هو عن كنهه.

(( "...أريد العودة..." ))

بقي جسده الضئيل متمدداً بلا حراك في ركن الغرفة التي صبغها الصدأ بلونٍ بنيٍ كئيب, كم هو بغيضٌ هذا المنظر. لقد اشتاق لغرفته النظيفة, لرائحة الكعك والزهور القادمة من المطبخ, لأصوات الطيور التي كانت تطربه كلما فتحَ النافذة صباحاً. ولكن هاهو الآن في هذا المكان العطن ذي اللون البني الكريه, وقد أصبح لا يدري إن كان سيعود لحياته السابقة مجدداً.

أغمض الطفل عينيه بقوة محاولاً سد الطريق أمام تيار الدموع الذي كاد يطفح من مقلتيه بينما ألقم نفسه طرف إبهامه ليعض عليه, لقد بكت عيناه بما فيه الكفاية, لدرجة أن الألم الحارق في عينيه بدأ ينافس أوجاع قلبه الصغير.

لم يلبث إلا قليلاً حتى انفتح باب الغرفة التي احتجزته وأطل عليه وجه شابٍ بدا عليه الخبث سرعان ما قال بسخرية: "إن ضيفنا الصغير مطيعٌ فعلاً.", تبسم القائل لـ (ساي) بوقاحةٍ وكأنما قرر بأن لا يرى معاناته.

أتى صوت مألوف من الغرفة المجاورة وهو يقول: " سيحين الوقت قريباً, استعد للتوجه إلى حيث اتفقنا. اتبع ما قُلته لك بحذافيره لكي لا يفسد كل شيء.".
إلتفت الشاب لزميله وهو يقول: " ربما علينا تقييده على الأقل, قد يحاول هذا القذر الصغير الهرب.".

رد عليه الصوت بهدوء: "إنه مجرد طفل, مالذي سيمكنه فعله؟ عض يدك؟", كان التهكم جلياً في كلماته, وهو ما جعلها مؤلمةً أكثر وأكثر.

"لعلمك فإن عضته موجعة, مازلتُ غير قادر على تحريك يدي بشكل طبيعي!", هتف به بحنق وهو يلوح بيده اليمنى غاضباً قبل أن يلتفت نحو (ساي) ويعطيه نظرةً نارية جعلت الصبي ينكمش في مكانه أكثر.

"لقد كان ذلك بسبب إهمالك, ولكن هذا لا يهم الآن.".

كيف كان للأمور أن تصبح هكذا؟ لماذا؟

"ولم الإنتظار كل هذه المدة يا (روهان)؟ نحن هنا منذ ساعات, كان بإمكاننا إنهاء كل شيء منذ دهر!".

"كالعادة أنت لا ترى أبعد من أنفك, عزيزي (داني). إن الإنتظار يجعلهم أكثر ذعراً وبالتالي أكثر قابليةً للتفاوض. ولكنني لا أتوقع منك أن تفهم هذه التفاصيل, لذا دع التخطيط لي وانطلق لتنفيذ ما يخصك من الخطة, إتفقنا؟", النبرة الهادئة الحازمة بعثت بقشعريرة باردةٍ في جسد (ساي), كيف يمكن أن يكون هذا هو (روهان) اللطيف الذي يعرفه؟

زمجر المدعو (داني) بشيء ما قبل أن ينقلب على عقبيه متجهاً نحو الباب الحديدي الصدئ الذي يفصل المكان عن العالم الخارجي متجاهلاً حتى إغلاق باب الغرفة التي كان فيها (ساي). كان صدى خطواته يتردد بوضوح على الأرضية حتى امتزج ذلك بصوت صرير معدني لباب يفتح ببطء ويغلق بعد دقائق تاركاً الطفل والشاب وحدهما.

ساد الصمت بعدها, صمتٌ لم يقاطعه سوى صوت الحشرات الليلية التي تخرج من أوكارها بعد غروب الشمس. إنه لا يعلم حتى أي ساعة هي الآن, وجعله ذلك يتساءل عما تفعله والدته الآن, لابد من أنها ووالده قلقان جداً.

بعد برهةٍ قصيرة لم يتغير فيها الوضع الساكن, رفع الصبي نفسه عن الأرض ببطءٍ مستنداً على كفيه وهو يشعر بشيء من بقايا الدوار الذي احتل رأسه سابقاً. خطواته المتمهلة الحذرة أخذته نحو الغرفة المجاورة التي احتلها (روهان). كانت الإضاءة الرديئة تزيد من كأبة المكان, ولكن رؤية وجه (روهان) الخالي من أي تعبيرات وقد انشغل بتقشير تفاحةٍ صغيرة بسكين جيب دون أن ينظر بإتجاهه رغم سماعه لخطوات الصبي هو ما جعل قلب (ساي) يغوص في جوفه.

لماذا؟ لماذا؟

"هل أخبرتك سابقاً عن شقيقاتي اللاتي يصغرنني عمراً؟ إن بعضهن بنفس سنك تقريباً. أنا الأخ الأكبر في العائلة, وهي ليست بالعائلة الصغيرة.", بدأ (روهان) بالحديث بهدوئه المعتاد وقد أنهى تقشير التفاحة, وحالما فعل ذلك قام باستقطاع جزء منها و رفعه إلى فمه أمام عيني (ساي) الذي وقف كالتمثال وهو لا يدري مالذي يفترض به قوله أو فعله.

"أنت محظوظ لأنك ولدت لعائلة ميسورة الحال, ولكن لا يمكن لكل البشر أن يكونو محظوظين, ولذلك فعلى البعض أن يفعلوا ما يجب عليهم فعله من أجل عائلاتهم, حتى وإن كان ذلك يعني تلطيخ أيديهم بقذارة الجريمة.".

مالذي يقوله (روهان)؟ هل يعني هذه الكلمات فعلاً؟ أي نوع من التبريرات هذا؟ إن (ساي) لا يعلم حتى مالذي يشعر به الآن, أهي الكراهية؟ أم الإحباط؟ أم الصدمة؟ بدا وكأن الخواء الذي عم قلبه وعقله هو ما مكن لسانه أخيراً من نطق الجمل التي كان يفكر فيها.

"كيف لك أن تفعل شيئاً كهذا؟! لقد وثقتُ بك..! أنت تقول أنك تفعل هذا من أجل عائلتك, ولكن كيف لهم أن يسامحوك على اقترافك لفعل كهذا بسببهم؟!", إلتفت (روهان) ببطء لينظر إليه بعينين غلفهما البرود دون أن ينبس ببنت شفة بينما تحرك جسده ببطء ليفارق المقعد الذي جلس عليه ويسير بخطوات متمهلة نحو (ساي) بعد أن قام بوضع التفاحة والسكين على طبق صغير استقر فوق الطاولة الخشبية العتيقة.

كانت المرارة التي تطفح من قلبه تتدفق عبر حنجرته بلا تفكير, ولم يتمكن من إيقاف كلماته رغم علمه في قرارة نفسه بأن ذلك ليس من مصلحته. (روهان) يقترب منه رويداً, ولكنه لا يهتم الآن.

"لم أتوقع يوماً بأن تكون دنيئاً لهذه الدرجة, ألم تجد سوى هذه الطريقة؟! لست أشك بأن أخواتك سيشعرن بالعار عند علمهن بأن شقيقهن الأكبر مجرد وغد جبان!!".

كانت الصفعة المفاجئة التي تلقاها كفيلة بإقتلاعه من مكانه وإلقائه على الأرضية التي كساها الغبار قبل أن يتمكن من إصدار أي صوت حتى.

الألم الحارق الذي تفجر في خده وجانب رأسه جعله يستعيد الدوار الذي لم يفارقه كلياً منذ وصوله إلى هذا المكان, ولكنه جاهد ليرفع رأسه فقط ليكشتف بأن (روهان) كان واقفاً أمامه تماماً وقد تبدلت نظراته الهادئة المعتادة كلياً ليحل محلها وجه التَوَت ملامحه بغضب مكبوت.

قبل أن يتمكن (ساي) المذعور من فعل أي شيء, وجد نفسه يرفع من على الأرض رفعاً بيد (روهان) القوية التي قبضت على ياقة قميصه لتدفعه خلفاً وتثبت جسده على الطاولة الخشبية بينما اقترب وجه الشاب منه لدرجةٍ جعلته يشعر بأنفاس (ساي) اللاهثة وهو ينظر مباشرةً نحو عيني الصبي اللتين اتسعتا بجزعٍ واضح.

"أنت صبي طيب طالماً أبقيت فمك مغلقاً, لستُ بحاجةٍ لأمثالك لكي يخبروني بمواعظ أخلاقية فأنت لم تعش يوماً بعيداً عن كنف حياتك الرغيدة!!", هدر (روهان) بذلك وقبضته تضيق حول ياقة (ساي) أكثر وهو يستطرد بصوت خفيض كالفحيح حمل الكثير والكثير من الحقد, "فلتعلم بأنني قادر على إسكاتك فوراً وللأبد, لستُ سأخسر شيئاً فما كنت سأحصل عليه بسببك أستطيع الحصول عليه عن طريق أخيك. أنت أخبرتني بنفسك بأن لا أحد سواه ووالدتك بالمنزل فوالدك دائم الإنشغال في عمله الذي يجني منه كل هذه الثروة, لن يكون من الصعب علي أن أضع يدي على طفل في الثانية إن أردتُ ذلك.".

فور سماع (ساي) لكلمات (روهان) المسمومة, توقفت كل مشاعر الألم والخوف بداخله ليحل مكانها شيءٌ مختلف اندفع عبر عروقه كطوفان ساخن جارف جعل جسده يتحرك كما لو أنه مسير من قبل شخص آخر, وفي لمح البصر كانت أصابعه الصغيرة تقبض على السكين التي رقدت بالقرب منه على الطاولة, وبدون تفكير شق طريقها لتستقر في أقرب ما يمكنه الوصول إليه من جسد الشاب الذي جثم فوقه.

"....مالذي قُلتَ بأنك ستفعله لـ (إيدن)؟".

أهذا الصوت البارد كحد سيف صوته هو فعلاً؟

تفجر اللون الأحمر أمام ناظريه ليغمره وما يحيط به بينما اتسعت عينا (روهان) العسليتان وقد جمعت الألم والمفاجأة وعدم التصديق, وربما كانت السكين المغروسة في جانب عنقه هي سبب عدم تمكنه من إخراج أي صوت ما عدا حشرجة ثقيلة توقفت بعد ثوانٍ عندما تراخى جسده ليستقر بكل ثقله فوق جسد (ساي) الصغير الذي تجمدت قبضته على مقبض السكين.

وفي تلك اللحظة, توقف الزمن بالنسبة لـ (ساي), ومعه تباطأت أنفاسه وتوقف عقله عن العمل وكأنما هو غير قادر على استيعاب ما حدث للتو. كان كل ما يشعر به هو الضياع التام, وكأنما هو جزء من حلم مريع لا يريد أن ينتهي.

ولكن ما حوله أبى إلا أن يذكره بأنه يعيش واقعاً لا دخل له بالأحلام. دقات قلبه العنيفة, الدماء الدافئة التي مازالت تتدفق بغزارة لتصبغه بلونها, الجسد الهامد الذي استقر فوقه.

كان الموت المحلق حوله هو آخر ما يربط (ساي) بحياته السابقة, قبل أن يفقد شيئاً بداخله للأبد.

-----------------------------------

العاشر من أكتوبر, الساعة الخامسة فجراً.

الطرقات المتتابعة على الباب المصنوع من الخشب الفاخر أجبرت السيدة التي أنهكها البكاء منذ ساعات مديدة على التحامل على نفسها والإتجاه بتثاقل نحو الباب بعد أن تأكدت من أن إبنها الصغير يرقد بسلام على الأريكة غير عالم بحجم المصيبة التي حلت على هذه العائلة منذ الليلة الفائتة. من عساه يكون الطارق في ساعةٍ كهذه؟ إنه ليس زوجها بالتأكيد فهو قد غادر مع رئيس الشرطة منذ وهلة. قد يكون فرداً من أفراد الشرطة؟

إمتدت يدها النحيلة لتمسك بالمقبض بينما خرج صوتها الجاف متسائلاً عن هوية الطارق.

"....أمي؟".

كانت هذه الكلمة المتهدجة الوحيدة كافية لقلب جميع مشاعرها رأساً على عقب في غضون لحظة واحدة هي كل ما استغرقته لتسحب الباب بسرعةٍ مظهراً خلفه آخر ما كانت تتوقع رؤيته الآن وأكثر ما كانت تريد رؤيته منذ البارحة.

كان إبنها (ساي) الواقف على عتبة الباب صورةً مجسدةً للبؤس والإرهاق, كان شعره متناثراً والماء يقطر من ملابسه مكوناً بركةً صغيرةً تحت قدميه بينما ارتجفت يداه الصغيرتان بشكل واضح. ملابسه التي كانت نظيفة مهندمة تحولت إلى عجينة من الطين والنسيج.

ولكنها لم تعبأ لأي من ذلك وهي تطلق صرخة ملتاعة بإسمه وتندفع لتحتويه بقوةٍ إعتصرت جوانب جسمه وهي تنفجر باكيةً بحرقة من ظنت أنها خسرت إبنها للأبد.

"(ساي)!! يا إلهي...يا طفلي العزيز... مالذي حدث لك يا حبيبي؟...شكراً لله الذي أعادك إلي سالماً...يا إلهي...".

لم يتحرك هو من مكانه ولم ينبس بشيء على الأطلاق, لذا فقد ابعدت نفسها عنه لتلقي نظرة على وجهه وقد تحركت أصابعها المتلهفة لتمسك بخديه الذين تغلغل فيهما البرد والبلل وهي ما زالت تشهق وقد رفضت عيناها أن تتوقف عن ذرف الدموع.

"كيف عدت إلى هنا؟ لقد إتصل أحدهم على والدك وأخبره بأنك...يا طفلي الصغير...مالذي فعلوه بك؟".

رغم كل ما حدث معه في الساعات الماضية, رغم الألم والخواء والمرارة والخوف, إلا أنه في هذه اللحظة شعر بدفء حنانها الفياض يذيب كل ذلك. لم يعد عليه أن يخشى شيئاً فهو بين ذراعيها الآن, وهو المكان الذي كان يتوق إليه بشدة.

لماذا إذن يجد نفسه غير قادرٍ على إخبارها بالحقيقة؟

إنها أمه الرؤوف, هي لن تلومه ولن تخبر أحداً عما فعله, ستحميه بحياتها إن تطلب الأمر ذلك, وهو يعلم هذا يقيناً. ربما كان ذلك هو السبب الذي يمنعه, إن مشاركتها سره سيجعلها أيضاً شريكته في الألم والذنب. أي نوع من النظرات ستنظر إليه بها حينها؟

إبتلع (ساي) ريقه ومعه رغبته في البكاء بالإضافة إلى كل مشاعره المختلطة وكأنها كُرة من الأشواك انحشرت في حلقه.

لم يستطع إخبارها بأنه قضى أكثر من ساعة متسللاً على شاطئ البحر تحت جنح الظلام برَوَعٍ ليقوم بغسل نفسه وملابسه من آثار الدماء وهو يدعو في سره بأن لا يراه أحد, لم يكن الأمر سهلاً فقميصه الأبيض لم يستعد لونه السابق كلياً, مما حدا به لأن يقوم بتلطيخه بالطين عنوةً لإخفاء ما لم يتمكن الماء من إزالته. كان يخشى أن يعود شريك (روهان) قبل أن يتمكن هو من الفرار, ولكن السكين التي انتزعها من عنق الأخير كانت مستقرةً في جيبه, مما أعطاه شعوراً بسيطاً بالأمان. قام بغسلها هي أيضاً قبل أن يطويها ويعيدها إلى حيثُ كانت.

"لقد تمكنتُ من الهرب...تشاجر أحدهما مع الآخر وانتهزتُ أنا الفرصة للفرار...أتيتُ راكضاً من الشاطئ إلى هنا...", كان صوته المنهك يزداد ضعفاً مع كل كلمة ينطقها, إن وزن الكذبة التي يخبرها بها والذنب تجاه ما فعله يكاد يسحق قلبه, "...إنني متعب يا أماه...".

حانت منه نظرةٌ نحو الجسد الصغير الذي نام ببراءة ملائكية على أريكة غرفة المعيشة, وقد كان ذلك كافياً ليجعله يشعر بأن الثمن الذي دفعه مقابل سلامة أخيه كان يستحق ذلك. وعندها فقط سمح (ساي) لنفسه أخيراً بأن يسند رأسه على صدر أمه الدافئ, ولم تكذب هي خبراً فهي لم تكن تهتم بالتفاصيل بقدر إهتمامها بكون إبنها قد عاد إليها سالماً معافى. أعادت ذراعيها حوله لتضمه بقوةٍ وكأنها لا تنوي إفلاته أبداً, وترك هو العنان لجسده ليسترخي في أحضانها طمعاً في الهروب من هذا كله.

-----------------------------------

"... ولذلك أفضل إبقاء هذه السكين معي. إنها تذكرني بأن الجبناء لا يقتاتون سوى على الضعفاء, ولهذا السبب أنا أرفض أن أكون جباناً أو ضعيفاً.".

كان السكون الذي حل بالغرفة بعد جملته ثقيلاً, ولكن (ساي) كان يستطيع بسهولة تخمين نوع التعبيرات الذي يكسو وجه (لورانس) الآن.

لقد أخبر كل واحد منهما الآخر بنسخةٍ مختصرة من قصصهما, محتفظين بالعديد من التفاصيل لنفسيهما. ثمة شعور بالراحة ينتاب المرء بعد أن يفصح عن مكنوناتٍ سكنت بداخله لسنوات دون أن يفصح عنها, لذا لم يكن أي من الشابين يشعر بالضيق الذي تخيلاه. في هذا الوقت العصيب, وفي هذه الغرفة الواسعة التي لم تحمل سواهما, تشاركا شيئاً سيربطهما سوياً للأبد: الثقة.

"....كان بإمكانك أن لا تخبرني الحقيقة, أليس كذلك؟ لا تبدو مستمتعاً بقص هذه القصة علي, ولكنني لستُ ألومك على ذلك.", حتى (لورانس) أدرك بأن ما سمعه للتو ليس مجرد فبركة وليدة اللحظة, فقد كانت نبرة (ساي) وملامحه تنطق بأكثر مما تفعله كلماته. لا مجال للمزاح والمشاكسة بعد ما سمعه, فقد رأى جانباً لم يكن يحلم حتى بتواجده داخل (ساي) الذي طالما بدا وكأنه لا يملك هماً في الدنيا.

"كان بإمكانك أنت أن تفعل ذلك أيضاً, ولكنني أعلم بطريقة ما بأنك أصدقتني القول. كنتُ أستطيع سماع صوت أنفاسك ونبضات قلبك تقفز وأنت تروي علي حكايتك. علي الإعتراف يا (لورانس)...", صمت (ساي) للحظة قبل أن يكمل بلهجةٍ صافية لم تحمل ذرة من التكهم أو التصنع, "...أنت لست بالسوء الذي توقعته أبداً.".

مهما كان (لورانس) يتوقع من (ساي) قوله, إلا أنه لم يكن يترقب مديحاً كهذا أبداً, لذا فقد كان مسروراً لكون الأخير لا يستطيع رؤية إحراجه الواضح.

"لا تبدأ في الإعجاب بي الآن, سيكون الأمر مقززاً.".

ضحك (ساي) بمرح بعد سماعه لهذه الجملة وكأنهما لم يكون يخوضان في ماضييهما السوداوين منذ دقائق: "أنا لستُ بهذه الدرجة من الجنون بعد.".

دون أن يحتاج الشابان المتناقضان لأي كلمات أو وعودٍ منطوقة, كان كل منهما يعلم في قرارة نفسه بأن سره بمأمن مع الآخر.

-----------------------------------



الـــســـاعـــة الــخـــامــــســـة -إنتهى-


لا تستطيع منع الأشياء السيئة من الحدوث, ولكن يعود القرار لك في جعلها تُعلمكَ أو تحطمك.

ساي 09-22-2022 02:27 PM

[SIZE="4"][CENTER]. طابت ليلتكم وأيامكم جميعها.

تحت عتمة الليل, وبينما يسكن الكون من حولي, أتيتكم بآخر ما تبقى في جعبتي من كلمات لأرصفها هنا لكم.

لقد حان الوقت.

لكل شيء أجل, ولكل طريق نقطة وصول. وها نحن ذا, في الجزء الأخير من هذه القُصيصة الصغيرة التي لم أتخيل أنها ستكتمل حتى عندما بدأتُ أضع لبنات حروفها هنا أول مرة.

لن أطيل عليكم, بل سأترك الكلمات لتقودكم إلى النهاية, فأنا أجد نفسي غير قادرة على ذلك.
الفصل الثاني عشر و الأخير
-----------------------------------
لا تمشِ خلفي, أنا لا أريد أن أقودك. لا تمشِ أمامي, قد لا أستطيع اللحاق بك. إمشِ بجانبي فقط وكن صديقي.
-----------------------------------





كان الظلام دامساً, لم تستطع حتى رؤية أصابعها.

كان الصمت مخيماً, لم تتمكن حتى من سماع صوت دقات قلبها.

كان الخواء مطبقاً, لم تتمكن حتى من الشعور بوجودها.

مشاعرها تجاه هذا العدم كانت تتأرجح كبندول تائه بين السلام الداخلي والقلق. كونها وحيدةً هنا يعني بأنه لا أحد سيتمكن من إيذائها, ولكنه مكان مقفر... مقفر جداً.

ولكن لحظة...لم بدأت أطراف هذا السواد تكتسي بلون أحمر فجأة؟ من أتت أصوات العواء الصارخ هذه؟ كيف أصبح جسدها ثقيلاً كطن من الفولاذ هكذا؟

تصاعد الرعب في قلب (أمورا) كمقطوعة موسيقية بلغت ذروتها بينما تسللت قشعريرة الخوف نحو كل جزء من جسدها. لقد إنتهى كل شي, هنا والآن, ستقضي نحبها بكل تأكيد. كل أحلامها, كل آمالها, لن يكون لها أي معنى إن أُزهقت حياتها الآن. أجبرت نفسها على الركض على غير هدى من الخطر الذي يحدق بها. ولكن ماهو هذا "الخطر" بالضبط؟ إنها لا ترى حولها سوى اللاشيء, لماذا إذن هي تشعر بأن ثمة شيءٌ ما يطاردها؟ ما مصدر الفزع الذي يدب في أوصالها؟

أين كانت؟ وإلى أين تتجه؟..... من يعلم؟ كل ما تعيه الآن هو حاجتها للإبتعاد.

" (ستة)...ها قد غربت الشمس, ما عساك ستفعل؟

(خمسة)...ظلال سوداء خرجت زاحفة, هل بدأت توجل؟

(أربعة)...جثث ميتة, من كان هذا الشخص قبل أن يرحل؟

(ثلاثة)...أبواب لا مفاتيح لها, هل من سبيل لتدخل؟

(إثنان)... بلا أعين يحرسان, أرأيت أحدهما وأنت تتجول؟

(واحد)...هو الذي سيبقى, هل هو أنت؟ هل ستقبل؟".


اللحن الخافت الطفولي بدا دخيلاً على ما أحاط بها من أجواء سوداوية, لم تتساءل عن كلماته الغريبة قدر تساؤلها عن المكان الذي أتى منه.

باب خشبي وقف وحيداً في منتصف الفراغ الأسود الذي احتواها, لم يكن هناك من شك بأن الغناء كان ينبعث من خلفه... باب؟ لا جدران هنا ولا غرف, كيف لباب أن يتواجد بهكذا مكان؟ وكيف لم تره من قبل؟ ولكن...هل يهم ذلك حقاً؟ إن أي مكان يؤدي إليه سيكون أفضل بالتأكيد من هذا, حيث لا ينتظرها سوى الذعر من المجهول والذي لن يؤدي إلا إلى جنونها. نعم, هي لا تبالي طالما ستتمكن من الهرب. إنقضت يدها على مقبض الباب الصغير لتفتحه وتدفعه دفعاً منطلقةً ركضاً إلى حيث يكتب لها القدر.

كان إفتراضها بأنها ستجد ملاذاً وراءه خاطئاً جداً.

وكأنما قامت بضغط زر سري ما, إنقطع صوت الغناء فوراً حال وصولها للداخل, وما رأته أجبر قدميها المتسارعتين على التوقف, وبدلاً من تشعر بالإطمئنان لهربها مما كان يلاحقها, إذا بالرهبة تتفجر بداخلها أكثر وأكثر.

الأرضية الرخامية الفاخرة حملت الأبيض والأسود بتناسق فني بديع, ولكن حجم الغرفة – إن صحت تسميتها بذلك – كان كبيراً بشكل مهول. الأعمدة الرخامية الباسقة امتدت للأعلى حتى تلاشت ملامحها في غياهب الظلام. كم يبعد سقف هذه الغرفة عن أرضيتها؟! من الواضح أن لهذا المكان أبعاداً فيزيائية بخلاف ذلك الذي سبقه. كيف؟ هل هي تهلوس؟

تقدمت ببطء نحو الأشكال المبهمة التي تراءت لها على الأرض الممتدة مد بصرها, لم تكن ماهيتها واضحةً ولكنها لم تكن تتحرك, مما أعطاها شعوراً ضئيلاً بالأمان.

وحالما إقتربت كفاية لترى المنظر الذي ينتظرها عن قرب, كاد قلبها الذي يخفق بشدة أن يقفز عبر ضلوعها, وتحجرت مقلتاها في نظرة طفحت جزعاً وصدمة, صدمة لدرجة أن عقلها لم يستوعب منذ أول نظرة, ولا الثانية ولا الثالثة.

الأرضية اللامعة الأنيقة حملت ساعةً مرسومة عملاقة خُطت حدودها وأرقامها الفوضوية التي بدت وكأنها كتبت على عجل بلون أحمر قان تناقض بشدة مع الأبيض والأسود أسفله. هذه الساعة الكئيبة كانت تحتوي في منتصفها على أربعة عقارب بدلاً من إثنين.

أو بالأحرى...أربعة أجساد.

تنقلت عيناها غير المصدقاتان بين وجوههم...(نويل), (يوهانا), (لورانس), (آرثر)... بدوا جميعاً وكأنهم نيام لا أكثر رغم إختلاف وضعياتهم, ولكن الخيوط الحمراء التي تسللت من أجسادهم لتختلط بأرقام وحدود الساعة كانت توحي بغير ذلك.

(نويل) الذي استلقى على ظهره ورأسه الذي حمل عينين شبه مغلقتين.

(يوهانا) الراقدة على جانبها الأيسر وقد امتدت ذراعها.

(لورانس) كان يواجه (يوهانا) على جانبه الأيمن.

(آرثر) لم يكن وجهه ظاهراً بوضوح, ولكن جسده المنبطح على بطنه وشعره الأشقر الباهت اللذان دلاها على هويته.

إرتجفت شفتا (أمورا) وهي تتراجع فرقاً ببطء, بينما أخذت تهز رأسها لا إرادياً وهي تتمتم بصوت متهدج: "لا...مستحيل...ماهذا؟...مالذي أراه أمامي؟...كيف لهذا بأن يحدث؟...". ما أن توقفت شفتاها عن الغمغمة حتى نبهها عقلها بأنها نسيت شيئاً مهماً جداً.

أين هو (ساي)؟

ولكنها لم تكد تستحضر إسمه في ذهنها متسائلةً عن مصيره حتى شعرت بقشعريرة باردة تسري عبر ظهرها, رافقها إحساس ساحق بأن ثمة شيءٌ ما يقف خلفها مباشرة.

"(أمورا)...".

هذا صوته! إنه صوت (ساي)! هتفت لنفسها بسعادة قبل أن يكمل الصوت بهدوء: "هل لكِ أن تموتي لأجلي رجاءاً؟".

الكلمات المشؤومة التي وأدت سعادتها الوليدة دفعتها لتستدير وتواجه الشخص الواقف خلفها لتتراءى أمامها إبتسامةٌ عذبة قابلها (ساي) بها, إعتلاها زوج من الأعين عديمة التعبير فاحمة السواد.

-----------------------------------

هذا ليس وجه (ساي), إنه... (نويل)؟

بدأ ذهنها يستعيد صفاءه تدريجياً وجفناها يرتفعان ببطء ليظهرا عينيها الناعستين.

"أوه, (أمورا). عذراً, هل تسببتُ في إيقاظك؟", إبتسم (نويل) بشيء من الخجل وتأنيب الضمير وهو يكمل ما كان يفعله, يبدو أنه وصل للتو وأن صرير الباب الخشبي الذي كان يغلقه خلفه هو ما انتزعها من سباتها الطفيف. متى حل عليها النوم أصلاً؟ إنها لا تتذكر سوى أنها جلست في طرف الأريكة الوثيرة وأسندت رأسها للخلف لعدة ثوانٍ.

صوت دقات الساعة الرتيبة في هذه الغرفة التي كانت المحطة التالية لهم, هل لذلك علاقة بالحلم الذي رأته للتو؟ تداعت إلى ذهنها صور ما عاشته في ذلك العالم الآخر الكريه, ولكن قبل أن تتمكن من التبحر في ذكراها السوداء تلك قامت بهز رأسها عدة مرات وكأنها تنفض عن رأسها ما تعلقت به من أفكار. لعيني (نويل) المهتمتين, كان الأمر يبدو وكأن (أمورا) تقوم بطرد آثار السبات عنها.

إنه مجرد حلم, إنه مجرد حلم.

"إذن, هل انتهيت مما طلبته (يوهانا) منك؟", ابتلعت ريقها وهي تحاول جاهدة أن لا يظهر اضطرابها على صوتها.

تقدم (نويل) ليجلس على الكرسي المواجه للأريكة التي حملتها ويعقد ساقيه بأناقة وخفة من اعتاد على ذلك, أطلق الشاب زفرة قصيرة وهو يميل برأسه على يده التي إتكأ ساعدها على ذراع الكرسي الأثري الفخم.

"نعم, لقد إنتهى (آرثر) و (يوهانا) من تنفيذ دورهما, و (ساي) يرقد الآن في القبو. هذه الخطة محطمة للأعصاب فعلاً. لقد كنت أخشى أن يُفتضح أمري بينما أنا أدس الرسالة والمفتاح أسفل الباب. فكرة من هي بأن نكتب رسالة كهذه على غلاف قطعة حلوى مصاصة أصلاً؟! حسناً...أعلم بأنه لم يكن لدينا خيار آخر, ولكن الأمر مثير للضحك والبكاء في نفس الوقت. سنكون محظوظين إن أخذونا...أعني...إن أخذنا أنفسنا على محمل الجد!". لم يكن من عادة (نويل) الثرثرة هكذا, ولكن (أمورا) أدركت في قرارة نفسها بأنه إنما يحاول تفريغ توتره هو الآخر بطريقة ما.

إبتسمت الفتاة بلطف وهي تطوي خصلات من شعرها الحريري الطويل خلف أذنها قبل أن تقول: "أنا متأكدة أنك أبليت حسناً, (نويل). لم يبق لنا سوى القليل قبل أن نتمكن من العودة للجميع.".

تلونت وجنتا المذكور قليلاً بهجةً بهذا الإطراء, ولكنه نظر بركني عينيه للأسفل وهو يغمغم: "ما بقي هو الجزء الأصعب. سيكون علي إقناعهم...إقناعنا...بالموت من أجل حماية (ساي).".

على الفور تبادر إلى ذهنها منظر الشاب الباسم الذي كان واقفاً خلفها في الحلم المقيت, طالباً إياها أن تموت لأجله. القشعريرة الباردة بدأت تسري في جلدها مجدداً, إنها لا تريد الموت لأجله ولا لأجل أي شخص آخر!

ولكن...أليس وجودها هنا, الآن, أكبر دليل على أنها "ماتت" لحمايته سابقاً؟

إنعقد حاجباها الجميلان وإجتاحتها موجة من الغضب والحقد بسبب هذه الفكرة, ووجدت نفسها تهمس بغِل: "سحقاً لك يا (ساي)! أنا لا أرتاح من مشاكلك حتى بعد الموت!".

-----------------------------------

التفت (لورانس) برأسه نحو (ساي) الذي عطس فجأة وسط جملته التي كان يقولها, قبل أن يشهق الأخير بعمق ويقول: " تباً, يبدو أنا هناك نذلاً ما يذكرني بسوء!".

"هل تمزح؟ لا أحد يذكرك بخير أصلاً, لم أنت مستغرب هكذا؟", تراقصت الإبتسامة المتشفية على شفتي (لورانس) وهو يرد عليه بذلك.

غمغم (ساي) ببرود: ".....شكراً لك على رأيك الثمين هذا, سأتظاهر بأنني لم أسمعه.".

تداخل صوت أنثوي متهكم مع نهاية جملة (ساي) قائلاً: "نذهب ونعود عبر الزمن وأنتما مازلتما تتجادلان كالصغار, ويحكما متى ستعقلان؟!".

استدار الشابان – وإن كان أحدهما لا يرى -نحو (يوهانا) التي خَطَت إلى داخل الغرفة عاقدةً ساعديها, يتبعها (آرثر) الذي انتبه (ساي) فوراً إلى أن نبضه أسرع بشكل ملحوظ عن المعتاد.

"ألم تسمعي بأن الحكمة تؤخذ من أفواه المجانين يا (هانا)؟".

"هذا صحيح! (لورانس) على حق تماماً, كما أن التعقل ممل جداً.".

رفعت الفتاة أحد حاجبيها وهي تنقل نظرها بينهما لثانية قبل أن تقول بإستغراب ساخر: "منذ متى كان (ساي) و (لورانس) يتفقان على شيء واحد؟ هذه سابقة تاريخية جديرة بالتسجيل.".

لم يرد عليها أي منهما, بل قرر (ساي) أن يدير دفة الحديث نحو موضوع آخر أكثر أهمية في محاولة منه لعدم الخوض في تفاصيل ما كان يفعله مع (لورانس) قبل حضورهما.
"إحم, إذن... كيف كانت رحلتكما؟ أستطيع رؤية أنك بذلت مجهوداً كبيراً يا (آرثر). آه... ليست كلمة "رؤية" دقيقةً بالتحديد ولكنك تعلم ما أعني.".

"في الواقع..", بدا المذكور محرجاً قليلاً وهو يجيب محدثه, "لقد سار الأمر على أفضل مما يرام, لولا أن أحدهم كان يقاوم كخرتيت ثائر, مما أدى إلى أنني قمت بالتسبب في إصابته إصابة طفيفة أسفل عنقه. لم أكن أقصد ذلك, صدقاً! ولكن, رباه, كم أنت عنيد يا (ساي). لقد استغرق الأمر أطول مما توقعت.".

طأطأ (ساي) برأسه مفكراً وهو يتحسس أسفل عنقه: "شكراً لك, سأعتبر هذا مديحاً. حسناً... أعتقد أن هذا يفسر الجرح الذي حصلتُ عليه في المرة السابقة, وكل ما تبقى الآن هو إنتظار عودة (نويل) و (أمورا). أتمنى أن البلهاء لم توقع نفسها في مصيبة ما هناك.".

جلس (آرثر) على الأريكة بجانب (لورانس) الذي رمق (يوهانا) بعينه وهي تتجه نحو السرير الوحيد في الغرفة قبل أن يقول لها بنبرة متشككة: "هل كان من الضروري فعلاً أن تقوما بحَبكِ خطة ملتوية كهذه؟ نحن حتى لا نضمن بأن كل هذا سيؤدي إلى نتيجة ما في النهاية.".

استقرت الفتاة على السرير مسندة جسدها بيديها على الجانبين وهي تنظر إلى محدثها بصمت, ولكن سرعان ما أخذت نفساً عميقاً وقالت موجهةً حديثها له: "هل تعلم كيف هي الدوامات يا (لورانس)؟".

رمش الشاب المستغرب عدة مرات قبل أن يعقد حاجبيه بتساؤل: "الدوامات؟...وما دخل الدوامات بما يجري هنا؟".

عدلت (يوهانا) نظارتها فوق أنفها قبل أن تجيبه: "الدوامات هي ظاهرة ناتجة عن وجود محور وهمي يتحرك حوله تياران أو أكثر في اتجاهات مختلفة. فلنبدأ بإفتراض أن هناك دوامة في سطح من الماء, إنها لا تغطي المكان كله, ولكنها تؤثر على منطقة معينة فقط. من السهل جداً أن تنزلق بداخلها, ولكنك لا تستطيع العودة من نفس البؤرة لأن الضغط يختلف في الجانبين.", كانت تحرك يديها لتدعم شرحها بينما انصب تركيز الشبان الثلاثة في الغرفة على ما تقوله, وكأنهم طلاب في صف مدرسي ما.

"على ما أعتقد – وإعتقاداتي صحيحةٌ عادةً فيما يتعلق بهذ الأمور –فإن ما يحدث هنا مشابه لذلك. إن تخيلنا بأن بؤرة الدوامة الزمنية هي هذا المنزل, ومحورها هو (فرانسيس), فسنجد أن الأمر يصبح منطقياً نوعاً ما. إنه طريق بإتجاه واحد فقط, فتيار الزمن في الداخل يختلف عما هو عليه بالخارج. إنه أبطأ بكثير, بكثير جداً. لا شك بأن ذلك ناتج عن محاولاته المتكررة للعبث بالوقت. لذا يمكننا الدخول ولكن لا يمكننا الخروج. وعلى الأغلب لن نتمكن من فعل ذلك حتى يصبح جانبا الدوامة متساويين, أو... حتى يختفى محورها.".

تبادل (آرثر) و (لورانس) النظرات قبل أن يسألها الأول بهدوء وهو يميل للأمام: "وما علاقة (ساي) بذلك؟ كيف لما فعلناه الآن أن يساهم في حل هذه المعضلة؟".

إبتسمت (يوهانا) وكأنها كانت تنتظر سؤالاً كهذا: "أليس الأمر واضحاً؟ كما أخبرتكم سابقاً, إن من قام بمساعدتنا في المرة السابقة لم يكن سوى نحن. فكروا في الأمر, إن لم يحضر (ساي) إلى هنا عالماً بما يجري لأنه من استخدم الساعة في المرة السابقة, لما تمكن من مواجهة (فرانسيس) كما فعل, ولما اكتسب قدرته هذه. لقد فهمتُ وقتها لمَ كان من الضروري أن يكون هو الناجي. لكي تضمن ثبات المستقبل, عليك أن تضمن ثبات الماضي أولاً. المواجهة المباشرة مع أنفسنا لن تجدي قطعاً بل قد تتسبب في حدوث تعارض زمني, كما أن (ساي) لم يكن ليقبل على الإطلاق بأن يموت الآخرون لحمايته هو. إنه من ذاك الصنف الذي يحسب نفسه لا يقهر ولا يحتاج للمساعدة.".

تمتم (آرثر) باسماً: " يبدو أنه أيضاً من الصنف الذي يغطس في النوم فوراً خلال المحاضرات الطويلة.".

نظرت (يوهانا) و (لورانس) بتساؤل نحو (ساي) ليجدا بأنه قد استلقى على جانبه مسنداً رأسه على ساعده المنثني أسفله, بينما أخذ صدره يتحرك ببطء رتيب مع كل نفس يأخذه. تساقطت خصلات من شعره الطويل على وجهه بعشوائية ولكن لم يبد أن ذلك يضايقه على الإطلاق.

"أحياناً...أعتقد أن هذا الأحمق متبلد الأحاسيس هو أكثرنا حظاً.", زفر (لورانس) وهو يحني رأسه يأساً بعد أن قال ذلك.

-----------------------------------

"يا إلهي...يا إلهي..."

"(نويل)! هل أنت بخير؟!".

إندفعت (أمورا) نحو إبن عمها اللاهث الذي تواضعت راحة يده المضطربة على صدره وكأنه بذلك يهدئ من روع قلبه الخافق بشدة, بينما اسند ظهره على الباب الخشبي الذي أغلقه خلفه على عجل بعد دخوله. لقد كانت تنتظر عودته في نفس الغرفة بعد أن خرج لأداء آخر ما يفترض به فعله, ولكنها لم تتوقع رجوعه بهذه السرعة. يبدو أنه كان يتوق للخلاص من هذه المهمة حقاً.

"لستُ أصدق بأنني فعلت ذلك.. لقد تحدثتُ إلى (آرثر) حقاً! يا إلهي, كاد قلبي يتوقف خوفاً من أن لا يستمع إلي, لو أنه فتح الباب ورأني لانتهى كل شيء...!".

مسحت بكفها الصغير على كتفه وهي تهتف به: "إهدأ يا (نويل), لقد مضى الأمر على خير حتى الآن, فلا داعي للقلق.".

لم يكن القلق هو ما يسبب إرتعاد فرائصه هكذا, بل هو الخوف من أن يكون قد أخطأ في مكان ما, أو كلمة ما. إن أصغر التفاصيل قد تعني إنهيار جميع ما يبنونه الآن, وهو قطعاً لا يريد بأن يكون السبب في ذلك. ليس عندما يكون ما على المحك هو حياته وجميع أصدقائه.

حسب ما خططت له (يوهانا), فقد كان من المفترض به أن يتحين الفرصة ليتحدث معهم, مع أنفسهم السابقة, بينما (ساي) لا يتمكن من سماعهم. خلال قصته الطويلة جداً, ذكر (ساي) بأنه تركهم لفترة وجيزة ثم عاد ليجدهم يتصرفون بغرابة لم يفهمها, ولم يكن من الصعب عليهم عندها جمع قطع اللغز ليحصلوا على إجابةٍ لما حدث أثناء غيابه.

تباطأت أنفاس (نويل) لتصل إلى معدلها الطبيعي واعتدل في وقفته على مهل, لقد فعل كل ما بوسعه فعله, ولم يبق لهم سوى الرجاء بأن تسير الرياح كما يشتهون.
"فلنرجع فوراً, إن كل دقيقة أقضيها هنا تقربني أكثر من حصولي على سكتة قلبية. كما أنه مازالت أمامنا مهمة صغيرة أخيرة".

-----------------------------------

لم يكن (ساي) نائماً حقاً.

في الواقع, لم يكن قادراً على النوم حتى وإن أراد ذلك. ولكنه بإستلقائه هنا, بعينيه المغمضتين, بأنفاسه البطيئة العميقة, إنما كان يحاول أن يخفف على نفسه وقع كلمات (يوهانا) التي كانت مؤلمة بقدر ما هي صادقة.

صحيح أن كل ما حصل, وكل ما يحصل, يصب في مصلحة الجميع في النهاية. ولكن كيف له بأن لا يشعر بالذنب بعد كل هذا؟ إن مجرد تذكر بأنهم يُقتلون في زمن آخر الآن بينما كان هو غارقاً في جهله كالأبله عما يجري, عما يفعلونه من أجله, يثير حنقه.

ولكنه أيضاً لن يسمح لنفسه أن ينسى.

حرك (ساي) رأسه فجأة عندما وصلته أصوات خطوات مختلطة تنتمي لزوجين من الأقدام, ورفع جسده عن الأرض بحركة سريعة جعلت الثلاثة الآخرين يلتفتون إليه بذهول. وأخيرأ, وأخيراً سيتمكن هو من القيام بدوره, من فعل شيء لأجلهم بدلاً من الجلوس والإنتظار.

"لقد عاد (نويل) و (أمورا)!".

"مالذي تقوله أيها الـ-".

إنفتح الباب الخشبي برفق بعدها ليُظهِر خلفه المذكوران, أتبع ذلك إنطلاق (ساي) نحو (نويل) بلهفة أدهشت الجميع. من الواضح أنه كان يتحرق شوقاً لعودة أعز أصدقائه سالماً. رفع (ساي) يده أمام (نويل) بترقب, مما جعل الأخير ينظر إليه متسائلاً.

" المفتاح! ألم أطلب منكما إحضاره من الغرفة التي بالأسفل عند عودتكما؟!".

" بحق الله يا (ساي), ألن تسألني حتى إن كنتُ بخير؟!", هتف به (نويل) بغيظ.

" لا! أنا أثق بك وبقدراتك تمام الثقة الكاملة العمياء. والآن أعطني ما طلبته منك."

"...أنت تقول ذلك لتسكتني فقط, صحيح؟".

هوى كتاب المذكرات الجلدي على رأس (ساي) من حيث لا يحتسب, وقبل أن يتمكن من الصراخ ألماً كان صوت (أمورا) المدوي يخترق أُذنيه بلا رحمة: "ألا تخجل من نفسك يا قليل الذوق والإحساس؟! أتعلم مقدار الجهد الذي بذله (نويل) لينفذ ما طلبتموه منه؟!".

أجابها (ساي) بحدة وهو يفرك رأسه: "مالذي فعلتهُ لأستحق ذلك؟! ثم إن (نويل) لا يحتاج لفتاة مسلحة بالكتب للدفاع عنه!".

"هذه الفتاة ستصفعك بالكتاب حتى تقضي نحبك إن لم تخرس!".

إن صراخ الإثنين على بعضهما البعض لم يحمل أي نوع من أنواع الغضب الفعلي, وبدا منظرهما مضحكاً أكثر منه مُهَدِداً. لم يتمالك (نويل) نفسه من التبسم وهو يشاهد ذلك. لقد نسي كل ما يتعلق بالزمن والهروب والموت, ولوهلة شعر بأنهم قد عادوا إلى حياتهم السابقة التي بدت وكأنها مجرد ماضٍ سحيق.

حتى في أوقات كهذه, هنالك دائماً مجال للإبتسام.

-----------------------------------
[COLOR="black"].
الثلاثون من إبريل, 1884م:

كان الشارع المزدحم في القرية يحمل أشكالاً وألواناً مختلفة من المارة والبائعين والمتسوقين. إن ما قبل الظهيرة هو وقت الذروة الذي يضج فيه المكان بالحركة والحيوية, بالإضافة إلى صخب الأطفال الذين كانوا يلاحقون بعضهم البعض ضاحكين غير عابئين بما يدور حولهم من أمور الحياة التي تركوها للكبار, على الأقل حتى يصبحوا هم كباراً في يوم من الأيام.

ولكن صخب اليوم كان أقل من المعتاد, وقد عَلَت بعض الوجوه نظراتٌ جمعت بين الوجوم والدهشة وعدم التصديق.

عدلت (مادلين) ثوبها الأصفر الطويل ذو الطبقات الخلفية المتعددة الذي تفتحت في نسيجه نقوش لزهور زاهية الألوان, بينما كانت قبعتها المزخرفة ذات الأطراف الواسعة هي كل ما يحول بينها وبين شمس الربيع القادحة فوقها. السلة المجدولة التي حملتها ذراعها تحتوي مشترياتها لعشاء اليوم, وكانت تتذمر في سرها عن أسعار الشوفان الفاحشة هذه الأيام, والبائع الجشع ذو النظرات الزائغة. مجرد يوم ممل آخر... حتى لمحت بطرف عينها سيدةً في منتصف العمر تسرع أمامها لتعبر الطريق المرصوف وقد حملت يدها سلة مشابهة. لملمت (مادلين) أطراف ثوبها وانطلقت خلف السيدة الأخرى مناديةً لها.

"سيدة (تابيثا)!".

إلتفتت المذكورة وقد علت وجهها علامات الدهشة قبل أن تتسع الإبتسامة على ثغرها, وتوقفت عن سيرها المتعجل لتسمح لمناديتها باللحاق بها.

"سيدة (مادلين), ياللمصادفة! من الرائع رؤيتك هنا, لم تسنح لي الفرصة للتحدث معك على الإطلاق مؤخراً.".

هزت (مادلين) رأسها محيية السيدة التي بدأ الشيب يخط شعرها المندثر تحت قبعة بيضاء قماشية, وشكرت الله في سرها كونها وجدت شخصاً قابلاً للثرثرة معه قبل عودتها لأشغالها المنزلية الرتيبة.

"تسرني رؤيتك أيضاً, أنا آسفةٌ حقاً بشأن ما حصل لزوجك. سمعتُ أنه لم يعد يعمل في منزل عائلة (كينزي) الآن. هل من خطب ما هناك؟". لم تكن (مادلين) تجهل ما حصل هناك بالقدر الذي تدعيه, فجميع أهل القرية يعرفون. إن كان هناك شيءٌ ينتقل بسرعة في هذا المكان فهو الأخبار, خصوصاً السيئة منها. ولكنها ألقت طرف الخيط للسيدة (تابيثا) مدعيةً الغباء أملاً في أن تعرف المزيد, فزوج الأخيرة كان بستانياً في المنزل المذكور منذ قدوم العائلة إلى هذه الضواحي.

ولم تكذب السيدة (تابيثا) خبراً فقد تنهدت بعمق وهي تهز رأسها بأسى قبل أن تلقي نظرةً على المنزل الضخم الذي لاح على قمة التل المجاور للقرية.

"تلك الأسرة البائسة لم تهنأ بحياتها القصيرة هنا. رغم حزني على خسارة زوجي لعمله إلا أنني أشد حزناً على حالهم بعد أن أصابتهم مصيبتان في يوم واحد.".

"مصيبتان؟!", اتسعت عينا (مادلين) بدهشة حقيقية فهي لم تسمع بهذا من قبل, وكل ما كانت تعرفه هو أن إبنة الأسرة الصغيرة قد توفيت منذ يومين إثر مرض ألم بها. بدأ فضولها النهم يلتهمها بجنون وهي تنتظر بشوق إكمال السيدة (تابيثا) لحديثها.

"نعم, أنتِ تعلمين أنني لا أحب الثرثرة ونقل الأخبار, ولكن...", مالت السيدة (تابيثا) نحوها لتهمس بخفوت, "أنا أعلم أنكِ ستبقين الأمر سراً, أليس كذلك؟".

هزت (مادلين) رأسها مشجعةً إياها على الإستطراد وهي تقول بلهفة: "بالطبع يا سيدتي!". لم تعبأ لكون ما تفعلانه يتناقض بشكل صارخ عما تقولانه. إن هذه هي إحدى سبل التسلية القليلة المتوفرة لهاته السيدات الملولات.

"حسناً إذا...لقد أخبرني زوجي بما حدث حقيقةً. أعلم أن هذا صعب التصديق, ولكن فليرحم الله أرواحنا فقد حصل ذلك فعلاً. وحتى الصبي (مارك) الذي كان يعمل بالحظيرة يقسم أغلظ الأيمان على ذلك. إن الأسرة لم تقرر الرحيل لأنها لا تطيق العيش هنا بعد وفاة طفلتهم المسكينة كما يقولون. إنهم لا يستطيعون الدخول إلى منزلهم أصلاً, وقد اختفى إبنهم الوحيد في نفس اليوم أيضاً!".

-----------------------------------

"هل أنت متأكد بأنك تريد الذهاب وحيداً؟".

كان القلق يتقاطر من صوت (أمورا) التي يبدو أنها نسيت جدالها الحاد مع (ساي) منذ برهة, ولكنها لم تكن الوحيدة التي تشعر بذلك. كان الجميع – يتقدمهم (ساي) – واقفين أمام باب ما, قادهم الأخير إليه. نظرة (نويل) فضحت توتره وهو يعزز كلامها: "ليس عليك فعل ذلك بنفسك, بإمكاننا جميعاً أن نأتي معك. سيكون ذلك أكثر أماناً بلا شك.".

هز (ساي) كتفيه وهو يقول بأريحية: " لستُ الشخص الذي يحب العمل مع الغير, أنت أدرى بذلك.".

أدار (لورانس) عينه في محجرها قبل أن يقول: "ياللأنانية! ليس الأمر متعلقاً بما تحبه أو تكرهه, بل بما سيكون الأفضل للجميع أيها الطفل!".

"إذا اتركوني أذهب لوحدي, فذلك سيعفيكم من مرافقة طفل مثلي. لقد فعلتم كل ما بوسعكم, دعوني الآن أفعل ما بوسعي. كما أنني أشك أنه من الحكمة أن يظهر ستة أشخاص من العدم هناك دون أن يبدو الأمر مشبوهاً.".

"للأسف, (ساي) محق في ذلك. لن أمنعك من الذهاب طالما عزمت أمرك, ولكن عدني بأنك لن تحاول القيام بأي عمل مجنون متهور هناك. لا تفسد كل ما سعينا لأجله حتى هذه اللحظة. أنت لن تعطينا سبباً يجعلنا نقلق عليك, صحيح؟". ابتسم (ساي) بإمتنان لـكلمات (آرثر) الذي كان الوحيد المؤيد له في هذا, وهز رأسه موافقاً له بصمت.

"آه, نعم, إنني سأتفطر قلقاً وحزناً إن لم تعد بكل تأكيد.".

"مشاعرك الفياضة هذه تثلج صدري يا (لورانس), إنني بالكاد أسيطر على دموعي.".

"توقفا عن التهريج!", تلقى الإثنان ضربتين حانقتين من (يوهانا) قبل أن تلتفت الأخيرة نحو (ساي) لتحدثه بجدية: " تذكر يا (ساي), ليس عليك أن تكون بطلاً. كل ما عليك هو أن تكون... مُقنعاً.".

"أعلم ذلك! لم يصر الجميع على تذكيري بذلك مراراً وتكراراً؟ هل قدراتي التواصلية مع البشر بهذا السوء؟!".

لم يحصل على جواب على الإطلاق, مما دفعه ليرفع يده بإستسلام مردفاً: "حسناً, إنسوا أنني سألتُ ذلك. أنا ذاهب من هنا!".

-----------------------------------

صمت مطبق, برودة قارسة, وحدة مؤلمة. مازال طائر الموت يحلق في هذه الغرفة التي كانت حتى وقت قريب مسكناً لفتاةٍ صغيرة تسربت حياتها القصيرة شيئاً فشيئاً حتى اختفت نهائياً.

سرير الطفلة المرتب كان يحمل باقةً من الزهور شاحبة اللون بدلاً من جسدها, ربما كانت محاولةً بائسة من أحدهم لتخفيف وقع الكارثة التي خيمت على المكان. مجموعة الفساتين الصغيرة ذات الألوان الزاهية التي تكومت على طرفه, بالإضافة إلى لعبة الدب الذي جلس ببراءة على أحد المقاعد جاهلاً بأن مالكته رحلت للأبد, وغيرها من التفاصيل الصغيرة التي ليست سوى تذكار بأن شخصاً ما كان هنا, ولكنه لن يعود مجدداً.

تحت وطأة تأثير هذا المشهد السريالي, أطبق الطفل الدامع ذو الملابس الفخمة يده على مفتاح معدني غير مألوف الشكل وهو يشهق بين الفينة والأخرى. لم يكن الموت أمراً يفكر فيه أبداً, لم يخطر على باله يوماً بأنه سيتذوق مرارة فقدان من يحب بهذه السرعة. هذه المشاعر الطاحنة أكثر مما يمكنه تحمله, أي حياة هذه التي تنتظره وحيداً بدونها؟ التفكير بالتبعات وعواقب الأمور لم يكن لمن هم في مثل عمره, وفي عالمه المحدود الصغير, كان تواجد (إيفانجيلين) أمراً مفروغاً منه, ولكنها رحلت وتركت مكانها ثقباً مهولاً لا يعلم كيف يسده.

ولكن ربما, ربما كان بإمكانه فعل شيء لتغيير ذلك.

بالرغم من أنه لم يستعمله سوى مرة واحدة, بالرغم من أن أحداً لم يصدقه حتى بدأ هو نفسه يشك في ما حصل له, بالرغم من أنه خائف من خوض هذه التجربة لوحده, إلا أنه استدار وترك الحطام الذي بقي من حياة (إيفانجيلين) خلفه لتسوقه قدماه نحو غرفة معينة بالدور الأرضي.

لم يكن هناك أي شخص بالمنزل سواه, فقد خرج والداه وجميع الخدم والعاملين منذ ساعةٍ لتشييع جنازة شقيقته إلى مثواها الأخير. العاملون خلعوا قبعاتهم وساروا مطأطئي الرؤس حداداً على من اعتبرها الجميع إبنة له, بل قد حضر بعضهم مولدها ونشأتها منذ بدايتها وحتى نهايتها المفاجئة. السيدات المتشحات بالسواد تعالى بكاؤهن بدرجات متفاوتة طغى عليها جميعاً صوت نشيج والدته المكلومة التي أخذت تنتحب بحرقة وقد تعلقت بذراع والده وكأنها تستمد منه بعض المواساة. لطالما كان والده رجلاً مهيباً صارماً, ولكنه الآن يبدو كمن يستنفر كل خلية من خلايا وجهه ليمنع نفسه من الإنهيار. عيناه الزرقاوان الذابلتان لم تنظر إليه أو إلى ولدته, بل تسمرتا على التابوت الأسود الصغير الذي تسحبه أمامهم العربة الخشبية السوداء, التي كانت بدورها مربوطةً بحصانين كان لونهما أيضاً.... أسود.

لقد أُجبِر هو أيضاًعلى إرتداء ملابس بنفس القتامة. بنطال قصير وصدرية وحذاء أسود, لم يتخللها من الألوان سوى جواربه الطويلة وقميصه الأبيض الذي التفت حول ياقته شريطة حريرية رمادية. هذا السواد لا يليق بـ (إيفانجيلين) أبداً.

كان يسير متمهلاً تاركاً مسافةً بسيطة بينه وبين الركب الصغير متحيناً الفرصة للعودة دون أن يلاحظه أحد لينفذ ما جزم على فعله, ولم يزده ما رأه سوى عزيمةً وإصراراً على المضي قدماً في ذلك. إنه لم يبك منذ أن وصله الخبر, لم يصدق أن الأمر واقع حتى يبكي. ربما تقبل أبواه كونها قد ماتت, ولكنه هو لن يفعل.

تصاعد صدى كعب حذائه اللامع على الأرضية الرخامية للممر الذي عشش عليه السكون, وماهي إلا ثوانٍ حتى كان يدلف إلى الغرفة الصغيرة التي انتظرته بداخلها ساعةً خشبية قديمة الطراز.

لم يهتم بإغلاق الباب خلفه فهو الوحيد المتواجد هنا الآن, لذا فقد تنفس بعمق وهو يخطو نحو الساعة, ويده الندية بالعرق تقبض على المفتاح وكأنها تخشى إختفاءه في أي لحظة.

"لا تفعلها.".

كشحنة كهربائية مفاجئة, تسبب الصوت الغير متوقع في جعله يثب من مكانه جزعاً وهو ينظر حوله بخوفِ من تم كشفه متلبساً بجريمة ما. هل رآه أحدهم وهو يتسلل عائداً إلى المنزل؟! لم يكن من المفترض أن يعود أحد حتى غروب الشمس على الأقل.

ولكن الشخص الذي أطل عليه من باب الغرفة لم يكن بأي حال من الأحوال شخصاً يعرفه.

-----------------------------------

كان المجهول القادم يرتدي ملابس لم ير (فرانسيس) لها مثيلاً من قبل, كما أن ملامحه كانت صعبة الرؤية وهو يغطي رأسه بقلنسوة هربت بضع خصلات من الشعر الطويل من طرفيها, وحتى عيناه توارتا خلف قطعة قماشية خضراء. بإختصار, لم يكن هناك أي شيء طبيعي على الإطلاق في هذا الشخص. جعل ذلك (فرانسيس) ينسى سبب تواجده في هذه الغرفة بينما شعر بقدميه وصوته يخذلانه بسبب المفاجأة والرعب اللذين شلا حركته.

أي نوع من الأشخاص هذا؟ أهو لص استغل فرصة فراغ البيت من قاطنيه لينهب ما يمكنه حمله؟ أهو شيطان ما من تلك الشياطين التي كانت مربيته تخيفهم بها؟ أهو أحد معارف والده؟ منذ متى كان أبوه يعرف أناساً بهذه الغرابة؟

تحدث الشاب بهدوء وهو يتقدم للداخل دافعاً الباب بيده لينغلق ويتركهما وحيدين مع بعضهما البعض: "لا تخف يا (فرانسيس), أعلم أنك متفاجئ من تواجدي, ولكنني كنت أنتظر قدومك.".

تراجع (فرانسيس) المرتاع مبتعداً وهو يهتف بصوت مرتجف: "من...من أنت؟!".

"من أنا؟ سؤال وجيه, وإن كنت أعتقد أن إسمي لن يعني لك شيئاً.", تبسم الشاب بعدها بكل ما استطاع استجماعه من لطف, وهو أمر لم يكن معتاداً عليه قطعاً, "بإمكانك مناداتي بالحارس.".

"الـ...حارس؟", تمتم الطفل وقد استعاد بعضاً من صوابه فهو لا يرى بأن هذا المجهول يحمل أي أسلحة أو ينتوي به شراً, بل على العكس تماماً, كان واقفاً بإستراخاء ويداه مدسوستان في جيبيه. هز الشاب راسه موافقاً دون أن يتقدم أكثر.

"مالذي تحرسه بالضبط بينما أنت لا ترى؟".

أخذ السؤال المفاجئ الشاب على حين غرة, فهو لم يكن يتوقع شيئاً كهذا.

(( طفل نبيه. ))

ولكنه سرعان ما استعاد تعبيره الهادئ وهو يجيب: "بإمكانك القول أنني أحرس الأرواح. أرواح أولئك الذين سيعانون إن لم افعل.".

نظر (فرانسيس) نحو الشاب الغريب وقد اتسعت عيناه بإنبهار طفولي قبل أن يقول بأنفاس مبهوتة:"حارس للأرواح؟ هل أنت هنا لحراسة روح (إيفانجيلين) أيضاً؟".

للمرة الثانية, رفع الشاب حاجبه مندهشا من المجرى الغير متوقع الذي اتخذه هذا الحوار, ولكنه لم يعط الطفل إجابةً مباشرة, بل قابل سؤاله بسؤال آخر:"أنت تنوي استخدام هذا المفتاح لتعيد الزمن أملاً في أن تتمكن من إقناع والدك بأخذ (إيفانجيلين) للمشفى لعلاجها قبل فوات الأوان, أليس كذلك؟".

"كيف...عرفت ذلك؟".

"أنا الحارس يا صغيري, أنا أعلم الكثير من الاشياء التي تجهلها أنت. ومنها بأن ما تنوي فعله لن ينجح.".

ذُهل الطفل بعد تلقيه لهذه الكلمات القاسية التي حطمت أمله الوحيد في استعادته لأخته, وبدأت مقلتاه تنزان الدموع مجددا وهو يصرخ بمحدثه غاضباً: "لم لا؟! كيف يمكنك الجزم بذلك أساساً؟!".

(( لأنني إن تركتك تفعل, فسيؤدي ذلك إلى أكثر من تدميرك لحياتك أنت. ))

"لأنه لن يصدقك أحد سواي.".

"سيصدقونني عندما يرونها تعود للحياة مجدداً!".

"لم تسر الأمور بهذه البساطة عندما استعملت المفتاح للمرة الأولى, أليس كذلك؟ تماماً كما ظن الجميع أنك تكذب أول مرة, سيعتقدون المثل في المرة الثانية.".

لم يبد أن صراخ الصبي ودموعه المتساقطة يهزان شعرة في جسد الشاب الذي اكتفى بالوقوف مكانه بصمت لبرهةٍ قبل أن يقول: "أنت طفل ذكي يا (فرانسيس), ولكن خسارتك كبيرة جداً. ذلك هو ما تسبب في هلاكك. لنفترض أنك أعدت الزمن فعلاً, لِم تتوقع بأن والديك سيصدقانك هذه المرة؟ لا أحد سيتذكر ما حصل هنا. لا أحد. ستبقى أنت الوحيد الذي يتذكر ويعاني عذاب هذه الذكرى. ومالذي سيحصل في النهاية؟ تموت (إيفانجيلين) مجدداً. ما ستفعله لن يتسبب في إنقاذها, إنه سيتسبب في قتلها ثانية. مرة تلو الأخرى, ستتعذب الفتاة وتموت لأن أخاها لن يدعها تنال راحتها الأبدية. أهذا ما تريده؟".

تراخت يد (فرانسيس) التي حملت المفتاح لتتدلى بجانبه وقد تحجرت عيناه متخيلاً هول ما يصفه الشاب المجهول. كيف لم يفكر في ذلك من قبل؟ هل سيكون بإمكانه العيش مع نفسه إن تسبب فعلاً في موت (إيفانجيلين) لعدة مرات؟ هل بإمكانه حقاً أن يثق بكلام شخص مشبوه كهذا؟

لم يكن (ساي) يرى هيئة (فرانسيس) أمامه, ولكنه كان يسمع أنفاسه المضطربة المتلاحقة جيداً. ليس بحاجة لأن يكون عبقرياً لكي يعرف نوع الأفكار والمشاعر التي تجول في رأس الصبي بعد كل ما قاله له, ولكن ما من خيار سوى الإستمرار. وإن لم يجد الحديث مع (فرانسيس) نفعاً... فإنه يجد نفسه مرغماً على إتخاذ إجراءٍ أكثر جذرية. إن ذلك هو في الواقع ما كان يمنعه من اصطحاب أي شخص معه, فإن كان لابد عليه أن يقوم بتلطيخ يديه مرةً ثانيةً فهو يفضل أن يقوم بفعل ذلك وحيداً.

التفت راحة يده اليمنى على مقبض السكين الراقدة في جيبه وهو يفكر فيما سيكون مجبراً على فعله حينها.

من مفارقات القدر أن يكون (فرانسيس) الباكي المثير للشفقة الآن هو نفسه ذاك الكائن الذي يتذكره (ساي), بهيئته المنفرة وقوته الغير طبيعية وجموده الجليدي.

"لم يكن من السهل رؤية (إيفانجيلين) تتألم وتتوجع قبل وفاتها, أليس كذلك؟ لماذا تفكر في تكرار ذلك؟ صدقني, أنا أفهم شعورك, هناك أوقات نشعر فيها بأن علينا فعل ما يجب علينا فعله حتى وإن اضطررنا لدفع الثمن غالياً لاحقاً. ولكن هذا ليس أحد هذه الأوقات. من أجلها, ومن أجل نفسك...", خفت صوت (ساي) وهو يكمل, "أرجوك...دعها ترحل.".

(( لم يفت الأوان بعد, أرجوك لا تجعلني أفعلها... ))

ثانية...

ثانيتان...

ثلاث ثوانٍ...

صوت صليل ارتطام شيء معدني صغير بالأرض تبعه فوراً شلال جامح من الدموع والبكاء الهستيري دفع بـ (ساي) ليسعى نحو (فرانسيس) الذي يكاد يسمع تمزق نياط قلبه, ودون أي كلمة أخرى هبط أمامه على ركبتيه وتحركت يداه لتحتوي الصبي النائح بقوةٍ لم يعلم هو ذاته سببها.

تناهت إلى ذهنه صورة (ساي) الصغير, وحيداً وغير قادرٍ على البكاء حتى بعد أن شاء القدر أن يجعله يتخذ قراراً مصيرياً في سن غضة. لقد كاد هذا الصبي التعس أن يكون (ساي) صغيراً آخر, ولكن ليس بعد. مازالت هناك فرصة, مازال هناك أمل.

امتدت يد (ساي) لتحمل المفتاح المعدني الذي تمدد على الأرض بقربه وتدسه في جيبه, بينما تشبثت أصابع (فرانسيس) النحيلة في ملابسه بشدة حتى شَعَرَ بها تخترق جلده. ولكنه لم يكن يبالي.

لقد تبخرت آخر مشاعر الكراهية التي كان يحملها تجاه (فرانسيس) القاتل, ليحل محلها شعور لا يعلم كنهه تجاه (فرانسيس) الضحية. ما كان ذنبه إلا أنه ألقى بنفسه نحو التهلكة بغير علم عما سينتهي به المآل في المستقبل.

"أنا وأنت يا (فرانسيس)...", همس (ساي) للصبي برفق وقد استقرت يده الأخرى على رأسه ذو الشعر الناعم, "...سيكون هذا سرنا الصغير, إتفقنا؟".

-----------------------------------

دفء الشمس اللذيذ, منذ متى لم يستشعر جسده هذه المتعة؟

نسماتٌ من هواء ربيعي عليل تراقصت حوله ملاعبةً شعره الطويل بخفة ودلال, بينما أطرب صوت حفيف أوراق الشجر وزقزقة العصافير أذنيه. إرتجف جفناه قليلاً قبل أن يرفعهما بتراخٍ ليكشفا له عن سماءٍ صافية لونتها بضع سحب بيضاء متناثرة بإستحياء كبقع ناعمة في المساحة الزرقاء الشاسعة.

لحظة... سماء؟! سحب؟!

إعتدل بحركة سريعةٍ مفاجئة وهو لا يكاد يصدق ما تراه عيناه. أو بالأحرى, لا يكاد يصدق أن عيناه ترى مجدداً.

رفع يديه أمامه ناظراً إليهما بتعجب سرعان ما تبدد لتحل محله السعادة. وكأنما كان يحاول تأكيد الأمر لنفسه, فقد جال بنظره في كل ما حوله متشرباً جميع ما يقع بصره عليه. الأشجار الشامخة, الزهور الملونة المنسقة بعناية, الحشائش المتمايلة, الشمس الذهبية المتألقة, ملابسه, شعره, وحتى هاتفه المحمول وسماعاته الزرقاء المفضلة. بعد أن نال كفايته, سمح لجسده بأن يتراجع ليستلقي على الأرض العشبية مجدداً وقد تناثر شعره حوله, غير عابئ بكونه يشعر برضوبة التراب الذي يبدو أنه سُقي حديثاً تحته. غمرت رائحة الأرض الندية أنفه مُؤكدة له أكثر وأكثر أنه لا يحلم.


أغمض (ساي) عينيه وأطلق ضحكة صغيرة سرعان ما تعالت لتحمل كل فرحه وارتياحه. إن عالمه الذي اتشح بالظلام قبلاً يجعله يستمتع بكل ما يراه الآن وكأنها أول مرة. إنه لم يدرك قيمة وجمال الألوان سوى بعد أن عاش في السواد الكالح.

بدأ يتذكر ما قاده إلى هنا, إلى هذه اللحظة. لقد فارق (فرانسيس) على عجل مانعاً نفسه من النظر إلى الخلف وعاد إلى حيث أتى, إلى حيث ينتظره خمس أشخاص بلهفة, إلى ما كان يأمل أن تكون نهاية هذا المطاف الطويل المرير.

وهاهو ذا الآن, بعد أن ادخل المفتاح في الساعة للمرة الثانية على التوالي. أي مستقبل ينتظرهم هذه المرة؟ على عنى كل ما فعلوه سابقاً شيئاً؟ تُرى مالذي حدث لـ (فرانسيس) بعد تركه له؟ إنه لا يستطيع منع نفسه من التساؤل, ولكن التساؤل هو أيضاً كل ما يمكنه فعله, فهو على الأرجح لن يعرف أبداً.

"(ساي)؟ أيها المغفل! لم أنت مستلق على الأرض هكذا؟! أما كان لك أن تخار وقتاً ومكاناً أكثر ملائمة للنوم؟!".

انتفض جسد (ساي) واتسعت عيناه على مصراعيهما قبل أن ينعقد حاجباه بحقد عندما قام صوت (لورانس) الحاد بتمزيق حبل أفكاره شر ممزق, ولكنه في الوقت ذاته وجد نفسه – وياللغرابة -متشوقاً لرؤية وجه هذا الشاب المزعج. لم يتحرك من مكانه بل اكتفى بإرجاع رأسه إلى الخلف لتبدو له هيئة (لورانس) رأساً على عقب.

"(لورانس), كم تسرني رؤيتك. متى وصلتهم إلى هنا؟".

"متى وصلت أنت؟! لقد تأخرت في القدوم حتى قرر الآخرون الدخول بدونك.".

"إذن...", ابتلع (ساي) ريقه وهو يتأهب لسماع الأسوأ, "...جميعهم في الداخل ماعداك؟".

"نعم, إن (نويل) يقضي وقتاً ممتعاً بالتجول في أرجاء المكان مع المالك, بينما خرجتُ أنا لأن (آرثر) طلب مني الإتصال بك. الإرسال رديءٌ جداً بالداخل.".

"المالك؟!....أنت كنت بالداخل وخرجت؟!", رفع (ساي) جسده فوراً واعتدل ليواجه (لورانس) بتعجب لم يفهم له الأخير سبباً, فهو لم يقل شيئاً غريباً على حد علمه. هل هذه إحدى ألعاب (ساي) المعتادة إذن؟ عقد الشاب ثائر الشعر ساعديه وهو ينظر نحو الآخر بشك قبل أن يقول: "لديك مشاكل جدية في الإستيعاب, أتعلم هذا؟ لست أدري لم أنت مذهول كهذا, ما قلته لك لم يكن صعب الفهم لهذه الدرجة.".

لم يعره (ساي) إهتماماً بل انتصب لينطلق راكضاً بينما لاحقته كلمات (لورانس) الحانقة نحو الباب الكبير الذي توسط واجهة المنزل, والذي كان موارباً وكأنما يدعوه للدخول, ولم يكذب (ساي) خبراً فقد انبعث عبره ليقف في منتصف البهو المألوف ملتقطاً أنفاسه, فقط لينتبه بحجم الإختلاف الذي يراه عما يتذكره.

كانت المزهريات الثمينة واللوحات الفنية منتشرة بسخاء في المكان الفسيح الذي سبح تحت أضواءٍ ناعمةٍ كانت مصدرها ثريا كريستالية ثمينة المنظر تتوسط المكان, وبجانب أحدى اللوحات كان يقف كل من (نويل) و (أمورا) مع شخص وقور المظهر رمادي الشعر يشي منظره وملبسه بالرقي, وكذلك تحركاته وهو يشير بإحدى يديه نحو اللوحة الجدارية وكأنه يشرح لهما شيئاً عنها.

التفتت (أمورا) ليقع نظرها عليه, وقامت من فورها بالإبتسام له والتلويح بيدها وكأنما تحثه على الإنضمام لهم. حانت منه نظرة نحو الباب الرئيسي الذي انفرج ببطء ليدخل من خلاله (لورانس) العابس, ثم عادت عيناه نحو الثلاثة الذين استمروا في محادثتهم الصغيرة مقرراً الذهاب إليهم.

عندما اقترب منهم كفاية ليلاحظ (نويل) المتحمس وجوده, قام الأخير بإستقباله بإبتسامته المعتادة وهو يقول ببهجة: "(ساي), من الجيد أنك وصلت أخيراً! دعني أقدم لك السيد (ألفريد كينزي), المالك الحالي لهذا المنزل البديع.". إلتفت السيد (ألفريد) المذكور ليواجه (ساي) محنياً رأسه له في تحية لبقة قبل أن يمد يده له مصافحاً, وهو ما قابله (ساي) بالمثل وإن كان غير مستوعب بعد لحجم هذا التغيير الذي يراه.

"يسعدني تواجدكم هنا اليوم, إن لهذا المنزل – و لعائلة (كينزي) – تاريخاً عريقاً هنا. لقد عاش أجدادي فيه منذ القرن الثامن عشر تقريباً, وكما ترون فإن جميع القطع الفنية هنا أثريةٌ أصليـ-".

"عفواً, ولكن...", قاطعه (ساي) متسائلاً بلهفة, "... هل تعرف شخصاً يدعى (فرانسيس كينزي)؟ هل يبدو الإسم مألوفاً؟".

بدا كل من (نويل) و (أمورا) محرجين من وقاحة (ساي) مع شخص قابله للتو. ولكن السيد (ألفريد), وإن ظهر أنه تفاجأ في البداية, إلا أنه سرعان ما استعاد بشاشته وهو يجيب (ساي) برحابة صدر: "بالتأكيد أعرفه! أنت تتحدث عن جدي الأكبر بلا شك, لقد كان من أول قاطني هذا المنزل, وعاش فيه مع عائلته منذ مائتي عام مضت, حتى ورث عنه المنزل إبنه (لويس). في الواقع, أغلب اللوحات الفنية هنا هي قطع تم رسمها في زمنه, لقد كان مولعاً بالفن جداً.".

شاركتهما (أمورا) المحادثة بمرح قبل أن يتمكن (ساي) من التعليق: "أعتقد بأن لوحاته ستروق لك كثيراً يا (ساي), إن بها قدراً لا بأس به من الغرابة.".

وفي تلك اللحظة بالذات, وكأنما كانت تنتظر وقتها المناسب لتظهر نفسها له, تراءت له لوحة على الجدار المقابل, لم يعلم مالذي جذبه إليها فهو لم يستشف معالمها المبهمة إلا عندما تحرك سائراً ليقترب منها. وعندها, تحولت الدهشة إلى فرحة, والفرحة إلى إبتسامة واسعة نبعت من أعماق قلبه.

لم تكن تلك اللوحة المحاطة ببرواز خشبي برونزي فخم تحمل من الألوان أو الدقة في التفاصيل الشيء الكثير, وكان محتواها يختلف بشكل ملحوظ عن غيرها, ولكن ما حملته كان يعني الكثير والكثير, كان يعني العالم بأسره.

وقف (ساي) بصمت أمامها وكأنه يقابل صديقاً قديماً كان يتشوق لرؤيته, وامتدت سبابته بشغف لتلمس الإسم الذي استقر منقوشاً أسفلها على لوح معدني صغير:





(الـــحــــارس الأعــمــــى)


- إنـــتـــهـــى -


الساعة الآن 10:53 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
هذا الموقع يستخدم منتجات Weblanca.com
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

Security team