الموضوع: بَنِي الحِمْر
عرض مشاركة واحدة
قديم 07-10-2020, 08:32 AM   #4
Ren‏
عضو جاد
عِزْرَائِيلُ
عضو مقاوم


الصورة الرمزية Ren
Ren غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 605
 تاريخ التسجيل :  Jun 2020
 المشاركات : 246 [ + ]
 التقييم :  467
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Crimson
شكراً: 0
تم شكره 0 مرة في 0 مشاركة


ا
لمدينة الفاسدة , حيث يسكن الشياطين معًا في لؤم و طغي ..
المكان يعج بالفوضى , المشاحنات ..
بل وهو مُحبب , مرغوب به , ومن لا يلجأ الي طريقة الحياة تلك فما هو سوى عاصٍ .

دخان يتعالى الي السماء مع حركة الهواء , مع أخذ نفس أخر من سيجارته كان يتمشى .. ام بالأحرى القول , يتثاقل في أحد أزقة ديستوبيا المشبوهة , نظرته كانت وكأنها لا ترمي الي الطريق , أما قد كانت ترمي الي البارحة ..

- آه يا ضرغام .. لما قد زججتني معك بكل هذا ؟ ألم يكفيك ما قد مررنا به من عشر سنوات ؟ ألا يكفيك شيئًا ؟ أنا لا افهم , الي إين تنوي الذهاب ؟

أغلق عيناه آخذًا نفسًا أخر من سيجارته , أما وعلى عكس ضرغام -- فركيك ليس مقتنعًا بمبادئه الخرافية , وأما الشياطين ولدت لتكون شياطينًا , ولم يُفكر ركيك بغير ذلك.

لم تجاور عيناه أي مار , ولم يهتم بمن قد سُرق بجانبه , ومن قد ضُرب ..
فهذا روتيني , وهذا ليس من شأن ركيك .

كان يتثاقل بساقيه النحيلتين , إلا و بعيناه تلحظ أحد الشياطين تضرب أحدهم ,, بقسوة , و بعُنف .

أغلق عينيه , لينفخ نفسًا أخر من الدخان ناظرًا الي الدخان وهو يتصاعد بينما هو يفتح عينيه , لم ينوي التدخل ,

إلا وبتلك المشاحنة - أو يجدر القول , أحدهم يمسح بالأخر الرصيف
تصطدم به .
صدمة خفيفة, لم توقع بالسيجار حتى -- إلا انهما قد تعرقلا بكتفه .


تغيرت تعابير ركيك السارحة , إلي ما حدج بعينيه .. تماشى بخطوات ثقيلة الي الشيطان المطيح بالأخر ارضًا , و أطفأ السيجار بإشتداد على أسفل خلف رقبته , ألم الحرق وحده كافي كي يوقظه من نوبة العنف التي دخل بها مع الأخر .

صارخًا متوجعًا , إلتفت الشيطان الي ركيك -- حاملًا نظرة جامحة , حتى قابلت عيناه حدة عيني ركيك .

- من يجرؤ على ..

- لقد دفعتماني.

- أتتمنى ان تصبح بمكانه ؟

- .. ربما ؟

تبًّسم ركيك , متراجعًا خطوات قليلة .. موشحًا بكتفيه كما وكأنه يعطي دعوة للأخر بالتقدم والإطاحة -
وعند علامته , فعل الأخر و بدأ بالتقدم إلي إتجاه ركيك , تنهد ركيك وهو يرمي سيجاره الي الأعلى ,
وهو يلوح بقدمه على الأرض ليسقط الشيطان الهجمي توازنه .. كما ضغط على وجهه بمرفقه أثناء وقوعه .. ضربة حرجة , بمجرد ان صدمت رأسه بالأرض , علم إنه لن يستطيع أن يستفيق بها مجددًا -- وكأنه فقد التحكم بجسمه , بالرغم من أنه لا يزال واعيًا .. إلي ان وقعت السيجارة على وجهه, وبالرغم من أن الهواء قد أطفأها مسبقًا , إلا أن ألم الذل كان أصعب من الحرق و ركيك يطفيء السيجار بقدمه من على وجه الشيطان الواقع ارضًا ..


- أنت حتى لم تحاول لمسي , أتستهين بي ؟

إشتد في ضغطه على وجهه بقدمه .

- أهذا ما تفعله ؟ أهذا ؟

إشتد أكثر , حتى رفس جمجمته بسن قدمه .

- مستجد متباهِ .

تركه بعدما تأكد أنه فاقد للوعي الأن , وتقدم للأمام بخطوات متثاقلة ..

إلي الشيطان الأخر المطاح ارضًا , السابح في دمه -- الكدمات على وجهه تتكلم أكثر من صوته , و الخوف على وجهه مع كل خطوة يقترب ركيك بها لم يساعد .

أخفض ركيك من وقفته قليلًا , و هو يُحكم قبضته .

- هو لم يدفعني وحده , أتعلم ذلك ؟

تحدث محذرًا , وهو يرفع قبضته ويدفعها بإستفحال على الأخر ..

حتى تقلص الشيطان المضروب خوفًا , واضعًا ذراعيه امام وجهه بشكل عشوائي .. ناظرًا للأسفل , منتظر الي اللكمة الموجهة اليه ..

لكنها لم تأتي .
تسمرت قبضة ركيك وهي أمام وجه الشيطان المرتعد خوفًا , مع تعابير ركيك المصدومة منه نفسه ..

لكنه لم يقدر على فعلها .

غير من تعابيره سريعًا الي تعابير شاحبة حادة

- تلك الكدمات .. لم يسببها هذا الهاوي وحده , أليس كذلك .. ؟
لقد تجمعوا عليك , عدة منهم ..

لم يستطع الشيطان النطق خوفًا , وإكتفى بإيماءة سريعة دون أن يحدث أي تقابل لعيناهما.

- إعتبر هذا تحذيرًا .. وفي المرة القادمة التي تتحشد عليك عصابة ما , حاول ان ألا تصطدم بي ..



ولن أضربك معهم .


موحيًا بأنه سيضربهم بكل الأحوال , لم يرد ركيك الإعتراف بما أقدم عليه الأن , باصقًا على الأرض من جانب الشيطان المرتعد , أعدل من وقوفه وهو يرحل ..


- آه يا ضرغام ..

و قد قام بإشعال سيجارة أخرى .

- أنا أصبح ناعمًا مثلك .
نافخًا للدخان امام وجهه , عيني ركيك لم ترى سوى الدخان طوال حياته ..
وإن كان هذا إشارة لعادة ركيك في التدخين , وأم بجهله بما حوله ولا مبالاته .

إلا أن هناك شيء واحد مؤكد منه الأن .
ركيك لم يعد يعرف من هو بعد .


متعبًا , تنهد ضرغام سائرًا بدوره في أحد الشوارع .. التي تعتبر هادئة قليلًا مقارنة بأخوتها من الشوارع الموحشة.

توقف أمام أحد لوحات إحدى المتاجر , دكان صغير لشراء التبغ و أنواع السيجار ..
و إن كان ضرغام قد أقلع عن التدخين , إلا أن قدماه سارت الي إتجاه الدكان - عيناه تحوم , باحثة عن شخص بعينه , حتى وجدها -- إمرأة قد تبدو مسنة قليلًا , إلا أنها بصحتها -- حسنًا , بعيدًا عن نفسها الثقيل من كثرة الدخان ,


" هه , وإن لم يكن ضرغام بنفسه ليدنس هذا المكان ! "
قالت المرأة , ذراع على ذراع - متضاحكة على دخول ضرغام المهتريء ,
تبسم ضرغام بدوره وهو يحك خلف رأسه ..
" اهلًا يا سيدة لامسة .. "

" هاه ! " شهقت لامسة متعالية , " سيدة ؟ " ناظرة إليه من الأسفل , وكأنها تفحصه بشكل ساخر
" تهذيبك هذا قد يؤول لك بالكثير من المشاكل , يا ولد . "
صرحت بذلك , لكن متأخرًا قليلًا -- ضرغام قد تعلم هذا بالطريقة الصعبة , بالفعل.
أشعلت سيجار بدورها مع تنهدها ,

جلست نافخة لدخان سيجارها وهو يتلاشى في الهواء ..
لتخرج واحدة أخرى , لتعرضها على ضرغام الذي رفض قائلًا أنه مقلع عن التدخين ..

" حقًا؟ اذن قطعت كل تلك المسافة فقط لكي تقول مرحبًا ؟
انت غريب ياولد . "
" أتعلم .. أنت تذكرني بفتى ما , بالطبع لم يكن بكل هذا التهذيب - لكن بطريقة ما , لديكم هالة مشابهة .. "

شرد ضرغام سارحًا بتلك الكلمات .. عيناه توسعتا كما لو كان لا ينظر إليها بعد الأن .. بل الي شخص أخر , شخص ليس موجودًا بذلك الدكان .

يدور بنظره الي الجدران الأربعة بالدكان .. الأثاث , كل شيء ..

وكأنه يحاول تخيل صورة معينة .. وعندما أتت إليه .


صورة .
صورة خافتة مرت على عينيه كالومضة , بل و أنها قد آلمت عينيه أكثر من ألم الومضة -- شخص متبسم , ضاحك -- لا يمكن رؤية عينيه , فالشعر الأبيض الطويل الذي أحمله يغطي معظم جسمه , و الصورة المبهمة لا تُساعد ايضًا .

بل ما قد يُساعد هو التعبير الذي ترسَّم على وجه ضرغام , تعبير من الصدمة , رجفة أعتلت وجهه , عقدت حاجبيه و شلت عيناه , حتى تيقظ لصوت , صوت أنثوي ..

" ضرغام ؟ "

تلاشت الصورة أمامه , حتى تبدل الأبيض بالأزرق ..

فتاة ذات عينين زرقاوتان , شعر أحمر مصبوغ أطرافه بالأزرق .. ملابسها الفاضحة المعتادة , و أما من قد تكون غيرها .

" مساء ؟ "

الجانحة القديمة , رفيقة ضرغام التي لطالما أعجبت بشيطانيته و سوء تعامله , الي جانب فساده و حياته الخطرة ...

والتي ايضًا ظنت أنه لم يعد حيًا .

" اذن قد كان انت من البارحة .. "
ذكرت بهدوء .. قبل ان تبتسم , إبتسامة متعجرفة واثقة و كأنها تقول له انها عرفت ذلك.

" أنت لازلت حيًا , و كما على سابق عهدك ايضًا ! "

سابق عهدي ... ؟
أكانت هناك البارحة ... ؟ صحيح ..
ركيك ذكر ذلك .. لكن , سابق عهدي ؟
لا , مساء -- انت مخطئة , انا لست ضرغام , انا لست من تتحدثين عنه !
صور متفرقة بدأت تومض أمام عيني ضرغام , صور كان يحاول إحراقها منذ سنوات .. لكن أيمكنك حرق الذكريات ؟

هو ومساء , يضرب هو بعض الحمقى في أزقة الشوارع , بينما مساء تستعملهم كمطفأ لسجائرها ..

هذا الضرغام لم يعد موجودًا .. انا لم أهاجم هذا الشخص فقط لأجل المتعة من ذلك ! ... انا ... انا ..

" لكنك بدوت مستمتعًا حقًا , يا لك من أناني , لم تدعني ! " عبست مساء بتلاعب , وهي تكمل حديثها ..

مستمتعًا ؟ ... انا ... بدوت مستمتعًا ؟
..
انا لم اهاجمه لأجل المتعة.
ألم أفعل ؟
لقد كنت انقذ الطفل ..
صحيح؟

" أعني , مستمتعًا حتى بدوت مرتعبًا و ركضت بعيدًا عن الحشد , كان هذا محرجًا , ما كان هذا ؟ أسلوبك الجديد ؟ تضرب الأشخاص و تهرب امام اعين الجميع ؟ أعني , إنه غير تقليدي -- و سيتخذ الجميع وقتًا ليعتادوا عليه , في البداية ظننت انك أصبحت جبانًا ثم قلت يا فتاة هذا ضرغام من تتحدثين عنه , من المستحيل ان يكون جبانًا , إنه , كأروع الشياطين في العالم , ليس شيئا جديدًا , انت تعلم , فلقد امضينا الكثير من الوقت مسبقًا نقوم بعدة اشياء كتلك مث-- "

لم تتوقف مساء عن الثرثرة ,
كسابق عهدها , ظن ضرغام ..

لكنه لم يرد حقًا اي شيء يفعله مع مساء , ليس بتلك الأيام .. ليس بعد الأن.

" شكرًا يا سيدة لامسة . " تفوه ببرود , سائرًا بتثاقل الي الخارج ..

لم تلتفت مساء الي لامسة حتى , بل لاحقت ضرغام مباشرة الي الخارج ..

مما جعل لامسة تضحك , وهي تأخذ نفسًا اخر من سيجارها ..

" يا رجل .. روح واحد كان كفاية "

..

- أنت تعملين عند السيدة لامسة ؟

تسائل ضرغام عما بذهنه , يسير بأتجاه واحد -- خطواته ليست بسرعة خطوات مساء , لذا من الواضح ان مساء تبطء من نفسها كي تجاريه في الصف .

- أعمل .. ؟
توقفت للحظة وهي تشير بأصبعها السبابة على شفتيها , لامعتان وإن كان بأثر نوع من مساحيق التجميل ..
- أظن ذلك , لقد كنت أسرق التبغ منها بشكل روتيني حتى تصاحبنا بشكل ما , أنا لا اساعدها .. انه فقط المكان التي ادخن به عندما لا أرغب التعامل مع شياطين شبقة مزعجة .

أكملت حديثها بعفوية وهي تمشي أمام ضرغام ببضعة خطوات , لم يفكر ضرغام بكلامها كثيرًا , فهذا كان اعتياديًا من مساء ..

- اذن , اين كنت ؟

كسرت برودة الحديث مساء , تغيرت عبسة ضرغام الي تعبير من التفاجؤ الخافت ..

اين كان ؟
هو حقًا .. لا يعلم ؟
لقد كان موجودًا , لم يذهب لأي مكان .. لكنه بنفس الوقت , لم يكن هناك؟

- مسافرًا ؟ خارج المدينة ؟ بالأول ظننت هذا لكني قلت لا , ليس ضرغام من قد يجد مكانًا أفضل من ديستوبيا , أعني الرحيل من هنا ممنوع ايضًا لذلك فكرت بذلك , لذلك ظننتك قُتلت او شيئا ما , فهذا كان على الأرجح ما كان سيحدث لك , لأكون صادقة -- انا متفاجئة انك نجوت الي هذا السن , هاه ! لم يخطء أحد بك , انت حقًا شيطان ديستوبيا الأحمر .


..
لست كذلك.
انا لم أعد كذلك.

- أنا لم اكن في أي مكان .

- حقًا ؟ لكني لم ارك مطلقًا .. فكرت ان اذهب الي منزلك لكن كما تعلم .. عند اختفاؤك , ينتابني شعور اني مراقبة بكل مكان .

انت مراقبة لأنك كذلك , لا تلوميني على ذلك ! انا لست مقرر بحمايتك !

..
- لم اذهب لأي مكان , فقط توقفت عن عمل العصابات عديم الفائدة .

لكن لماذا؟
لماذا يا ضرغام ؟
..
" أشعرت بذلك ؟ "

صوت رن في أذني ضرغام -- علم انه ليس حقيقي , لكن لم يمح ذلك إرتسامة الرجفة من على وجهه ..

- عديم الفائدة ؟ أحدهم ينضج حقًا .

تضاحكت مساء مداعبة الي ضرغام , الذي لم يرد بل أشاح بوجهه بعيدًا حتى بدأ ذلك بإزعاج مساء ..

- أنت ! ما بك ؟!

لم يحرك ضرغام رأسه , وكأنه يجبر نفسه على عدم إحداث أي إتصال بعينيها ..

- أنت لم تنظر إلي ولا لمرة منذما تقابلنا , ما مشكلتك ؟! ألم تفتقدني ؟ لقد مرت عشر سنوات أيها الوغد !

لم يغير ذلك من مرمى عيني ضرغام ,

بينما مساء الغاضبة تصب ما بداخلها عليه ..

- ما مشكلتك ؟! عشر سنوات .. عشر سنوات كل يوم أنام بجانب شيطان أخر ولا أرى سواك , أغلق عيني ولا أتذكر سوى نظرتك و أنت تسحق جماجم بعض الحمقى في الأزقة والحواري .. و هذا ما تفعله عندما تراني ؟! لا تنظر إلي حتى , بل تتركني وتمشي ؟


أنت لا تفهمين.
انت لا يمكنك فهمي ..
انا لم أعد ضرغام الذي تريدينه .

- ما الأمر , ألم أعد محمسة لعينيك بعد الأن ؟ , هيا , حتى انا أعلم ان هذه كذبة -- يتمناني أي شيطان من على بعد أميال .

تساقطت مساء بحديثها , بنغمة مداعبة كما تعضضت شفتيها محدثة الي ضرغام -- تنظر إليه وهو على علو منها لطوله , منحنية في وقفتها لتظهر له ما قد يشيح عنه .

- هذا ليس الأمر , يا مساء !

ومع الخجل الخفيف الذي إعتلى وجهه , فلا شيء من هذا لم يره ضرغام مسبقًا .. لكن بعد كل هذا الوقت , فكان الأمر محرجًا قليلًا , على بصوته ليصرخ في وجه مساء .

- انا خائف , انا خائف من ما سيحدث إن نظرت إليكِ ! هل سأشعر كالسابق ؟ هل سأعود للشخص الذي كنت عليه ؟! انا لا اعلم .. انا لست ضرغام الذي تبحثين عنه يا مساء , هذا الضرغام مات ولم يتم دفنه حتى !

تثاقلت أنفاس ضرغام متسارعة بعدما باح عما حبسه بنفسه , وليس لمساء فقط .. بل لنفسه ايضًا .

إنه خائف , هو فقط كذلك .
مساء كانت محقة , إنه جبان .

لكنها كانت اول مرة ينظر ضرغام الي مساء منذما لقت عيناه عيناها من قليل.
ولقد كانت أجمل مما مضى , تنظر اليه وهو يصرخ بوجهها بتعبير وجه حائر ..
شعرها الأحمر , ملونة أطرافه بأزرق آتي من المحيط - وإن كان المحيط شفافًا ,
عيون زرقاء لامعة من الإرتباك , جسدها وكأنه قد رسم على لوحة فرنسية قديمة وبعث بها الحياة .

وبالرغم من ذلك.
هو لم يشعر بأنه تغير.


سكتت مساء للحظة , قبل أن تأخذ نفسًا عميقًا مهمهمًا .. ساندة بذقنها على يدها اليمنى , يدها اليسرى على خصرها وكأنها تُفكر بشيء ما , حتى همهمت قائلة :

أنت محق .. حتى انا لاحظت ذلك , أنت لم تعد أنت منذ خطفك هذا الوغد داغر .

..
داغر .
إسم لم يرغب ضرغام بتذكره , صور في عقله دفنها منذ عشر سنوات ..

- ماذا حدث يومها , يا ضرغام ؟

..
ماذا حدث ؟
..
" إنها قصيدة , وكأنها .. إستغاثة للمساعدة دون ان تقول صريحًا . "

سكت ضرغام عن الحديث بعدما أمسك برأسه من الألم الذي اصابها بمحاولة التذكر , ناظرًا الي قدميه في غضض ..

- لا يجب عليك القول .

هاه ؟

- لقد كنت أعلم أنك حي , لقد كنت أعلم انك موجود .. انا فقط تمنيت أن تبادر انت بالحديث , عشر سنوات يا ضرغام , عشر سنوات -- وانت لم تتغير البتة , لازلت باردًا كما أنت .
انا .. لم أتغير ؟
كيف ؟ عم تتحدثين ؟
..

- أنا أعلم اين يمضي داغر و رفاقه الوقت , إن أردت الذهاب اليهم .

رعش جسد ضرغام ردًا الي الفكرة , تحسس على خده الأيمن كما لو كان يسترجع احساسًا لم يفقده على طول سنوات عدة مرت في الواقع ولم تمر في عقله , سنوات مرت و تغير فيها الجميع إلا هو , بقي متحسرًا على رماد لم يعد موجودًا , بقي يبحث عن نور لم يكن له اي أثر من البداية , بقى يتنظر زيارة وجه معين له لشخص لم يعد له وجود , راغبًا بسماع صوت إنقطع من عشر سنوات .. راغبًا بفعل شيء تمنى فعله منذ عشر سنوات .

إبتسمت مساء .
فهي تعرف تلك النظرة التي إعتلت وجه ضرغام .
نظرة ضرغام القديم .
ضرغام الذي , وبالمناسبة ...


لم يذهب الي أي مكان .


..

خلف أحد البنايات المهترئة , وما قد يبدو كفناء خلفي ضيق يجلس به بعض المنتشيين من مدمنين المخدرات و غيرهم , مع خطوة أخذها ضرغام للأمام أخافت جرذ متخبي بأحد كسور البناية ليركض مرتعدًا , مشي ضرغام ناظرًا للأمام مع مساء , المبتسمة وهي تتمعن وتفحص في وجهه من خلفه ..

و إن لم يكن هذا كافيًا ليوضح الأمر , فأن مساء سعيدة .
سعيدة لما ذكرها هذا الموقف بمواقف اخرى مضت ..

هي وضرغام , يبرح ضرغام أحدهم ضربًا بينما مساء تضحك بصوت عالٍ على المشهد .

خطى ضرغام الي اين يقبع داغر و عصابته , يدخنون أنواع الهيروين كالعادة .. و لا ضرر في قول ان بعضهم كان منتشٍ بالفعل , نظراتهم جميعًا إلتفتت الي ضرغام وهو يمشي ببطء وتثاقل .. فأي شخص يدخل هنا يجب ان يكون أما مخبولًا , ام ذي ميول انتحارية ..

كان داغر هناك , يجلس على أحد الصناديق يدخن بدوره .. تمعن بالنظر قليلًا لمن يخطو نحوه لكثرة الدخان الذي شوش الصورة إليه ,
حتى رآه , أخذ وقتًا بالبداية حتى تعرف عليه .. لكنه رآه .

- ضرغام ؟

نطق داغر , قبل ان ينفجر من الضحك .

- أنت لازلت حيًا ؟! أيها الجبان المرتعد , ظننتك هربت من الخوف !

لم يرد ضرغام و إكتفى بالنظر حوله , ليقول بسقوعة ..

- لا أرى أي أحد من أتباعك القدماء هنا , أطردوك من عصابتهم ؟

ساخر , قلل ضرغام من داغر أمام اتباعه الجدد مما جعل بعضهم يقهقه ,

جز داغر على أسنانه غضبًا , أما وقد أتى ضرغام ليلقنه الإهانات بعد عشر سنوات , في منطقته ؟!

- يا رجل , لا تجعلني أفعل بك كما فعلت بالأبي--

لم يحصل داغر على رفاهية إكمال الجملة .

فقد قطع أخر خصلة من العقلانية عند ضرغام ...
ولم يشعر بنفسه إلا وقبضة ضرغام تخرسه من فمه , مدخلة السيجار المشتعل لتحرق شفتيه , و التبغ يتساقط على لسانه ..
بدأ داغر بالكحة بشدة , كما قد وجد صعوبة في التنفس من حرفيًا أكله لسيجار مشتعل ...

تأهب بقية أفراد العصابة للنهوض , لكن قبل أن ينطق أحدهم بكلمة رفس ضرغام راغدًا في بطنه مكان يده ممسكًا برأسه ليمنعه من رفعها , ليصعب عملية التنفس عليه أكثر , ليصفعه على خده بقوة .. ضغط , وكأنه كتم تلك الصفعة في نفسه منذ سنوات عدة .

- أيها اللعين .. !

نهض بقية أتباع داغر بعد إنذار متأخر , فصوت تلك الصفعة أدركهم بما يحدث الأن .

حاول صاحب سكينة شوارع بإصابة ضرغام من الخلف , إلا اذ وبضرغام ملتف , ممسكًا برسغه و يدب يده - وسكينه في فخذه بنفسه ! ,
صارخًا بألم , تراجع برجل واحدة -- حاول غيره أن ياتي بعده إلا و بضرغام يمسك بلوح خشبي من الخردة , يكسره على رأسه بنظرة باردة مقيتة ..

شعر الباقي بثقل الجو الأن .
هذا ليس شيطانًا عاديًا .
ضرغام لم يمكن ابدًا واحدًا .
مختلف , موهوب بجسد قوي .. مهارات لا مثيل لها, حدة نظر و قراءة للجو كأنه يقرأ أحد قصائده .. لا احد يفهمها سواه .

فكر أحدهم أن مساء ستكون نقطة ضعفه, فتاة , هدف سهل ..
تسلل الي خلفها و أمسكها , لكنه لم يقدر حتى على الكلام قبل ان غرست مساء سيجارها المشتعل في عينه اليسرى المفتوحة ..

وإن كنت لا تعلم , فألم سيجار مشتعل في عينك أسوأ بكثير مما يبدو .


صرخ ذلك الشيطان كما تركها و جثى على ركبتيه ,
- عيني , عيني ! الا تزال تعمل ؟! هل سأرى بها بعد الأن ؟

- يا لك من وقح .. تلمس فتاة دون موافقتها , حتى هذا ليس من معاييركم .

قهقهت مساء بتعالٍ وهي ترمي حوارها الساخر على الشيطان الذي فقد عينًا للتو بسببها ,
بينما أكمل ضرغام حفر وجه داغر بالحائط ,
مرة تلو الأخرى.
مرة تلو الأخرى.
مرة تلو الأخرى.
مرة تلو الأخرى.

- ما الأمر ؟
ما الأمر ؟
ما الأمر ؟
لم تكن بهذا الأستسلام عندما صفعتني وانا مقيد , لم تكن كذلك !
ما الأمر ؟
ما الأمر ؟

لم يفكر ضرغام بأي شيء , ولم يكتفي بعدد ضربات معين , بل بقي بدفع رأس داغر على الحائط , مرة تلو الأخرى , مرة تلو الأخرى , مرة تلو الاخرى , مرة تلو الأخرى , مرة تلو الأخرى ..

حتى بالنسبة لشياطين ديستوبيا , هذا كان موحشًا .. قاسيًا , وغير طبيعي .

إن كان سيقتله , كان سيفعل ذلك بسهولة , لكنه لا يريد .
إنه لا يريد قتله , إنه يريد ضربه وحسب..
إنه..
يستمتع بذلك.
إنه يستمتع بصوت صراخه , دماؤه وهي تسقط على الأرض , نظرات الأخريين خوفًا منه , إنه يستمتع بكل ذلك.

عيناه فضحت كل هذا.


و مساء لم تمانع ذلك مطلقًا .


عينيه امتلئت بالكثير من الأشياء
كره , حقد , ندم , أسف , تعب , إرهاق , لوم


لماذا ؟
ما الذي فعله داغر ليستحق كل هذا؟

" لأنك شعرت بهذا ايضًا , أليس كذلك ؟ "

هاه .. ؟

لم يستيقظ ضرغام من نوبة غضبه إلا عندما لاحظ نفسه ممسكًا بداغر من رقبته , يدفعه الي الحائط .. ويبدو أنه على وشك خنقه حتى الموت .

- هيا يا رجل , أنا اسف , لن أعبث معك بعد الأن .. كان هذا منذ عشر سنوات , لقد تعلمت درسي .. أرجوك..فقط..أتركني...أرجوك .

ارجوك

" ارجوك "


رآه ضرغام مجددًا .

شعر أبيض مجعد طويل , طويل جدًا ..
لا يمكنك رؤية عيناه , يمكنك رؤية ذقنه .. البيضاء؟
ليست حمراء , لونه ليس من اي درجات الأحمر .
إنه ابيض كالثلج ..
لا .
هذا تشبيه خاطيء .
إنه أبيض كالقمر .


تمامًا كالقمر .


.. " روح ؟ " ..

" ضرغام ؟ "
___________________________________
تخلف جسدي عما كان يجري بذهني ..
بلا توقف أما كنت بجرذ تجارب ؟
أما بي حي ؟ أما بي ميت ؟
أما بك ميت , كيف وانت لا زلت حيًا ؟
حي بداخلي , تراودني , تعرقل كل تحركاتي .
أراك بالقمر , أراك بالمرآة ..
أرى خصلتك البيضاء تعكس ضوء غيري , فما بي
أنا معتم لا بي حول في نور !
أما كيف فعلت ؟ كيف وصلت ؟
أخبرني , أين انت الأن ؟
أيوجد مكان أخر ؟
هل نحن ميتون؟ هل هذا هو الجحيم ؟
كيف يموت ميت ؟
أروح , أتركتني ؟
أروح , أهجرتني ؟
أروح ...
____________________
" ضرغام ! "

فزع ضرغام يقظًا .. هل كان نائمًا ؟ أين هو ؟ ماذا حدث ... أخر ذكريات له مشوشة , لقد كان هناك داغر .. وكان يترجى من ضرغام الرحمة .. و شعر أبيض وصورة مشوشة و و ...


مساء؟
..
ليس بعقله إنها هنا , مساء -- إنها امامه على الأريكة , ترتدي قميصًا منزليًا شبه شفاف, يمكنك بالكاد أن ترى اثدائها و إن كانت غطتهما بطبقة أخرى للمضايقة , فكانت مساء ما قد يتمناه أي شيطان من مجرد نظرة .
وها هي الأن .
أمام ضرغام على أريكة .

- أصحو وأشرق يا حلو .

- .. مساء؟
- .. أين أنا ؟ ما ألذي حدث--أه.

أثناء حديثه , شعر بالألم في رأسه وأمسكها جراء ذلك --

- صه , لا تؤلم نفسك أكثر مما يجب ..
همست مساء في اذناه , كما وضعت أصبعها السبابة على شفتيه

, ما الذي حدث بالضبط أثناء فقدانه لوعيه .. ؟

- لقد شردت في شيء ما , و أصابك أحد اتباع داغر بلوح من الخشب وفقدت وعيك .. لكن لا تقلق , كان واحدًا فقط من تبقى دون ان تسحقه , إستطعت التعامل معه بسهولة ... انا لا زلت على سابق عهدي , أتعلم ؟

تنهد ضرغام بنوع من الراحة لمعرفة أن مساء إستطاعت التعامل , لكن لم يحسن الوضع طريقة جلوسها عليه .. خاصة بعدما وضعت ذقنها على كتفه .

-
- لقد إستمتعت اليوم يا ضرغام ..

- إستمتعي لرؤيتك لبعض الأوغاد يضربون ؟

- لا .. إستمتعت لرؤيتي إليك .

لم يرد ضرغام في المقابل , لكن مساء قدرت على سماع صوت دقات قلبه يرتفع ويتسارع ,

وكالعادة يحاول ضرغام تفادي النظر المباشر في عينيها ..

يا لك من لعوب ياضرغام , ظنت مساء .

- يجب علي النهوض ..
- رأسك لا يزال ليس بحالة جيدة , هيا , إبقَ معي قليلًا ...

سكت ضرغام مجددًا , , لتنظر مساء الي الكدمات و الخدوش المرتسمة على جسد ضرغام ..

- إنها كثيرة .. لقد كنت موجودة في معظمها .

- نعم , حضرتي الكثير من ذلك ..

- لكني لم أكتفي بالكثير , يا ضرغام ..
أردت ان اكون موجودة عند إصابتك بهم جميعًا .
أردت أن اكون موجودة خلفك في كل مرة تنهض بها ..
لكنك تركتني يا ضرغام , لما قد فعلت ذلك؟

نهضت مساء لتقابل وجهه وجهًا لوجه , وتلك المرة , نظر ضرغام لها في عينيها ,

ألتي بدى عليها و كأنها محطمة .

- أنا .. إحتجت الي الوقت .
- الوقت لفعل ماذا ؟ كان بيدك تجميعنا كلنا والذهاب لقتل داغر اليوم التالي .. لما لم تفعل ؟
- أنا .. أنا لا أعلم .

عبست مساء على رده المبهم , لطالما كان مبهمًا لها .. ضرغام.
و
- أخبرني يا ضرغام .. ما الذي شردت به وقتها ؟

- وقتها .. ؟

- أمام داغر , اليوم .. ما الذي شردت به ؟

- .. أنا لا أتذكر .

تضاحكت مساء بتداعب ,

- إذن فعملي هو أن اذكرك ..


- ألا تتذكر , يا ضرغام ..؟ أيامنا السابقة .

سكت ضرغام قليلًا قبل أن يجيب

- كيف لي أن انسى.. ؟

تضاحكت مجددًا بصوت عالٍ ..

- لقد إشتقت لك , يا ضرغام .

و
حسنًا .
أنت تعرف الباقي .
______________

- ماذا سنفعل الأن يا داغر ؟ لا يمكننا ترك هذا الجرذ يفلت بفعلته !
قالها أحد الشياطين في احد الأزقة , وجهه مكدم ولو كان أحدهم ضربه بلوح خشبي -- حسنًا , أحدهم فعل .

رد عليه داغر المغسول بدمائه ,
- بالطبع لن نفعل .. هذا الأحمق بدأ حربًا بيننا ..

انا أعرف أين هو الأن , تلك الفتاة التي كانت معه .. تلك الساقطة مساء .

إنهما على الأرجح في بيتها الأن ..

لذلك ..
لنضرب عصفوران بحجر .
أو بالأصح , لنشوي عصفوران اليوم .

__

لا أدري كم مر من الوقت , و أما من قد يركز في الساعة بوجود شيطانة كمساء بجانبه ؟

أنا أرتدي معطفي الأن .. العرق لا يزال واضحًا علي , وأكثر مني على مساء .

فتحت الباب , حاولت مساء تحذيري من شيء ما لكني فعلت مسبقًا و ..

رأيت طفلًا ,
ليس أي طفل ..
ذاك الطفل , الذي كان على وشك الموت البارحة ..
الطفل الذي كنت بالنسبة له
' بطلًا '

قعر , كان إسمه ؟

- اهلًا يا قع--

- إنه أنت ! الرجل المزعج !

صرخ قعر وركل ضرغام , تمامًا مكان جرح السكين من البارحة -- مما جعل ضرغام يصرخ بدوره من الألم --
ملتفتًا الي مساء النائمة على الأريكة , " ما الذي يفعله هذا الطفل هنا ؟! "

" إنه أخي الصغير الودود قعر , أخبرني البارحة بما فعلته معه .. يا لك من بطل , يا ضرغام . "

تسمر ضرغام قليلًا , ليس لأن قعر أخ مساء .. بل لأن ..

" أنت كنت تعرفين أني لم أضرب ذاك الشخص .. فقط لأجل الضرب ؟ "

" بالطبع كنت أعرف , أنت تغيرت يا ضرغام .. لا أعرف لماذا حقًا , وكيف ..

لكنك تظل ضرغام,
وبالنسبة لي انت لا تزال نفس الشيطان الأحمر المبهم الذي لطالما ازعجني بغموضه .."

..

شكرًا لكِ , مساء .

ربما لم يقلها بصوت عالٍ

لكن مساء فهمتها من عينيه

إنه واضح , بالرغم من غموضه ..
بالرغم من كونه مبهم , خافت , و غير صريح البتة..
إلا أنه واضح .

..

لم يرحل ضرغام من منزل مساء بعد , بالواقع -- دعوته مساء للبقاء الليلة , ليس كأنه يملك مكان أفضل ليكون به , على آية حال.

كان يقف بجانب النافذة .. القمر الليلة أبيض .

أبيض ..


وما بك يا قمري , ابيضٌ بينما أنا اتألم من حمرة دمي؟
أما كان بي مخرجًا , أم اني متاهة وقعت بها بنفسي ؟
ألروحي طريق آمن .. ام هل روحي هي الخطر ؟
أسقطت نفسي في فجوة لا مهرب منها ..
أم كانت ذاتي هي القعر ؟

- لما تذكر إسمي في أغنيتك السيئة ؟

تنبه ضرغام لوجود شخص حوله الأن , واما كان أحدًا غير قعر بن بني الحمر كما نادى نفسه


بل وكان قعر أحمر اللون, ذو عينين حمراوتان وشعر أحمر اللون .. إستحق حقًا اللقب المنادى به , قعر بن بني الحمر .


ضحك ضرغام على جملة قعر , ليرد بدوره

- هذه ليست أغنية , إنها قصيدة .

- قصيدة ؟

- نعم إنها .. كطريقة لتحدث نفسك , دون أن تفعل بالفعل .. إنها كأستغاثة للمساعدة لا يسمعها أحد سواك .

- أنت غريب .

قهقه ضرغام على رد قعر , حتى أكمل قعر بنفسه

- لما تنظر للقمر ؟

- إنه أبيض الليلة .

- واذن ؟

- احيانًا يكون أحمرًا , أليس هذا مثيرًا ؟ كيف يتغير لونه .. من الأبيض للأحمر , ومن الأحمر للابيض .

- لا أفهم , كيف يغير هذا من اي شيء؟ إنه القمر , انه يضيء لنا في الليل -- لونه لم يغير من مهمته.


لم يرد ضرغام من الصدمة .
إنه محق .
لقد ركز على لون القمر طوال الوقت..قد نسي أنه قمر.
إنه لا يتغير , إنه القمر وحسب .
لا يهم ماهو لونه..
إنه يبقى القمر .


..

- أتشم هذا ؟
- ماذا ؟
..

دخان ؟

... - مساء !

كل شيء مشوش الأن , هناك حريق ..
النيران تعلو ولا تنخفض , الحرارة لم تعد تؤثر بهم .. لا يوجد شيء يهم الأن , لا وقت للألم .

مساء تهرول بدورها , ضرغام يحاول إفساح الطريق لها .. النيران تبتلع كل شيء , الدخان يجعل التنفس أصعب , النظر لم يعد سهلًا ,

المهم الأن هو الخروج..

تقف مساء قليلة الحيلة أمام منزلها يحترق , تنظر بتألم بينما يقف بجانبها ضرغام ..

- على الأقل نحن بأمان الأن ..
اليس كذلك ياقعر؟
قعر ؟
... قعر ؟

هرول ضرغام مجددًا الي الداخل , وحتى مع صراخ مساء لمنعه , صراخها وهي تقول له ان الأمر إنتهى -- إلا أنه لم يستطع , لم يستطع وحسب ,

" قعر .. قعر ! "

" أين انت ؟! "

كل شيء مشوش , كل شيء أحمر .. كل شيء محترق , لكن ضرغام لم يأبه , ضرغام لم يأبه لأي شيء الأن .

سمع صوته ينحب , وهرول إليه دون أن يفكر حتى ..

" قعر , قعر ! انت بخير .. "

وقد كان قعر إستطاع ان يحتمي من النيران قليلًا , إلا انها كانت مسألة وقت قبل ان يحترق .

خلع ضرغام معطفه ليبعد النيران عن قعر , ممسكًا بذراعه وهو يركض به الي الخارج -- النيران تكبر , إنها تصبح أصعب , أعلى , إنها جشعة , إنها لا تريد قعر فقط .. إنها تريدهما معًا .

النيران تلحق بهما , لا يوجد حل -- لا يوجد إلا حل واحد .


" قعر , أركض -- سأبعد النيران عنك هنا , و ستركض الي الأمام , هل تفهمني ؟! "

" أركض ؟! وأتركك ؟! هذا مستحيل ! "

" مستحيل ؟! أولست إبن بني الحمر ؟ ألا يجري الغدر في دمك ؟! ألست قادرًا على تركي و الذهاب لتنجو بنفسك ؟ أما بك يا صاحب الدم الأحمر .. أأصبحت ابيضًا ؟ "

تسمر قعر لثانيتين , قبل أن يدير وجهه و يركض , يركض بشعور من البترة .. القسوة ..

لما ؟

لما لا يمكنه الذهاب معي .. ؟
لما يفعل بني الحمر هذا .. ؟

...


" أظن أنه شعر به ايضًا .. يا روح . "

أغلق ضرغام عينيه , و إستلقى على الأرض و ترك النيران تبتلعه ..
فتح جزءًا صغيرًا من عينيه .
رمق بعينيه اليسرى , ليرى أصابعه تتحول لرماد ببطء ..
أليس هذا مضحكًا ؟
شيطان .. من بني النار نفسهم .
يحترق .
يحترق الي رماد .
أغلق عينيه لمرة أخيرة ..


ليراه , يراه أخيرًا .

ما حدث من عشر سنوات .

ضرغام , واقف مع عدة من أتباعه -- عصابته القديمة , لا يستطيع التعرف على أي وجه منهم , جميعهم كانت وجوه مشوشة -- لون أحمر وحسب , لا ملامح ..

إلا إثنين إستطاع تمييزهم , مساء - تضحك عليه وهو يرفس أحد ما على الأرض ,

و ركيك , يكح بسبب محاولته لتدخين سيجارة بطريقة خاطئة .

وثالث .

شاب ذو شعر ابيض مجعد طويل على الأرض ..

- ما الأمر يا روح ؟! الا زلت قادر على التنفس ؟!

ضرغام يضحك بفخر وهو يرفسه كلما حاول النهوض ,

شعره الأبيض الطويل لا يدعك ترى وجهه ..
لكن بإمكانك أن ترى لونه بكل تأكيد.
أبيض .
أبيض ناصع البياض , ليس أحمرًا البتة كسائر الشياطين ..

- أخبرني يا رجل , ما مشكلة لونك ؟ أمص أحدهم اللون منك ؟

.. - قلت لك أني آلبيني ..

*الألبينية : حالة من الأضطراب الخلقي تصيب كل الكائنات في حالات نادرة , لا يملك فيها الشخص صبغة لتلونه مما يسبب جعله ابيض اللون تمامًا .

رد روح بتكسر , بصعوبة -- وهو يلهث في حديثه , ولم يقدر على تكملة كلامه دون أن يتم ركله مرة أخرى من احد رفاق ضرغام ,

تلك المرة -- آلمته خصيصًا , نظر الي ضرغام قبل ان يسعل في الأرض دمًا .

بدأ الجميع بالضحك على مشهده وهو يسعل دماؤه على الأرض ..
الجميع إلا ضرغام .
لأول مرة .
لأول مرة بحياته لم يفعل .
رفع يده ملوحًا لرفاقه بالتوقف عن ضربه , رأى روح ذلك .

- هاه ؟ ما الأمر يا ضرغام ؟

- ... يصبح الأمر مملًا عندما يتكرر كثيرًا , نحن نفعل هذا كل اسبوع , أتركوه وحيدًا , لا يهم .

تذمذم البعض وتذمر , و البعض تململ لكنهم رحلوا على أية حال ..

- ألن تأتي , يا ضرغام ؟

قال ركيك وهو يلوح لضرغام المتسمر من بعد قليل ,

كان ضرغام شاردًا , لذلك أيقظه نداء ركيك و رد ببرودة
- لا .. لدي شيء لأفعله .

..

أومء ركيك راحلًا ونظرت مساء بحيرة , لكنهما قد رحلا بأية حال .

نظر ضرغام الي روح المستلقِ على الأرض , الذي يحاول النهوض -- لكن جسده الضعيف لا يساعده

بقي يحدق به عدة دقائق , حتى إستجمع قوته و إستطاع النهوض .. بالرغم من قدرته على المساعدة , لكنه لم يفعل .

- .. لما فعلت هذا ؟

أول شيء تفوه روح به عند نهوضه , مما سبب ضرغام لرفع حاجبه.

- لما جعلتهم يتركونني ؟

- الأمر اصبح مملًا , لقد قلت بالفعل .

- لو كان مملًا لما كنت ستخاطر بملل أعضاء عصابتك , كنت ستتوقف أنت وحسب ..


لم يرد ضرغام , و نظر الي قدميه قبل ان يتنهد و يمشي عكس أتجاه روح

- كن شاكرًا وحسب .

نظر روح إلي ظهر ضرغام , عينيه ظهرتا أخيرًا .. زرقاوتان كالسماء , لامعتان من الحزن .. وكأنهما يرمزان للعذاب الذي عاشه طوال حياته .

- ضرغام .. شكرًا لك .

تسمر ضرغام مكانه لعدة ثواني , هل شكره حقًا للتو ؟
ماذا ؟ أحد في ديستوبيا يشكر .. ؟ ..

إلتفت له برأسه في عجب و صدمة , وفتح فمه ليقول شيئا -- لكن قبل أن يقدر على فعل ذلك.

كان أحدهم ضربه بقطعة حديدية على رأسه من الخلف.
و أطاح به أرضًا ..

نظر ضرغام كان مشوشًا , لم يسمع سوى صفير بأذنيه .

- أنتم ! ما الذي ... كيف تجرئون !

.. روح ؟

- ياللهول يارجل ماخطب بشرتك ؟ أنت تبدو كالمسخ --

أجاب من ضرب ضرغام -- و الذي كان واضحًا أنه داغر .

- لا يهم بشرتي الأن ! أبتعدوا عن ضرغام و إلا .. !

- هاه ! و إلا ماذا ؟ من تكون انت ؟ أحد اتباعه الغريبين .. ؟

إسمع يا ولد , نحن لا نملك شيئا ضدك , سنجعلك ترحل -- و ستترك لنا ضرغام هنا , و سنتعامل كأن شيئًا من هذا لم يحدث , ما رأيك؟ إنه عرض مغرٍ -إن رفضته قد تخسر حياتك .

..

- انا لن أرحل من هنا .

لماذا .. ؟
لماذا يا روح ؟
لماذا ؟

- اذن لم تترك لي خيارًا اخر .

رد عليه داغرًا .. و أخر شيء سمعه ضرغام كان إرتطام جسد أخر بالأرض قبل أن يفقد إتصاله بالواقع ..



..

...

روح ؟
....

..

لماذا قد تركت روح يذهب ؟
...

آلبيني ؟ من يهتم ..

لما .... ما الذي شعرت به ؟

ما كان هذا ؟

....

إستيقظ ضرغام من حلمه ليجد نفسه في غرفة ضيقة .. أربع جدران ..
مخطوف ؟ لا بد أنه داغر ..

" اصحو و أشرق يا حلو "

بالطبع .. إنه داغر .
داغر أمامه , ينظر الي ضرغام المكبل يداه وقدماه في كرسي ,

- هذا يعلمك ألا تعبث مع سيدك داغر , أيها المتعجرف .

قالها داغر وهو يمسك بخدي ضرغام ليجبره على النظر إليه ,
لم يرد ضرغام سوى بالبصق على وجه داغر ..

- أيها الــ كيف تجرؤ !
غضب داغر من ردة فعله ليرد بصفعة على وجه ضرغام , صفعة قوية .. سمعت في أرجاء الغرفة الخالية بصدى ..

بدأ داغر بالضحك .. أكثر .. فأكثر .. فأكثر ....

على صمت ضرغام لتلك الصفعة .

- لست قويًا جدًا الأن , اليس كذلك أيها الشيطان الأسوأ ؟

- فقط فك قيدي و لن أجعلك ترى النور مرة أخرى يا داغر .

- أوه يا لك من شرس ! انا أرتعد خوفًا ! حرفيًا أنظر ركبتاي ترتجفان !

سخر منه داغر وهو يمثل أنه يرتجف خوفًا بشكل هزلي , حدج به ضرغام بالمقابل ..

- ماذا ستفعل الأن اذن , يا داغر ؟

- أوه لا تقلق يا ضرغومي , أنا أعرف بالضبط ما سأفعله بأكثر الشياطين سوءًا , أكثرها شهرة وقيمة .. ضرغام الساقط !
بالطبع لن أقتلك .. لا فائدة لهذا , -- ليس الأن .

رعشت عين ضرغام كرد فعل على اخر تعليق لداغر ,

- لكني اتسائل كم سيدفع أبويك لكي لا يموت مصدر فخرهما الوحيد بين القبيلة .. آه كم انا متأكد أنه الكثير .

- لن يدفع لك احد شيئًا .

- صمتًا !

صرخ داغر , هذا الرجل مجنون وقد فقد عقله بالفعل ..
- انا من أقرر ماذا يحدث هنا منذ الأن , أنت لا تملك شيئًا لقوله ! لا انت .. ولا صديقك بياض الثلج.

قشعر ضرغام على سماع ذاك اللقب ,

- أين هو روح ؟ لما أخذتم روح ؟
بدأ الأمر يظهر .. ضرغام قلق .
لما هو قلق؟
هذا غير منطقي .
لما قد يهتم ؟
هو لا يهتم لما ..
من يكون روح ؟

- حسنًا صديقك بياض الثلج النائم قرر ان يكون بطلًا , وطبعًا هذا شيء غير أخلاقي لنا بني الحمر .. لذلك قررت أن اعلمه درسًا قيمًا عن كيفية كونك أحمرًا حقيقيًا .. أوه صحيح , هو ليس كذلك ! فهو أبيض اللون ! أوليس مسخًا ؟

..

- انا لست نائمًا , ولست مسخًا .

رد روح , المكبل بدوره , كرسيه في ظهر كرسي ضرغام بالضبط , ولهذا لم يلحظه من البداية .

- أنا آلبيني , إنها مشكلة في الجينات .

- أوه انظروا الي هذا ! البطل إستيقظ ! لقد إستيقظ بل ويرد أيضًا ! انه يظن نفسه مهمًا .. اليس ذلك لطيفًا ..

تباطء داغر بحديثه وهو يسير دائريًا كي يصل الي روح , همس روح مع سماع خطوات داغر الي ضرغام .

- إنبطح عند إشارتي .

و قبل أن يستطيع ضرغام الرد -- كان داغر يسدد لكمة على وجه روح , إلا ان روح قد إنبطح مع صوت يوحي بالإشارة -- مما سبب ضرغام بالإنبطاح ايضًا , فإمتدت ذراع داغر في الهواء ليفقد توازنه و يصدم أسفل ذراعه بالكرسي , جاعلًا ذقنه قريبة كفاية لرأس روح كي يضربها برأسه , مسببًا كدمة خفيفة الي داغر .

..

- أيها الجرذ.. كيف جرت لك نفسك ..

كيف جرت لك نفسك !

فقد داغر أعصابه , وبدأ بصفع روح , مرة تلو الأخرى , تلو الأخرى , تلو الأخرى , تلو الأخرى ..

لكن روح لم يبدي أي نوع من أنواع الألم ..
بالواقع لقد بدى..
يشعر بالملل.
وكأنه معتاد على ذلك .

..
بدأ يشعر داغر بعدم الإرتياح لردة فعل روح , حتى توقف وهو ينظر له متعجبًا -- بل و قليلًا خائف .

- سأحرص على تعليمك درسًا خاص ..

وإلتفت الي ضرغام قائلًا
- صدقني يا ضرغام , انا لن اسلمك لأهلك كما انت الأن .. هناك الكثيرون يكرهونك , والكثيرون مستعدون على الدفع فقط ليأتوا هنا لإبراحك ضربًا وانت مكبل , سأصنع حفلة وستكون انت البيناتا , يا ضرغام .

قال تلك الكلمات و اشار لتابعيه الأثنين الذان كانا يحرسان الغرفة بالرحيل معه , تاركًا ضرغام وروح معًا .. كلاهما ينظر في اتجاه مخالف للأخر , وكلاهما لا يعرف بما يشعر الأن ..


- كانت تلك حركة رائعة , التي فعلتها .
علق ضرغام على ما فعله روح منذ قليل .

- أتقصد إنضمامي معك الي قضية الإختطاف تلك رغمًا من أن كان يمكنني تركك لتهلك هنا وحدك ؟

تعليق ساخر كان رد روح ,

- لا انا .. لقد قصدت حركة الإنبطاح تلك لكن حسنًا , هذا ايضًا .

قهقه روح بخفة على توتر ضرغام -- جانب لم يراه من شخصية ضرغام ابدًا , فكان له دومًا الشخص الذي يبرحه ضربًا فقط لأجل لونه الأبيض ..

- لما لم ترحل وحسب ؟

- لا أعلم .. أظنني فقط .. شعرت بشيء .

- شيء ؟

- ألم تشعر به ايضًا يا ضرغام ؟ الشيء الذي جعلك تتركني .. ألم تشعر به ؟

سكت ضرغام قليلًا .. شيء؟ شعر به .. ؟
.. إنه محق.
لكن ماهو هذا ؟

- ... انا لا اعلم عما تتحدث عنه , لقد تركتك فقط لأني شعرت بالملل.

- هيا ! بإمكانك أن تكون صريحًا معي .. هذا على الأرجح سيكون أخر أيام حياتي , هؤلاء المتعجرفون سيسمحون لك بالرحيل لأنهم يعرفون تمامًا ثمن قتلك , أنت الشيطان الأعظم .. لكن انا ؟ انا بالكاد اصنف شيطانًا , سيتسلون علي في وقت فراغهم حتى أموت .

تسمر ضرغام من كلمات روح , إنه محق , إنه محق تمامًا ..

روح قد القى بنفسه لحتفه فقط لأنه شعر بشيء مبهم.

من قد يفعل ذلك؟
من بالعقلية الصحيحة قد يفعل ذلك ؟

- .. لقد شعرت بشيء غريب .

لا يمكنني وصفه , إنه كما لو كنت .. كما لو كان لوني إختلف لبضعة ثوان.

- لونك ؟

- نعم كأني .. أصبحت ابيض اللون , أو شيء ما -- انا لا اعرف يا رجل , ما كان هذا ..

ضحك روح على سذاجة تشبيه ضرغام ,

- انا لوني ابيض , ولم اشعر بأن لوني تغير .. ألهذا لأنه لوني بالفعل ؟

- لا أعرف يا رجل .. الأمر معقد , أنا شيطان -- لا ينبغي علي أن أفعل شيئا كهذا .

- أحيانًا نظهر الواننا الحقيقية في لحظات معينة يا ضرغام , وليس من الضروري ان يكون لونك الحقيقي هو لون بشرتك ..


..

ليس من الضروري .. ؟
لوني الحقيقي .. أيقصد الأبيض ؟
...
لكني بن بني الحمر ..

..

سكت كلًا من ضرغام و روح لفترة قليلة من الزمن , حتى كسر روح الزمن وهو يسرد أبيات من الشعر ..


و إن كان لعزرائيل ميعاد معي , فأما بي لا أحب المتأخرين .
يا من سرت على درب حزين , ألي أين وصلت سوى للأخرين ؟
عشت مدمعًا على لبن مسكوب -- إلا وبالزجاجة كلها أمامك ولم تنظر !

- ما هذا الهراء الذي تدندن به ؟
قاطع ضرغام أبيات روح بتساؤله بوقاحة , مما جعل روح يضحك مجيبًا

- إنها قصيدة .

- قصيدة ؟

- نعم .. إنها كأغنية بلا موسيقى , لا يفهمها احد سواك على الأغلب ..

- لما قد اقول شيئا لا يفهمه أحد غيري؟

- الأمر كأنك تحدث نفسك دون أن تشعر بالجنون .. كأستغاثة للمساعدة لا يسمعها أحد سواك .

- أنت غريب .

- ههه , ربما أنا كذلك.
لكن القصائد كانت وسيلتي في البقاء حيًا حين لم أرغب بذلك إطلاقًا ..

...
سكت ضرغام على إشارة روح لميوله الأنتحارية , لم ينبغي له ان يشعر بأحساس سيء لذلك -- لما هو يفعل ؟
ما الذي يشعر به ؟

- كيف كنت تعيش يا روح ؟

- والداي تركاني منذ صغيري خوفًا من لوني , ظنوا أني لست شيطانًا .. مسخ , او شيء كهذا , عشت على السرقة من هنا وهناك , نمت أينما أستطعت -- حتى في يوم أمسكتني أمرأة صاحبة دكان سجائر وانا اسرق منها , كنت صغيرًا حتى ولم أعرف كيف ادخن , لكني ظننت أنها تبدو شيطانية وقد تجعل الأخرين يتقبلونني !

ضحك روح بصوت عالٍ وهو يحكي قصته , ليكمل

- أمسكتني تلك السيدة و أجبرتني على تنظيف المكان .. يومها نمت من التعب في مكاني , وهي لم توقظني لتطردني .. بل تركتني أنام وحسب ..
أتيت اليوم المقبل لأسرق تلك السجائر مجددًا , لتمسكني , و تجعلني انظف .. كي أنام بنفس الطريقة ..
تكرر الأمر كثيرًا .. حتى اصبح اعتياديًا .. جعلت لي سريرًا , و قالت لي أني لست بحاجة للتنظيف .. فهي تحب المكان متربًا , و جعلتني أنام وحسب ..

- ... لما قد يفعل أحد هذا ؟ لما وفرت لك مكان للنوم لما .. انا لا افهم ..

- لم أفهم بالبداية ايضًا .. لم أفهم حتى اليوم ..
ربما هي شعرت بذلك الشيء ايضًا , يا ضرغام .

ذلك الشيء الذي شعر به كلانا .

ربما هذا هو .

...

- شعرت بشيء هاه ...

قاطع حديثهما صوت داغر المتعال وهو يدخل , مناديًا

- هل أنتما مستعدان ؟

ضحك ضرغام على تلك الجملة , ليرد
- هيا , إفعل أفضل ما لديك -- أقتلنا , نحن لا نهتم , قد عشت حياة عظيمة كفاية لتجعلني راضيًا بالموت , وهذا هنا عاش حياة تعيسة كفاية لتجعله راغبًا بالموت -- نحن لا نهتم !

جز داغر على أسنانه قبل أن يكمل كلامه

- قد أتى اول زبون لك , يا ضرغومي !

شاب نحيل يرتدي أسود , قبعة سوداء , قناع أسود ونظارات شمس -- لا يمكنك رؤية وجهه حتى !

- يقول أن أسمه هو كريك , وقد أتى مخصوصًا لكي يبرحك ضربًا -- يبدو خطرًا جدًا , أنت تعبث دومًا مع الأناس الخطأ يا ضرغومي !


كريك .. ؟ انا لم أعبث يومًا مع شخص يدعى كريك--او هل فعلت ؟ لا أعلم , لن أتذكر أسم كل احمق أبرحته ضربًا ..

أشار كريك الي داغر بالذهاب , بصوت واضح عليه انه مصطنع -- ولكن داغر كان بالغباء الكافي ليصدقه , طالبًا منه الرحيل لأنه يفضل الضرب دون أن ينظر له أحد .

خرج داغر مع إشارته مع بسمة تعلو وجهه من النصر , حتى إقترب كريك من ضرغام أكثر فأكثر

- هيا , إضربني , شوهني -- أنا لا أهتم , أعطني افضل ماعندك.

- يا رجل إهدأ !
همس كريك له .. تعجب ضرغام بالبداية حتى رأى خصلة شعر شقراء منسدلة من تلك القبعة -- كريك ؟

ركيك !

- ما الذي .. لما أتيت هنا ؟!

- سأساعدك ياصاح , هيا - لا يوجد وقت , سيأتون هنا قريبًا

قال ركيك وهو يقطع تكبيل ضرغام بسكين يد , ليمسك بذراعه قائلًا

- يوجد باب خلفي - هيا لنهرب من هنا ..

- إنتظر , مهلًا أنت ! سيخرج روح معنا !

- يا رجل ! روح ؟ من يهتم بهذا الأن , لا يوجد لدينا وقت .

- انا لن أرحل من هنا دون روح .


انا لن أرحل من هنا '

إنتهى الأمر بركيك بالموافقة , وبعد قطع حبال روح -- بادروا بفتح الباب الخلفي الذي تحدث روح عنه , كم هو احمق هذا الداغر , يوجد حرفيًا باب هروب للطواريء في نفس الغرفة الذي احتجز بها هذان الأثنان !

لكن , بالطبع - لم يحتمل داغر لنفسه ليسرق النظر على " كريك " وهو يبرح ضرغام ضربًا -- لكنه لم يرى سوى روح , ضرغام وركيك يهربون بعيدًأ

- يا أيها الــ تعالوا الي هنا ! رفاق !

نادى داغر الي تابعيه وبدأوا بالركض خلف الهاربين , كانت بوابة الهروب تؤدي الي نفق ضيق -- واضح ان مخبأ داغر كان في مكان معزول ,

- لما نحن نهرب ؟! بإمكاننا تحمل هؤلاء الثلاثة , نحن ثلاثة !

- ثلاثة ؟! ما اصابك يا ضرغام , أنت استيقظت للتو من إغماء , لن تقدر عليهم وحدك -- أنا لست الأفضل بالقتال وانت تعرف ذلك , وروح ؟! حقًا ؟ وهم ليسوا وحدهم يا رفيقي , لقد دعى داغر أخرون في طريقهم خصيصًا للنيل منك !

- بالرغم من شعوري بالأهانة لكنني سأتفق مع ركيك في هذه النقطة , لا أمل لنا مع هؤلاء .

أصدر ضرغامًا صوتًا غاضبًا وهو يركض , دليل على فوزهم عليه بالمنطق -- لكن الطريق كان يضيق أكثر و أكثر , وضرغام و روح كانا قادران على الركض بالكاد لأنهم كانا بالفعل مكبلان لفترة طويلة , خصيصًا روح الضعيف جسديًا -- الذي كان ضرغام يحاول مساعدته بالركض !


- يا رجل , أترك روح وشأنه ! يجب أن ننجو الأن

- انا لن أترك روح لقد قلت لك !

- ضرغام , ماذا حل بك ؟! ماذا فعل بك لتتمسك به هكذا ؟!

سكت ضرغام لأنه لم يجد ردًا مناسبًا .. لم يفعل روح شيء..

بل ضرغام فعل ..
إنه فقط..

يشعر بشيء.

- ركيك محق .. إذهب .

- روح أنا لن .. !

لم يكمل ضرغام كلامه , فقد دفعه روح بعيدًا و ركض بإتجاه معاكس الي داغر ورفاقه , أمسك ركيك بذراع ضرغام الذي بدأ بالنداء الي روح , محاولًا مقاومة ركيك لكن دون جدوى -- فهو بالفعل ليس بحال جيدة ..


- انت أخطأت في شيء واحد فقط يا ضرغام ..

انا لم أعش حياة تعيسة لارغب بالموت , لقد عشت حياة حميدة أشكر نفسي عليها ..

و أنت ؟ أنت لم تعش بالمرة ..

لذلك سأعطيك فرصة.
فرصة لتصحح ذلك.
فرصة لتموت بطريقة صحيحة , ليس مخطوفًا من اعدائك ..

فرصة لتعيد كل شيء .

.
..

لكم داغر روح الذي عرقل طريقه , ولم يبتعد -- ظل يأخذ اللكمات , لكن دون جدوى , لم يسقط روح ابدًا , كأنه مصمم على الوقوف وكونه كيس ملاكمة وحسب ..

أمر داغر من الغضب أتباعه بإمساك روح , كل تابع لذراع ..

وبدأ داغر بتسديد كل انواع الضربات لروح ..


وكانت هذه أخر مرة رأى ضرغام روح فيها .



...




لقد خرج ضرغام و ركيك بنجاح , الظاهر أن مخبأ داغر كان على أحد الأنهار -- جلس ضرغام وركيك ليريحا قدميهما فالماء ,


- ركيك .. ؟

- أجل , ضرغام ؟

- لما عدت من أجلي ؟ بني الحمر لا يفعلون هذا .. كان يمكن ان تموت معي .

- لا أعرف .

- لا تعرف ؟

- أعني .. لقد إتبعتك معظم حياتي يا رجل , لم أعد أظن ان الأمر يعود للعصابة والأتباع وحسب .. ظننت أننا .. شيء أكثر من هذا .

- أكثر من هذا ؟! ما الذي تقوله انت !
ضحك ضرغام بمداعبة على كلام ركيك المبهم , ليضحك ركيك بدوره

- هذا ليس قصدي ! انا فقط اظن .. أنني أعتبرتك صديقًا لي, يا رجل .

لم أستطع ترك صديق لي في محنة كتلك ..

- لم تستطع هاه .. صديق .. إنها كلمة جيدة ..

حتى ركيك قد شعر بشيء .

- أتظن ان بإمكاننا صنع قبر لذكرى روح ؟

- قطعًا لا , القبور ممنوعة في ديستوبيا يا أحمق !
..
- نعم .. انت محق.


......



مرت عشر سنوات أخرى منذ وفاة ضرغام في الحريق .

إنه الشتاء , الثلج يتنازل على الأرض ليلونها بالأبيض..

هذا أول شتاء يمر على ديستوبيا في تاريخها , أنها طفرة في الطقس ..

يقف أحدهم أمام ما يبدو كأنه قبر رديء في وسط اللامكان ,لا شيء حوله -- فقط قبر .

يبدو كأنه شاب , ربما في اوائل العشرينيات .. شعر أحمر , عينان حمراء , بشرة حمراء ..


- .. شكرًا لك على إنقاذي .

ياضرغام .



- هاي قعر ! هل أنتهيت ؟! ليس لدينا اليوم بطوله ..! مساء تحرس في الخارج , لا يمكننا تركهها وحدها طويلًا !

نادى على قعر شخص ما , بذقن شقراء -- شعر اشقر مربوط للخلف , ونظارة شمس لا تظهر تعابير وجهه

- الن تأتي لتقول شيئا لضرغام يا أستاذ ركيك ؟

قال قعر بأحترام .. غريب.

- لا يوجد لدينا وقت لهذا , ضرغام يعلم ما سأقوله له , هيا , إذهب !

- حسنًا حسنًا !

تذمر قعر وهو يمشي امام ركيك ..

لكن قبل ان يرحل ركيك , إلتفت الي قبر ضرغام .. و خلع نظارته الشمسية السوداء .


لتظهر عيناه السوداء المرهقة .. المليئة بالدموع , الندم , الحزن , الكثير من المشاعر ..


لقد شعر بشيء ..


" انا افتقدك , يا صديقي . "

...

تنهد ركيك راحلًا ..


..


- انا ايضًا , يا صديقي .

قال ضرغام وهو يقف بجانب قبره ,

- هاي , ليس عدلًا ! انت تحصل على قبر وانا لا ؟!

قالها روح وهو يقف بجانب ضرغام ..

- حسنًا , هكذا هي الحياة , غير عادلة البتة يا روحي .

- هذا غير عادل إطلاقًا !

..

ضحك الأثنان , روح وضرغام ..

قبل ان يسكتا , محدقين في الثلج الساقط ..

- يا رجل .. تمنيت ان اكون حيًا لأشعر باحساس البرودة ذاك .. يا لهم من محظوظين ..

سكت ضرغام قليلًا قبل ان يتفوه بأبيات مكررة قائلًا ..


و إن كان لعزرائيل ميعاد معي , فأما بي لا أحب المتأخرين .
يا من سرت على درب حزين , ألي أين وصلت سوى للأخرين ؟
عشت مدمعًا على لبن مسكوب -- إلا وبالزجاجة كلها أمامك ولم تنظر !

ضحك روح على ترديد ضرغام لأبياته القديمة , ليكمل بدوره .

عشت باحثًا عن ما يكملني , ولو من سحابة شكلت علي ..
فقد كان نفسي أطول من عمري , فيا عزرائيل فلتمن علي !
مررت بك تكرارًا ولم تكن في المنزل , الي من تذهب ؟
الي من تزور ؟ ألست اولى عندك من الغريب ؟
يا عزرائيل أنا رفيقك الوحيد !
انا من سأبقى معك عندما الباقي يزول !

...

النهاية .



وما ايضًا لأقوله ؟ قلت لكم أني سأحكي قصة .. وحكيتها , إنتهت , لا يوجد تكملة , لا يوجد شيء أخر .. ماذا تريدون بعد ؟ نهاية سعيدة ؟ خاتمة ؟ لا يوجد ! لا يوجد اي شيء .. هذا هو كل ما بالأمر ..

كل شيء وكل شيء كما يجب أن يكون ..

حكيت لكم عن ضرغام .. الشيطان اليائس , مساء , الشيطانة المشتاقة , ركيك - الصديق المختلف , الذي بالمناسبة لم ينم بعدما علم بمصرع ضرغام والا داغر جثة تحت قدميه . , قعر - الطفل الغاضب .. روح , الشيطان الأبيض ..

من ايضًا لأحكي عنه ؟ لا أحد !
هيا .. أذهبوا , لقد تعبت بالفعل من تلك الحكاية , يا رجل أنتم كثيرون الطلبات !
هيا من هنا , تابعوا حياتكم .. لا تقفوا عندي ! انا لست بلامسة !



 
 توقيع : Ren




__________________________________________________ ____________________

أولا تراني ؟ =)

التعديل الأخير تم بواسطة Ren ; 07-11-2020 الساعة 01:04 AM

رد مع اقتباس