حل المساء وبدأ الحفل وصوت الموسيقى الكلاسيكية الهادئة تزيين الأجواء الربيعية الباردة، بمساء زينته النجوم تحف البدر الذي توسط السماء بهيمنة آسرة .
دخل الخادم يعلق بدلة جديدة فاخرة وحذاء : سيد آدم .. هذه هدية السيدة لك لترتديها في الحفل .
حائراً سأله بلا ارتياح: لكن .. لدي ملابس بالفعل ، لست بحاجة لأخرى .
وكزه فيليب مؤنباً : إنها أوامر العمة لايمكن أن ترفضها .
_ لكني لم أعتد ارتداء شيء فاخر كهذا ، لن أكون أنا إن كان همي الوحيد إرضاء البشر ، لن أغير من حقيقتي لأجل أحد البتة .
_ لاتكن صعباً يافتى ، جربها لن تخسر شيئاً.
التفت له بحزم مجيباً: سأخسر هويتي .
تأفف فيليب بضجر : رجاءاً لاتثر المتاعب ، إنها مجرد قطعة قماش أخيطت لترتديها في مناسبات كهذه ، لم المبالغة لست أفهم .
جلس على الفراش بضيق معتذراً: لا أريد وضعك بموقف صعب فيليب ، لذا سأبقى هنا ريثما ينته الحفل .
_ كم أنت عنيد ، العمة لن تغفر هذا حتماً .
_ لم لاتفهمني فيليب إني أرجوك لا أشعر بالارتياح لهذا الأمر.
تنفس الآخر الصعداء وجلس بجوار رفيقه يخاطبه بهدوء وصبر : حسناً .. سأحكي لك قصة ولتفكر بعدها وتقرر ، وأعدك أني لن أحاول مجدداً اقناعك.
_ كلي آذان صاغية .
_ إنها قصة خاصة وسرية ، ليس الكثير يعرفها ،كما يحظر تناقلها ، لكني سأخبرك بها لأني أدرك أنك أهل للثقة ، ولن تخبر أحداً مطلقاً.
أومأ إيجاباً بامتنان : شكراً لثقتك فيليب ، أقدر هذا حقاً.
ربت على كفه مبتسماً وابتدر الحديث بهدوء: جدي الأكبر كان سيد هذه العائلة ، توفيت زوجته باكراً ولحق بها وهو في الستين من عمره ، كان له ابناً وابنة فقط .. الفتاة هي عمتي ، ولقد تزوجت من رجل ثريٌّ للغاية لم تعش معه طويلاً ، أما جدي فتزوج فتاة ريفية بسيطة ، كان ثرياً ولكن ليس كما هي الحال مع عمتي ، اقتسم كليهما الإرث بعدل ، لكن خلافاً حدث بينهما لازلت أجهل سببه وسمعت أن عمتي بعد ذلك الخلاف تركت المنزل مع زوجها وأصيبا بحادث سير ، توفي زوجها وهي أسقطت جنينها الذي لم تكن تعلم بوجوده وقيل أنها لم تعد قادرة على الإنجاب مجدداً ، ولذلك حل الخصام بين الأخوين وهي تحمله إثم ماجرى دون حق .
ارتشف بعض الماء قبل أن يكمل : كان لدى جدي ولدين وابنة ، هما أبي وعمي والد لويس والراحلة عمتي ديانا ، وكما تعرف أبي أيضاً تزوج امرأة ريفية وعاش معها في القرية بعيداً عن الضوضاء والمشاكل وأنجبني وزويا وحسب ، بينما عمي والد لويس عاش في المدينة ورزق بلويس وديريك ، كانت المشاكل بينه وبين زوجته كثيرة بالرغم من أنها امرأة لطيفة ، وعمي كذلك أيضاً لكن الخلافات وجدت طريقها لهما بسبب أو لآخر ، لقد انفصلا حينما كان لويس بعمر الحادية عشرة ، تزوج كل واحد بعدها من شريك آخر ، ورزقا بأطفال كثر ، حتى أنا لاأعرف عددهم صدقني ، بينما عمتي ديانا تزوجت قسراً برجلٍ لاتُحبه ، فهربت من العُرس رافضة أن تكون له وقلبها ملك لرجل آخر ، لم أكن حاضراً يومها لكني سمعت الكثير بشأن هذه الحادثة ، البعض قال أن زوجها لحق بها وأحرق المنزل محتجزاً إياها فيه ، والبعض قال أنه كان حادثاً فقط ، ولكنها رحلت في النهاية عروساً وسط اللهب ، مما جعل أمها تجن منذ ذلك الحين ، وقد فقدت صوابها تماماً .
بأسفٍ تكلم متألماً : يالها من قصة مرعبة ومحزنة .
_ أجل هي كذلك ، ما أريد قوله .. أنه وبعد وفاة جدي أصبحنا لعمتي كما الأبناء الذين حرمت منهم ، وكلاً منا يسعى لإرضائها ، لاتنس أنها كبرت وأصبحت بحاجة للاهتمام والحب ،ولعائلة تحيطها ، لذا هي حازمة وصارمة وتلتزم بعاداتٍ وتقاليد مزعجة ، لكنها طيبة القلب في أعماقها ، عاشت حياة قاسية جعلتها تغدو هكذا ، أنا أفهم ماتشعر به فقد مررت به في الماضي ، عندما دخلت أسوار القصر للمرة الأولى ، كان صعباً الاعتياد وإجبار نفسي على فعل مالا قناعة لي به ، لكني احترمت رغبات امرأة مسنة حُرمت من كل جميل في حياتها ، أتمنى من كل قلبي أن لاتكسر كبريائها وترفض دعوتها ، واثق أنها ستقدر ذلك كثيراً .
صمت ذهبي العينين يفكر عميقاً بينما نهض رفيقه يهم بالمغادرة حين ناداه بغتة : فيليب .. انتظرني ، سأرافقك للحفل .
بسرور هتف ممتناً: أنت الأفضل آدم ، سعيد حقاً لأن لم تردني خائباً، هيا انهض سأساعدك .
ابتسم بهدوء ينهض مستجيباً له ، وكله أمل أنهم لم يتخذ القرار الخاطيء.
............................
_ مساء الخير ديريك ، ماهذا يارجل تبدو أنيقاً للغاية ، ماذا تركت ليوم الزفاف .
بضيق أجابه متذمراً : أشعر بالاختناق بداخل هذه البدلة المزعجة ، ولكن مالعمل إنها الأوامر على كل حال .
التفت بإعجاب للفتاة التي بدت كاللعبة بفستانها الزهري المنتفخ المتناسق وشريط رأسها الجميل وقد أسدلت خصلاتها الذهبية المموجة الجميلة .
_ مساء الخير أيتها الصغيرة الحلوة ، كم تبدين رائعة ، أحببت إطلالتك البريئة .
ابتسمت وقد احمر خديها خجلاً ، بينما أيده شقيقها بمحبة : وهل يمكن أن أجد فتاة أجمل منها في هذا الكون .
_ انظر خلفك قد تراها .
التفت متسائلاً وإذ بها كريستينا بفستانها الأسود اللامع الطويل ، وقد جمعت شعرها للخلف بتسريحة راقية .
تنهد مستاءاً وهي تقترب منه بخيلاء : مساء الخير سي ، مارأيك ..كيف أبدو .
_ أكبر من عمرك .
رد دون مجاملة مما جعلها تقطب حاجبيها بضجر : لاشيء يرضيك سي ، لقد كبرت لن أستمر بارتداء ذات الملابس الطفولية التي تشتريها لشقيقتك .
_ لازلت صغيرة كريس ، لا أفهم لم أنت في عجلة من أمرك .
أجاب ستيف وهو يقترب منهم : ربما لتحظى بالزوج الذي تحب سريعاً .
التفتت له كارهة وقد نطق رملي الشعر بما زادها غضباً: ليست بحاجة للعجلة إذاً ، هاهي زويا قد تزوجت بعمرها .
_ ليست كل النساء سواسية .
_ يالوقاحتكما ! لاتقارنني بقروية بسيطة جاهلة ، كل ماتطمح له هو الزواج وحسب .
_ ليست كذلك ، إنها قروية لكنها ذكية وراقية وأنيقة .
_ لابد وأن تبذل ماتستطيع للدفاع عن زوجة أخيك الطفلة ، لا أعلم كيف تقبل لويس هذا الوضع ، بالرغم من أنه مثقف ووسيم ويمتلك سمات الرجل المثالي الذي تحلم به كل النساء ، إلا أنه خضع لعاداتٍ جاهلة وغبية .
نظر سيكيم إليها بطرف عينيه دون أن ينبس ببنت شفة بينما نطق ستيف ببروده المعتاد : على العكس أراه سعيداً للغاية ، وأظن أنه وكما يقال من كان منزله من الزجاج فلا يرمي الناس بالحجارة .
_ يالك من وغد ، لقد تحملتك بما يكفي ، مالذي تريده مني ها .
قاطعها سيكيم وهو ينظر للوافد الجديد متسائلاً: من هذا ديريك؟ ولم هو مع ابن عمك؟
التفت البقية ينظرونه بتساؤل وحيرة ، وقد ارتدى بدلة خمرية أنيقة ، وشعره الكستنائي قد رتبه للخلف مما منح مظهره مهابة وفخامة امتزجت مع هالته المريحة النيرة.
_ لا أعرفه ، ربما هو الضيف الذي جاء برفقة زويا وعائلتها ، لقد استضافته عمتي في منزلها حسبما سمعت .
تلاقت السماء بعينيه بذهبيتا الشاب الدافئتين ، وشعور غريب قد تسلل لأعماقه لم يفهمه ، توجه ذهبي العينين إلى حيث تجلس العائلة والعيون الزرقاء لازالت تراقبه حائرة ، بينما زويا ظلت تتأمله بألمٍ تحتجز مشاعرها في أعماقها ، تذيبها شيئاً فشيئاً .
_همست المرأة لزوجها قلقة : حال الفتاة لايعجبني عزيزي ، ماذا لو ارتكبت حماقة ما قبل الزفاف؟
مؤنباً أجابها : أولست السبب بذلك ؟ أنت من أدخل الصبي برأسها دون أن تحسبي للعواقب أي حساب .
_ أأنا المذنبة الآن ؟ أم أنها عمتك الظالمة ، تُسيِّر الأمور لصالحها دون اكتراث لمشاعر الآخرين .
_ لاتتحدثي عنها بسوء ، إنها تعرف ماهو الأفضل لابنتنا ، لو أنها تزوجت ممن اخترته لعاشت مشردة طوال عمرها.
_ من يعلم ؟! رأيت كيف أن منزل عائلتهم كان فاخراً وكبيراً ، لو أنه عاد لأسرته لعاشت سعيدة معه حتماً .
تأفف بضجر وهو يعلم أن حديثها ذاك لن ينته فآثر الصمت يداري غضبه ، بينما استأذنهم آدم ليذهب للمغاسل ، وما إن دخلها حتى أبعد ربطة العنق بضيق وفتح زرين من قميصه يحاول التنفس بارتياح .
تأمل انعكاس صورته في المرآة بضيق وطيف والدته من خلفه تمسح على ظهره بحنان : كم تبدو مذهلاً.. ابني الوسيم الحبيب.
_ أمي .. هذا ليس أنا .. ليس من أردت أن أكون .
_ عزيزي .. قد نجبر على أمور لانحبها ، وعلى مسايرة البشر في بعض الأمور ، لكن هذا لايعني أننا قد غدونا أشخاصاً آخرين ، طالما أننا لانخطيء ولانذنب ، فلابأس ..ستبقى حقيقتنا بأعماقنا ساكنة .
_ أمي .. أشتاقك كثيراً ، أحن لمنزلنا الهاديء ببساطته ، بعيداً عن ضجيج الحياة المُنهِكة .
_ إني معك ياعزيزي ، إلى الأبد ، ساكنة بقلبك ولن أزول ..
اختفى طيفها ليتركه وحيداً من جديد بائساً قد اسودت الدنيا في عينيه ، غسل يده وبلل عنقه عله يستعيد شيئاً من نشاطه ، وإذ بصورة الفتاة تنعكس على المرآة باكية تعيسة .
التفت لها بسرعة قلقاً: زويا ! مالذي تفعلينه هنا ؟
أغلقت الباب من خلفها ونطقت بصوت مرتعش : أرجوك أنقذني ، لاأريد الزواج به .
_ لا تفعلي زويا .. إنه رجل رائع ، امنحيه الفرصة لتحبيه .
أومأت بالنفي ودموعها غسلت خديها : لايمكنني ذلك ، عندما تركتك كنت قد بدأت أعتاد الأمر ، لكن بمجرد أن التقيتك مجدداً ، لا أستطيع التفكير به مطلقاً .. أنت وحدك من أحب هل تفهمني .
مسح جبينه بكفه بضيق وعاد يتأملها بتعب : زويا عودي لصوابك ، لاتأثمي وارجعي لزوجكِ .
ابتسمت بيأس وقد أخرجت سكيناً صغيرة من حقيبتها ووضعتها على عنقها وسط ذهوله : أنت تخليت عني ، وأنا لايمكنني خيانة قلبي ، سأريحك وأريح قلبي معاً ..هذا هو الحل الأمثل ... أحبك آدم !
يتبع ....
.................................................. ........
|