عرض مشاركة واحدة
قديم 12-21-2022, 06:36 PM   #5
AM.
https://www.anime-tooon.com/up/uploads/at165286508456371.png


الصورة الرمزية AM.
AM. غير متواجد حالياً






حنينُ الخريف
~

(1)

رفرَفت أشفارُ الشمس عن خيوط بيضاءَ رقراقة، اخترقت
السطوح المُختلفة، وتسلّلت سَلِسةً عَبر أوراق الأشجار اليانعة، ورغم هوَانها إلا أنها احتفظت بدِفئها، بينما أنوأت السّماء بجوٍّ ضبابيّ بارد. وذرَّت رياح الخريف الوريقات اليابسة، البُرتقالية، الصفراء، والحمراء، ذرًّا بينما تهبُّ ناعمةً مثلَ ضحكة طفل.

أسيرُ عمدًا بحذائي البنيّ، قرب تكوّمات الورق التي تركت موطنها ففقدت حيويتها وتفاقمت هشاشتها، أدوسُها فتهيجُ متعةً في صدري بخشخشتها. بينما تستريح أشعة الشمس الحَنون بِرفقٍ فوق بشرتي البيضاء المتورّدة، والمزهوّة بالنمش الطفيف. تنكمشُ جفوني لوهلة فأرفعُ كفي قاصدةً أن أصدّ عن عينيّ شيئًا من نور، فلما تجافى عنهما الضياء وحطّ ظلُّ الكف عليهما، برزَ لونهما العسلي القاتم، وبدأتُ أُميّز تفاصيل هذه الغابة الوديعة.

أرهفتُ السمع لصوت خرير ماءٍ قريب، يتمازجُ مع زقزقةِ الطيور، في أعزوفةٍ بديعة تجلَّى فيها سِحر الطبيعة. فهدأَتْ نفسي مُطيعةً قدماي إلى حيث تسيران.. حتى استوقفتها لوحةٌ ربّانية آخذةٌ بالجمال!
زهورٌ ملوّنة، ولمّاعة، وكأنها مُغطّاة بطبقةِ رقيقة من غبار الجنيات، متعددة الأنواع والأشكال، تغرسُ أغصانها جوارِ بعضها البعض، تتفاوتُ بين اللون الأبيض والأصفر والوردي، والوردي الباهِت، تُحرِّك بَتلاتها النسمات غدوًا ورواحًا، وتتوسطّها بركةُ ماءٍ، رَسمت شفافيّتها السماء وأوراق الأشجار الملوّنة.
وكأنما هذه البقعة الفتّانة لم تتأثر شيئًا من لمساتِ الخريف!

ولما غُرتُ في النظر، التقطتُّ نقطةً برتقالية اللون، دنوتُ فكَبُرَت.. وإذ صرتُ عند حافةِ حُقيل الورد، غمرَ أنفي عبيرها الطّيب. حررتُ قدمي عن حذائي، خشيةً أن يفسد غَوْره الخشن رقتها. ثم خطَوْت بين الأزهار، فصارت النقطة جسدًا، حتى تشكّلت لي هيئةٌ واضحة.

كانَ وحيدًا، ضئيل الحجم، ذو فراءٍ كثيف ناعم، تعاظَم في ذيله الفاتح، وتمازجَت معه قلّةُ من شعرٍ أسود، أما اللون البرتقالي الشبيه بحفنةِ أوراق الخريف المتساقطة خارج حُدود الأزهار بعشوائية، قد أخذَ الحيّز الأكبر من جسده. يلتفُّ حولَ نفسه بشكلٍ دائري ودافئ المنظَر، ويُريح رأسه على إحدى ذراعيه القاتمتين النحيلتين، مصرًّا على التحديق أسفلَها في تيهان.

التقطَت أُذناه الدقيقة تحرّكاتي، فاشرأبَّ إليَّ، والتقت أعيننا، ورقّ فؤادي لنظرته.. ولما كان شعورًا طرقَ بابي في حين، بل كل حين! أدركتُه فيها. فكانت عيناه الدّعجاوين يجتاحهما حنينٌ عظيم، يترقرقُ فيهما بتجلٍّ لا يمكن إنكاره، وكأنما فقدَ للتو أغلى مايملك، ولا سبيلَ للوصولِ إليه.

فتحَ فمهُ شيئًا يسيرًا يُحادثني بشيء، وكأنه يدعوني للجلوس معه، فكادَ يسرقُ قلبي! وكان له ذلك. وطوّقني فستاني المخملي الأخضر القاتم مثلَ بتلات زهرةٍ تضمّ نفسها، وقد زُمَّ قماشه عند صدري وخصري، ثم انفلَت في باقيه. وعندها، لم أكبَح نفسي عن مُداعبة رأسه، ورحتُ أمسّد فراءهُ بلطف بينما يسترخي هوَ متدلّلًا بلمستي الحانية، فتبسّمت لمنظره.

كان الشيء الوحيد الشبيه بالخريف، من بين تلك الأزهار الآتية من أوجِ الربيع، وخطَرَ لي أمرًا، ماذا لو جعلته جزءًا من الربيع؟ هذا اللطيف الذي يضيقُ على وجهه حزنًا يعبث به دون هوَادة. وشرعتُ بقطفِ الأزهار واحدة تلوَ الأخرى، وهو يرمقني بفضول، ثم ربطتُّها ببعض في شكلٍ دائري، فجعلتُ منها طوقًا هزيلًا، ثم مددتُّ يدي برفقٍ نحوه وألبستُه إياه، فلم أكَد ألتقطُ أنفاسي دهشةً بالجمال الذي أراه، إلا وقد أزاحه عنه بانزعاج!

-"لماذا فعلتَ هذا! كنتَ تبدو جميلًا!"تذمّرتُ من فعلته. ثم أعدتُّ الطوق مجددًا، وعندها سكَن في مكانه، وثبّت بصره أمامه، ولم يرفّ جفنه، بدا وكأنه فهمَ ماقُلته، فلم يشأ أن يُحرّك رأسه لألّا يقع، مثل طفلٍ صغيرٍ تُراقبه أمه فخشيَ أن يقترفَ خطأً، فضحكتُ. طَرفَني ثم انقضّ علي بقائمتيه الأماميّتين، فهويَتُ على ظهري ضاحكةً ملء شِدقَيْ.. وحَوَيتهُ بكلتا ذراعيّ ثم قلبتُ الأدوار وجعلتُ أدغدغه في بطنه، وياللعجب! راح يضحكُ مثل طفلٍ حقيقي وعيناه تذرفان الدمع. كانت لحظاتٌ مُغدَقة بالسعادة، وابتهجتُ لظَفري ببهجته.

رحتُ أصنع طوقًا آخر لي، ولما وضعتهُ على رأسي، اقتربَ الثعلب مني متلصّصًا، وجعلَ يحدّق بي وكأنه يُقيم مظهري.
-"أهوَ جميلٌ عليّ؟" أملتُ رأسي وخاطبته في مَرح.
ربما أدركَ الآن كم بدا رائعًا عليه! فوثبَ قابضًا على طوقي بين فكّيه، ونأى عني مسرعًا، وكأنه يودُّ أن يحتكر هذا الجمال لنفسه، إذًا هو لصٌّ فعلًا كما يُشاع عنه!

توقَّف بعدَ مسافة لم أعد أميّز نظراته منها، لكنني خمنتُ أنه يريد أن ألعبَ معه! فاستفزّ روح الطفلة بداخلي، ونهضتُّ أرتدي حذائي على عجَل وأنا أصيح:
-"انتظر لحظة أنا قادمةٌ إليك!"

وما إن شرعتُ بلحاقه، وخُصلات شعري الصهباء المموّجة، تسابقُ الريح من خلفي، حتى أعادَ بصره أمامه يدقُّ الأرض بخطواتٍ متواثبة، ليس لصًا فحسب بل سريعٌ أيضًا! وإذْ سُقيَت روحي سُلوانًا، طفقتُ أضحكُ مزهوّة والهواء يصافحُ وجهي بلمساتٍ رقيقة.
وشيئًا فشيئًا، اختلفت معالم الطريق، فصار واسعًا تُحيطه الأشجار والأوراق من جانبيه فقط عوضًا عن تناثرها في جميع الأرجاء. وخَفتت حركةُ الثعلب، تليها حركتي، وقُبِض قلبي، فاقتربتُ إلى حيثُ توقَّف.. لعلِّي أستفهمُ الأمر.

ولم يكن يرغبُ باللعب كما حَسِبتُه، بل كان يريدني أن أرى شيئًا.
للأرضِ نكَّس رأسه، حيثُ استلقى جسدٌ لثعلبٍ آخر، لا حركَة فيه ولانفَس، يُغمض عينيه بإحكامٍ.. إلى الأبد.

تهادى الثعلب في تركِ طوق الورد الذي سَلبُه مني برويّة على رأسها الذي يميلُ إلى أحد الجانبين، وبقيَ للحظات يحدق فيها، وكأنه بانتظار أن تنهض ليُخبرها كم تبدو جميلةً به.
ووجَبَ قلبي.

للموتِ شكلٌ واحد، ولا سبيلَ للاعتياد عليه مهما تعدّدت الطرق، وللذاكرة خناجرُ حادة تجرحُ أحيانًا.
وحانت مني لفتةٌ من الماضي، ذكرَى لا تزال طريّة وناتئة لم تُشفَ بعد، ولن تُشفى أبدًا.. ذكرى وفاة أمي. كانت أمي مريضةً على الدوام، وُلدَت بقلبٍ واهن، لكنّ وهنه لم يتغلب على رَحابته وبياضه النَّقي. لما ازداد حالها سوءًا، ارتأَت أن تُودِعني إلى خالتي، مكان تأتمِنُني فيه. قالت أن عليّ أن أعتاد العيشَ بدونها، وأنه لاجدوى من العيش مع أمٍ مريضة و"أنّ ذلك أفضل" كانت تلك عبارة تردِّدُها كلما رغبت بانهاء حديثٍ دونَ أن تُظهر اعتراضها لما أقول. كانت مُفعَمة بالحياة رغم شحُوب بشرتها، ونحول بدنها، ورغمَ يقيني باضمحلال عافيتها تدريجيًا، إلا أنني لم أعتقد أنها ستموت قريبًا جدًا.. فلا أحد يُمكنه أن يتوقع الموت أو يعتاده. وفي كلّ مرةٍ استيقظتُّ فيها، بعُطبٍ أصاب غريزة النسيان، باحثةً عنها، أُدركُ أنني فقدتُّها من جديد.
استلقَت لآخر مرة، على الفراش الوفير الذي رافَق صراعها مع الوجع، وكانت تبدو مثل ملاكٍ حزينٍ نائمٍ. وإذ لم أتمكَّن من ذرفِ دمعةٍ واحدة، لأن الدموع تجمَّدت عند طرف عيني آبيةً أن تنهمر فتصفعني بحقيقةِ رحيلها، اختنقت السماء بأدمعي فغصَّت ثم راحت تنتحب.

ولم أنتبه إلا وقد جثوتُ بجانب ثعلبي أعانقهُ و أشاركه حُزنه الصَّامت.

~
نوڤمبر،2022

ربما أكمله في وقتٍ لاحق..





 
 توقيع : AM.


اللهم صلّ وسلم وبارك على مُحمد.
دافئ جدًا: مَعرضي~


التعديل الأخير تم بواسطة AM. ; 12-21-2022 الساعة 06:38 PM

رد مع اقتباس