على الفراش جلس يتأمل الراقدة بوجهها المجعد السمح ، دثرها جيداً وقبل جبينها ليتركها بعدها مغلقاً الباب من خلفه بحذر .
صوتٌ من خلفه خاطبه بهدوء وصاحبه على الأريكة جالس والكتاب بين يديه : هل نامت جدتي؟
أومأ له إيجاباً وألقى بنفسه على الأريكة بتعب : كان يوماً منهكاً .
أغلق الكتاب ووضعه على الطاولة أمامهما وهو يجيب مبتسماً: لقد كان حافلاً وممتعاً .
أتبع وهو يتأمل شقيقه أسِفاً : أعتذر لأنك أجبرت على ترك المدرسة مجدداً بسببي ، لو أني استطعت ترك منزل عمتي في وقت باكر لما حدث ماحدث .
_ ليس الذنب ذنبك عزيزي لويس ، إنك أيضاً تواجه أياماً مزدحمة ، فأمامك الكثير من المهام لتنجزها قبل الزفاف ، الذنب ذنب ابنها في المقام الأول .
سكت كليهما وقد أطرق رملي الشعر برأسه ينظر كفيه المتشابكتان مفكراً : لا أحد يهتم بها سوانا ، مؤلم أن تعاني هكذا فقط لأنها أصبحت عجوزاً لاتذكر كيف كانت ، لقد عانت الكثير حقاً حتى هذا اليوم ، لكن أحداً من أبنائها لم يشفق عليها .
ظل الأكبر بصمته يستمع متألماً وديريك يكمل بحرقة : حتى عندما تركت المنزل اليوم .. لم يأتي أحد للاطمئنان عليها ولم يقلقا بشأنها ، الغرباء عنها أسرعوا لتقديم المساعدة لكن ابنها وزوجته لم يفعلا .
اغرورقت عيناه بالدموع التي احتجزها بتجلد وهو يتمتم محتجاً بقهر : هذا ليس عدلاً ، لم تستحق هذا أبداً.
اقترب شقيقه منه مربتاً على كفيه وسرعان مااحتضنه بدفء وعطف : ولأنها استحقت المحبة سخر الله لها حفيداً عطوفاً ومحباً مثلك ، وأصدقاء أوفياء كرفاقك ، أنت تملك قلباً رائعاً أخي .
ابتعد ديريك عنه وهو يمسح دموعه بخجل : يالي من مغفل ، لا أحب أن تراني أحمق هكذا .
ربت على رأسه وهو يبتسم بحنان : خلافك إني أحب كثيراً حقيقتك هذه ، بعيداً عن السخرية والضحكات الزائفة ، إنه أنت ، الجانب الحقيقي منك فقط .
بادله الأصغر الابتسام رغم عيونه المحمرة : هذا الجانب الذي لن يظهر لسواك مطلقاً.
أجابه ببسمة عذبة محبة ويده تمسح ظهر أخيه : هيا اذهب وارتح الآن ، لن تترك مدرستك مجدداً ، لقد أهملتها بما يكفي ، ستجيء غداً زويا وسنهتم بالجدة معاً لذا لاتقلق بشأنها .
تنهد بارتياح : وأخيراً ستعود أميرتك الجميلة لتريحنا منك .
ابتسم ضاحكاً يلوح له مودعاً : هيا ارحل قبل أن أغير رأيي .
أشار له أنه قد أغلق فمه وغادر لغرفته ضاحكاً ،وماإن أغلق باب غرفته حتى زفر لويس بعمق وقد استند للأريكة يفكر بوجل .
..................................
توقف القطار عند المحطة الأخيرة ، فنزلوا جميعاً بأمتعتهم والرجل ينظر ساعته بين الحين والآخر .
_ ياابنتي .. هل سيتأخر زوجك ؟
احمر خديها خجلاً وهي تجيب بتهكم: لم نتزوج بعد أبي ، لقد وصلنا باكراً لننتظر قليلاً بعد.
_ اتصلي به يافتاة قبل أن يغضب والدكِ.
تأففت وهي تخرج هاتفها وفيليب يتأمله بفضول : هل تجيدين استخدامه زويا ؟ ماذا لو طلبت من زوجك شراء واحد لي ؟
زجرته باستياء وهي تعيد محذرة : قلت أنه ليس زوجي بعد هل هذا واضح؟ ثم بالطبع لن أطلب منه احضار شيء لك، لتشتري واحداً حينما تبدأ بالعمل في المدينة فلن تحتاجه في القرية حسبما أظن .
وضع يديه في جيبي بنطاله متظاهراً بالاستياء: كم أنتِ أخت متكبرة .
وضع آدم الحقيبة الأخيرة قريباً منهم فشكرته السيدة بلباقة ومحبة : لاترهق نفسك بني ، اجلس رجاءاً .
أتبعت تخاطب الآخر بحزم : فيليب اذهب واشتر شيئاً لنشربه بدلاً من مضايقة أختك .
_ حاضر أمي ، مارأيك بمرافقتي آدم؟
_ بكل تأكيد سأفعل .
غادر الاثنان نحو البائع فانتقى فيليب لأفراد عائلته وله القهوة كما يحب كل واحد منهم أن يشربها ، التفت لرفيقه يسأله بابتسامة لطيفة : ماذا تحب أن تشرب ياصديقي؟
سكت قليلاً قبل أن يسأل: لا أعلم مايقدمونه هنا .
_ انظر لهذه اللائحة ، هناك الكثير من الأنواع اللذيذة .
أخذ يقرأها بحيرة : لا أعلم حقاً لم أتذوقها مسبقاً لذا لايمكنني الاختيار .
_ أتثق بذوقي؟
أومأ له إيجاباً فتكلم مخاطباً البائع : اسبريسو من فضلك .
فتح الشاب محفظته فأنبه رفيقه مستاءاً: ماذا تفعل آدم ؟ أبي تكفل بثمنها جميعاً لذا لاتتصرف بفظاظة .
وضع البائع الأكواب الخمسة أمامهم فحملها الاثنين وهما يعودا أدراجهما إلى حيث البقية وقد تخيروا طاولة بستة مقاعد .
بدأ كل واحدٍ يحتسي قهوته باستمتاع ونسمات الربيع الأولى قد هبت مصحوبة ببرد خفيف من بقايا الشتاء ، قرب الكوب من فمه يرتشف القليل ، وسريعاً تسلل لفمه طعم القهوة المُرَّة الثقيلة ، والذي لم يعتده أبداً ، حاول أن لايبدي استيائه منها فأبعدها بهدوء دون أن يتحدث وهو يستمع لأحاديثهم اللطيفة التي اعتادها وأحبها .
بعد حينٍ هتفت المرأة لزوجها : لقد جاء أخيراً ، انظر إنه هناك .
التفت إلى حيث كان يقف الشاب قلقاً ،فناداه بصوتٍ عالٍ جعل الفتاة تحمر خجلاً : إننا هنا ياابن أخي .
اقترب منهم بابتسامته اللطيفة معتذراً: آسف لتأخري الازدحام لايطاق ، أعتذر حقاً لابقائكم منتظرين لوقتٍ طويل .
_ لابأس بني .. كنا نستمتع بالقهوة لذا لم يكن الانتظار سيئاً .
صافح الرجل باحترام ولباقة : سعيد لقدومكم حقاً عمي العزيز .
رحب بالسيدة وابنها بحرارة : اشتقت لكما حقاً أمي .. فيليب .
صافح بعدها الفتاة بابتسامة سعيدة محبة بينما أطرقت برأسها خجلة ، التفت لآدم متسائلاً ينظره تارة والفتاة تارة أخرى فأجابته الأم دون أن ينطق: إنه آدم.. ابن صديقتي العزيزة الراحلة أولجا ، آدم .. هذا هو خاطب ابنتي وابن عمها " لويس ".
صافحه بحرارة مبتسماً : يسرني لقائك عزيزي آدم .
_ وأنا كذلك .
قالها وهو يبادله بابتسامة صادقة ، وبسرور أشار الشاب للبوابة : السيارة بالانتظار في الخارج ، تفضلوا رجاءاً .
نهضوا جميعاً وقد أخذ السائق الحقائب نحو السيارة ، بينما همس لويس لزويا بحب : اشتقت كثيراً لكِ .
احمر وجهها وهي تنظر آدم الذي كان يقف على مقربة منهم دون أن يلتفت لهم ، وبخيبة أطرقت رأسها مدركة أن كل مشاعرها لم تعد ذات قيمة .
أحاطها لويس بذراعه وسار بمحاذاتها نحو السيارة الفاخرة ، فتح الباب يشير لها بالدخول ففعلت ولاتزال بصمتها تنظر ذهبي العينين بين الفَيْنَة والأخرى .
_ إلى منزل العائلة من فضلك .
انطلق السائق من فوره بعد سماعه ماقال سيده بينما همس آدم لفيليب : لابأس لو أنزلتموني في أي مكان كان ، لاأظن أن من اللباقة ذهابي معكم لمنزل العائلة .
_ لم لا ؟ إنك واحد منا يا صديقي لايمكننا تركك في الشارع بمدينة لم تزرها قط .
_ لكن .. هذا لايبدو لي لائقاً.
أتاه صوت لويس بنبرة مريحة وابتسامة عذبة : أرجوك لاتفكر برفض الدعوة أبداً ، إنك شخص مهم لعائلتي ، لذا أنت كذلك بالنسبة لي أيضاً ، لاتخجلني رجاءاً .
أومأ له إيجاباً بتردد وقلق ، وبعد مضي بعضٍ من الوقت كانت السيارة قد توقفت أمام قصر كبير فاخر،ذا حديقة واسعة بدت فيها أوائل الربيع واضحة المعالم ، الأشجار كانت تعزف موسيقاها الخاصة ، والسماء صافية الزرقة بهية إطلالتها ، وصوت النسيم مع صوت الطيور العائدة أضاف لمشاعره المتعبة حياة جديدة مريحة دافئة .
فتحت البوابة وقد استقبلهم الخادم باحترام مرحباً ، فدخل لويس تعانق كفه كف عروسه الصغيرة ، ودخل الزوجان معاً والمرأة مستاءة مكفهرة الملامح تهمس لزوجها بما استطاع هو وابنهما سماعه : لقد وصلنا تواً ولم نستطع أن نخلد للراحة حتى ، دون أن يسألنا جاء بنا للعجوز مباشرة ، يالها من فظاظة .
_ اشش لاتتحدثي عن عمتي بهذا الشكل ، إنها سيدة العائلة ولابد من تقديم التحية قبل أن تتنفسي هواء المدينة حتى .
تمتمت محتجة دونما رضا بينما همس فيليب لآدم : هناك مسجد في هذه المدينة ، بحثت عنه لأجلك ، فور خروجنا سأصحبك إليه .
تهلل وجهه فرحاً وبإمتنان أجابه : لا أصدق ! أتعرف كم أردت هذا منذ قدومي لروسيا ، شكراً جزيلاً لك فيليب أنا حقاً عاجز عن شكرك .
_ على الرحب ياصاحبي ، وأخيراً ها أنت تبتسم بصدق ، سعيد لأني تمكنت من إسعادك .
_ تفضلوا رجاءاً ، عمتي أفدوتيا هنا بانتظاركم .
.............................
شرفة واسعة فتحت أبوابها لتتسلل منها النسمات الباردة تحرك الستار شيئاً يسيراً، وصوت حفيف الأشجار المتراقصة امتزج مع نشيج الماء المتدفق من النافورة بإطلالة جميلة ساحرة .
مقعد فاخر توسط الغرفة كانت تجلس عليه السبعينية بأبهة كما لو أن السنين لم تزد من عمرها شيئاً ، بشعر رمادي مرتب بعناية ، وفستان طويل يعلوه رداء بنقوش نباتية أنيقة والكثير من الحلي الثمينة .
كانت تنظرهم بخيلاء تمد كفها أمامهم وقد تقدم الرجل مسرعاً يقبل كفها تتبعه زوجته تحييها بخضوع وتفعل مافعل ، تقدم العريسان منها فانحت الصبية تقبل كفها هي الأخرى : نهارك سعيد عمتي العزيزة ، أرجو أنك بأتم الصحة والعافية .
نطقت وهي تتأمل الفتاة مبتسمة بفخر : مرحباً بكِ عزيزتي زويا ، هل أنتِ سعيدة برفقة زوجكِ.
تأملها الشاب بترقبٍ وقد صمتت لبرهة بخجل ، ومالبثت أن اومأت إيجاباً فاتسعت ابتسامته برضاً وأسرع يقدم تحيته : نهارك سعيد عمتي الحبيبة .
_ لو لم أقم بتزويجك ماكنت لتحبني بهذا القدر، وتهتم بي كما الآن أليس كذلك؟
بتلعثم أجاب خجلاً: بالطبع أحبك عمتي ،أعني كنت دائماً ولا أزال أحبكِ ، فضلك علي لن أنساه ماحييت .
ابتسمت ساخرة وأدارت طرفها لفيليب الذي فهم الإشارة فوراً وأسرع يقبل كفها : مرحباً عمتي أرجو أنكِ بأتم الصحة والعافية .
_ مرحباً بك بني ، يجب أن نجد لك عروساً تهتم بك أنت الآخر فلايبدو أن والدتك تفعل، أصبحت نحيفاً جداً .
نظر لوالدته الغاضبة بتوتر وأجاب متردداً : كلا عمتي إني أتناول الكثير حقاً ، طعام والدتي لايقاوم ، لكن بنيتي هكذا ماعساي أفعل ، ثم إني لا أفكر بالزواج أبداً الآن ، لست في عجلة من أمري .
_ جميع رجال هذه العائلة تزوجو في مثل عمرك ، يجب أن نجد لك عروساً حتماً ، مالفرق بينك وبين لويس سوى عام واحد .
أجاب بسرعة : عام ونصف عمتي .
نظرته أمه مؤنبة وقد لاح الاستياء على وجه العجوز ، وسرعان ماأحالت ناظريها متسائلة نحو الضيف الغريب .
أشار له لويس بأن يقترب وما إن فعل حتى عرَّف به وهو يضع يده على ظهره: عمتي .. إنه صديق مقرب للعائلة واسمه آدم ، جاء من القرية ليحضر الزفاف .
تأملته من رأسه حتى أخمص قدميه بنظرة متفحصة ، بدت غير راضية وهي تنظر بازدراء ملابسه البسيطة ، بينما نطق بابتسامة هادئة جميلة : سررت بلقائك سيدتي ، شرف عظيم معرفتكِ .
لم تجب وظلت تتأمله بصمت مما زاد حيرته وارتباكه ، بعد حين التفتت للويس تخاطبه ببرود خالطه استياء: ولم لم تحضر شقيقك معك ؟
_ لايزال في مدرسته عمتي ، بمجرد أن يعود منها سيأتي في الحال .
_ عدم رؤيته أفضل بالنسبة لي ، على كل لابد أنكم قد تعبتم أثناء الرحلة ، اخلدوا للراحة حتى المساء ، فلدينا حفلٌ على شرف عروسنا الجميلة .
عادت تنظر آدم بخيلاء وهي تكمل : أكرموا الضيف كما يليق به واهتموا بمظهره جيداً ، مرحباً بك بيننا ، أرجو أن تسعد بإقامتك .
فهم ماكانت ترمي إليه ورغم استيائه نطق باحترام: شكراً لك سيدتي ، لطف بالغ منك
أشارت لهم آذنة بالخروج ففعلوا وقد كانت الزوجة وبمجرد خروجها تتمتم محتجة بشتائم عدة والزوج ينظرها متعباً ، بينما رافق لويس زويا ووالديها نحو غرفهم في الطابق العلوي .
_ هل ستبقون في هذا المنزل ؟
سأل آدم فأجابه رفيقه وهو يسير بمحاذاته نحو غرفتهما : سنبقى ياعزيزي ، حتى الزفاف ستبقى معنا وأتمنى أن تغير رأيك لاحقاً فتبقى لفترة أطول .
أومأ نفياً بابتسامة هادئة : كنت أتمنى ذلك ، لكن هذا صعب .. الحياة بهذا المكان مختلفة تماماً عما عشته ، سيكون من المستحيل بالنسبة لي السُكنى هنا .
دخلا الغرفة ومن فوره استلقى فيليب على أحد السريرين بارتياح ، والآخر أخذ يتأمل الغرفة الأنيقة الواسعة ، بستائر طويلة وسقف عالٍ ، وشرفة مطلة على الحديقة الخلفية .
تأمل اللوحة الجدارية بإعجاب : يالها من لوحة مذهلة ، أحببتها كثيراً.
_ لدى عمتي الكثير من اللوحات الثمينة ، إنها مهتمة للغاية بالفنون .
جلس على فراشه وخلع حذائه وجواربه ، ثم بدأ يدلك قدمه المتعبة بينما رفيقه يسأله: لابد وأن ماقالته العمة قد أحزنك ،أليس كذلك؟
نظر إليه لايعرف بم يجيب فاتبع الآخر ضاحكاً : لاتهتم بهذا ياصديقي ، إنها هكذا على الدوام ، لو رأيت كيف تعامل ديريك لما اهتممت أبداً بما قالته ، ورغم ذلك هو لايكترث أبداً ، إنه جيد باغاظتها بكل برود ودون اكتراث .
_ من يكون ديريك ؟
_ إنه شقيق لويس الأصغر ، أي أنه ابن عمي ، أظنه في مثل عمرك الآن ، ستراه حتماً في الحفل .
_ لا أعلم .. لا أشعر برغبة في حضوره ، هل يجب علي ذلك؟
_ للأسف إنك مجبر فقد تمت دعوتك رسمياً .
تنهد بضيق واستياء: لقد أردت حضور الزفاف وحسب ، لم أعتقد أن هذا سيحدث ، يجب أن أبدأ البحث قريباً عن عائلتي.
_ عزيزي لقد وصلنا تواً ، لازلت تملك الكثير من الوقت لتفعل ماتشاء ، ارتح اليوم وأعدك أني سأرافقك لمساعدتك .
أومأ إيجاباً بامتنان ثم استلقى على الفراش بتعب يحاول الرقود رغم كل الهواجس التي تجتاحه .
..................
خرج الأربعة من المدرسة يستقبلهم آرون أمام سيارته ، أشار لهم بالتحية فتوجهوا نحوه .
_ مساء الخير أبي ، هل اصطحبت تيريزا .
_ أجل .. إنها بانتظارك في الداخل ، هيا سأوصلكم .
_ عم آرون .. ماذا لو خرجنا للمطعم هذا المساء وتناولنا العشاء معاً؟
قالها ديريك برجاءٍ فأجابه بحزم : لن تتهرب من الدعوة بهذه الطريقة عزيزي ،فلقد دعانا والدك أيضاً .
تأفف ضجراً وباحتجاج نطق: لاأحب الاحتفالات الصاخبة .
_ عن اذنكم جميعاً سأذهب لمنزلي .
_ بل سترافقنا عزيزي ستيف ، والدك طلب مني ذلك .
نظرت له كريستينا بطرف عينها مستاءة : لم يجب أن يرافقنا هذا البغيض؟
أجابها آرون ببرود: من قال أنك سترافقينا ؟ لابد وأن والدكِ بانتظارك صغيرتي ، لاأريد أن يتهمني باختطاف ابنته .
مستنكرة أجابت : حتماً لن يفعل ! انتظر لتكلمه بنفسك وتتأكد من هذا .
أشار لهم بالدخول لسيارته ريثما تتصل بوالدها وما إن فعلوا حتى هتف وهو يقود سيارته مبتعداً : آسف ياصغيرة لدي موعد عاجل لايمكنني الانتظار .. وداعاً!
أسرعت خلفه ثم توقفت بيأس مستاءة : تباً لم تفعل هذا بي عم آرون !
زفرت بقهر ووضعت يديها على خصرها مفكرة بضجر ، بينما نطق عسلي الشعر بتعاطف: لم فعلت هذا أبي ، كنت لئيماً بحق ، لاتقارن هذه المسكينة بوالدها ، إن كان مذنباً فهي ليست كذلك .
_ هه كلاهما سيان ، أستطيع فهم ذلك من عيونها ، وتصرفاتها بالطبع تشرح كل شيء .
أيده ديريك بنبرة ساخرة : من الطبيعي أن لايدرك ابنك هذا ،فهو الوحيد الذي تعامله معاملة جيدة ، بل أكثر من جيدة ، أما نحن فهي تعاملنا بلؤم وشيطنة ، أليس كذلك ستيف؟
بلا اكتراث أجابه وقد أسند رأسه للنافذة يتأمل الخارج بهدوء : ربما .. ما أعرفه أنها تملك هالة غير مريحة ، لكني لا أريد الإسائة لأي كان ، لا أحد يمكنه فهم البشر بنظرة واحدة أو حتى حسب تصرفاته الظاهرية ، كثير من يخفي بداخله حقيقة لايستطيع إظهارها .
ابتسم آرون وهو ينظره بإعجاب من مرآة السيارة : يالك من ولد ، تجرأت على أن تصارحني بمخالفتك لرأيي ، بل وترى أنه خاطيء؟
استدرك الشاب ماقاله فأسرع يحاول مداراة ما أوقع نفسه فيه: المعذرة سيدي القائد ، لم يكن ذا مقصدي ، لقد قلت رأيي بالأمر وحسب !
ابتسم ضاحكاً يجيبه: لست مستاءاً ، بل على العكس تعجبني صراحتك ، لكل منا رأيه ومن الجميل أن نطرحه بشجاعة دون تردد ، وأن نحترم الطرف الآخر حتماً.
زفر سيكيم بضيق يقاطعهم : هذا الموضوع لايعجبني لنغلقه رجاءاً .
توقفت السيارة فجأة وقد نطق الأب بحماسة : وصلنا ، هيا يا أولاد البطاقة بين أيديكم ، لتشتروا ما أردتم .
هتفت الفتاة بسعادة : حقاً أبي! شكراً لك .
أخذتها بسرعة ونزلت من السيارة يتبعها البقية وقد استقبلهم ميخائيل أمام البوابة : تأخرتم يارفاق .
ضرب كفه بكف صديقه كتحية بينهما : مرحباً بك مجدداً آرون .
_ أهلاً بك ياصديقي العزيز ، هيا لننه رحلة التسوق هذه سريعاً فالفتاة تحتاج وقتاً للتزين كما تعلم .
ابتسم ضاحكاً وهو يتأمل سعادتها بينما تمسك كف شقيقها تقوده نحو مايعجبها من فساتين جميلة .
أخذ كل واحد ينتقي مع والده مايعجبه عدا ديريك الذي وقف يتأملهم بصمت أخفى الكثير وهو يضع يديه في جيبي بنطاله ، تأمله آرون بابتسامة هادئة ثم التقف بدلة زيتونية اللون : مارأيك بهذه ديريك ، إنها بلون عينيك .
بدهشة تأملها لبعض الوقت حتى نطق أخيراً مستدركاً : آه .. كلا .. أعني .. لدي الكثير في المنزل ، لابد أن عمتي تخيرت لي ماسأرتديه مسبقاً ، شكراً لك .
أعادها الرجل متظاهراً بالاستياء : كما تشاء يبدو أن ذوقي لايعجبك .
_ هل يعقل ذلك !
ابتسم ضاحكاً وهو يجيبه : كنت أمازحك ، لكن مظهرك الهاديء لايعجبني ، تبدو كشخص آخر .
_ كل مافي الأمر أني مللت التسوق ، وأفكر كثيراً بجدتي وبلويس ، لابد أنه يواجه المتاعب وقد اصطحبها لمنزل العمة ، إنها لاتحتملها ودائمة الغضب منها .
_ وماذا في ذلك ، إنها زوجة أخيها الوحيد ، لتكن عادلة قليلاً وتحسن إليها .
_ إنها قصص قديمة عالقة ، رغم كل شيء لا أحد يستطيع التخلص من الماضي بسهولة ، حتى موت جدي لم يغير شيئاً بقلبها .
اقترب منهما ميخائيل متسائلاً: عم تتحدثان بسرية .
أجابه آرون بتنهيدة مثقلة : نتشارك بعض الهموم ، حسناً ديريك .. لن أرغمك على البقاء وذهنك مشغول بما ينتظرك ، دعني أوصلك للمنزل ثم سأكمل التسوق معهم .
_ كلا عم آرون ، أستطيع تدبر أمري جيداً لذا لاترهق نفسك البتة .
_ لكن ..
أشار بكفه مودعاً وهو يغادر : ألقاكم مساءاً .
استدار للحظة يخاطب الصغيرة بمرح : برأيي الفستان الزهري هو الأجمل ، سيليق بكِ حتماً .. تشاو ٓ.
خرج وقد توقفت الفتاة تتأمله يرحل خجلة ، وماإن سألها شقيقها عن اختيارها الأخير حتى نطقت بثقة : الزهري .. هو الأجمل .
_ وأخيراً ،لحسن الحظ أن أحدنا استطاع اقناعكِ .
ابتسمت بسعادة وهي تتأمل الفستان بتفاصيله الأنيقة المتناسية وسنيها العشر ، بينما وجد الشاب أخيراً الفرصة ليبحث عما يريد .
....................
|