عرض مشاركة واحدة
قديم 09-22-2022, 01:58 PM   #12
ساي
عضو جديد


الصورة الرمزية ساي
ساي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1308
 تاريخ التسجيل :  Jul 2020
 المشاركات : 2,292 [ + ]
 التقييم :  3532
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Silver
شكراً: 0
تم شكره 4 مرة في 4 مشاركة

مشاهدة أوسمتي



[size="4"][center]. أسعد الله صباحكم هذا بكل ما يسركم.

حيث أنني - وبطريقةً ما - تمكنتُ من إنهاء كتابة الجزء قبل الموعد الذي توقعتهُ, لذا قررتُ وضعهُ فوراً قبل أن أقوم بإفساده بكثرة التعديلات.

إن أردنا أن نعلم سبب كون الأشخاص ما هم عليه في الحاضر, سيكون علينا النظر إلى الماضي, لذا سيكون هذا الجزء رحلةً إلى الماضي بكل أنواعه: القريب, والبعيد, والذي ظل سراً مدفوناً على مر السنين.

ليس كل ما يجري من أحداثٍ هنا مرتبطاً بالحاضر, ولكن من أراد أن يخوض هذه الرحلة الطويلة في أعماق الزمن فليتفضل.

الفصل الحادي عشر
-----------------------------------

لا شيء يقتل البراءة سوى الزمن.

-----------------------------------


سار الشاب الطويل في الممر شبه المظلم بحذر محاولاً إبقاء تحركاته صامتةً قدر الإمكان, تبعته الفتاة بخطواتٍ رشيقة وهي تلتفت حولها وكأنها تخشى أن يفتضح أمرهما في أي لحظة, جعلها ذلك تشعر وكأنهما لِصان يحاولان السطو على منزل أحدهم.

"أكاد لا أصدق بأن الفكرة نجحت, لقد فعلها (ساي) حقاً. ولكن علينا أن لا نفسد هذا الأمر وإلا خسرنا كل شيء.".

"إطمئني, أنا لستُ حديث العهد بهذا, ولكن كل ما أخشاه هو أن يرى وجوهنا إن لم نكن حذرين.".

ردت عليه الفتاة مبتسمة: "ولهذا السبب أنا هنا.".

رغم أنه لم يكن من النوع سهل التوتر, إلا أنه بدا قلقاً وهو يقول: "هل عليناً حقاً فعلُ ذلك؟ ربما كانت هناك طريقةٌ أخرى ما...".

هزت الفتاة كتفيها وهي ترد عليه ببساطة: " هذه هي أضمن وأسرع الطرق, هل تتخيل أنت بأنه سيحافظ على حياته إن طلبنا منه ذلك مباشرة؟ أنت تعلم أي نوع من الأشخاص هو, سيندفع بلا تفكير عند أول بادرة للخطر وكأنه بطلٌ ما, وما نحتاجه الآن ليس بطلاً.".

صحيح, للحظة كاد ينسى عن أي الأشخاص يتحدثان, إنها محقةٌ تماماً فيما قالته.

لم يكونا يحتاجان لإعادة سرد خطتهما الصغيرة مرة أخرى, ففور وصولهما إلى المكان المقصود تقدمت الفتاة بخطواتٍ ثقيلة ثابتة ناقضت خطواتها الخفيفة السابقة نحو أحد الأبواب لتطرقه برفق لثلاث مراتٍ وتنبس بشيءٍ ما, بينما سارع الشاب ليخفي نفسه عن الأنظار في غياهب الممر المقابل وهو يأخذ نفساً عميقاً مؤهباً نفسه لما سيحصل لاحقاً.

لم ثلبث الفتاة إلا عدة ثوانٍ قبل أن تسرع الخطى نحو الجهة الأخرى وهي تشير له بيدها بأن يستعد, فهز رأسه موافقاً وهو يلتصق بجسده في الجدار منتظراً الخطوة التالية. مرت الدقائق ببطء الأعوام وهما لابثان كلٌ في مكانه المتفق عليه, حتى صدر صوت صرير خفيض لأحد الأبواب وهو يُفتح ببطء, تبعه خروج شابٍ قصير من الغرفة التي خيم عليها السكون وهو يلتفت يميناً ويساراً بحذر قبل أن يخطو للأمام ويقوم بإغلاق الباب خلفه بنفس الحذر. كل شيءٍ يسير كما هو مخطط له إلى الآن.

ما أن همَ الشاب القصير بالتقدم نحو الممر المظلم حتى تعمدت الفتاةُ –التي كانت واقفةً في زاوية ذلك الممر-إصدار صوتٍ يلفت إنتباهه, وقد كان ذلك الصوت أيضاً إشارةً لزميلها بأن دوره قد حان.

وفور أن وصل إليه ذلك الصوت المنتظر, قام (آرثر) بالتحرك من مخبئه بسرعةٍ مذهلة, وبحركةٍ مدروسة كانت إحدى يداه تُكمم فم (ساي) بينما إلتَفَت الأخرى حول عنقه.

-----------------------------------

"كل هذا يبدو كحلمٍ ما, حلم سيء, ولكنه يحدث بالفعل...".

لم يكن البهو الصامت يروق لـ (أمورا) على الأطلاق, خاصةً بعد ما رأته فيه سابقاً, ولكنها تمالكت نفسها وأطبقت بيديها على المسدس الذي حملته وكأنه كنزٌ ما. لم تكن واثقةً تماماً من قدرتها على فعل هذا, ولكن هل من خيارٍ آخر؟ جميع أصدقائها يحاولون جهدهم لتنفيذ هذه الخطة الغريبة التي قد تحمل خلاصهم, إن كان كلام (يوهانا) صحيحاً. أقل ما يمكنها فعله هو بذل قصارى جهدها.

"آخر الممر...ثم إلى اليسار...أعتقد بأن هذا هو المكان الذي ذكره (ساي).", أحكمت أصابعها على مقبض الباب الخشبي الذي واجهها متوقعةً أن تجد مصيبةً ما خلفه, ولكنه انفتح بسهولةٍ فهو لم يكن موصداً من الأساس, ولم تجد خلفه ما يدفعها للخوف. مجرد مطبخ بريء وإن كان قديم التصميم نوعاً ما.

"كل ما علي فعله هو وضع هذا الشيء في مكان واضح ليسهل على (نويل) العثور عليه, صحيح؟", لم يكن برفقتها أحد ولكن ذلك لم يمنعها من الحديث بصوت مسموع وكأنها بذلك تخفف حدةَ توترها.

لم يكن عليها التفكير طويلاً في مكانٍ تضع فيه السلاح المعدني البارد, فقد تقدمت نحو الطاولة التي توسطت المكان ووضعته عليها, لن يمكن لأي شخص بأن لا يراه هنا.
"يا إلهي, فلينجح هذا...أرجوك...".

-----------------------------------

"إن لم تنجح هذه الخطة فسيُقضى علينا, أتمنى بأن (ساي) يعلم ما يفعله...لستُ متفائلاً جداً لولا أن (يوهانا) تشاركه الرأي.".

غمغم (نويل) لنفسه وهو ينظر للورقة الصغيرة ذات الألوان الزاهية التي استقرت في راحة يده وهي تغلف شيئاً معدنياً صغيراً, راجياً الله في سره بأن تسير الأمور كما هو مفترض بها. إن المهمة التي أوكلت له ليست بالهينة, ولكنه وافق عليها عالماً بأنه ما من أحد غيره سيمكنه فعل ذلك. إن (آرثر) و (يوهانا) مشغولان بما أوكل إليهما, و ليست هذه بالمهمة التي يمكن إسنادها لفتاةٍ كـ (أمورا). (لورانس)؟ تبسم رغماً عنه للفكرة, ليس من الحكمة أبداً الجمع بين (لورانس) والديبلوماسية.

شعورٌ غريبٌ ينتابه الآن, فهو يسير في نفس المكان الذي كان به منذ وهلة, ولكنه ليس نفس المكان فعلاً.

حبس الشاب الوسيم أنفاسه وأرهف سمعه عندما اقترب من الغرفة التي كان يقصدها, ووقف أمامها لعدة ثوانٍ بصمتٍ قبل أن ينحني ليدفع بالورقة الصغيرة وما تحمله للداخل عبر الفتحة الرفيعة أسفل الباب الخشبي السميك.

لم ينتظر بعدها ولا للحظةٍ إذ سارع بالإتجاه نحو السلالم المؤدية للدور الأرضي قبل أن ينتبه الأشخاص في الغرفة لما وضعه, سيكون عليه أن يقابل (أمورا) في المكان الذي حدده (ساي) وينتظر معها حتى يتمكنوا من تنفيذ الجزء الثاني من الخطة.

-----------------------------------

تنهد (ساي) وهو يحرك الحلوى المصاصة التي استقرت في فمه بشيءٍ من الملل بينما انشغلت يداه بفرد وطوي سكين الجيب التي لا تفارقه مراراً وتكراراً بشرود, وكأنه يرى في هذه الحركة البسيطة مهرباً من الضجر الذي أَلَم به وهو يجلس وحيداً في الغرفة بعد أن غادر الجميع. إن تتبع أصوات أنفسهم السابقة والوصول إلى الباب المرتبط بكل فترةٍ أخذ من طاقته الشيء الكثير, ولكنه لن يسمح لنفسه بالتذمر من الإرهاق بينما هم جميعاً يخاطرون بحياتهم بعيداً وهو يجلس هنا منتظراً. لطالما كان يكره لحظات الإنتظار...

"توقف عن الحركة ذهاباً وإياباً في الممر يا (لورانس), إن صوت خطواتك يحطم أعصابي.".

جاوبه الصمت لعدةٍ لحظات قبل أن يأتيه صوت (لورانس) قائلاً: "يا لك من مرهف.".

"لمَ أنت هنا أصلاً؟", زفر (ساي) وهو يحرك رأسه بإتجاه الصوت في حركةٍ غريزية إكتسبها منذ أن فقدت عيناه بصرهما. إنه يتأقلم على وضعه الجديد أسرع مما كان يتوقع.

"إن (يوهانا) لم تطلب مني فعل أي شيء.".

"أستطيع تفهم ذلك, فنحن لسنا بحاجة للمزيد من المصائب.".

بالرغم من تهكم (ساي) الواضح, إلا أن (لورانس) أطبق فمه على مضض. لم يكن يريد إخبار الأول بأن (آرثر) هو من طلب منه البقاء معه إحتياطاً وتحسباً لأي أمر غير متوقع قد يحصل بينما الجميع مشغولون في أماكن متفرقة. في حالته الراهنة, لم يكن (ساي) ليستطيع عمل الكثير وحده.

ألقى (لورانس) بجسده على الأريكة المجانبة للمدفأة بينما استرقت عينه النظر على الشاب الذي جلس على الأرض على مقربة منه محاولاً استشفاف ما يفكر به. بالرغم من أن (نويل) و (آرثر) شرحا للجميع ماهية ما أصابه, إلا أنه لم يلبث أن تساءل بينه وبين نفسه عما يقبع تحت قطعة القماش التي غطى بها (ساي) عينيه. تحركت يده لا شعورياً لتلمس عينه المغطاة منذ سنوات. لقد إعتاد هو على ذلك, ولكنه على الأقل احتفظ بالعين الأخرى. ترى مالذي يشعر به شخص فقد بصره كلياً في غضون ثوانٍ؟

"إنني أشعر بالملل...", غمغم (ساي) بنبرةٍ نائحة.

"ومالمطلوب بالضبط؟ هل تتوقع مني تسليتك؟", رد عليه (لورانس) بحنق وهو يلوم نفسه لأنه حاول التعاطف مع هذا الطفل الكبير أصلاً.

أخرج (ساي) الحلوى من فمه ورد بعفوية وكأنه يسرد حقاً بديهياً من حقوقه البشرية: "نعم. بما أنك هنا, فأجعل نفسك مفيداً على الأقل.".

هَم (لورانس) بإعطائه رداً حاذقاً آخر لولا أن (ساي) سبقه قائلاً: "ما رأيك بلعبة "التحدي أو الحقيقة" ؟".

بإبتسامةٍ ماكرةٍ لم يرها (ساي) بطبيعة الحال, قال (لورانس) بثقة: "لا مشكلة لدي في ذلك, سأختار "التحدي" إذاً.", لم يكن (لورانس) يخشى الخوض في التحديات لذا فقد اتسعت ابتسامته وهو ينتظر رد (ساي), ربما كانت هذه فرصة له ليجعل (ساي) يندم على حذلقته المعتادة.

"جيد, سأختار أنا "الحقيقة", وبما أنني من سيبدأ, أتحداك بأن....", أخذ (ساي) نفساً عميقاً قبل أن يكمل, "...أن تخبرني بسبب ارتدائك لعصابة العين هذه.".

بُهت (لورانس) بهذه الكلمات فهو لم يكن يتوقع شيئاً كهذا أبداً. هذا الموضوع هو أمر تجنب الحديث فيه على مدار سنوات, ولم يكن يعلم بحقيقته سوى صديق عمره (آرثر). لِمَ كان على الخبيث (ساي) إختيار هذا التحدي بالذات؟! لقد وقع في فخ (ساي) كغر ساذج!

"أي نوعٍ من التحديات هذا؟!", هتف (لورانس) معترضاً.

"مالأمر؟ هل تريد الإنسحاب قبل بدء اللعبة حتى؟ لم أكن أتوقع أنك بهذا الضعف, ياللعار!", تعمد (ساي) أن يهز رأسه ممثلاً الأسى وهو يبتسم إبتسامةً جانبية.

اشتعلت أعصاب (لورانس) النارية فور سماع ذلك, وانحنى للأمام وهو يجيب بحدة: "من هذا الذي تنعته بالضعف؟!".

" أوتش! لا تصرخ هكذا, أتريد إصابتي بعاهة سمعية؟!", غطى (ساي) أذنيه بكفيه وهو يستطرد, "كل ما في الأمر هو أن الفضول ينتابني, فأنت لم تخبرنا عن السبب أبداً.".

"وماذا عنك أنت؟ لقد إخترت "الحقيقة", أليس كذلك؟ إذن سأجعلك تخبرني بحقيقة هذه السكين التي تحملها معك دائماً. منذ أن عرفتك وأنت لا تدعها تفارق جيبك, كما أنني أعلم أنك تتحاشى التحدث عن سبب حملك لها فقد سمعت (أمورا) تسألك عنها عدة مرات ولكنك تتجاهلها دوماً.".

التعبير المتفاجئ الذي طغى على وجه (ساي) كان خير إنتقام بالنسبة لـ (لورانس) الذي جعله ذلك يشعر بنشوة الإنتصار, لقد تمكن من مباغتة (ساي) بنجاح على ما يبدو.

"لستُ متأكداً بأنك تريد فعلاً سماع قصة هذه السكين, ولكن...قد أخبرك بها إن أخبرتني أنت عما سألتُك عنه أولاً.", كانت نبرة (ساي) وهو يقول ذلك غريبةً نوعاً ما, وقال لنفسه بأنه لا مجال للتراجع الآن, ليس بعد أن وصف (لورانس) بالضعف عندما حاول الإعتراض قبلاً. لقد حاصر كل منهما الآخر, وبطريقةٍ ما, يكون الذي ينسحب الآن هو الخاسر, وقد كان كل منهما يفضل المجازفة على إظهار ضعفه أمام الآخر.

ما بدأ كلعبة تحول الآن إلى أمر أكبر من ذلك.

-----------------------------------
. الثالث من مارس, الساعة الثانية وعشر دقائق ظهراً.

كان صخب الفتيان والفتيات يعم أرجاء مبنى المدرسة الثانوية الواسع وكل منهم يسير عبر ممراتها منطلقاً إلى منزله بعد إنتهاء اليوم الدراسي, رافق ذلك العديد من الضحكات المرحة والتحايا المتفرقة. ولكن أحد الممرات الجانبية كان أقل ترددا من قِبل الطلبة فهو لا يؤدي سوى إلى معامل الكيمياء والأحياء التي تراصت بجانب بعضها على طول الممر,في الواقع كان هذا الممر شبه خالٍ من الحركة والأصوات لولا تواجد شخصين بداخل معمل الكيمياء الرئيسي ذو الباب الموارب.

تحرك الطالب الطويل ذو الشعر الأشقر الباهت بهمةٍ في أرجاء الغرفة التي حفتها الطاولات ذات المغاسل والأرفف الحاملة لجميع أنواع المواد الكيميائية التي تتطلبها دروس الكيمياء العملية وهو يمسك بيده ورقةً وقلماً, ولكن زميله ذو الشعر الأسود الذي يصغره سناً لم يكن يشاركه نشاطه, بل اكتفى بالوقوف متكئاً على أحد الدواليب وقد علت علامات الضجر وجهه منتظراً إنتهاء صديقه مما يفعله ليتمكنا من الإنصراف كباقي الطلبة.

"هل سنبقى هنا إلى الغد يا (آرثر)؟ لم كان علي أن أكون صديقاً لطالب مثالي لا يرفض للمعلم طلباً؟".

"إعتراضك هذا متأخر عشرة أعوام يا (لورانس).", رد (آرثر) صديق عمره دون أن يرفع عينيه عن الورقة التي حملت أسماء بعض المواد الكيميائية المفترض عليه تنظيمها, إنه شاكر لوجود (لورانس) معه فتذمر الأخير المستمر يبقيه مستمتعاً على الأقل. إنه عمل رتيب فعلاً ولكن على شخص ما القيام به, وهذا الـ "شخص ما" ينتهي دوماً بكونه (آرثر).

"دعني أحزر...بعد انتهائك من عملك الممل هذا ستنطلق فوراً إلى المنزل لتقوم بالدراسة, أليس كذلك؟", أدار (لورانس) عينيه في محجريهما وقد كانت لهجته اللائمة تشي جلياً بمدى تضايقه من ذلك. لم يكن الفتى مهملاً في دراسته هو الآخر, ولكن شح الوقت الذي يقضيه مع صديقه مؤخراً بسبب الإمتحانات يجعله يتحين الفرص للتعويض عن ذلك, حتى وإن كان هذا يعني البقاء معه بعد إنتهاء الدوام المدرسي ومراقتبه وهو يؤدي مهامه هذه.

"توقف عن التنهد هكذا, أنت تشعرني بأنني أكثر الأشخاص إثارة للسأم على وجه الأرض. لم يتبق لي سوى الشيء اليسير.".

"ولكنك فعلاً كذلك!".

إلتفت الإثنان نحو مصدر الصوت السليط الذي اقتحم محادثتهما بلا إذن مسبق, ليسقط بصرهما على طالبٍ كانت جميع ملامحه وتحركاته تشي بالوقاحة. إبتداءاً من وقفته المرتخية اللامبالية, مروراً بزييه الذي لا يحظى بالكثير من الإهتمام كما هو واضح, وانتهاءاً بنظراته السافرة نحوهما, كأنه حيوان مفترس يعاين فرائسه.

"يا إلهي...أي ريحٍ نحسة ألقت بـ (جوني) إلى هنا؟", غمغم (لورانس) بحنق وقد زاد هذا الظهور المفاجئ من تعكر مزاجه.

ولكن (آرثر) لم يبد عليه التأثر أو الإهتمام, فقد عاد للانشغال بما يفعله وهو يخاطب القادم الجديد ببرود هادئ: "للأسف ليس إعجابك بشخصي ضمن قائمة أولوياتي يا (جوناثان).".

هز المذكور كتفيه وابتسامته الوقحة لا تفارق ثغره بينما تحرك ليقترب منهما ببطء ويميل نحوهما متكئاً بيديه على سطح المنضدة المعدنية التي تفصله عنهما. لم يكن (جوناثان) يعرف أياً منهما معرفة شخصية, ولكن كون (آرثر) هو تلميذ جميع المعلمين المفضل كان حرياً بجعله مستهدفاً من قبل أولئك الذين لا يبلون حسناً في حياتهم الدراسية, بالإضافة إلى أن (جوناثان) –الذي كان في صف (آرثر) – مشهور في أرجاء المدرسة بكونه متنمراً عتيداً لم تتمكن حتى الإدارة من السيطرة عليه رغم تكرار سوابقه وفصله التأديبي المستمر. تساءل (آرثر) في سره عن نوع البيئة التي يمكن أن تنتج شخصاً كهذا.

حملت يد (جوناثان) إحدى القوراير الزجاجية التي ملأت سطح المنضدة وتظاهر بتأملها وهو يقول: "يالك من طالب نموذجي مزيف. أراهن بأن المديح المستمر الذي تحصل عليه يعود لكون والدك رئيس الشرطة في المدينة, ألا تعتقد ذلك؟".

لم يكن (آرثر) هو الشخص الذي رد عليه, بل تكفل (لورانس) بذلك مزمجراً في وجه (جوناثان) وهو يقول: "أتتخيل بأن جميع الطلبة فاشلون بطبيعتهم مثلك يا (جوني)؟ ليس (آرثر) كذلك بكل تأكيد, فهو على الأقل سيملك مستقبلاً مشرفاً بخلافك, إن شاكلتك ينتهون دائماً بكونهم حثالة المجتمع!".

رفع (جوناثان) عينيه بحدةٍ لتلتقيا بعيني (لورانس) الزرقاوين وقد تأججت نيران الغضب فيهما وكأنه لا يصدق بأن طالباً في الصف الأول يقوم بالرد عليه بهذه الجراءة: "لستُ أتذكر مخاطبتك أيها الجرو, فلتصمت وتدع الكبار يتحدثون إن كنت تعلم ما هو خيرٌ لك!".

"توقف يا (لورانس), إنه لا يستحق حتى إهتما-...", لم يصغ المذكور لكلمات صديقه المهدئة بل استمر مندفعاً: "اجعلني أصمت إن كنتَ تستطيع ذلك, لربما كنت معروفاً بهمجيتك بين الطلاب ولكنني أكثر من مستعد لتحطيم وجهك. أنا لستُ (آرثر) ولن أتردد في زرع قبضتي في فمك القذر هذا!", كانت نبرة (لورانس) الحادة تتعالى مع كل كلمة ينطقها وقد فارت الدماء في عروقه غضباً لإهانة شخص دنيء كهذا لـ (آرثر) أمامه. وكذلك كان غضب مواجهه (جوناثان) الذي تحرك بسرعةٍ ليلتف حول المنضدة ويشتبك مع (لورانس). وقبل أن يتمكن (آرثر) الذي أخذته المباغتة من التدخل كان كلاهما يتبادلان الضربات الحانقة أمام ناظريه.

لم يكن قتالاً عادلاً بأي مقياس من المقاييس, فقد كان (لورانس) أصغر عمراً وحجماً من مهاجمه, لذا وجد نفسه تحت الفتى الأضخم جسداً في غضون لحظات قبل أن تنهال عليه اللكمات والشتائم. ولكن لحسن الحظ فقد ظهر (آرثر) بسرعة خلف (جوناثان) ليسحبه ويلقيه أرضاً قائماً بتحرير صديقه الذي تلوى متألماً على الأرض.

صرخ (آرثر) اللاهث في وجه (جوناثان) الذي بدأ يستعيد توازنه بصرامة خالجها الإضطراب فهو لم يكن معتاداً على خوض النزاعات بالأيدي هكذا: "هل جننت أيها المختل؟! ألا تعلم أنك بصدد الحصول على فصل نهائي إن تسببتَ بجروح خطرة لأحد الطلبة؟!".

زمجر الفتى الذي وجه (آرثر) كلماته له وبات واضحاً بأنه لا يأبه لأي شيءٍ مما قيل له, فهو لم يبد أي علامةٍ تدل على نيته للتراجع أو التوقف, لقد طغى غضبه الأعمى وكبرياء المراهقة بداخله على كل شيء آخر.

"اخرس واحتفظ بمثاليتك الزائفة هذه لنفسك! أتظن بأنني سأتركك وصديقك الصغير هذا تنجوان بفعلتكما؟!".

"نحن لم نفعل شيئاً سوى الدفاع عن أنفسنا ضد جلف بربري مثلك!", كانت رباطة جأش (آرثر) تتسرب سريعاً فقد اتخذت الأحداث منحنىً لا يترك مجالاً للهدوء والتفاهم, ونظرة (جوناثان) الشرسة لا تبشر بالخير قطعاً.

-----------------------------------

الثالث من مارس, الساعة الرابعة عصراً.

كانت الحديقة الغناء التي تحف أطراف المبنى الأبيض الشامخ تسر الأنظار بأشجارها وزهورها التي تم تنسيقها بشكل فني أنيق لولا أن تخلل المنظر البديع صوت نحيب سيارة الإسعاف المتوقفة أمام الباب الرئيسي للمستشفى الوحيد في المدينة.

أطل الفتى المراهق الذي أسند جبهته على زجاج نافذة الغرفة الواقعة في الطابق الأرضي نحو المنظر متابعاً تحركات الممرضات اللواتي سارعن بإنزال الحمالة التي احتوت الشخص الذي احتل سيارة الإسعاف وقد بدا من أطرافه المتراخية بأنه فاقد للوعي, لم يكن المنظر واضحاً جداً من حيث يقف هو, لكن الدماء التي صبغت ملابس وجسد الشاب ببقع كبيرة كانت ظاهرةً بما فيه الكفاية. ضحية حادث سير على الأرجح...

من المضحك المبكي أن مشاهدة منظر كهذا جعله يحس ببعض العزاء تجاه ما حدث, هناك دائماً شخصٌ أسوأ حالاً وحظاً, ومعرفة ذلك تجعلنا نشعر بالرضا عن مصائبنا الأصغر حجماً, حتى وإن كان ذلك الرضا مؤقتاً.

التنهيدة التعسة التي فرت من بين شفتيه كانت العامل الذي كسر حاجز الصمت المتغلغل في الغرفة الصغيرة, بالرغم من نظافتها واصطباغ أغلب أجزائها باللون الأبيض النقي إلا أن التواجد هنا كان خانقاً.

"..... ليس الخطأ خطأك يا (آرثر), عليك أن تعلم ذلك جيداً.", هذه النبرة الخفيضة المسطحة لم تكن معتادةً أبداً من قِـبل (لورانس), وقد كان (آرثر) يعلم أنها ليست ناتجة عن الإرهاق وإن بدا التعب جلياً على ملامح صديقه, وعلمه بذلك كان يعتصر قلبه بقبضة الذنب أكثر وأكثر.

"لقد ظللتُ أفكر في الأمر ملياً, ولستُ أرى كيف أن الذنب ليس ذنبي...", لم يكن (آرثر) قادراً أو حتى راغباً في النظر إلى وجه (لورانس) وهو يحدثه.

"أأنت من طلب من (جوناثان) بأن يقوم بإلقاء زجاجة الحمض تلك نحوك؟".

"....لا, ولكنني أيضاً لم أطلب منك بأن تقوم بدفعي بعيداً عن طريقها, ولكنك فعلتَ ذلك على أي حال... لم كان عليك أن تفعل ذلك؟...", محاولاتٌ فاشلةٌ لإخفاء تهدج صوته لم تسفر عن شيءٍ سوى جعل (لورانس) ينفعل أكثر.

"لست أفكر حتى بالإجابة عن سؤال سخيف كهذا, أنت تعلم بأنني لم أكن لأظل متفرجاً وأنا أرى حدوث ذلك. إن لومك لنفسك هو أكبر إهانة تقترفها تجاه نفسك وتجاهي! إن لم أكن أنا المصاب فستكون أنت, أعتقد أنه من الأنانية قول ذلك, ولكنني لا أريد لنفسي أن أقف متفرجاً عليك وأنت تخسر مستقبلك الذي طالما تمنيته بسبب وغد وضيع.".

"وماذا عن مستقبلك أنت؟!".

"لا تفتأ تتحدث وكأنني أصبحتُ عاجزاً, إنها مجرد عين واحدة يا (آرثر).", تحسس (لورانس) الضماد الذي غلف عينه اليمنى بأطراف أصابعه قبل أن يستطرد, "لست أنوي الكذب عليك...هذا مؤلم لدرجة كبيرة, ولكنها ليست نهاية العالم. بالإضافة إلى أن رؤية (جوني) يُفصل نهائياً من المدرسة لهو أمر يسرني, لطالما كان القذر يستحق ذلك.".

كانت والدة (آرثر) ترافق والدة (لورانس) لإنهاء إجراءات إخراج إبنها من المستشفى بعد عملهم لكل ما يستطيعونه حالياً. لم يكن الحمض الذي تلقاه (لورانس) في عينه وجانب صدغه قوياً, فهو لم يتسبب سوى بحروقٍ بسيطة تركت لوناً محمراً واضحاً لن يلبث أن يزول تدريجياً حسب كلام الأطباء. ولكن العين عضو أكثر حساسيةً بكثير من الجلد, لذا فقد كان الضرر الذي لحق بها مستحيل الإصلاح, وعلى ذلك فقد حُكم على (لورانس) بالعيش بقية عمره بعين واحدة فقط.

كيف يمكن لطيش لحظات أن يقلب حياة الإنسان هكذا؟ رغم علمه بأن (جوناثان) سيحصل على ما يستحقه جزائياً, إلا أن هذا لم يكن كافياً ليشفي غليل قلبه.

وقبل أن يستدير (آرثر) ليواجه صديقه الذي فعل ما فعل لأجله, اقسم بأنه لن يسمح لنفسه بجعل (لورانس) يعاني أمامه مرةً أخرى.

-----------------------------------

التاسع من أكتوبر, الساعة الثانية عشرة ظهراً.

جلس الطفل أشقر الشعر ذو السنوات الثمانية مسنداً ظهره للشجرة الباسقة التي إحتلت ركن الحديقة, كان منهمكاً بالكتابة في الدفتر الذي استقر في حِجره لدرجة أنه لم يلق بالاً للطفل الأصغر عمراً الذي يسدد كرته نحو الجانب الآخر من الشجرة مرةً تلو الأخرى, وكأنه ينتظر ردة فعلِ ما من صديقه. وعندما لم يحصل على مبتغاه, حمل الطفل أسود الشعر الكرة وتقدم نحو الآخر زافراً بضجر: "متى ستنتهي من الكتابة يا (آرثر)؟ بإمكانك عمل فروضك في المنزل, أليس كذلك؟ ليس من الممتع لي اللعب وحدي هكذا.".

"أعطني بضع دقائق يا (لورانس), أكاد أنتهي.", أجابه (آرثر) الصغير بهدوء دون أن يرفع عينه عما يفعله.

"ما هذا أصلاً؟ أنت تكتبُ منذ فترةٍ طويلة, أهو فرض الحساب؟", تساءل (لورانس) بفضول.

"إنه تعبير حر, لقد طلبت منا المعلمة الكتابة عما نريد أن نكونه عندما نكبر.".

إتسعت عينا (لورانس) لتنافس زرقتهما الصافية لون البحر وهو يقول بدهشة: " هل تفكر فيما تريد أن تكونه عندما تكبر منذ الآن؟ أراهن بأنك تريد أن تصبح شرطياً مثل والدك!", نطق الطفل الكلمات الأخيرة بحماسٍ طفولي وهو يبتسم بثقة.

"هذا صحيح, إنه حلمي فعمل والدي مهم جداً, وأريد أن أصبح مثله يوماً ما!", أخيراً رفع الطفل الآخر رأسه لينظر إلى صديقه وهو يبادله الإبتسامة, فلطالما كان هو منبهراً بوالده الذي يشغل مركزاً مرموقاً في شرطة المدينة الصغيرة التي يعيشون فيها.

"وماذا عنك أنت يا (لورانس)؟ مالذي تريد أن تكونه؟".

"أنا...؟", رمش المذكور بتساؤل فهو لم يفكر في أمور كهذه من قبل أبداً, ولكن رؤية حماس صديقه جعله يفكر في الأمر ملياً محاولاً إيجاد الإجابة قبل أن يقول ببراءة: "بما أنه لا والد لي, فأعتقد بأنني أريد أن أصبح أباً!".

إنفجر (آرثر) ضاحكاً ملء فمه من هذه الإجابة الساذجة بينما شيعته نظرات (لورانس) المتسائلة, فسارع (آرثر) بالتوضيح بعد أن تمكن من السيطرة على ضحكاته: "هذه ليست وظيفةً أيها السخيف! عليك التفكير بشيء آخر. هل هناك أمرٌ ما تود تحقيقه؟".

لم يفهم (لورانس) لم كان حلمه الأول يبدو سخيفاً بالنسبة لـ (آرثر), ولكن الأخير يكبره عمراً فلابد من أنه يعلم العديد من الأمور المعقدة التي لا يستوعبها (لورانس) ولا يلقي لها بالاً. لم يكن فرق العمر بينهما يتجاوز السنتين والنصف ولكن لطالما كان (آرثر) يشبه الكبار في عيني (لورانس), إن ذلك أحد أسباب إنبهاره به وقربه منه.

"شيءٌ آخر...؟ حسناً...هممم...", رفع الطفل رأسه لينسدل شعره الأسود الناعم خلفه بينما قابلت عيناه الواسعتان السماء الخريفية, "أريد أن أطير!".

"إذن...تريد أن تصبح طياراً؟", لم يرغب (آرثر) بأن يشرح لـ (لورانس) بأن لا طريقة آخرى هناك لجعله "يطير".

ولكن لم يكن هناك داعٍ للشرح فقد إلتفت الطفل إليه بنظرة ملأتها الآمال والأحلام: " نعم! ألن يكون ذلك رائعاً؟ ستكون أنت ضابطاً وسأكون أنا طياراً!".

أغلق (آرثر) دفتره عقب إنتهائه من فرضه واستوى واقفاً قبل أن ينفض ملابسه ومن ثم التفت الى صديقه المتحمس قائلاً بشيء من العبث: "إذا سيكون عليك أن تبدأ بالتوقف عن نسيان فروضك والتعرض للعقاب من قبل المعلمة, وسنتحدث عن الطيران بعدها.".

-----------------------------------
التاسع من أكتوبر, الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً.

"(ساي), توقف عن إلتهام غدائك دون مضغه جيداً, هذا ليس صحياً!".

هتفت السيدة جميلة الملامح بطفلها بنبرةٍ حملت توبيخاً هادئاً, فهي لم تكن يوماً من الأمهات اللاتي يستعملن الصوت العالي لإيصال ما يردن لأبنائهن. ولكن المُخاطب توقف عن الأكل قبل أن يدفع بكرسيه الذي كان يجلس عليه إلى الخلف ويركض نحو مغسلة المطبخ بمرح: "ولكنني انتهيت أصلاً!", كان يحدث والدته وهو يقوم بغسل وتجفيف يديه وفمه باستعجالٍ قبل أن ينطلق نحو باب منزلهم الفخم ويفتحه وهو يهتف: "سأذهب الآن, لن أتأخر عن موعد العشاء فلا تقلقي.", ولكن قبل أن تخطو قدمه خارج المنزل, إقترب منه أخوه الصغير وهو يتهادي يميناً ويساراً محاولاً الحفاظ على توازنه وهو يمد يده الصغيرة مطلقاً سيلاً من الكلمات المتداخلة وكأنه يطلب من أخيه أن يأخذه معه, وعلى الفور تبدلت تصرفات الصبي وهو يتقمص دور الأخ الأكبر ويستدير مائلاً إلى الأمام ومسنداً يديه على ركبتيه بينما هو يخاطب أخاه الصغير مبتسماً: " لا أستطيع أخذك معي يا (إيدن), ولكنني سأعود قريباً ومعي هديةٌ لك.".

لم يفهم الطفل الصغير شيئاً مما قيل له, ولكن إبتسامة أخيه انتقلت اليه بينما حملته والدته بحنان لتقبل رأسه الذي اكتسى بشعر ناعم بني كأخيه وهي تحتضنه قريباً منها. إن إبنها الأكبر (ساي) كان طفلها الوحيد لمدة تسع سنوات, لذا فإن قدوم (إيدن) كان بمثابة هدية من السماء لعائلتهم الصغيرة المكونة من ثلاث أفراد, فحتى إن كان لم يتذمر يوماً, إلا أنها كانت تدرك مدى وحدة طفلها دون أخ أو أخت يقضي معهم وقته, بالإضافة إلى أنه كان من النوع الخجول الذي يصعب عليه تكوين صداقاتٍ مع الأطفال في مثل سنه. كان يقضي وقته في القراءة أو التجول وحيداً في أرجاء المدينة حتى يصل إلى شاطئ البحر الذي يحد أطرافها, ولكنه وبالرغم من إنطوائته لم يبد تعيساً أبداً, وكأنه لا يرى أي مشكلة في إنعزاله الدائم هذا.

"حسناً, علي الذهاب الآن حقاً.", التفت نحو الباب مرةً أخرى ليندفع خارجاً ويعبر حديقة منزلهم بخطواتٍ سريعة قبل أن يصل إلى الشارع الواسع الذي امتد وسط الحي السكني الراقي والذي تجرد من المارة في هذا الوقت.

لم يكن المكان الذي يقصده ببعيد, فقد كان السير إليه يستغرق خمسة عشرة دقيقة تقريباً, لذا فقد تباطأت خطواته الراكضة رويداً وأخذ يجول ببصره بين الأشجار المتلونة التي حفت جانبي الطريق وأصوات سكانها من العصافير تتناهى إلى مسامعه. يومٌ آخر جميل.

بعد فترة من الزمن, والعديد من التغييرات في مسار الطريق, وصل أخيراً إلى الحي الذي يريده, واتجه مباشرةً صوب المبنى الصغير الذي احتل ركن الشارع وقد استقرت على بابه لوحة خشبية نقش عليها بحروف كبيرة إسم المكتبة الواقعة تحتها, والتي كان يتردد عليها بإستمرار في الأسابيع القليلة الماضية.

تعالى صوت جرسٍ رنان عندما دفع (ساي) الباب ليخطو إلى الداخل بأريحية وكأنه بيته الثاني, وفور أن رأى مالك المكتبة الوقور وجه زائره الصغير, بادره محيياً بلطف: " مرحباً بك يا (ساي), لقد أتيت في موعدك كالعادة.".

بادله الصبي التحية قائلاً وهو يحني رأسه: " مرحباً يا سيدي, هل (روهان) موجود هنا؟", لم يكن هناك داعٍ لهذا السؤال فـ (روهان) يعمل هنا, ولكن جولة سريعة بعيني (ساي) لم تظهره في المكان, مما دفعه لذلك.

"إنه في المخزن العلوي يقوم بتفريغ بعض صناديق الكتب التي وصلت هذا الصباح.".

لمعت عينا (ساي) وهو يبادره بالسؤال: " هل من شيء عن الحيوانات ضمنها؟".

أطلق الرجل كبير السن ضحكة صغيرةً قبل أن يجيبه: " أعتقد بأن هناك مجموعة من الكتب التي ستعجبك, لم لا تذهب للأعلى وتلقي نظرة؟".

لم يكذب الفتى المندفع خبراً فقد إنطلق قبل أن ينهي الرجل جملته حتى, لمح في طريقه عدداً من الكتب المصورة الخاصة بالأطفال صغار السن, فأخبر نفسه بأن يتذكر إستعارة أحدها لـ (إيدن) عند خروجه.

كانت عدة خطوات كفيلة بنقله للأعلى عبر السلم القصير الذي استقر في زاوية المكان, وأطل برأسه ليلمح فوراً الشاب ذو الشعر الأحمر والعينين العسليتين وهو ينحني ليضع صندوقاً بدا عليه الثقل على إحدى الطاولات.

" (روهان), مرحباً!".

رفع الشاب رأسه لينظر إلى الصبي قبل أن ترتسم على محياه ابتسامة دافئة: " ربما كان من الأفضل أن تقوم بالمبيت في المكتبة عوضاً عن القدوم إليها كل يوم في نفس الوقت. أهلاً (ساي).".

أطلق المذكور ضحكة مرحة وهو يقول: " لستُ أمانعً ذلك إطلاقاً ولكن والدي لا يسمحان لي بالبقاء خارج المنزل بعد حلول المساء.".

استقام الشاب وهو ينفض يديه بعد أن أنهى نقل الصناديق وتقدم نحو (ساي) ليربت على رأسه: "يالك من فتى مطيع.".

انتفخت أوداج الصبي الصغير فخراً بهذا المديح الذي تلقاه من شخصٍ يحبه جداً. لطالما كان (روهان) شاباً لطيفاً ومرحاً, كما أنه يعلم نوع الكتب التي يفضلها (ساي), ويقوم دائماً بتوفيرها له وحتى قراءتها معه أحياناً. لابد من هذا هو ما يشعر به من يمتلكون أخاً أكبر, ولكن (ساي) ليس لديه واحد, لذا فهو يرى بأن (روهان) هو أقرب شيء سيحصل عليه لأخ أكبر.

"حسناً, ربما لم يكن مسموحاً لك البقاء خارجاً لوقت طويل, ولكن لديك الوقت الكافي للذهاب معي إلى الشاطئ, صحيح؟ لدي شيءٌ لك هناك.", كان (روهان) يتحدث مع (ساي) معطياً إياه ظهره وهو يفرغ محتويات الصناديق من الكتب ويقوم بترتيبها بإحتراف.

"شيءٌ لي..؟", كرر (ساي) الكلمات بتساؤل قبل أن يستطرد وقد بدأ حماسه وفضوله يزدادان, "ما هو؟".

إلتفت (روهان) بوجهه نحو (ساي) الذي اتسعت عيناه بترقب ليجيبه وهو يبتسم إبتسامةً واسعة: "إنها مفاجأة".

-----------------------------------

التاسع من أكتوبر, الساعة السابعة مساءاً.

"يا إلهي, لم أشعر بمرور الوقت إطلاقاً, ستوبخني والدتي لعودتي متأخراً.".

"لا تقلق, لقد غربت الشمس منذ قليل فقط.".

مشى الطفلان بجانب بعضهما وقد بدأت عباءة الليل تهبط ببطء لتغلف الكون, كان (لورانس) يتسلى بركل الكرة بين الفينة والأخرى بينما سار (آرثر) متقدماً إياه ليقف على عتبة الباب الخلفي الذي تتركه أمه مفتوحاً لهما. لم يكن من غير المعتاد قدوم (لورانس) مع (آرثر) إلى منزل الأخير فوالدتاهما صديقتان حميمتان, وهو ما نتج عنه صداقة إبنيهما أيضاً.

دفع (آرثر) الباب الخشبي الصغير بحذر خشية أن تستقبله والدته بمحاضرة صارمة أخرى عن التأخر في القدوم إلى المنزل, ولكن ما استقبله كان صوت التلفاز العالي الذي تردد في أرجاء غرفة المعيشة بينما كانت والدته تقف على مقربة من الجهاز واضعةً كفها على فمها وقد بدت على وجهها ملامح الأسى, كانت مندمجة مع ما يتم عرضه لدرجة أنها لم تنتبه لقدومهما إلى أن قام (آرثر) بمناداتها بصوتٍ عال طغى على صوت المذيع للحظة.

"أوه, (آرثر), (لورانس), مرحباً بعودتكما. تفضلوا يا أعزائي, سيكون العشاء جاهزاً خلال دقائق.", بالرغم من قولها ذلك إلا أنها ألتفتت لتكمل ما كانت تشاهده بينما تنفس (آرثر) الصعداء فيبدو أنه نجا مما كان يخشاه. مهما كان الشيء الذي يشغلها فهو شاكر له.

تقدم الطفلان نحو المطبخ بينما تبعهما صوت المذيع الرتيب.

"...لم يعد منذ خروجه من منزله ظهر هذا اليوم, وتحتفظ الشرطة بإسم الطفل الذي يبلغ من العمر أحد عشر عاماً, والذي ترون صورته هنا. كما أن عائلة الطفل تناشد أي شخص يراه بالتواصل معهم فوراً.".

لم يعبأ الطفلان بما يعرض أو يلقيا بالاً له, وبينما كان (آرثر) يصب لنفسه كأساً من الماء حدث والدته من داخل المطبخ الذي جاور غرفة المعيشة رافعاً صوته لتتمكن من سماعه: "أين والدي؟ ألم يعد من العمل بعد؟".

دلفت السيدة مطبخها حينها وهي تجيبه: "مع ما يجري الآن, لا أتوقع بأنه سيتمكن من الإنضمام لنا على العشاء. يا إلهي, مالذي يجري في هذه الدنيا؟ يالطفل المسكين.".

مط (آرثر) شفتيه ولم يكلف نفسه عناء الإستفسار عما تقصده رغم أن الأسى لم يفارق وجهها المليح, فقد كان أكثر إنزعاجاً من كونه لن يرى والده الليلة. ولكن هكذا هو عمل الشرطة, عليه أن يكون معتاداً على ذلك الآن.

-----------------------------------

صوت الأمواج التي ترمي بنفسها على أحضان الشاطئ الصخري مصدرةً سيمفونيةً رتيبة مُزِج برائحة الهواء الرطب الذي تشبع من ملوحة البحر وعبقه المميز ليُشكل خلفيةً رائقة لمنظر المحيط المتلألي تحت ضوء القمر الفضي, هي ليلةٌ جميلةٌ بحق.

(( "...لماذا؟..." ))
الحركة مؤلمة, أصابعه الصغيرة كانت ترتجف ببطء, يكاد الجفاف أن يفتك بحلقه لذا فقد فضل البقاء صامتاً رغم أن كل ما يريد فعله الآن هو البكاء بأعلى صوته.

(( "...لماذا فعلتَ هذا بي؟..." ))

قهقهةٌ عاليةٌ أتت من الغرفة المقابلة شقت بوقاحةٍ هدوء الليل بينما كان ذلك الشاب يقول لزميله شيئاً لا يدري هو عن كنهه.

(( "...أريد العودة..." ))

بقي جسده الضئيل متمدداً بلا حراك في ركن الغرفة التي صبغها الصدأ بلونٍ بنيٍ كئيب, كم هو بغيضٌ هذا المنظر. لقد اشتاق لغرفته النظيفة, لرائحة الكعك والزهور القادمة من المطبخ, لأصوات الطيور التي كانت تطربه كلما فتحَ النافذة صباحاً. ولكن هاهو الآن في هذا المكان العطن ذي اللون البني الكريه, وقد أصبح لا يدري إن كان سيعود لحياته السابقة مجدداً.

أغمض الطفل عينيه بقوة محاولاً سد الطريق أمام تيار الدموع الذي كاد يطفح من مقلتيه بينما ألقم نفسه طرف إبهامه ليعض عليه, لقد بكت عيناه بما فيه الكفاية, لدرجة أن الألم الحارق في عينيه بدأ ينافس أوجاع قلبه الصغير.

لم يلبث إلا قليلاً حتى انفتح باب الغرفة التي احتجزته وأطل عليه وجه شابٍ بدا عليه الخبث سرعان ما قال بسخرية: "إن ضيفنا الصغير مطيعٌ فعلاً.", تبسم القائل لـ (ساي) بوقاحةٍ وكأنما قرر بأن لا يرى معاناته.

أتى صوت مألوف من الغرفة المجاورة وهو يقول: " سيحين الوقت قريباً, استعد للتوجه إلى حيث اتفقنا. اتبع ما قُلته لك بحذافيره لكي لا يفسد كل شيء.".
إلتفت الشاب لزميله وهو يقول: " ربما علينا تقييده على الأقل, قد يحاول هذا القذر الصغير الهرب.".

رد عليه الصوت بهدوء: "إنه مجرد طفل, مالذي سيمكنه فعله؟ عض يدك؟", كان التهكم جلياً في كلماته, وهو ما جعلها مؤلمةً أكثر وأكثر.

"لعلمك فإن عضته موجعة, مازلتُ غير قادر على تحريك يدي بشكل طبيعي!", هتف به بحنق وهو يلوح بيده اليمنى غاضباً قبل أن يلتفت نحو (ساي) ويعطيه نظرةً نارية جعلت الصبي ينكمش في مكانه أكثر.

"لقد كان ذلك بسبب إهمالك, ولكن هذا لا يهم الآن.".

كيف كان للأمور أن تصبح هكذا؟ لماذا؟

"ولم الإنتظار كل هذه المدة يا (روهان)؟ نحن هنا منذ ساعات, كان بإمكاننا إنهاء كل شيء منذ دهر!".

"كالعادة أنت لا ترى أبعد من أنفك, عزيزي (داني). إن الإنتظار يجعلهم أكثر ذعراً وبالتالي أكثر قابليةً للتفاوض. ولكنني لا أتوقع منك أن تفهم هذه التفاصيل, لذا دع التخطيط لي وانطلق لتنفيذ ما يخصك من الخطة, إتفقنا؟", النبرة الهادئة الحازمة بعثت بقشعريرة باردةٍ في جسد (ساي), كيف يمكن أن يكون هذا هو (روهان) اللطيف الذي يعرفه؟

زمجر المدعو (داني) بشيء ما قبل أن ينقلب على عقبيه متجهاً نحو الباب الحديدي الصدئ الذي يفصل المكان عن العالم الخارجي متجاهلاً حتى إغلاق باب الغرفة التي كان فيها (ساي). كان صدى خطواته يتردد بوضوح على الأرضية حتى امتزج ذلك بصوت صرير معدني لباب يفتح ببطء ويغلق بعد دقائق تاركاً الطفل والشاب وحدهما.

ساد الصمت بعدها, صمتٌ لم يقاطعه سوى صوت الحشرات الليلية التي تخرج من أوكارها بعد غروب الشمس. إنه لا يعلم حتى أي ساعة هي الآن, وجعله ذلك يتساءل عما تفعله والدته الآن, لابد من أنها ووالده قلقان جداً.

بعد برهةٍ قصيرة لم يتغير فيها الوضع الساكن, رفع الصبي نفسه عن الأرض ببطءٍ مستنداً على كفيه وهو يشعر بشيء من بقايا الدوار الذي احتل رأسه سابقاً. خطواته المتمهلة الحذرة أخذته نحو الغرفة المجاورة التي احتلها (روهان). كانت الإضاءة الرديئة تزيد من كأبة المكان, ولكن رؤية وجه (روهان) الخالي من أي تعبيرات وقد انشغل بتقشير تفاحةٍ صغيرة بسكين جيب دون أن ينظر بإتجاهه رغم سماعه لخطوات الصبي هو ما جعل قلب (ساي) يغوص في جوفه.

لماذا؟ لماذا؟

"هل أخبرتك سابقاً عن شقيقاتي اللاتي يصغرنني عمراً؟ إن بعضهن بنفس سنك تقريباً. أنا الأخ الأكبر في العائلة, وهي ليست بالعائلة الصغيرة.", بدأ (روهان) بالحديث بهدوئه المعتاد وقد أنهى تقشير التفاحة, وحالما فعل ذلك قام باستقطاع جزء منها و رفعه إلى فمه أمام عيني (ساي) الذي وقف كالتمثال وهو لا يدري مالذي يفترض به قوله أو فعله.

"أنت محظوظ لأنك ولدت لعائلة ميسورة الحال, ولكن لا يمكن لكل البشر أن يكونو محظوظين, ولذلك فعلى البعض أن يفعلوا ما يجب عليهم فعله من أجل عائلاتهم, حتى وإن كان ذلك يعني تلطيخ أيديهم بقذارة الجريمة.".

مالذي يقوله (روهان)؟ هل يعني هذه الكلمات فعلاً؟ أي نوع من التبريرات هذا؟ إن (ساي) لا يعلم حتى مالذي يشعر به الآن, أهي الكراهية؟ أم الإحباط؟ أم الصدمة؟ بدا وكأن الخواء الذي عم قلبه وعقله هو ما مكن لسانه أخيراً من نطق الجمل التي كان يفكر فيها.

"كيف لك أن تفعل شيئاً كهذا؟! لقد وثقتُ بك..! أنت تقول أنك تفعل هذا من أجل عائلتك, ولكن كيف لهم أن يسامحوك على اقترافك لفعل كهذا بسببهم؟!", إلتفت (روهان) ببطء لينظر إليه بعينين غلفهما البرود دون أن ينبس ببنت شفة بينما تحرك جسده ببطء ليفارق المقعد الذي جلس عليه ويسير بخطوات متمهلة نحو (ساي) بعد أن قام بوضع التفاحة والسكين على طبق صغير استقر فوق الطاولة الخشبية العتيقة.

كانت المرارة التي تطفح من قلبه تتدفق عبر حنجرته بلا تفكير, ولم يتمكن من إيقاف كلماته رغم علمه في قرارة نفسه بأن ذلك ليس من مصلحته. (روهان) يقترب منه رويداً, ولكنه لا يهتم الآن.

"لم أتوقع يوماً بأن تكون دنيئاً لهذه الدرجة, ألم تجد سوى هذه الطريقة؟! لست أشك بأن أخواتك سيشعرن بالعار عند علمهن بأن شقيقهن الأكبر مجرد وغد جبان!!".

كانت الصفعة المفاجئة التي تلقاها كفيلة بإقتلاعه من مكانه وإلقائه على الأرضية التي كساها الغبار قبل أن يتمكن من إصدار أي صوت حتى.

الألم الحارق الذي تفجر في خده وجانب رأسه جعله يستعيد الدوار الذي لم يفارقه كلياً منذ وصوله إلى هذا المكان, ولكنه جاهد ليرفع رأسه فقط ليكشتف بأن (روهان) كان واقفاً أمامه تماماً وقد تبدلت نظراته الهادئة المعتادة كلياً ليحل محلها وجه التَوَت ملامحه بغضب مكبوت.

قبل أن يتمكن (ساي) المذعور من فعل أي شيء, وجد نفسه يرفع من على الأرض رفعاً بيد (روهان) القوية التي قبضت على ياقة قميصه لتدفعه خلفاً وتثبت جسده على الطاولة الخشبية بينما اقترب وجه الشاب منه لدرجةٍ جعلته يشعر بأنفاس (ساي) اللاهثة وهو ينظر مباشرةً نحو عيني الصبي اللتين اتسعتا بجزعٍ واضح.

"أنت صبي طيب طالماً أبقيت فمك مغلقاً, لستُ بحاجةٍ لأمثالك لكي يخبروني بمواعظ أخلاقية فأنت لم تعش يوماً بعيداً عن كنف حياتك الرغيدة!!", هدر (روهان) بذلك وقبضته تضيق حول ياقة (ساي) أكثر وهو يستطرد بصوت خفيض كالفحيح حمل الكثير والكثير من الحقد, "فلتعلم بأنني قادر على إسكاتك فوراً وللأبد, لستُ سأخسر شيئاً فما كنت سأحصل عليه بسببك أستطيع الحصول عليه عن طريق أخيك. أنت أخبرتني بنفسك بأن لا أحد سواه ووالدتك بالمنزل فوالدك دائم الإنشغال في عمله الذي يجني منه كل هذه الثروة, لن يكون من الصعب علي أن أضع يدي على طفل في الثانية إن أردتُ ذلك.".

فور سماع (ساي) لكلمات (روهان) المسمومة, توقفت كل مشاعر الألم والخوف بداخله ليحل مكانها شيءٌ مختلف اندفع عبر عروقه كطوفان ساخن جارف جعل جسده يتحرك كما لو أنه مسير من قبل شخص آخر, وفي لمح البصر كانت أصابعه الصغيرة تقبض على السكين التي رقدت بالقرب منه على الطاولة, وبدون تفكير شق طريقها لتستقر في أقرب ما يمكنه الوصول إليه من جسد الشاب الذي جثم فوقه.

"....مالذي قُلتَ بأنك ستفعله لـ (إيدن)؟".

أهذا الصوت البارد كحد سيف صوته هو فعلاً؟

تفجر اللون الأحمر أمام ناظريه ليغمره وما يحيط به بينما اتسعت عينا (روهان) العسليتان وقد جمعت الألم والمفاجأة وعدم التصديق, وربما كانت السكين المغروسة في جانب عنقه هي سبب عدم تمكنه من إخراج أي صوت ما عدا حشرجة ثقيلة توقفت بعد ثوانٍ عندما تراخى جسده ليستقر بكل ثقله فوق جسد (ساي) الصغير الذي تجمدت قبضته على مقبض السكين.

وفي تلك اللحظة, توقف الزمن بالنسبة لـ (ساي), ومعه تباطأت أنفاسه وتوقف عقله عن العمل وكأنما هو غير قادر على استيعاب ما حدث للتو. كان كل ما يشعر به هو الضياع التام, وكأنما هو جزء من حلم مريع لا يريد أن ينتهي.

ولكن ما حوله أبى إلا أن يذكره بأنه يعيش واقعاً لا دخل له بالأحلام. دقات قلبه العنيفة, الدماء الدافئة التي مازالت تتدفق بغزارة لتصبغه بلونها, الجسد الهامد الذي استقر فوقه.

كان الموت المحلق حوله هو آخر ما يربط (ساي) بحياته السابقة, قبل أن يفقد شيئاً بداخله للأبد.

-----------------------------------

العاشر من أكتوبر, الساعة الخامسة فجراً.

الطرقات المتتابعة على الباب المصنوع من الخشب الفاخر أجبرت السيدة التي أنهكها البكاء منذ ساعات مديدة على التحامل على نفسها والإتجاه بتثاقل نحو الباب بعد أن تأكدت من أن إبنها الصغير يرقد بسلام على الأريكة غير عالم بحجم المصيبة التي حلت على هذه العائلة منذ الليلة الفائتة. من عساه يكون الطارق في ساعةٍ كهذه؟ إنه ليس زوجها بالتأكيد فهو قد غادر مع رئيس الشرطة منذ وهلة. قد يكون فرداً من أفراد الشرطة؟

إمتدت يدها النحيلة لتمسك بالمقبض بينما خرج صوتها الجاف متسائلاً عن هوية الطارق.

"....أمي؟".

كانت هذه الكلمة المتهدجة الوحيدة كافية لقلب جميع مشاعرها رأساً على عقب في غضون لحظة واحدة هي كل ما استغرقته لتسحب الباب بسرعةٍ مظهراً خلفه آخر ما كانت تتوقع رؤيته الآن وأكثر ما كانت تريد رؤيته منذ البارحة.

كان إبنها (ساي) الواقف على عتبة الباب صورةً مجسدةً للبؤس والإرهاق, كان شعره متناثراً والماء يقطر من ملابسه مكوناً بركةً صغيرةً تحت قدميه بينما ارتجفت يداه الصغيرتان بشكل واضح. ملابسه التي كانت نظيفة مهندمة تحولت إلى عجينة من الطين والنسيج.

ولكنها لم تعبأ لأي من ذلك وهي تطلق صرخة ملتاعة بإسمه وتندفع لتحتويه بقوةٍ إعتصرت جوانب جسمه وهي تنفجر باكيةً بحرقة من ظنت أنها خسرت إبنها للأبد.

"(ساي)!! يا إلهي...يا طفلي العزيز... مالذي حدث لك يا حبيبي؟...شكراً لله الذي أعادك إلي سالماً...يا إلهي...".

لم يتحرك هو من مكانه ولم ينبس بشيء على الأطلاق, لذا فقد ابعدت نفسها عنه لتلقي نظرة على وجهه وقد تحركت أصابعها المتلهفة لتمسك بخديه الذين تغلغل فيهما البرد والبلل وهي ما زالت تشهق وقد رفضت عيناها أن تتوقف عن ذرف الدموع.

"كيف عدت إلى هنا؟ لقد إتصل أحدهم على والدك وأخبره بأنك...يا طفلي الصغير...مالذي فعلوه بك؟".

رغم كل ما حدث معه في الساعات الماضية, رغم الألم والخواء والمرارة والخوف, إلا أنه في هذه اللحظة شعر بدفء حنانها الفياض يذيب كل ذلك. لم يعد عليه أن يخشى شيئاً فهو بين ذراعيها الآن, وهو المكان الذي كان يتوق إليه بشدة.

لماذا إذن يجد نفسه غير قادرٍ على إخبارها بالحقيقة؟

إنها أمه الرؤوف, هي لن تلومه ولن تخبر أحداً عما فعله, ستحميه بحياتها إن تطلب الأمر ذلك, وهو يعلم هذا يقيناً. ربما كان ذلك هو السبب الذي يمنعه, إن مشاركتها سره سيجعلها أيضاً شريكته في الألم والذنب. أي نوع من النظرات ستنظر إليه بها حينها؟

إبتلع (ساي) ريقه ومعه رغبته في البكاء بالإضافة إلى كل مشاعره المختلطة وكأنها كُرة من الأشواك انحشرت في حلقه.

لم يستطع إخبارها بأنه قضى أكثر من ساعة متسللاً على شاطئ البحر تحت جنح الظلام برَوَعٍ ليقوم بغسل نفسه وملابسه من آثار الدماء وهو يدعو في سره بأن لا يراه أحد, لم يكن الأمر سهلاً فقميصه الأبيض لم يستعد لونه السابق كلياً, مما حدا به لأن يقوم بتلطيخه بالطين عنوةً لإخفاء ما لم يتمكن الماء من إزالته. كان يخشى أن يعود شريك (روهان) قبل أن يتمكن هو من الفرار, ولكن السكين التي انتزعها من عنق الأخير كانت مستقرةً في جيبه, مما أعطاه شعوراً بسيطاً بالأمان. قام بغسلها هي أيضاً قبل أن يطويها ويعيدها إلى حيثُ كانت.

"لقد تمكنتُ من الهرب...تشاجر أحدهما مع الآخر وانتهزتُ أنا الفرصة للفرار...أتيتُ راكضاً من الشاطئ إلى هنا...", كان صوته المنهك يزداد ضعفاً مع كل كلمة ينطقها, إن وزن الكذبة التي يخبرها بها والذنب تجاه ما فعله يكاد يسحق قلبه, "...إنني متعب يا أماه...".

حانت منه نظرةٌ نحو الجسد الصغير الذي نام ببراءة ملائكية على أريكة غرفة المعيشة, وقد كان ذلك كافياً ليجعله يشعر بأن الثمن الذي دفعه مقابل سلامة أخيه كان يستحق ذلك. وعندها فقط سمح (ساي) لنفسه أخيراً بأن يسند رأسه على صدر أمه الدافئ, ولم تكذب هي خبراً فهي لم تكن تهتم بالتفاصيل بقدر إهتمامها بكون إبنها قد عاد إليها سالماً معافى. أعادت ذراعيها حوله لتضمه بقوةٍ وكأنها لا تنوي إفلاته أبداً, وترك هو العنان لجسده ليسترخي في أحضانها طمعاً في الهروب من هذا كله.

-----------------------------------

"... ولذلك أفضل إبقاء هذه السكين معي. إنها تذكرني بأن الجبناء لا يقتاتون سوى على الضعفاء, ولهذا السبب أنا أرفض أن أكون جباناً أو ضعيفاً.".

كان السكون الذي حل بالغرفة بعد جملته ثقيلاً, ولكن (ساي) كان يستطيع بسهولة تخمين نوع التعبيرات الذي يكسو وجه (لورانس) الآن.

لقد أخبر كل واحد منهما الآخر بنسخةٍ مختصرة من قصصهما, محتفظين بالعديد من التفاصيل لنفسيهما. ثمة شعور بالراحة ينتاب المرء بعد أن يفصح عن مكنوناتٍ سكنت بداخله لسنوات دون أن يفصح عنها, لذا لم يكن أي من الشابين يشعر بالضيق الذي تخيلاه. في هذا الوقت العصيب, وفي هذه الغرفة الواسعة التي لم تحمل سواهما, تشاركا شيئاً سيربطهما سوياً للأبد: الثقة.

"....كان بإمكانك أن لا تخبرني الحقيقة, أليس كذلك؟ لا تبدو مستمتعاً بقص هذه القصة علي, ولكنني لستُ ألومك على ذلك.", حتى (لورانس) أدرك بأن ما سمعه للتو ليس مجرد فبركة وليدة اللحظة, فقد كانت نبرة (ساي) وملامحه تنطق بأكثر مما تفعله كلماته. لا مجال للمزاح والمشاكسة بعد ما سمعه, فقد رأى جانباً لم يكن يحلم حتى بتواجده داخل (ساي) الذي طالما بدا وكأنه لا يملك هماً في الدنيا.

"كان بإمكانك أنت أن تفعل ذلك أيضاً, ولكنني أعلم بطريقة ما بأنك أصدقتني القول. كنتُ أستطيع سماع صوت أنفاسك ونبضات قلبك تقفز وأنت تروي علي حكايتك. علي الإعتراف يا (لورانس)...", صمت (ساي) للحظة قبل أن يكمل بلهجةٍ صافية لم تحمل ذرة من التكهم أو التصنع, "...أنت لست بالسوء الذي توقعته أبداً.".

مهما كان (لورانس) يتوقع من (ساي) قوله, إلا أنه لم يكن يترقب مديحاً كهذا أبداً, لذا فقد كان مسروراً لكون الأخير لا يستطيع رؤية إحراجه الواضح.

"لا تبدأ في الإعجاب بي الآن, سيكون الأمر مقززاً.".

ضحك (ساي) بمرح بعد سماعه لهذه الجملة وكأنهما لم يكون يخوضان في ماضييهما السوداوين منذ دقائق: "أنا لستُ بهذه الدرجة من الجنون بعد.".

دون أن يحتاج الشابان المتناقضان لأي كلمات أو وعودٍ منطوقة, كان كل منهما يعلم في قرارة نفسه بأن سره بمأمن مع الآخر.

-----------------------------------



الـــســـاعـــة الــخـــامــــســـة -إنتهى-


لا تستطيع منع الأشياء السيئة من الحدوث, ولكن يعود القرار لك في جعلها تُعلمكَ أو تحطمك.


 
 توقيع : ساي

دخول متقطع .

التعديل الأخير تم بواسطة ساي ; 09-22-2022 الساعة 02:01 PM

رد مع اقتباس