عرض مشاركة واحدة
قديم 09-22-2022, 02:27 PM   #13
ساي
عضو جديد


الصورة الرمزية ساي
ساي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1308
 تاريخ التسجيل :  Jul 2020
 المشاركات : 2,292 [ + ]
 التقييم :  3532
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Silver
شكراً: 0
تم شكره 4 مرة في 4 مشاركة

مشاهدة أوسمتي



[SIZE="4"][CENTER]. طابت ليلتكم وأيامكم جميعها.

تحت عتمة الليل, وبينما يسكن الكون من حولي, أتيتكم بآخر ما تبقى في جعبتي من كلمات لأرصفها هنا لكم.

لقد حان الوقت.

لكل شيء أجل, ولكل طريق نقطة وصول. وها نحن ذا, في الجزء الأخير من هذه القُصيصة الصغيرة التي لم أتخيل أنها ستكتمل حتى عندما بدأتُ أضع لبنات حروفها هنا أول مرة.

لن أطيل عليكم, بل سأترك الكلمات لتقودكم إلى النهاية, فأنا أجد نفسي غير قادرة على ذلك.
الفصل الثاني عشر و الأخير
-----------------------------------
لا تمشِ خلفي, أنا لا أريد أن أقودك. لا تمشِ أمامي, قد لا أستطيع اللحاق بك. إمشِ بجانبي فقط وكن صديقي.
-----------------------------------





كان الظلام دامساً, لم تستطع حتى رؤية أصابعها.

كان الصمت مخيماً, لم تتمكن حتى من سماع صوت دقات قلبها.

كان الخواء مطبقاً, لم تتمكن حتى من الشعور بوجودها.

مشاعرها تجاه هذا العدم كانت تتأرجح كبندول تائه بين السلام الداخلي والقلق. كونها وحيدةً هنا يعني بأنه لا أحد سيتمكن من إيذائها, ولكنه مكان مقفر... مقفر جداً.

ولكن لحظة...لم بدأت أطراف هذا السواد تكتسي بلون أحمر فجأة؟ من أتت أصوات العواء الصارخ هذه؟ كيف أصبح جسدها ثقيلاً كطن من الفولاذ هكذا؟

تصاعد الرعب في قلب (أمورا) كمقطوعة موسيقية بلغت ذروتها بينما تسللت قشعريرة الخوف نحو كل جزء من جسدها. لقد إنتهى كل شي, هنا والآن, ستقضي نحبها بكل تأكيد. كل أحلامها, كل آمالها, لن يكون لها أي معنى إن أُزهقت حياتها الآن. أجبرت نفسها على الركض على غير هدى من الخطر الذي يحدق بها. ولكن ماهو هذا "الخطر" بالضبط؟ إنها لا ترى حولها سوى اللاشيء, لماذا إذن هي تشعر بأن ثمة شيءٌ ما يطاردها؟ ما مصدر الفزع الذي يدب في أوصالها؟

أين كانت؟ وإلى أين تتجه؟..... من يعلم؟ كل ما تعيه الآن هو حاجتها للإبتعاد.

" (ستة)...ها قد غربت الشمس, ما عساك ستفعل؟

(خمسة)...ظلال سوداء خرجت زاحفة, هل بدأت توجل؟

(أربعة)...جثث ميتة, من كان هذا الشخص قبل أن يرحل؟

(ثلاثة)...أبواب لا مفاتيح لها, هل من سبيل لتدخل؟

(إثنان)... بلا أعين يحرسان, أرأيت أحدهما وأنت تتجول؟

(واحد)...هو الذي سيبقى, هل هو أنت؟ هل ستقبل؟".


اللحن الخافت الطفولي بدا دخيلاً على ما أحاط بها من أجواء سوداوية, لم تتساءل عن كلماته الغريبة قدر تساؤلها عن المكان الذي أتى منه.

باب خشبي وقف وحيداً في منتصف الفراغ الأسود الذي احتواها, لم يكن هناك من شك بأن الغناء كان ينبعث من خلفه... باب؟ لا جدران هنا ولا غرف, كيف لباب أن يتواجد بهكذا مكان؟ وكيف لم تره من قبل؟ ولكن...هل يهم ذلك حقاً؟ إن أي مكان يؤدي إليه سيكون أفضل بالتأكيد من هذا, حيث لا ينتظرها سوى الذعر من المجهول والذي لن يؤدي إلا إلى جنونها. نعم, هي لا تبالي طالما ستتمكن من الهرب. إنقضت يدها على مقبض الباب الصغير لتفتحه وتدفعه دفعاً منطلقةً ركضاً إلى حيث يكتب لها القدر.

كان إفتراضها بأنها ستجد ملاذاً وراءه خاطئاً جداً.

وكأنما قامت بضغط زر سري ما, إنقطع صوت الغناء فوراً حال وصولها للداخل, وما رأته أجبر قدميها المتسارعتين على التوقف, وبدلاً من تشعر بالإطمئنان لهربها مما كان يلاحقها, إذا بالرهبة تتفجر بداخلها أكثر وأكثر.

الأرضية الرخامية الفاخرة حملت الأبيض والأسود بتناسق فني بديع, ولكن حجم الغرفة – إن صحت تسميتها بذلك – كان كبيراً بشكل مهول. الأعمدة الرخامية الباسقة امتدت للأعلى حتى تلاشت ملامحها في غياهب الظلام. كم يبعد سقف هذه الغرفة عن أرضيتها؟! من الواضح أن لهذا المكان أبعاداً فيزيائية بخلاف ذلك الذي سبقه. كيف؟ هل هي تهلوس؟

تقدمت ببطء نحو الأشكال المبهمة التي تراءت لها على الأرض الممتدة مد بصرها, لم تكن ماهيتها واضحةً ولكنها لم تكن تتحرك, مما أعطاها شعوراً ضئيلاً بالأمان.

وحالما إقتربت كفاية لترى المنظر الذي ينتظرها عن قرب, كاد قلبها الذي يخفق بشدة أن يقفز عبر ضلوعها, وتحجرت مقلتاها في نظرة طفحت جزعاً وصدمة, صدمة لدرجة أن عقلها لم يستوعب منذ أول نظرة, ولا الثانية ولا الثالثة.

الأرضية اللامعة الأنيقة حملت ساعةً مرسومة عملاقة خُطت حدودها وأرقامها الفوضوية التي بدت وكأنها كتبت على عجل بلون أحمر قان تناقض بشدة مع الأبيض والأسود أسفله. هذه الساعة الكئيبة كانت تحتوي في منتصفها على أربعة عقارب بدلاً من إثنين.

أو بالأحرى...أربعة أجساد.

تنقلت عيناها غير المصدقاتان بين وجوههم...(نويل), (يوهانا), (لورانس), (آرثر)... بدوا جميعاً وكأنهم نيام لا أكثر رغم إختلاف وضعياتهم, ولكن الخيوط الحمراء التي تسللت من أجسادهم لتختلط بأرقام وحدود الساعة كانت توحي بغير ذلك.

(نويل) الذي استلقى على ظهره ورأسه الذي حمل عينين شبه مغلقتين.

(يوهانا) الراقدة على جانبها الأيسر وقد امتدت ذراعها.

(لورانس) كان يواجه (يوهانا) على جانبه الأيمن.

(آرثر) لم يكن وجهه ظاهراً بوضوح, ولكن جسده المنبطح على بطنه وشعره الأشقر الباهت اللذان دلاها على هويته.

إرتجفت شفتا (أمورا) وهي تتراجع فرقاً ببطء, بينما أخذت تهز رأسها لا إرادياً وهي تتمتم بصوت متهدج: "لا...مستحيل...ماهذا؟...مالذي أراه أمامي؟...كيف لهذا بأن يحدث؟...". ما أن توقفت شفتاها عن الغمغمة حتى نبهها عقلها بأنها نسيت شيئاً مهماً جداً.

أين هو (ساي)؟

ولكنها لم تكد تستحضر إسمه في ذهنها متسائلةً عن مصيره حتى شعرت بقشعريرة باردة تسري عبر ظهرها, رافقها إحساس ساحق بأن ثمة شيءٌ ما يقف خلفها مباشرة.

"(أمورا)...".

هذا صوته! إنه صوت (ساي)! هتفت لنفسها بسعادة قبل أن يكمل الصوت بهدوء: "هل لكِ أن تموتي لأجلي رجاءاً؟".

الكلمات المشؤومة التي وأدت سعادتها الوليدة دفعتها لتستدير وتواجه الشخص الواقف خلفها لتتراءى أمامها إبتسامةٌ عذبة قابلها (ساي) بها, إعتلاها زوج من الأعين عديمة التعبير فاحمة السواد.

-----------------------------------

هذا ليس وجه (ساي), إنه... (نويل)؟

بدأ ذهنها يستعيد صفاءه تدريجياً وجفناها يرتفعان ببطء ليظهرا عينيها الناعستين.

"أوه, (أمورا). عذراً, هل تسببتُ في إيقاظك؟", إبتسم (نويل) بشيء من الخجل وتأنيب الضمير وهو يكمل ما كان يفعله, يبدو أنه وصل للتو وأن صرير الباب الخشبي الذي كان يغلقه خلفه هو ما انتزعها من سباتها الطفيف. متى حل عليها النوم أصلاً؟ إنها لا تتذكر سوى أنها جلست في طرف الأريكة الوثيرة وأسندت رأسها للخلف لعدة ثوانٍ.

صوت دقات الساعة الرتيبة في هذه الغرفة التي كانت المحطة التالية لهم, هل لذلك علاقة بالحلم الذي رأته للتو؟ تداعت إلى ذهنها صور ما عاشته في ذلك العالم الآخر الكريه, ولكن قبل أن تتمكن من التبحر في ذكراها السوداء تلك قامت بهز رأسها عدة مرات وكأنها تنفض عن رأسها ما تعلقت به من أفكار. لعيني (نويل) المهتمتين, كان الأمر يبدو وكأن (أمورا) تقوم بطرد آثار السبات عنها.

إنه مجرد حلم, إنه مجرد حلم.

"إذن, هل انتهيت مما طلبته (يوهانا) منك؟", ابتلعت ريقها وهي تحاول جاهدة أن لا يظهر اضطرابها على صوتها.

تقدم (نويل) ليجلس على الكرسي المواجه للأريكة التي حملتها ويعقد ساقيه بأناقة وخفة من اعتاد على ذلك, أطلق الشاب زفرة قصيرة وهو يميل برأسه على يده التي إتكأ ساعدها على ذراع الكرسي الأثري الفخم.

"نعم, لقد إنتهى (آرثر) و (يوهانا) من تنفيذ دورهما, و (ساي) يرقد الآن في القبو. هذه الخطة محطمة للأعصاب فعلاً. لقد كنت أخشى أن يُفتضح أمري بينما أنا أدس الرسالة والمفتاح أسفل الباب. فكرة من هي بأن نكتب رسالة كهذه على غلاف قطعة حلوى مصاصة أصلاً؟! حسناً...أعلم بأنه لم يكن لدينا خيار آخر, ولكن الأمر مثير للضحك والبكاء في نفس الوقت. سنكون محظوظين إن أخذونا...أعني...إن أخذنا أنفسنا على محمل الجد!". لم يكن من عادة (نويل) الثرثرة هكذا, ولكن (أمورا) أدركت في قرارة نفسها بأنه إنما يحاول تفريغ توتره هو الآخر بطريقة ما.

إبتسمت الفتاة بلطف وهي تطوي خصلات من شعرها الحريري الطويل خلف أذنها قبل أن تقول: "أنا متأكدة أنك أبليت حسناً, (نويل). لم يبق لنا سوى القليل قبل أن نتمكن من العودة للجميع.".

تلونت وجنتا المذكور قليلاً بهجةً بهذا الإطراء, ولكنه نظر بركني عينيه للأسفل وهو يغمغم: "ما بقي هو الجزء الأصعب. سيكون علي إقناعهم...إقناعنا...بالموت من أجل حماية (ساي).".

على الفور تبادر إلى ذهنها منظر الشاب الباسم الذي كان واقفاً خلفها في الحلم المقيت, طالباً إياها أن تموت لأجله. القشعريرة الباردة بدأت تسري في جلدها مجدداً, إنها لا تريد الموت لأجله ولا لأجل أي شخص آخر!

ولكن...أليس وجودها هنا, الآن, أكبر دليل على أنها "ماتت" لحمايته سابقاً؟

إنعقد حاجباها الجميلان وإجتاحتها موجة من الغضب والحقد بسبب هذه الفكرة, ووجدت نفسها تهمس بغِل: "سحقاً لك يا (ساي)! أنا لا أرتاح من مشاكلك حتى بعد الموت!".

-----------------------------------

التفت (لورانس) برأسه نحو (ساي) الذي عطس فجأة وسط جملته التي كان يقولها, قبل أن يشهق الأخير بعمق ويقول: " تباً, يبدو أنا هناك نذلاً ما يذكرني بسوء!".

"هل تمزح؟ لا أحد يذكرك بخير أصلاً, لم أنت مستغرب هكذا؟", تراقصت الإبتسامة المتشفية على شفتي (لورانس) وهو يرد عليه بذلك.

غمغم (ساي) ببرود: ".....شكراً لك على رأيك الثمين هذا, سأتظاهر بأنني لم أسمعه.".

تداخل صوت أنثوي متهكم مع نهاية جملة (ساي) قائلاً: "نذهب ونعود عبر الزمن وأنتما مازلتما تتجادلان كالصغار, ويحكما متى ستعقلان؟!".

استدار الشابان – وإن كان أحدهما لا يرى -نحو (يوهانا) التي خَطَت إلى داخل الغرفة عاقدةً ساعديها, يتبعها (آرثر) الذي انتبه (ساي) فوراً إلى أن نبضه أسرع بشكل ملحوظ عن المعتاد.

"ألم تسمعي بأن الحكمة تؤخذ من أفواه المجانين يا (هانا)؟".

"هذا صحيح! (لورانس) على حق تماماً, كما أن التعقل ممل جداً.".

رفعت الفتاة أحد حاجبيها وهي تنقل نظرها بينهما لثانية قبل أن تقول بإستغراب ساخر: "منذ متى كان (ساي) و (لورانس) يتفقان على شيء واحد؟ هذه سابقة تاريخية جديرة بالتسجيل.".

لم يرد عليها أي منهما, بل قرر (ساي) أن يدير دفة الحديث نحو موضوع آخر أكثر أهمية في محاولة منه لعدم الخوض في تفاصيل ما كان يفعله مع (لورانس) قبل حضورهما.
"إحم, إذن... كيف كانت رحلتكما؟ أستطيع رؤية أنك بذلت مجهوداً كبيراً يا (آرثر). آه... ليست كلمة "رؤية" دقيقةً بالتحديد ولكنك تعلم ما أعني.".

"في الواقع..", بدا المذكور محرجاً قليلاً وهو يجيب محدثه, "لقد سار الأمر على أفضل مما يرام, لولا أن أحدهم كان يقاوم كخرتيت ثائر, مما أدى إلى أنني قمت بالتسبب في إصابته إصابة طفيفة أسفل عنقه. لم أكن أقصد ذلك, صدقاً! ولكن, رباه, كم أنت عنيد يا (ساي). لقد استغرق الأمر أطول مما توقعت.".

طأطأ (ساي) برأسه مفكراً وهو يتحسس أسفل عنقه: "شكراً لك, سأعتبر هذا مديحاً. حسناً... أعتقد أن هذا يفسر الجرح الذي حصلتُ عليه في المرة السابقة, وكل ما تبقى الآن هو إنتظار عودة (نويل) و (أمورا). أتمنى أن البلهاء لم توقع نفسها في مصيبة ما هناك.".

جلس (آرثر) على الأريكة بجانب (لورانس) الذي رمق (يوهانا) بعينه وهي تتجه نحو السرير الوحيد في الغرفة قبل أن يقول لها بنبرة متشككة: "هل كان من الضروري فعلاً أن تقوما بحَبكِ خطة ملتوية كهذه؟ نحن حتى لا نضمن بأن كل هذا سيؤدي إلى نتيجة ما في النهاية.".

استقرت الفتاة على السرير مسندة جسدها بيديها على الجانبين وهي تنظر إلى محدثها بصمت, ولكن سرعان ما أخذت نفساً عميقاً وقالت موجهةً حديثها له: "هل تعلم كيف هي الدوامات يا (لورانس)؟".

رمش الشاب المستغرب عدة مرات قبل أن يعقد حاجبيه بتساؤل: "الدوامات؟...وما دخل الدوامات بما يجري هنا؟".

عدلت (يوهانا) نظارتها فوق أنفها قبل أن تجيبه: "الدوامات هي ظاهرة ناتجة عن وجود محور وهمي يتحرك حوله تياران أو أكثر في اتجاهات مختلفة. فلنبدأ بإفتراض أن هناك دوامة في سطح من الماء, إنها لا تغطي المكان كله, ولكنها تؤثر على منطقة معينة فقط. من السهل جداً أن تنزلق بداخلها, ولكنك لا تستطيع العودة من نفس البؤرة لأن الضغط يختلف في الجانبين.", كانت تحرك يديها لتدعم شرحها بينما انصب تركيز الشبان الثلاثة في الغرفة على ما تقوله, وكأنهم طلاب في صف مدرسي ما.

"على ما أعتقد – وإعتقاداتي صحيحةٌ عادةً فيما يتعلق بهذ الأمور –فإن ما يحدث هنا مشابه لذلك. إن تخيلنا بأن بؤرة الدوامة الزمنية هي هذا المنزل, ومحورها هو (فرانسيس), فسنجد أن الأمر يصبح منطقياً نوعاً ما. إنه طريق بإتجاه واحد فقط, فتيار الزمن في الداخل يختلف عما هو عليه بالخارج. إنه أبطأ بكثير, بكثير جداً. لا شك بأن ذلك ناتج عن محاولاته المتكررة للعبث بالوقت. لذا يمكننا الدخول ولكن لا يمكننا الخروج. وعلى الأغلب لن نتمكن من فعل ذلك حتى يصبح جانبا الدوامة متساويين, أو... حتى يختفى محورها.".

تبادل (آرثر) و (لورانس) النظرات قبل أن يسألها الأول بهدوء وهو يميل للأمام: "وما علاقة (ساي) بذلك؟ كيف لما فعلناه الآن أن يساهم في حل هذه المعضلة؟".

إبتسمت (يوهانا) وكأنها كانت تنتظر سؤالاً كهذا: "أليس الأمر واضحاً؟ كما أخبرتكم سابقاً, إن من قام بمساعدتنا في المرة السابقة لم يكن سوى نحن. فكروا في الأمر, إن لم يحضر (ساي) إلى هنا عالماً بما يجري لأنه من استخدم الساعة في المرة السابقة, لما تمكن من مواجهة (فرانسيس) كما فعل, ولما اكتسب قدرته هذه. لقد فهمتُ وقتها لمَ كان من الضروري أن يكون هو الناجي. لكي تضمن ثبات المستقبل, عليك أن تضمن ثبات الماضي أولاً. المواجهة المباشرة مع أنفسنا لن تجدي قطعاً بل قد تتسبب في حدوث تعارض زمني, كما أن (ساي) لم يكن ليقبل على الإطلاق بأن يموت الآخرون لحمايته هو. إنه من ذاك الصنف الذي يحسب نفسه لا يقهر ولا يحتاج للمساعدة.".

تمتم (آرثر) باسماً: " يبدو أنه أيضاً من الصنف الذي يغطس في النوم فوراً خلال المحاضرات الطويلة.".

نظرت (يوهانا) و (لورانس) بتساؤل نحو (ساي) ليجدا بأنه قد استلقى على جانبه مسنداً رأسه على ساعده المنثني أسفله, بينما أخذ صدره يتحرك ببطء رتيب مع كل نفس يأخذه. تساقطت خصلات من شعره الطويل على وجهه بعشوائية ولكن لم يبد أن ذلك يضايقه على الإطلاق.

"أحياناً...أعتقد أن هذا الأحمق متبلد الأحاسيس هو أكثرنا حظاً.", زفر (لورانس) وهو يحني رأسه يأساً بعد أن قال ذلك.

-----------------------------------

"يا إلهي...يا إلهي..."

"(نويل)! هل أنت بخير؟!".

إندفعت (أمورا) نحو إبن عمها اللاهث الذي تواضعت راحة يده المضطربة على صدره وكأنه بذلك يهدئ من روع قلبه الخافق بشدة, بينما اسند ظهره على الباب الخشبي الذي أغلقه خلفه على عجل بعد دخوله. لقد كانت تنتظر عودته في نفس الغرفة بعد أن خرج لأداء آخر ما يفترض به فعله, ولكنها لم تتوقع رجوعه بهذه السرعة. يبدو أنه كان يتوق للخلاص من هذه المهمة حقاً.

"لستُ أصدق بأنني فعلت ذلك.. لقد تحدثتُ إلى (آرثر) حقاً! يا إلهي, كاد قلبي يتوقف خوفاً من أن لا يستمع إلي, لو أنه فتح الباب ورأني لانتهى كل شيء...!".

مسحت بكفها الصغير على كتفه وهي تهتف به: "إهدأ يا (نويل), لقد مضى الأمر على خير حتى الآن, فلا داعي للقلق.".

لم يكن القلق هو ما يسبب إرتعاد فرائصه هكذا, بل هو الخوف من أن يكون قد أخطأ في مكان ما, أو كلمة ما. إن أصغر التفاصيل قد تعني إنهيار جميع ما يبنونه الآن, وهو قطعاً لا يريد بأن يكون السبب في ذلك. ليس عندما يكون ما على المحك هو حياته وجميع أصدقائه.

حسب ما خططت له (يوهانا), فقد كان من المفترض به أن يتحين الفرصة ليتحدث معهم, مع أنفسهم السابقة, بينما (ساي) لا يتمكن من سماعهم. خلال قصته الطويلة جداً, ذكر (ساي) بأنه تركهم لفترة وجيزة ثم عاد ليجدهم يتصرفون بغرابة لم يفهمها, ولم يكن من الصعب عليهم عندها جمع قطع اللغز ليحصلوا على إجابةٍ لما حدث أثناء غيابه.

تباطأت أنفاس (نويل) لتصل إلى معدلها الطبيعي واعتدل في وقفته على مهل, لقد فعل كل ما بوسعه فعله, ولم يبق لهم سوى الرجاء بأن تسير الرياح كما يشتهون.
"فلنرجع فوراً, إن كل دقيقة أقضيها هنا تقربني أكثر من حصولي على سكتة قلبية. كما أنه مازالت أمامنا مهمة صغيرة أخيرة".

-----------------------------------

لم يكن (ساي) نائماً حقاً.

في الواقع, لم يكن قادراً على النوم حتى وإن أراد ذلك. ولكنه بإستلقائه هنا, بعينيه المغمضتين, بأنفاسه البطيئة العميقة, إنما كان يحاول أن يخفف على نفسه وقع كلمات (يوهانا) التي كانت مؤلمة بقدر ما هي صادقة.

صحيح أن كل ما حصل, وكل ما يحصل, يصب في مصلحة الجميع في النهاية. ولكن كيف له بأن لا يشعر بالذنب بعد كل هذا؟ إن مجرد تذكر بأنهم يُقتلون في زمن آخر الآن بينما كان هو غارقاً في جهله كالأبله عما يجري, عما يفعلونه من أجله, يثير حنقه.

ولكنه أيضاً لن يسمح لنفسه أن ينسى.

حرك (ساي) رأسه فجأة عندما وصلته أصوات خطوات مختلطة تنتمي لزوجين من الأقدام, ورفع جسده عن الأرض بحركة سريعة جعلت الثلاثة الآخرين يلتفتون إليه بذهول. وأخيرأ, وأخيراً سيتمكن هو من القيام بدوره, من فعل شيء لأجلهم بدلاً من الجلوس والإنتظار.

"لقد عاد (نويل) و (أمورا)!".

"مالذي تقوله أيها الـ-".

إنفتح الباب الخشبي برفق بعدها ليُظهِر خلفه المذكوران, أتبع ذلك إنطلاق (ساي) نحو (نويل) بلهفة أدهشت الجميع. من الواضح أنه كان يتحرق شوقاً لعودة أعز أصدقائه سالماً. رفع (ساي) يده أمام (نويل) بترقب, مما جعل الأخير ينظر إليه متسائلاً.

" المفتاح! ألم أطلب منكما إحضاره من الغرفة التي بالأسفل عند عودتكما؟!".

" بحق الله يا (ساي), ألن تسألني حتى إن كنتُ بخير؟!", هتف به (نويل) بغيظ.

" لا! أنا أثق بك وبقدراتك تمام الثقة الكاملة العمياء. والآن أعطني ما طلبته منك."

"...أنت تقول ذلك لتسكتني فقط, صحيح؟".

هوى كتاب المذكرات الجلدي على رأس (ساي) من حيث لا يحتسب, وقبل أن يتمكن من الصراخ ألماً كان صوت (أمورا) المدوي يخترق أُذنيه بلا رحمة: "ألا تخجل من نفسك يا قليل الذوق والإحساس؟! أتعلم مقدار الجهد الذي بذله (نويل) لينفذ ما طلبتموه منه؟!".

أجابها (ساي) بحدة وهو يفرك رأسه: "مالذي فعلتهُ لأستحق ذلك؟! ثم إن (نويل) لا يحتاج لفتاة مسلحة بالكتب للدفاع عنه!".

"هذه الفتاة ستصفعك بالكتاب حتى تقضي نحبك إن لم تخرس!".

إن صراخ الإثنين على بعضهما البعض لم يحمل أي نوع من أنواع الغضب الفعلي, وبدا منظرهما مضحكاً أكثر منه مُهَدِداً. لم يتمالك (نويل) نفسه من التبسم وهو يشاهد ذلك. لقد نسي كل ما يتعلق بالزمن والهروب والموت, ولوهلة شعر بأنهم قد عادوا إلى حياتهم السابقة التي بدت وكأنها مجرد ماضٍ سحيق.

حتى في أوقات كهذه, هنالك دائماً مجال للإبتسام.

-----------------------------------
[COLOR="black"].
الثلاثون من إبريل, 1884م:

كان الشارع المزدحم في القرية يحمل أشكالاً وألواناً مختلفة من المارة والبائعين والمتسوقين. إن ما قبل الظهيرة هو وقت الذروة الذي يضج فيه المكان بالحركة والحيوية, بالإضافة إلى صخب الأطفال الذين كانوا يلاحقون بعضهم البعض ضاحكين غير عابئين بما يدور حولهم من أمور الحياة التي تركوها للكبار, على الأقل حتى يصبحوا هم كباراً في يوم من الأيام.

ولكن صخب اليوم كان أقل من المعتاد, وقد عَلَت بعض الوجوه نظراتٌ جمعت بين الوجوم والدهشة وعدم التصديق.

عدلت (مادلين) ثوبها الأصفر الطويل ذو الطبقات الخلفية المتعددة الذي تفتحت في نسيجه نقوش لزهور زاهية الألوان, بينما كانت قبعتها المزخرفة ذات الأطراف الواسعة هي كل ما يحول بينها وبين شمس الربيع القادحة فوقها. السلة المجدولة التي حملتها ذراعها تحتوي مشترياتها لعشاء اليوم, وكانت تتذمر في سرها عن أسعار الشوفان الفاحشة هذه الأيام, والبائع الجشع ذو النظرات الزائغة. مجرد يوم ممل آخر... حتى لمحت بطرف عينها سيدةً في منتصف العمر تسرع أمامها لتعبر الطريق المرصوف وقد حملت يدها سلة مشابهة. لملمت (مادلين) أطراف ثوبها وانطلقت خلف السيدة الأخرى مناديةً لها.

"سيدة (تابيثا)!".

إلتفتت المذكورة وقد علت وجهها علامات الدهشة قبل أن تتسع الإبتسامة على ثغرها, وتوقفت عن سيرها المتعجل لتسمح لمناديتها باللحاق بها.

"سيدة (مادلين), ياللمصادفة! من الرائع رؤيتك هنا, لم تسنح لي الفرصة للتحدث معك على الإطلاق مؤخراً.".

هزت (مادلين) رأسها محيية السيدة التي بدأ الشيب يخط شعرها المندثر تحت قبعة بيضاء قماشية, وشكرت الله في سرها كونها وجدت شخصاً قابلاً للثرثرة معه قبل عودتها لأشغالها المنزلية الرتيبة.

"تسرني رؤيتك أيضاً, أنا آسفةٌ حقاً بشأن ما حصل لزوجك. سمعتُ أنه لم يعد يعمل في منزل عائلة (كينزي) الآن. هل من خطب ما هناك؟". لم تكن (مادلين) تجهل ما حصل هناك بالقدر الذي تدعيه, فجميع أهل القرية يعرفون. إن كان هناك شيءٌ ينتقل بسرعة في هذا المكان فهو الأخبار, خصوصاً السيئة منها. ولكنها ألقت طرف الخيط للسيدة (تابيثا) مدعيةً الغباء أملاً في أن تعرف المزيد, فزوج الأخيرة كان بستانياً في المنزل المذكور منذ قدوم العائلة إلى هذه الضواحي.

ولم تكذب السيدة (تابيثا) خبراً فقد تنهدت بعمق وهي تهز رأسها بأسى قبل أن تلقي نظرةً على المنزل الضخم الذي لاح على قمة التل المجاور للقرية.

"تلك الأسرة البائسة لم تهنأ بحياتها القصيرة هنا. رغم حزني على خسارة زوجي لعمله إلا أنني أشد حزناً على حالهم بعد أن أصابتهم مصيبتان في يوم واحد.".

"مصيبتان؟!", اتسعت عينا (مادلين) بدهشة حقيقية فهي لم تسمع بهذا من قبل, وكل ما كانت تعرفه هو أن إبنة الأسرة الصغيرة قد توفيت منذ يومين إثر مرض ألم بها. بدأ فضولها النهم يلتهمها بجنون وهي تنتظر بشوق إكمال السيدة (تابيثا) لحديثها.

"نعم, أنتِ تعلمين أنني لا أحب الثرثرة ونقل الأخبار, ولكن...", مالت السيدة (تابيثا) نحوها لتهمس بخفوت, "أنا أعلم أنكِ ستبقين الأمر سراً, أليس كذلك؟".

هزت (مادلين) رأسها مشجعةً إياها على الإستطراد وهي تقول بلهفة: "بالطبع يا سيدتي!". لم تعبأ لكون ما تفعلانه يتناقض بشكل صارخ عما تقولانه. إن هذه هي إحدى سبل التسلية القليلة المتوفرة لهاته السيدات الملولات.

"حسناً إذا...لقد أخبرني زوجي بما حدث حقيقةً. أعلم أن هذا صعب التصديق, ولكن فليرحم الله أرواحنا فقد حصل ذلك فعلاً. وحتى الصبي (مارك) الذي كان يعمل بالحظيرة يقسم أغلظ الأيمان على ذلك. إن الأسرة لم تقرر الرحيل لأنها لا تطيق العيش هنا بعد وفاة طفلتهم المسكينة كما يقولون. إنهم لا يستطيعون الدخول إلى منزلهم أصلاً, وقد اختفى إبنهم الوحيد في نفس اليوم أيضاً!".

-----------------------------------

"هل أنت متأكد بأنك تريد الذهاب وحيداً؟".

كان القلق يتقاطر من صوت (أمورا) التي يبدو أنها نسيت جدالها الحاد مع (ساي) منذ برهة, ولكنها لم تكن الوحيدة التي تشعر بذلك. كان الجميع – يتقدمهم (ساي) – واقفين أمام باب ما, قادهم الأخير إليه. نظرة (نويل) فضحت توتره وهو يعزز كلامها: "ليس عليك فعل ذلك بنفسك, بإمكاننا جميعاً أن نأتي معك. سيكون ذلك أكثر أماناً بلا شك.".

هز (ساي) كتفيه وهو يقول بأريحية: " لستُ الشخص الذي يحب العمل مع الغير, أنت أدرى بذلك.".

أدار (لورانس) عينه في محجرها قبل أن يقول: "ياللأنانية! ليس الأمر متعلقاً بما تحبه أو تكرهه, بل بما سيكون الأفضل للجميع أيها الطفل!".

"إذا اتركوني أذهب لوحدي, فذلك سيعفيكم من مرافقة طفل مثلي. لقد فعلتم كل ما بوسعكم, دعوني الآن أفعل ما بوسعي. كما أنني أشك أنه من الحكمة أن يظهر ستة أشخاص من العدم هناك دون أن يبدو الأمر مشبوهاً.".

"للأسف, (ساي) محق في ذلك. لن أمنعك من الذهاب طالما عزمت أمرك, ولكن عدني بأنك لن تحاول القيام بأي عمل مجنون متهور هناك. لا تفسد كل ما سعينا لأجله حتى هذه اللحظة. أنت لن تعطينا سبباً يجعلنا نقلق عليك, صحيح؟". ابتسم (ساي) بإمتنان لـكلمات (آرثر) الذي كان الوحيد المؤيد له في هذا, وهز رأسه موافقاً له بصمت.

"آه, نعم, إنني سأتفطر قلقاً وحزناً إن لم تعد بكل تأكيد.".

"مشاعرك الفياضة هذه تثلج صدري يا (لورانس), إنني بالكاد أسيطر على دموعي.".

"توقفا عن التهريج!", تلقى الإثنان ضربتين حانقتين من (يوهانا) قبل أن تلتفت الأخيرة نحو (ساي) لتحدثه بجدية: " تذكر يا (ساي), ليس عليك أن تكون بطلاً. كل ما عليك هو أن تكون... مُقنعاً.".

"أعلم ذلك! لم يصر الجميع على تذكيري بذلك مراراً وتكراراً؟ هل قدراتي التواصلية مع البشر بهذا السوء؟!".

لم يحصل على جواب على الإطلاق, مما دفعه ليرفع يده بإستسلام مردفاً: "حسناً, إنسوا أنني سألتُ ذلك. أنا ذاهب من هنا!".

-----------------------------------

صمت مطبق, برودة قارسة, وحدة مؤلمة. مازال طائر الموت يحلق في هذه الغرفة التي كانت حتى وقت قريب مسكناً لفتاةٍ صغيرة تسربت حياتها القصيرة شيئاً فشيئاً حتى اختفت نهائياً.

سرير الطفلة المرتب كان يحمل باقةً من الزهور شاحبة اللون بدلاً من جسدها, ربما كانت محاولةً بائسة من أحدهم لتخفيف وقع الكارثة التي خيمت على المكان. مجموعة الفساتين الصغيرة ذات الألوان الزاهية التي تكومت على طرفه, بالإضافة إلى لعبة الدب الذي جلس ببراءة على أحد المقاعد جاهلاً بأن مالكته رحلت للأبد, وغيرها من التفاصيل الصغيرة التي ليست سوى تذكار بأن شخصاً ما كان هنا, ولكنه لن يعود مجدداً.

تحت وطأة تأثير هذا المشهد السريالي, أطبق الطفل الدامع ذو الملابس الفخمة يده على مفتاح معدني غير مألوف الشكل وهو يشهق بين الفينة والأخرى. لم يكن الموت أمراً يفكر فيه أبداً, لم يخطر على باله يوماً بأنه سيتذوق مرارة فقدان من يحب بهذه السرعة. هذه المشاعر الطاحنة أكثر مما يمكنه تحمله, أي حياة هذه التي تنتظره وحيداً بدونها؟ التفكير بالتبعات وعواقب الأمور لم يكن لمن هم في مثل عمره, وفي عالمه المحدود الصغير, كان تواجد (إيفانجيلين) أمراً مفروغاً منه, ولكنها رحلت وتركت مكانها ثقباً مهولاً لا يعلم كيف يسده.

ولكن ربما, ربما كان بإمكانه فعل شيء لتغيير ذلك.

بالرغم من أنه لم يستعمله سوى مرة واحدة, بالرغم من أن أحداً لم يصدقه حتى بدأ هو نفسه يشك في ما حصل له, بالرغم من أنه خائف من خوض هذه التجربة لوحده, إلا أنه استدار وترك الحطام الذي بقي من حياة (إيفانجيلين) خلفه لتسوقه قدماه نحو غرفة معينة بالدور الأرضي.

لم يكن هناك أي شخص بالمنزل سواه, فقد خرج والداه وجميع الخدم والعاملين منذ ساعةٍ لتشييع جنازة شقيقته إلى مثواها الأخير. العاملون خلعوا قبعاتهم وساروا مطأطئي الرؤس حداداً على من اعتبرها الجميع إبنة له, بل قد حضر بعضهم مولدها ونشأتها منذ بدايتها وحتى نهايتها المفاجئة. السيدات المتشحات بالسواد تعالى بكاؤهن بدرجات متفاوتة طغى عليها جميعاً صوت نشيج والدته المكلومة التي أخذت تنتحب بحرقة وقد تعلقت بذراع والده وكأنها تستمد منه بعض المواساة. لطالما كان والده رجلاً مهيباً صارماً, ولكنه الآن يبدو كمن يستنفر كل خلية من خلايا وجهه ليمنع نفسه من الإنهيار. عيناه الزرقاوان الذابلتان لم تنظر إليه أو إلى ولدته, بل تسمرتا على التابوت الأسود الصغير الذي تسحبه أمامهم العربة الخشبية السوداء, التي كانت بدورها مربوطةً بحصانين كان لونهما أيضاً.... أسود.

لقد أُجبِر هو أيضاًعلى إرتداء ملابس بنفس القتامة. بنطال قصير وصدرية وحذاء أسود, لم يتخللها من الألوان سوى جواربه الطويلة وقميصه الأبيض الذي التفت حول ياقته شريطة حريرية رمادية. هذا السواد لا يليق بـ (إيفانجيلين) أبداً.

كان يسير متمهلاً تاركاً مسافةً بسيطة بينه وبين الركب الصغير متحيناً الفرصة للعودة دون أن يلاحظه أحد لينفذ ما جزم على فعله, ولم يزده ما رأه سوى عزيمةً وإصراراً على المضي قدماً في ذلك. إنه لم يبك منذ أن وصله الخبر, لم يصدق أن الأمر واقع حتى يبكي. ربما تقبل أبواه كونها قد ماتت, ولكنه هو لن يفعل.

تصاعد صدى كعب حذائه اللامع على الأرضية الرخامية للممر الذي عشش عليه السكون, وماهي إلا ثوانٍ حتى كان يدلف إلى الغرفة الصغيرة التي انتظرته بداخلها ساعةً خشبية قديمة الطراز.

لم يهتم بإغلاق الباب خلفه فهو الوحيد المتواجد هنا الآن, لذا فقد تنفس بعمق وهو يخطو نحو الساعة, ويده الندية بالعرق تقبض على المفتاح وكأنها تخشى إختفاءه في أي لحظة.

"لا تفعلها.".

كشحنة كهربائية مفاجئة, تسبب الصوت الغير متوقع في جعله يثب من مكانه جزعاً وهو ينظر حوله بخوفِ من تم كشفه متلبساً بجريمة ما. هل رآه أحدهم وهو يتسلل عائداً إلى المنزل؟! لم يكن من المفترض أن يعود أحد حتى غروب الشمس على الأقل.

ولكن الشخص الذي أطل عليه من باب الغرفة لم يكن بأي حال من الأحوال شخصاً يعرفه.

-----------------------------------

كان المجهول القادم يرتدي ملابس لم ير (فرانسيس) لها مثيلاً من قبل, كما أن ملامحه كانت صعبة الرؤية وهو يغطي رأسه بقلنسوة هربت بضع خصلات من الشعر الطويل من طرفيها, وحتى عيناه توارتا خلف قطعة قماشية خضراء. بإختصار, لم يكن هناك أي شيء طبيعي على الإطلاق في هذا الشخص. جعل ذلك (فرانسيس) ينسى سبب تواجده في هذه الغرفة بينما شعر بقدميه وصوته يخذلانه بسبب المفاجأة والرعب اللذين شلا حركته.

أي نوع من الأشخاص هذا؟ أهو لص استغل فرصة فراغ البيت من قاطنيه لينهب ما يمكنه حمله؟ أهو شيطان ما من تلك الشياطين التي كانت مربيته تخيفهم بها؟ أهو أحد معارف والده؟ منذ متى كان أبوه يعرف أناساً بهذه الغرابة؟

تحدث الشاب بهدوء وهو يتقدم للداخل دافعاً الباب بيده لينغلق ويتركهما وحيدين مع بعضهما البعض: "لا تخف يا (فرانسيس), أعلم أنك متفاجئ من تواجدي, ولكنني كنت أنتظر قدومك.".

تراجع (فرانسيس) المرتاع مبتعداً وهو يهتف بصوت مرتجف: "من...من أنت؟!".

"من أنا؟ سؤال وجيه, وإن كنت أعتقد أن إسمي لن يعني لك شيئاً.", تبسم الشاب بعدها بكل ما استطاع استجماعه من لطف, وهو أمر لم يكن معتاداً عليه قطعاً, "بإمكانك مناداتي بالحارس.".

"الـ...حارس؟", تمتم الطفل وقد استعاد بعضاً من صوابه فهو لا يرى بأن هذا المجهول يحمل أي أسلحة أو ينتوي به شراً, بل على العكس تماماً, كان واقفاً بإستراخاء ويداه مدسوستان في جيبيه. هز الشاب راسه موافقاً دون أن يتقدم أكثر.

"مالذي تحرسه بالضبط بينما أنت لا ترى؟".

أخذ السؤال المفاجئ الشاب على حين غرة, فهو لم يكن يتوقع شيئاً كهذا.

(( طفل نبيه. ))

ولكنه سرعان ما استعاد تعبيره الهادئ وهو يجيب: "بإمكانك القول أنني أحرس الأرواح. أرواح أولئك الذين سيعانون إن لم افعل.".

نظر (فرانسيس) نحو الشاب الغريب وقد اتسعت عيناه بإنبهار طفولي قبل أن يقول بأنفاس مبهوتة:"حارس للأرواح؟ هل أنت هنا لحراسة روح (إيفانجيلين) أيضاً؟".

للمرة الثانية, رفع الشاب حاجبه مندهشا من المجرى الغير متوقع الذي اتخذه هذا الحوار, ولكنه لم يعط الطفل إجابةً مباشرة, بل قابل سؤاله بسؤال آخر:"أنت تنوي استخدام هذا المفتاح لتعيد الزمن أملاً في أن تتمكن من إقناع والدك بأخذ (إيفانجيلين) للمشفى لعلاجها قبل فوات الأوان, أليس كذلك؟".

"كيف...عرفت ذلك؟".

"أنا الحارس يا صغيري, أنا أعلم الكثير من الاشياء التي تجهلها أنت. ومنها بأن ما تنوي فعله لن ينجح.".

ذُهل الطفل بعد تلقيه لهذه الكلمات القاسية التي حطمت أمله الوحيد في استعادته لأخته, وبدأت مقلتاه تنزان الدموع مجددا وهو يصرخ بمحدثه غاضباً: "لم لا؟! كيف يمكنك الجزم بذلك أساساً؟!".

(( لأنني إن تركتك تفعل, فسيؤدي ذلك إلى أكثر من تدميرك لحياتك أنت. ))

"لأنه لن يصدقك أحد سواي.".

"سيصدقونني عندما يرونها تعود للحياة مجدداً!".

"لم تسر الأمور بهذه البساطة عندما استعملت المفتاح للمرة الأولى, أليس كذلك؟ تماماً كما ظن الجميع أنك تكذب أول مرة, سيعتقدون المثل في المرة الثانية.".

لم يبد أن صراخ الصبي ودموعه المتساقطة يهزان شعرة في جسد الشاب الذي اكتفى بالوقوف مكانه بصمت لبرهةٍ قبل أن يقول: "أنت طفل ذكي يا (فرانسيس), ولكن خسارتك كبيرة جداً. ذلك هو ما تسبب في هلاكك. لنفترض أنك أعدت الزمن فعلاً, لِم تتوقع بأن والديك سيصدقانك هذه المرة؟ لا أحد سيتذكر ما حصل هنا. لا أحد. ستبقى أنت الوحيد الذي يتذكر ويعاني عذاب هذه الذكرى. ومالذي سيحصل في النهاية؟ تموت (إيفانجيلين) مجدداً. ما ستفعله لن يتسبب في إنقاذها, إنه سيتسبب في قتلها ثانية. مرة تلو الأخرى, ستتعذب الفتاة وتموت لأن أخاها لن يدعها تنال راحتها الأبدية. أهذا ما تريده؟".

تراخت يد (فرانسيس) التي حملت المفتاح لتتدلى بجانبه وقد تحجرت عيناه متخيلاً هول ما يصفه الشاب المجهول. كيف لم يفكر في ذلك من قبل؟ هل سيكون بإمكانه العيش مع نفسه إن تسبب فعلاً في موت (إيفانجيلين) لعدة مرات؟ هل بإمكانه حقاً أن يثق بكلام شخص مشبوه كهذا؟

لم يكن (ساي) يرى هيئة (فرانسيس) أمامه, ولكنه كان يسمع أنفاسه المضطربة المتلاحقة جيداً. ليس بحاجة لأن يكون عبقرياً لكي يعرف نوع الأفكار والمشاعر التي تجول في رأس الصبي بعد كل ما قاله له, ولكن ما من خيار سوى الإستمرار. وإن لم يجد الحديث مع (فرانسيس) نفعاً... فإنه يجد نفسه مرغماً على إتخاذ إجراءٍ أكثر جذرية. إن ذلك هو في الواقع ما كان يمنعه من اصطحاب أي شخص معه, فإن كان لابد عليه أن يقوم بتلطيخ يديه مرةً ثانيةً فهو يفضل أن يقوم بفعل ذلك وحيداً.

التفت راحة يده اليمنى على مقبض السكين الراقدة في جيبه وهو يفكر فيما سيكون مجبراً على فعله حينها.

من مفارقات القدر أن يكون (فرانسيس) الباكي المثير للشفقة الآن هو نفسه ذاك الكائن الذي يتذكره (ساي), بهيئته المنفرة وقوته الغير طبيعية وجموده الجليدي.

"لم يكن من السهل رؤية (إيفانجيلين) تتألم وتتوجع قبل وفاتها, أليس كذلك؟ لماذا تفكر في تكرار ذلك؟ صدقني, أنا أفهم شعورك, هناك أوقات نشعر فيها بأن علينا فعل ما يجب علينا فعله حتى وإن اضطررنا لدفع الثمن غالياً لاحقاً. ولكن هذا ليس أحد هذه الأوقات. من أجلها, ومن أجل نفسك...", خفت صوت (ساي) وهو يكمل, "أرجوك...دعها ترحل.".

(( لم يفت الأوان بعد, أرجوك لا تجعلني أفعلها... ))

ثانية...

ثانيتان...

ثلاث ثوانٍ...

صوت صليل ارتطام شيء معدني صغير بالأرض تبعه فوراً شلال جامح من الدموع والبكاء الهستيري دفع بـ (ساي) ليسعى نحو (فرانسيس) الذي يكاد يسمع تمزق نياط قلبه, ودون أي كلمة أخرى هبط أمامه على ركبتيه وتحركت يداه لتحتوي الصبي النائح بقوةٍ لم يعلم هو ذاته سببها.

تناهت إلى ذهنه صورة (ساي) الصغير, وحيداً وغير قادرٍ على البكاء حتى بعد أن شاء القدر أن يجعله يتخذ قراراً مصيرياً في سن غضة. لقد كاد هذا الصبي التعس أن يكون (ساي) صغيراً آخر, ولكن ليس بعد. مازالت هناك فرصة, مازال هناك أمل.

امتدت يد (ساي) لتحمل المفتاح المعدني الذي تمدد على الأرض بقربه وتدسه في جيبه, بينما تشبثت أصابع (فرانسيس) النحيلة في ملابسه بشدة حتى شَعَرَ بها تخترق جلده. ولكنه لم يكن يبالي.

لقد تبخرت آخر مشاعر الكراهية التي كان يحملها تجاه (فرانسيس) القاتل, ليحل محلها شعور لا يعلم كنهه تجاه (فرانسيس) الضحية. ما كان ذنبه إلا أنه ألقى بنفسه نحو التهلكة بغير علم عما سينتهي به المآل في المستقبل.

"أنا وأنت يا (فرانسيس)...", همس (ساي) للصبي برفق وقد استقرت يده الأخرى على رأسه ذو الشعر الناعم, "...سيكون هذا سرنا الصغير, إتفقنا؟".

-----------------------------------

دفء الشمس اللذيذ, منذ متى لم يستشعر جسده هذه المتعة؟

نسماتٌ من هواء ربيعي عليل تراقصت حوله ملاعبةً شعره الطويل بخفة ودلال, بينما أطرب صوت حفيف أوراق الشجر وزقزقة العصافير أذنيه. إرتجف جفناه قليلاً قبل أن يرفعهما بتراخٍ ليكشفا له عن سماءٍ صافية لونتها بضع سحب بيضاء متناثرة بإستحياء كبقع ناعمة في المساحة الزرقاء الشاسعة.

لحظة... سماء؟! سحب؟!

إعتدل بحركة سريعةٍ مفاجئة وهو لا يكاد يصدق ما تراه عيناه. أو بالأحرى, لا يكاد يصدق أن عيناه ترى مجدداً.

رفع يديه أمامه ناظراً إليهما بتعجب سرعان ما تبدد لتحل محله السعادة. وكأنما كان يحاول تأكيد الأمر لنفسه, فقد جال بنظره في كل ما حوله متشرباً جميع ما يقع بصره عليه. الأشجار الشامخة, الزهور الملونة المنسقة بعناية, الحشائش المتمايلة, الشمس الذهبية المتألقة, ملابسه, شعره, وحتى هاتفه المحمول وسماعاته الزرقاء المفضلة. بعد أن نال كفايته, سمح لجسده بأن يتراجع ليستلقي على الأرض العشبية مجدداً وقد تناثر شعره حوله, غير عابئ بكونه يشعر برضوبة التراب الذي يبدو أنه سُقي حديثاً تحته. غمرت رائحة الأرض الندية أنفه مُؤكدة له أكثر وأكثر أنه لا يحلم.


أغمض (ساي) عينيه وأطلق ضحكة صغيرة سرعان ما تعالت لتحمل كل فرحه وارتياحه. إن عالمه الذي اتشح بالظلام قبلاً يجعله يستمتع بكل ما يراه الآن وكأنها أول مرة. إنه لم يدرك قيمة وجمال الألوان سوى بعد أن عاش في السواد الكالح.

بدأ يتذكر ما قاده إلى هنا, إلى هذه اللحظة. لقد فارق (فرانسيس) على عجل مانعاً نفسه من النظر إلى الخلف وعاد إلى حيث أتى, إلى حيث ينتظره خمس أشخاص بلهفة, إلى ما كان يأمل أن تكون نهاية هذا المطاف الطويل المرير.

وهاهو ذا الآن, بعد أن ادخل المفتاح في الساعة للمرة الثانية على التوالي. أي مستقبل ينتظرهم هذه المرة؟ على عنى كل ما فعلوه سابقاً شيئاً؟ تُرى مالذي حدث لـ (فرانسيس) بعد تركه له؟ إنه لا يستطيع منع نفسه من التساؤل, ولكن التساؤل هو أيضاً كل ما يمكنه فعله, فهو على الأرجح لن يعرف أبداً.

"(ساي)؟ أيها المغفل! لم أنت مستلق على الأرض هكذا؟! أما كان لك أن تخار وقتاً ومكاناً أكثر ملائمة للنوم؟!".

انتفض جسد (ساي) واتسعت عيناه على مصراعيهما قبل أن ينعقد حاجباه بحقد عندما قام صوت (لورانس) الحاد بتمزيق حبل أفكاره شر ممزق, ولكنه في الوقت ذاته وجد نفسه – وياللغرابة -متشوقاً لرؤية وجه هذا الشاب المزعج. لم يتحرك من مكانه بل اكتفى بإرجاع رأسه إلى الخلف لتبدو له هيئة (لورانس) رأساً على عقب.

"(لورانس), كم تسرني رؤيتك. متى وصلتهم إلى هنا؟".

"متى وصلت أنت؟! لقد تأخرت في القدوم حتى قرر الآخرون الدخول بدونك.".

"إذن...", ابتلع (ساي) ريقه وهو يتأهب لسماع الأسوأ, "...جميعهم في الداخل ماعداك؟".

"نعم, إن (نويل) يقضي وقتاً ممتعاً بالتجول في أرجاء المكان مع المالك, بينما خرجتُ أنا لأن (آرثر) طلب مني الإتصال بك. الإرسال رديءٌ جداً بالداخل.".

"المالك؟!....أنت كنت بالداخل وخرجت؟!", رفع (ساي) جسده فوراً واعتدل ليواجه (لورانس) بتعجب لم يفهم له الأخير سبباً, فهو لم يقل شيئاً غريباً على حد علمه. هل هذه إحدى ألعاب (ساي) المعتادة إذن؟ عقد الشاب ثائر الشعر ساعديه وهو ينظر نحو الآخر بشك قبل أن يقول: "لديك مشاكل جدية في الإستيعاب, أتعلم هذا؟ لست أدري لم أنت مذهول كهذا, ما قلته لك لم يكن صعب الفهم لهذه الدرجة.".

لم يعره (ساي) إهتماماً بل انتصب لينطلق راكضاً بينما لاحقته كلمات (لورانس) الحانقة نحو الباب الكبير الذي توسط واجهة المنزل, والذي كان موارباً وكأنما يدعوه للدخول, ولم يكذب (ساي) خبراً فقد انبعث عبره ليقف في منتصف البهو المألوف ملتقطاً أنفاسه, فقط لينتبه بحجم الإختلاف الذي يراه عما يتذكره.

كانت المزهريات الثمينة واللوحات الفنية منتشرة بسخاء في المكان الفسيح الذي سبح تحت أضواءٍ ناعمةٍ كانت مصدرها ثريا كريستالية ثمينة المنظر تتوسط المكان, وبجانب أحدى اللوحات كان يقف كل من (نويل) و (أمورا) مع شخص وقور المظهر رمادي الشعر يشي منظره وملبسه بالرقي, وكذلك تحركاته وهو يشير بإحدى يديه نحو اللوحة الجدارية وكأنه يشرح لهما شيئاً عنها.

التفتت (أمورا) ليقع نظرها عليه, وقامت من فورها بالإبتسام له والتلويح بيدها وكأنما تحثه على الإنضمام لهم. حانت منه نظرة نحو الباب الرئيسي الذي انفرج ببطء ليدخل من خلاله (لورانس) العابس, ثم عادت عيناه نحو الثلاثة الذين استمروا في محادثتهم الصغيرة مقرراً الذهاب إليهم.

عندما اقترب منهم كفاية ليلاحظ (نويل) المتحمس وجوده, قام الأخير بإستقباله بإبتسامته المعتادة وهو يقول ببهجة: "(ساي), من الجيد أنك وصلت أخيراً! دعني أقدم لك السيد (ألفريد كينزي), المالك الحالي لهذا المنزل البديع.". إلتفت السيد (ألفريد) المذكور ليواجه (ساي) محنياً رأسه له في تحية لبقة قبل أن يمد يده له مصافحاً, وهو ما قابله (ساي) بالمثل وإن كان غير مستوعب بعد لحجم هذا التغيير الذي يراه.

"يسعدني تواجدكم هنا اليوم, إن لهذا المنزل – و لعائلة (كينزي) – تاريخاً عريقاً هنا. لقد عاش أجدادي فيه منذ القرن الثامن عشر تقريباً, وكما ترون فإن جميع القطع الفنية هنا أثريةٌ أصليـ-".

"عفواً, ولكن...", قاطعه (ساي) متسائلاً بلهفة, "... هل تعرف شخصاً يدعى (فرانسيس كينزي)؟ هل يبدو الإسم مألوفاً؟".

بدا كل من (نويل) و (أمورا) محرجين من وقاحة (ساي) مع شخص قابله للتو. ولكن السيد (ألفريد), وإن ظهر أنه تفاجأ في البداية, إلا أنه سرعان ما استعاد بشاشته وهو يجيب (ساي) برحابة صدر: "بالتأكيد أعرفه! أنت تتحدث عن جدي الأكبر بلا شك, لقد كان من أول قاطني هذا المنزل, وعاش فيه مع عائلته منذ مائتي عام مضت, حتى ورث عنه المنزل إبنه (لويس). في الواقع, أغلب اللوحات الفنية هنا هي قطع تم رسمها في زمنه, لقد كان مولعاً بالفن جداً.".

شاركتهما (أمورا) المحادثة بمرح قبل أن يتمكن (ساي) من التعليق: "أعتقد بأن لوحاته ستروق لك كثيراً يا (ساي), إن بها قدراً لا بأس به من الغرابة.".

وفي تلك اللحظة بالذات, وكأنما كانت تنتظر وقتها المناسب لتظهر نفسها له, تراءت له لوحة على الجدار المقابل, لم يعلم مالذي جذبه إليها فهو لم يستشف معالمها المبهمة إلا عندما تحرك سائراً ليقترب منها. وعندها, تحولت الدهشة إلى فرحة, والفرحة إلى إبتسامة واسعة نبعت من أعماق قلبه.

لم تكن تلك اللوحة المحاطة ببرواز خشبي برونزي فخم تحمل من الألوان أو الدقة في التفاصيل الشيء الكثير, وكان محتواها يختلف بشكل ملحوظ عن غيرها, ولكن ما حملته كان يعني الكثير والكثير, كان يعني العالم بأسره.

وقف (ساي) بصمت أمامها وكأنه يقابل صديقاً قديماً كان يتشوق لرؤيته, وامتدت سبابته بشغف لتلمس الإسم الذي استقر منقوشاً أسفلها على لوح معدني صغير:





(الـــحــــارس الأعــمــــى)


- إنـــتـــهـــى -


 
 توقيع : ساي

دخول متقطع .


رد مع اقتباس