يمضي بها الوقت وكأنها بداخل ساعة رمليَّة، سريعٌ، خاطف، ليس بوسعهِ انتظار شيء. تهيمُ على وجهها بضياعٍ منذ أكثر من ساعةٍ ونصف. تبحث عن ثلاث تجاويف، بحق الله أين عساها تجدُ وسط هذه الصحراء الخاوية؟ لم يخفُ على رياحِ النهار الباردة محاولاتها في تنظيم أنفاسها الهائجة بين حينٍ وآخر، ولا الدمع الذي يهطل بخفوتٍ من مُقلتيها بعكسِ الضوضاء التي تعمّ قلبها مكتوف الحيلة. قدماها الحافيتان غائرتان وسط الرمال لكأنهما صارتا جزءًا منها حتى لم تعد تُحسّ بهما من تخدّرهما. جفافُ حلقها وانزلاق العرق حتى أسفل ذقنها، وأخيرًا.. ذراعاها العاريتان اللتان تُحكمان القبض على ثلاث جواهر ملوّنة، زرقاء، حمراء، خضراء، تفتقر إلى لمعانها وتوّهجها، مثل كل شيءٍ ليس في موطنه الذي ينتمي إليه.

"الغرق لايعني بالضرورة الهلاك.. أحيانًا يكون النجاة" تنخرُ الكلمات رأسها، فتتوقف عن المسير، "اهدئي!" تُحدث نفسها، "خذي نفسًا"، مسحت دموعها، تصُّب جُل تركيزها -رغم ضآلتهِ- في محاولةِ لفهمِ ماقيل، في مكانٍ ما، على لسانِ شخصٍ ما. إن كان عليها أن تغرقَ لتنجو، فلتغرق إذًا! لكن هل تجدُ بركة ماءٍ حتى وسط كلّ هذه الكثبان الممتدة إلى أبعد مما تستطيع رؤيته؟ "هل بالضرورة أن يكون الغرق غرقًا بالماء؟" يتردد صدى الكلمات في رأسها، من قائلُها؟ لسوء الحظ لا تملك الوقت الكافي لتتذكر، لكنها استطاعت أن تستنتج الأمر، إن كانت لاتوجد مياه للغرق بالجوار، فلتجد بديلًا! كانت في غمرةِ حيرتها لكنها أبَت أن تقف مكتوفة الأيدي، راحت تركض ملء قدميها، مدفوعةً بأملٍ شحيح، وكأنها صارت تعرف وجهتها الآن! ارتفع وجيبُ قلبها كما تطايرت وراءها خصلاتها الحريرية تراقصها الرياح كيفما شاءت. أوقفتها آثار أقدام.. وكان مامرت به كافيًا ليمنعها من الإنبهار، لكن في الوقت الذي كان عليها أن تذرف الدموع وتتخبَّط هنا وهناك بحثًا عن غايتها، اقتحمَ قلبها شعور جديد في غاية الخفّة. كانت آثارًا لأقدام قط! "أووه!"صدرَت من فاهها بنغمةِ ناعمة، كمن هو منهوب الأنفاس، يكاد يموتُ من لطفِ ما يراه، ولوهلةٍ كادت تنسى المكان من حولها ومالمصيبةُ التي هي واقعةٌ بها. "هل أتبعها؟" كانت تمتدّ إلى مالا يمكنها إبصاره، قلبَّت السؤال في رأسها.. على عجلة، ثم حسَمت أمرها. كانت تركض بلا وجهة فعليّة على كل حال! وبدَت تلك الآثار هي الشيء الوحيد الذي يدلُّ على شيءٍ مابعينهِ، وسط كل هذه الفوضى العشوائية والقرارات غير المقنّنة. ثمَّ.. ماذا بقيَ من جنون حتى تمتنع عن تتبّع آثار قط؟ أوصلتها، تلك الآثار، إلى الغاية المجهولة -حتى هذه اللحظة-. ثلاث دوّامات لرمالٍ متحركة، تأخذ شكلًا هرميًا، تكفي الواحدة منها لابتلاع شخصٍ أو اثنين، يتصاعد منها دوّامات هواءٌ ممتزجة برمالها. تدلّت شفاهها لأسفل فرسمت بسمة صغيرة رغم رهبة المنظر، تعبّر عن امتنانها للقط. عتتِ الريح بغتة، فارتعدّت أوصالها وداهمها الواقع. "الغرق لايعني بالضرورة الهلاك" تتذكر الكلمات، تصير أكثر شجاعة، ترتسمُ على مُحيّاها بوضوح. تقدّمت بخطواتٍ ثابتة، بلّلت ريقها، أبقت مسافة خمس أو ستّ أقدام، بحذرٍ.. ألقت جوهرة بداخل إحدى الدوّامات، ابتلعتها الرمال ثم انطلق وهجٌ خفيف باللون الأزرق، واختفت! ألقت الثانية، فالتقمتها الرمال وأضاءت باللون الأخضر، وتلاشت كذلك كأنها لم تكُن. زفرت بشيءٍ من الراحة، فلم يتبقى سوى واحدة..ذاتُها التي أفضَت آثار القط إليها، غيرُ عالمة بأنها الأصعب. ألقت بالحمراء بداخلها، لكن لسببٍ ما، لفظَتها الرمال مثل بحرٍ هائج يلفِظ أصدافه. التقطتها وصارت تتنفّس بسرعة، إنها لاتفهم، ماذا يحصل؟ أعادت الكرَّة، وكَذا فعلت الرمال. هذا غريب، وما غيرُ الغريب أصلًا في هذا المكان؟ لكنّ الوقت يسابقها، يعجنُها كصلصالٍ بين يديه، والريح تزداد هيعًا، وتُزلزل كيانها، وعليها أن تجد حلًّا! "الغرق لايعني بالضرورة الهلاك" ثم تتكرر الكلمات للمرة الثالثة، اتّسعت عيناها، هل يُعقل؟ عليها أن تكون أكثر شجاعةً حتى تفعلها، وإن كادت قدماها تخور، "فقط عُدّي إلى ثلاثة وسيكون الأمر على مايرام!" تُحادث نفسها هامسة، تُغمض عينيها، ويتناهى إلى أذنيها صريرُ الرياح القوية، "واحد.. اثنان.. ثلاثة!" ثمّ قفزت. عندها توهّجت رمال الصحراء كلها باللون الأحمر، عدّة ثوانٍ ثم عادت إلى لونها واختفت آخر دوّامة، تلك التي ابتلعتها. ~ طقطقت مفاصل رقبتها، ثمَّ تمددت بخمول، وكانت تلك آخر محاولاتها في التهرّب من المذاكرة. عادت إلى واقعها، إلى كتاب الرياضيات والعديد العديد من الرموز والمعادلات. آه ياللأسف، لا أحد يعرفُ ماذا حلَّ بالفتاة المسكينة بعد أن اتَّبعت القط والتهمتها الرمال، إلا في رأس هذه الكاتبة البائسة التي لم يعد يُسعفها الوقت لتُكمل الكتابة.

-
أهلًا!
هذه لإثبات حضوري، أحببت الكلمات لايت وبمجرّد أن قرأتها لم يخطر على بالي شيءٌ سوى الصحراء!
لطالما رغبتُ بالكتابة عنها، لذلك شكرًا لكِ لإعطائي الإلهام!
حسنًا، وكما قرأتم، الكاتبة البائسة لديها امتحانات، أدعو أن أخرج منها منتصِرة، وأعود بقوّة..
وربما أُكملها، من يدري؟