عرض مشاركة واحدة
قديم 09-22-2022, 12:30 PM   #8
ساي
عضو جديد


الصورة الرمزية ساي
ساي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1308
 تاريخ التسجيل :  Jul 2020
 المشاركات : 2,292 [ + ]
 التقييم :  3532
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Silver
شكراً: 0
تم شكره 4 مرة في 4 مشاركة

مشاهدة أوسمتي



. مساء الخير والهناء والرضى لكم جميعاً..... أو مساء الإجتهاد والمذاكرة إن كنتم من الأشخاص الذين مازالوا يعانون من الإمتحانات.
(( إن كنتم كذلك, مالذي تفعلونه هنا؟! عودوا بسرعة للإستذكار! ))

حان الوقت لوضع جزءٍ جديد سيكون خاتمة هذه المرحلة من القصة, ولكن لن أُطيل عليكم بالتفاصيل وسأترك لكم التعليق بعد قراءته.

يجبُ علي إخباركم مسبقاً بأن هذا الجزء يحتوي على القلييييييل من الدماء, وعلى ذلك وجب التنويه.

الصورة المستعجلة التي قمتُ برسمها ليست جيدةً بما يكفي, ولكن ما باليد حيلة.

(( ملاحظةٌ صغيرة لذاتي: توقفي عن الكتابة تحت تأثير الشوكولاتة. ))

حسناً, يكفي ثرثرةً الآن, فلندخل إلى المنزل مرةً أخرى فاليل مازال في بدايته, وأمامنا الكثير لنراه هناك

الفصل السابع
-----------------------------------

ماهي النهاية؟ أوليست فقط نقطة البداية لشيء آخر؟

-----------------------------------



ساد الصمت المهيب على المكان والموقف.

لم يتحرك أحد, لم يتكلم أحد. ولكن وجوههم جميعاً حملت الكثير والكثير من الدهشة والخوف وحتى الإستنكار, فالقصة التي سمعوها للتو من (أمورا) بدت أقرب للمزاح منها للواقع. وبالرغم من أنها أخرجت كتاباً قديماً ومفتاحاً أسود اللون من حقيبتها ووضعتهما على الطاولة, إلا أن ذلك لم يجعل الأمر أسهل تصديقاً, وحتى (نويل) المساند لها دائماً وأبداً كان يلقي بنظرات متشككة نحو قريبته.

كانت (يوهانا) أول من يصدر صوتاً فقد تنحنحت بنعومة بعد أن شعرت بكمية الحرج والإنكسار الذي كاد يقطر من (أمورا) بينما الكلُ يفحصها بنظره ويشكك بسلامة عقلها, ثم أتبعت ذلك بإلتقاطها للمفتاح ورفعته للتأمله ملياً.

لم يبدُ كالمفاتيح العادية ولا كالتي رأوها سابقاً في هذا المنزل, بل كان هذا المفتاح خفيفاً رفيعاً نسبياً تزين طرفه الآخر بدائرة ملأتها النقوش الصغيرة. وبغض النظر عن لونه الأسود اللامع فلم يكن هناك شيءٌ آخر يستدعي الإنتباه فيه.

"مفتاحٌ غريبٌ فعلاً. أين وجدته يا (أمورا)؟".

رفعت (أمورا) عينيها وقد عاد إليها بصيص الأمل بوجود من يصدقها فأسرعت بالإجابة: "في الغرفة التي توجد بها الساعة بالطابق السفلي. وجدتُ الكتاب وكان المفتاح بداخله."

"ومالذي يحتويه هذا الكتاب؟", كان السائلُ هذه المرة هو (آرثر).

"أنها مذكرات أحد الأشخاص الذين سكنوا هذا المكان سابقاً. لم أتمكن من قراءته كاملاً ولكنني عرفتُ بأمر مفتاح الساعة منه."

تقدم (نويل) ببطء نحو الفتاة المضطربة وأمسك يدها بلطفٍ جعلها تنظر إليه بدهشة سرعان ما تحولت إلى الإمتنان. ها هو كالعادة يقفُ بجانبها ليحتوي لحظات ضعفها, تماماً كما كان يفعلُ منذ سنوات طفولتهما. حتى وإن لم يكن يصدق روايتها المجنونة فهذا اللطف يكفيها حالياً.

"حسناً...كانت هذه القصةُ مشوقةً فعلاً, ولكن هل توقعتِ منا تصديقها حقاً؟", قال (لورانس) وهو يحاول جاهداً أن لا يصرخ بوجهها.

"في الواقع –رفع (ساي) رأسه قليلاً وهو يفكر- قصتها لا تبدو مستحيلة التصديق بالنسبة لي."

"نعم, نعم...لا أحد يتوقع منك غير ذلك فأنت الذي تملأ رأسها بهذه الترهات عادةً!", رد عليه (لورانس) بحنق, كيف لهم بأن يصدقوا قصةً كهذه؟!

"إن كنتَ قد كلفت على نفسك بالتفكير لثانيةٍ واحدة للاحظت بأننا في منزل يوجد به صبي لا يموت!", نطق (ساي) الكلمات الثلاث الأخيرة بحدة متصاعدة شاركتها نظرة ثاقبة ثم أردف: "إننا لا نستطيع الخروج, الزمن مضطرب تماماً, ذكرياتنا متخبطة, يوجد كائن ما يلاحقنا, والعديد من الأشياء التي لا تفسير لها تجري هنا. هلا وجدت لي تفسيراً مقنعاً لكل هذا يا صاحب المنطق؟!".

إشتعلت عين (لورانس) بغضب متفجر بعد سماعه لكلمات (ساي) الحارقة وتحرك لا شعورياً بإتجاه الأخير وهو يضم قبضته بشدة, ولكنه سرعان ما وجد (يوهانا) تقف حائلاً بينه وبين (ساي) وهي تقول بحزم: "توقف يا (لورانس)! أنا أيضاً أصدق (أمورا). لا مصلحة لها في الكذب علينا وإختلاق قصةٍ كهذه أبداً. كما أن (ساي) على حق, كلٌ ما يحدثُ هنا غير طبيعي من الأساس."

هدأت نبرتها قليلاً وهي تتابع بعد أن رأت نيران غضبه تخمد ببطء: "ليس هذا بالوقت الذي نقوم فيه بمناقشة من المحق ومن المخطئ, كل ما علينا إيجاده هو طريقةٌ تخرجنا من هنا سالمين, أليس كذلك؟".

هز (آرثر) رأسه موافقاً كلمات الفتاة المتزنة ثم ساندها بقوله: "بإعتبار أن ما تقوله (أمورا) صحيح, إذن فما زال هناك أملٌ لنجاتنا. ومهما كانت (أمورا) محظوظةً فهي لن تستطيع إنجاز الكثير وحدها. من الأفضل أن نعمل سوياً دون الإعتماد على مفتاح الساعة هذا كثيراً, فنحن لا نعلم عن القواعد التي يسير عليها هذا المنزل, لا يبدو أن للمنطق مكاناً هنا."

تهدج صوت (أمورا) وهي تنقل بصرها بينهم متنفسةً الصعداء وكأن جبلاً من الهم إنزاح من فوقها: "شكراً....شكراً لكم جميعاً...إنني حقاً سعيدةٌ لأنكم صدقتموني أخيراً.."

"هذا لا يفسر الشخص الذي هاجمني وقام بحبسي, ولكن ما يهمني حالياً هو ما يجب علينا فعله الآن."

"هل نستخدم هذا المفتاح مجدداً لنعود إلى البداية؟", تساءل (لورانس) الذي يبدو أنه توقف عن محاولة إنكار صحة القصة بعد أن وجدهم جميعاً يدعمون (آمورا) بثقتهم في روايتها. يبدو أنه الوحيد الذي يجد الموضوع بأكمله مستحيل التصديق, ولكنه قرر بأنه لن يجادلهم أكثر, من الأفضل أن يحتفظ برأيه لنفسه.

هز (آرثر) رأسه نافياً: " لا, يبدو أن الشخص الذي يستعمل المفتاح هو فقط الذي يحتفظ بذاكرته, وإن فعلنا ذلك سنعود إلى مربع الصفر مجدداً."

وافقته (آمورا) قائلة: "هذه هي المرة الوحيدة التي تمكن الجميع فيها من البقاء أحياء لهذه المدة, في السابق كان...كنتم...-انخفض صوتها وهي تهمس بألم-...كنتم جميعاً تقتلون بعد فترةٍ وجيزة.", كانت عيناها المسبلتان تخفيان خلفهما الأهوال التي رأتها الفتاة الرقيقة الناعمة منذ أن وطئت قدمها هذا المنزل لأول مرة.

"ولكن هذا شيءٌ جيد, أليس كذلك؟", قال (ساي) بإبتسامةٍ واسعة وهو يتحرك ليفارق السرير وينهض على قدميه بخفة بعد أن نال أكثر من كفايته من الراحة وبدأ يخطو بإتجاه الحمام الملتحق بالغرفة.

"مالجيد في الموضوع بالضبط؟", تساءل (نويل) بحيرة.

"ألا يعني ذلك أننا نسير في الطريق الصحيح هذه المرة؟", أدار صديقه رأسه للخلف بينما وقف عند باب الحمام وأجابه بإبتسامة أكثر إتساعاً.

"والآن إسمحوا لي...أكاد أن أقتل نفسي إن بقيت رائحة ذلك القبو ملتصقة بي هكذا."

-----------------------------------

تحرك (ساي) بتمهل في الغرفة الصغيرة التي أغلق بابها خلفه, وقام برفع قميصه الأبيض بخفة ليخلعه عن جسده قبل أن يقوم بهز رأسه عدة مرات لينسكب بعدها شعره حول عنقه وكتفيه. الإبتسامة التي حملها وجهه تبخرت فور دخوله للغرفة المنعزلة.

تجاهل حوض الإستحمام تماماً واتجه نحو المغسلة الفاخرة عوضاً عن ذلك, فليس هذا بالوقت ولا المكان الذي يسمح له بأخذ حمام طويل. لقد كان صادقاً في رغبته بالإغتسال, ولكنه كان فعلياً يحتاج إلى بعض الوقت وحيداً ليقوم بإعادة ترتيب أفكاره ومشاعره. كان الكثير يحدث حولهم وهم لا يملكون من الأمر شيئاً سوى مجاراة الأحداث ومحاولة البقاء على قيد الحياة. إنه يكره هذا الشعور. الشعور بالعجز بينما العالم يخرج عن السيطرة حوله. ولكنه ما كان ليسمح لنفسه بإظهار عُقَده النفسية هذه أمام أي شخصٍ مهما كان. يبدو أنه مازال يحمل بداخله ذلك الطفل الذي لا يسمح لنفسه بالبكاء إلا إن كان وحيداً وبعيداً عن الأنظار.

ولكنه لن يبكي الآن قطعاً.

كانت أصابعه تعمل على خلع السلاسل الملتفة حول عنقه واحدةً تلو الأخرى, كانت أصوات أصدقائه تصلٌ إليه مكتومةً من خلف الباب السميك إلى أن قام بتحريك المقبض الذي اعتلى الصنبور لتبدأ قطرات الماء في الإندفاع مصدرةً خريراً ملأ أذنيه, وبدأ بغسل وجهه وشعره المنسدل رويداً قبل أن ينتقل إلى عنقه والجرح الذي امتد أسفله, إنه حتى لم يشعر به وقت مهاجمة المجهول له, فقد كان عقله مملوءاً بالرغبة في الخلاص من الذراعين اللتين أحاطتا به بقوةٍ لم يكن يملك ما يعادلها.

نفس الشعور مرةً أخرى... هذا لا يساعده أبداً.... تحسس الجرح ببطء بأطراف أصابعه قبل أن يطلق زفرةً قصيرةً يضع رأسه تحت الصنبور ليغطس في الماء والأفكار.

-----------------------------------

لم يمضِ على دخول (ساي) إلى الحمام وإغلاق الباب خلفه سوى عدةُ دقائق, وكأنما كانت هذه إشارةً ليقوم شيءٌ ما بالحدوث, سمعت المجموعةُ صوت خطوات متمهلة في الخارج تبعتها طرقتان خفيفتان على الباب الغرفة التي تجمع فيها الأصدقاء الخمسة.

تجمد كلٌ منهم في مكانه وقد أجفلتهم هذه المفاجأة الغير متوقعة, ولكن مفاجأةً أكبر كانت تنتظرهم بعدها.

"يجب أن يعيش ساي."
كان الصوت القادم من وراء الباب رخيماً وهادئاً, مألوفاً لهم وغريباً عليهم في نفس الوقت.

"من...من هناك؟!", تحرك (آرثر) الذي كان أول من تمالك نفسه بإتجاه الباب وهو ينتوي فتحه ليرى هوية محدثهم المجهول.

"إياك أن تفتح الباب يا (آرثر), إبق مكانك واستمع إلي إن كنتم تريدون النجاة.", تحدث الصوت مرةً أخرى وكأنه كان يرى ما يحدث في الجانب الآخر.

"كيف تعرف إسمي؟! من أنت؟!", رد عليه (آرثر) بدهشةٍ غلفتها الصرامة بعد أن توقف خلف الباب مباشرةً ويده تكاد تلمس المقبض.

"صدقني, ليس لدي ولا لديكم الوقت الكافي لهذا الحديث, لقد أتيتُ إلى هنا لأدلكم على طريقةٍ تخرجكم من هذه الحلقة المفرغة أحياء, فاسمعني إن كنتَ تريد أن لا تقضوا نحبكم جميعاً هنا. قم بإعطاء الكتاب والمفتاح لـ (ساي), يجب أن يعيش وأن يكون هو الشخص الذي يقوم بإستخدام مفتاح الساعة. أنا آسف ولكنكم لن تستطيعوا النجاة بدون ذلك. مهما كلف الأمر, أبقوه على قيد الحياة, ولا تخبروه إطلاقاً بما سمعتموه مني للتو."

تبادل الأربعة نظرات الحيرة والخوف بينما رد (آرثر) على الصوت المجهول بذات الصرامة: "أعطني سبباً واحداً يجعلني أقوم بتصديقك!".

صمت الصوت لبرهةٍ قبل أن يجيب: "ألم تجدوا (ساي) في المكان الذي تركتُ لكم مفتاحه؟ مالذي سيجعلني أكذب عليكم الآن؟".

بُهت الجميع بعد تلقيهم لهذه الكلمات, فمع تسارع الأحداث التي كانت تجري حولهم نسوا تماماً التفكير في هوية الشخص الذي ترك لهم الملاحظة التي قادتهم لـ (ساي), كما أنه كان يعلم بأمر (أمورا) أيضاً. من هذا الذي يقف خلف الباب؟ ولماذا لا يظهر نفسه لهم؟

أغمض (آرثر) عينيه وأخذ نفساً عميقاً.
".....أخبرنا مالذي يجب علينا فعله."

-----------------------------------

خرج (ساي) من الحمام وهو يبدو كشخص مختلف عن ذاك الذي دخله, فقد كان منتعشاً ويدندن لحناً ما لنفسه بينما انشغلت يداه بتجفيف شعره الطويل مستخدماً منشفةً وجدها بالداخل. ولكن حالما قام برفع عينيه توقف مكانه وهو يرمش بتساؤل, فقد كان الكلُ ينظرون بإتجاهه بصمت وكأنهم كانوا ينتظرونه وقد حملت وجوههم تعبيراً لم يتمكن من قراءته.

"إحم...هل إزددتُ وسامة خلال الدقائق العشرة التي قضيتُها بالداخل؟ مابالكم تحدقون بي هكذا؟".

"ألم تفكر في إحتمال كونك إزددت قُبحاً؟", لم يستطع (لورانس) الواقف عاقداً ذراعيه تضييع فرصةٍ يقوم فيها بالسخرية من (ساي).

"لا أريد سماع ذلك من مراهق ذو شعر ملون مثلك.", لم ينظر (ساي) لمحدثه – أو بالأحرى, الساخر منه-وهو يستمر في المسح على خصلات شعره التي تدلت بعفوية على كتفه.

"هل إنتهيتم؟ (ساي), هلا احتفظت بالمفتاح والكتاب بدلاً من (أمورا)؟ سأشعر بالإطمئنان أكثر إن كانوا معك.", تحدث (آرثر) وهو يحدج الشاب الحائر بنفس النظرة الغريبة التي لم يستوعب مغزاها.

لم يفهم (ساي) سبب هذا الطلب المفاجئ, ولكنه لم يجد أيضاً سبباً يدفعه للرفض, لذا فقد اكتفى بهز كتفيه وتقدم ليحمل الكتاب والمفتاح الأسود ومن ثم جلس القرفصاء على الأرض أمام المدفأة بينما توجه ظهره نحوهم.

"لا أتوقع بأنكم وجدتم شيئاً يمكننا فعله للخروج من هنا؟", تسائل وهو يقوم بتأمل أول صفحة من الكتاب.

"....ليس تماماً.", أجاب (نويل) بإقتضاب.

"توقعتُ ذلك. (نويل), هلا ناولتني هاتفي؟ لست أحبذ إضاعة الوقت بلا فائدة, أحتاج لبعض الموسيقى ليصفو مزاجي.", لم يستدر الشاب وهو يحدثُ صديقه بل اكتفى بفرد يده اليسرى وكأنما يتوقع من (نويل) وضع هاتفه هناك, وهو تماماً ما حدث. حالما استقر الجهاز في يديه, قام (ساي) بالتنقيب في جيب بنطاله ليخرج سماعاته ويوصلها بالجهاز ثم بأذنيه.

ثم بدأ في القراءة.

-----------------------------------

السابع عشر من مارس, 1884م:
أهدتني والدتي كتاب المذكرات هذا في عيد ميلادي الحادي عشر والذي كان الأسبوع الماضي, قالت بأنها طلبته خصيصاً لي وأن كتابتي لمذكراتي ستساعدني بعد إنتقالنا لمنزلنا الجديد على التأقلم مع حياتنا هنا. سأفتقدُ أصدقائي في المدينة كثيراً ولكن هذا المكان جميلٌ فعلاً. الحديقةُ واسعةٌ والمنزل كبير, كما توجد غابةٌ صغيرةٌ بقربه!
يجب علي أن آخذ (إيفانجيلين) وأذهب لإستكشاف القرية المجاورة يوماً ما.
أتساءل إن كانت معلمتنا الجديدة بنفس صرامة السيدة (لوري) التي كانت تدرسنا سابقاً.

الحادي والعشرون من مارس, 1884م:
الحياةُ هنا مختلفةٌ فعلاً, فوالدي يبدو أكثر ارتياحاً هنا من المدينة, ووالدتي تستمع جداً بزيارات نساء القرية وإطراءهن لمنزلنا.
ليس هناك الكثير من الزوار بأعمارنا أنا و (إيفانجيلين), ولكن لا بأس بذلك فنحن دائماً لدينا بعضنا البعض. بإمكاننا أن نستغل الوقت الذي تنشغل فيه أمي لإستكشاف أرجاء المنزل الجديد فهناك العديد من الغرف التي لم ندخلها بعد.
مُدرسَتنا الجديدة, السيدة (إليزابيث), لطيفةٌ جداً ولا تعطينا الكثير من الفروض, لذا فأنا سعيد جداً.

السابع والعشرون من مارس, 1884م:
لقد حدث شيءٌ غريب جداً اليوم...
عندما أتت ضيفات والدتي لتناول الشاي في المنزل, قمنا بتحيتهن كما علمتنا أمي ثم تركناهن وذهبنا نستكشف كالعادة. دخلنا إلى غرفة المعيشة الصغيرة التي تقع قرب المطبخ والتي قلما يزورها أحد. كانت هناك ساعةٌ كبيرةٌ يوجد في منتصفها مفتاح أسود. أنا لم أرَ ساعةً تحمل مفتاحاً من قبل. (إيفانجيلين) قالت بأن المفتاح قد يكون لمعايرة وقت الساعة, ولكن عندما حاولتُ إدارته لم تتحرك عقارب الساعة سوى مرة واحدةً فقط. ولكن ليس هذا هو الشيء الغريب...
لستُ أعلم كيف حدث ذلك, ولكنني وجدتُ نفسي و(إيفانجيلين) أمام والدتي وضيفاتها مرةً أخرى. كُنَ يتحدثن بنفس الأحاديث, ويستعملن نفس الكلمات التي سمعتهاً المرةً الأولى. نفسها تماماً! حتى إسقاط الآنسة (ماري) لكأس الشاي الخاص بها تكرر بحذافيره.
(إيفانجيلين) تُنكر تماماً معرفتها بموضوع الساعة, إنها تقول بأنني أكذب.
يبدو أنها لا تتذكر.

الثامن والعشرون من مارس, 1884م:
يظهر أن والدتي سمعت بموضوع الساعة من (إيفانجيلين), وأنا الآن معاقب لأنها مؤمنةٌ بأنني اختلقتُ القصة لأُخيف بها أختي الصغيرة....
لستُ مهتماً بالساعة البلهاء فقد تعرضتُ للتوبيخ بسببها, سأقوم برمي المفتاح في صندوقي ولن أذكُر الأمر لأحدٍ مرةً أخرى.

الخامس عشر من إبريل, 1884م:
(إيفانجيلين) ليست على ما يرام....
يبدو أنها أُصيبت بمرض ما, وأنا الآن لا أستطيع اللعب معها خارجاً أو حتى بداخل المنزل. إنها تتألم أغلب الوقت, وسعالها يزداد حدةً كل يوم. طبيب القرية يحاول جاهداً طمأنة والدتي ولكنها بدأت تُصاب باليأس فحالة أختي لا تبدي أياً من بوادر التحسن. بالأمس سمعتها تبكي بعد أن تمكنت (إيفانجيلين) من النوم أخيراً. حالةُ أختي سيئةٌ لدرجة أننا اضطررنا لنقل غرفتها لتصبح بجانب غرفة والدتي في الطابق الثاني حيث أنها تحتاج لرعايتها على الدوام. لقد إخترنا لها الغرفة الأبعد عن السلالم لكي لا يزعجها صوت الخدم والزوار.
إنني وحيد جداً, وحزين جداً. حتى دروس السيدة (إليزابيث) أصبحت كئيبةً عندما بدأت أتلقاها لوحدي.
أتمنى أن تُشفى (إيفانجيلين) قريباً.

الثامن والعشرون من إبريل, 1884م:
لم يتمكن أحدنا من النوم الليلة الماضية, فـ (إيفانجيلين) لم تتوقف عن البكاء والسعال طول الليل, وقد ارتفعت درجة حرارتها فجأة. والدتي تمنعني من الدخول عليها خوفاً من إصابتي بالعدوى, ولكنني أريد رؤيتها بشدة...
لم نلعب أو نتحدث مع بعضنا كما كنا نفعل سابقاً منذ أسبوعين, وأنا قلق عليها للغاية.
لقد طلبتُ من والدي أن يقوم بأخذها إلى مستشفى المدينة ولكنه يرفض بحجة أن السفر سيرهق صحتها أكثر, سأحاول إقناعه ثانيةً غداً.
يبدو أنها نائمةٌ بعمقٍ فالسكون يخيم على غرفتها منذ مدة.

-----------------------------------
اليد التي لمست كتفه خرجت به من عالم المذكرات والموسيقى الذي غطس فيه بعمق, وأعادته للواقع الذي تركه خلفه لوهلة.

رفع (ساي) رأسه الذي غطى الشعر الطويل جانبه وأزاح السماعات من أذنيه والتفت برأسه متسائلاً ليرى (نويل) وقفاً خلفه بوجوم لم يجد له مبرراً.

"(ساي), لقد كنا نتحدث فيما بيننا, وأعتقد أنه يجب علينا الذهاب للغرفة التي توجد بها الساعة."

"ولم عسانا نفعل ذلك؟ ألم يقل (آرثر) بأن لا فائدة ترجى من إستعمال المفتاح؟".

"نعم, ولكن...أليس من الأفضل أن نكون بقربها في حال وقع أمرٌ ما؟", أجاب (نويل) بتردد وكأنه لم يكن هو نفسه متأكداً من السبب.

ما هذه النبرة الغريبة التي يحملها صوت (نويل)؟

لم يعلق (ساي) على كلام صديقه بل اكتفى بإغلاق الكتاب وقام بإدخال المفتاح الأسود في جيبه ثم نهض من موضعه بتمهل واتجه صوب الباب وبصره يجول بين وجوه أصدقائه الخمسة. كان أغلبهم يحاول تجنب نظراته.

"....حسناً إذن, فلنذهب إن كان هذا ما تريدونه, ولكنني لا أرى الجدوى من ذلك."

لم يرد أي منهم عليه, مما أجج شعوره بوجود سرٍ ما. أحياناً يستطيع الإنسان أن يحس بالجو المكهرب حتى وإن كان كل شيءٍ يبدو طبيعياً في الظاهر. ما هذا الإحساس الكاسح الذي ينتابه بوجود شيءٍ خاطيء؟

لم يتسنى له الإستغراق في تحليلاته حول سبب غرابة أطوار الأشخاص الذين وقفوا خلفه في الغرفة وكأنهم لا ينوون الذهاب معه, فقد فوجئ بيدٍ قوية تمسك معصمه بصلابة, مما جعل رأسه يدور بسرعةٍ لينظر بدهشةٍ إلى (نويل) الذي كان واقفاً بجانبه وهو يعتصر يده.

"(ساي), إبق بالقرب مني طوال الوقت.", قالها الشاب ذو الملامح الهادئة دون أن ينظر بإتجاه صديقه الذي وجِهَت له هذه الكلمات, فقد كانت عيناه الخضراوان مركزتان بثبات على باب الغرفة.

هتف (ساي) بالشاب الأطول منه مستنكراً: " اترك يدي يا (نويل)! مالذي دهاك؟!", حاول سحب معصمه من القبضة التي أحاطت بها ولكن هيهات, فـ (نويل) كان يشد عليها بكل ما أوتي من قوة.

قبل أن يبدأ (ساي) بالتفكير جدياً في إيساع (نويل) ضرباً ليتمكن من تحرير يده, قام الأخير بسحبه فجأةً إلى الجانب وأحاطت ذراعاه به ليحمي جسد الشاب الأصغر منه حجماً بينما أطاح شيءٌ أشبه بالإنفجار بالباب الذي كان (ساي) يقف أمامه منذ ثوانٍ.

-----------------------------------

إتسعت العينان البنيتان لأقصى درجة ممكنة وهو يحدق في المكان الذي كاد أن يلقى حتفه فيه لولا تدخل (نويل) بينما همست شفتاه بذهول: "هذا مستحيل...منذ متى كان هذا الشيءُ قادراً على نسف الأبواب هكذا؟!".

ترنح (نويل) وهو يستعيد توازنه ولكنه لم يفلت معصم صديقه ولو للحظة. لمح الشاب القصير (أمورا) المذعورة بطرف عينه وهي تقوم برفع المسدس الصغير الذي وجده (نويل) سابقاً بيدين مرتجفتين نحو الصبي الشاحب وهي تصرخ به: "إبتعد عنه...إبتعد عن (ساي) وإلا...!".

هتف المذكور بها: "مالذي تفعلينه يا حمقاء؟! أنت لا تستطيعين إستخدام الأسلحة النارية, من المغفل الذي أعطاها هذا الشيء؟!".

ولكن الفتاة لم تستمع له, فقد أتبعت تهديدها بالفعل وقامت بالضغط على الزناد رغم عدم توازن يديها لتخرج رصاصةٌ طائشةٌ وتنطلق نحو عنق الطفل الذي كان ينظر نحوها بعينيه الميتتين. رغم أن المسدس يبدو صغيراً إلا أن قوة الطلقة دفعت بها إلى الخلف وهي تطلقُ صرخة جزعة تبعها صوت عواء الكائن الذي كان عنقه يحمل فتحةً صغيرة الآن. وكما هو متوقع, لم تخرج من مكان الطلقة أي دماء.

ولكن وإن كان هذا الشيء لا ينزف, إلا أنه بالتأكيد يتألم ويغضبُ بشدة في حال إصابته. فقد كان هدفه فور أن استعاد توازنه هو (أمورا), وكأنه يسعى للإنتقام الفوري مما فعلته به.

كان (ساي) يحاول بجنون أن يفلت من قبضة (نويل) وهو يشاهد ما يجري, ولكن يبدو أن الأخير كانت لديه مخططات أخرى غير إنقاذ (أمورا), فقد قام بسحب الشاب القصير سحباً إلى خارج الغرفة بينما دوى صوت طلقةٍ أخرى خرجت هذه المرة من مسدس (آرثر) الذي يحمله دوماً.

صرخت (يوهانا) بـ (نويل): "أسرع بأخذه بعيداً عن هذا المكان!".

"هل جننتَ يا (نويل)؟! مالذي تفعله؟! إنه يقتلهم...إنه يقتلهم!!!", كانت صرخات (ساي) المعترضة تملأ الممر بينما إنضم (لورانس) لـ (نويل) وأمسك بقميص الأول ليمنعه من الإفلات.

"فلتخرس أنت فكل ما نفعله نحن الآن هو لمصلحتك ومصلحتنا!", صرخ (لورانس) بوجهه بقسوة.

لم يعد بمقدور (ساي) رؤية ما يحصل في الغرفة وهو يُسحب كحيوان هائج نحو السلالم وإن كانت أصوات صراخ (أمورا) و طلقات (آرثر) تخترق أذنيه وروحه كسهام ثاقبة. لم يكن يفهم شيئاً مما يجري, ولكنه لا يهتم بالفهم الآن, تصاعُدُ غليان الغضب بداخله جعل كل ما يريده هو العودة وتلقين الطفل الحقير درساً لا ينساه مدى حياته الأبدية. ولكن الشابين استمرا في جرجرته بينما تبعتهما (يوهانا) الباكية وهي تلتفت للخلف بين الفينة والأخرى وكأنها تخشى العودة لمقابلة مصير الشخصين الذين تركوهم خلفهم, وفي نفس الوقت بدت وكأنها لا تستطيع إجبار نفسها على الهرب وتجاهل ما يحدث.

"إسمعني جيداً يا (ساي)...!", نظر المذكور لمحدثه بحقد شديد فهو مازال يسحبه من معصمه بعيداً رغم أن إبنة عمه تموت بالداخل. أي جنون هذا الذي أصابهم؟! ولكن....ما هذا التعبير المتألم الذي يرتديه وجهه؟ تعبير يُظهرُ عذاباً لا تستطيع بساطة الكلمات وصفه. كاد (ساي) يقسم لنفسه بأن (نويل) يبكي, فقد تلألأ شيءٌ ما في عينيه التي لم يوجههما مباشرةً تجاه صديقه.

"يجب عليك إستعمال المفتاح, وإلا فإن كل ما نفعله الآن سيذهب سدى. لا تنظر إلي هكذا, إسمعني فقط! يعلم الله بأنني لا أريد تركها هكذا, ولكن إن لم نفعل شيئاً فسنبقى جميعاً هنا لنموت مرةً تلو الأُخرى!".

"مالذي تهذي به أيها المعتوه؟! هل تعي ما تقوله؟! أتطلب مني الهرب كالأطفال وترككم جميعاً؟! أتريدني أن أقف متفرجاً بينما هذا الكائن السافل يقوم بقتل (أمورا)؟! إنها إبنةُ عمك أيها الجبان!! لقد ظننتُ أنك تهتم لأمرها أكثر من أي شخص آخر!!".

"وهذا ما أحاول فعله!!!", تزامنت صرخة (نويل) مع سحبه بقوةٍ لمعصم (ساي) ليقترب وجهه منه للغاية وهو يتابع صارخاً: " إنني أفعل هذا من أجلها!! لا أريدها أن تبقى عالقةً هنا لتواجه مصيراً أسوء من الموت, لقد عانت الفتاة بما فيه الكفاية!!".

لم يتذكر (ساي) بأنه رأى (نويل) بهذه الحالةِ يوماً, لذا فقد بُهت من إرتفاع صوته والكلمات المتفجرة التي خرجت من فمه, والتي لم تتطابق مع تعابير وجهه الذي ملأته الحسرة والألم. كانت عيناهما المتقاربتان تنطقان بالكثير من الأمور التي لم تنطقها شفاههما. مالذي كان يفكر فيه هذا الشاب وهو يقوم بإدارة ظهره لها؟ ماهو شعوره وهو يسمع صرخاتها؟ بدأ (ساي) يستشعر هول الموقف الذي كان (نويل) يواجهه, والذي زاده كلام (ساي) المندفع سوءاً بلا شك.

ولكن هذا لم يكن بسوء ما حدث بعدها.

فما أن بدأوا بالنزول عبر السلالم حتى خرج الكائن من الغرفة ببطء وقد تلونت بشرته الشاحبة وشعره المتناثر وملابسه التي كانت فخمة في يومٍ ما بلون أحمر لا يجهل أحد مصدره.

صرخة (يوهانا) الملتاعة نبهت (ساي) إلى أنه لم يعد يسمع صوت (أمورا) أو طلقات (آرثر), وبسرعةٍ شديدةٍ أخذ يقلبه يخفق بينما انتشر البرد في أطرافه وهو يستوعب معنى ذلك.

-----------------------------------

لم تعش (يوهانا) طويلاً بعد إطلاقها لصرختها تلك.

كونها الوحيدة التي لم تصل إلى السلالم بعد, فلم يكن من الصعب على الصبي القاتل الوصول إليها في غضون ثوانً., وبإندفاعةٍ سريعةٍ قام الصبي بالإطاحة بالفتاة التي وجدت نفسها تحلق من الدور الثاني لتهوي نحو الأرضية الرخامية لبهو الدور الأرضي في مشهد جعل الشبان الثلاثة يتجمدون في أماكنهم.

الصدمة كانت كفيلة بجعلها تكتفي بالتحديق في مهاجمها بعينين جاحظتين وهي تدرك في أعماقها إقتراب نهايتها, الوجه الصغير الذي تلون بالعروق الظاهرة بادلها النظر بجمودٍ جليدي.

لم يصدر منها أي صوت, لم تصرخ أو تتحرك بعد إرتطامها بالأرض التي استقبلتها بقسوة, بقي جسدها هامداً بينما بدأ لون الأرضية تحتها يتغير تدريجياً.

"....(هانا)............؟"

أكان هذا الصوت المخطوف الأنفاس والمتشبع بغصة الدموع فعلاً صوت (لورانس)؟ لم يسمع رداً من صاحبة الإسم التي بقيت مكانها وقد استلقت نظاراتها المحطمة بجانبها. هز الشاب المفجوع ذو العين الواحدة رأسه نافياً ببطءٍ وكأن عقله يأبى تصديق ما حدث أمامه.

لم يكد (ساي) و (نويل) يبدأون في إستيعاب ما حصل للتو حتى رأوا ظهر (لورانس) أمامهم وهو يهجم بجنون على الشيء الذي كان يخطو على آخر درجات السلم الرخامي متوجها نحو المجموعة الصغيرة وقد اخترقت جسده الصغير عدةُ طلقات في أماكن متفرقة, مما قد يفسر سبب سيره المتباطئ وكأنه ليس على عجلةٍ من أمره للقضاء عليهم.

"(لورانس)!!".
" توقف!!!!".

صرخ الشابان محذرين المذكور في نفس الوقت, ولكن التصرفات المنطقية لم تكن ما يحتل تفكير (لورانس) الآن. كلُ غضبه, كلُ حزنه, كلُ ألمه اجتمع ليجعل منه شخصاً لا يبالي بوجه الموت الذي كان يحدق فيه مباشرةً. صورة (يوهانا) وصوتها ترددا في رأسه فهي تارةً تضحك, وتارةً تؤنبه على عصبيته, وأخرى تغيظه بذكاءٍ مازح.
"لقد قتلتها!! أيها القذر الحقير!! كيف تجرؤ على فعل هذا بـ (هانا)؟! مالذي فَعَلتهُ لتستحق ذلك؟!", كانت حمم مشاعره الملتهبة تخرج متدفقة من فمه وعينه التي قابلتها نظرةٌ متجمدةٌ من عينين غُمستا في السواد الحالك.

كل ما حدث ومازال يحدث جعل (نويل) يقف كالصنم وقد تبلد عقله تماماً, لذا فقد تمكن (ساي) أخيراً من تحرير معصمه الذي كان حبيس قبضة الأول بسحبةٍ قويةٍ مفاجئة. لم يضيع ثانيةً واحدة بل إندفع خلف الشاب الذي سبقهٌ محاولاً الوصول إليه قبل أن يتسبب بغضبه الأعمى في قتل نفسه.

ولكن يد الصبي كانت أسرع منه بالرغم من أنه وصل على بعد خطوات من (لورانس) فقط.

شَعَرَ (ساي) بسائل دافئ يرتطم بوجهه ليغمر أنفه برائحة نفاذة جعلت ساقيه تتوقفان عن الحركة تماماً.

(لورانس) الذي كان يثرثر أكثر من أي شخص آخر, (لورانس) الذي كان صوت ضحكاته يصل لعنان السماء, (لورانس) العصبي المشاكس الذي كان يملأُ الحياة حوله ضجيجاً وصخباً....

(لورانس)....لن يضحك أو يصرخ أو يسخر من أي شخصٍ مرةً أخرى.

-----------------------------------

"....هذا لا يحدث....لا يمكن بأن هذا يحدثُ فعلاً...".

وصل (ساي) لمرحلةٍ الهلوسة وهو ينقل عينيه بين جسد الفتاة المحطم الذي توسط البهو وبين الشاب الذي لم تمض أكثر من ثانيتين على إغلاقه لعينه الزرقاء الصافية لآخر مرة في حياته.

بالرغم من أنه لم يجد صعوبةً في تصديق قصة (آمورا) سابقاً, إلا أنا ما يشاهده الآن كثير جداً. كيف تمكنت تلك الفتاة الهشة من تحمل هذا العذاب قبلاً؟ إنه يفضل الموت قطعاً على رؤية أصدقائه القلائل في هذا العالم يقتلون هكذا. ربما كان بإمكانه أخذ هذا الشيء الجحيمي معه قبل أن يَقضى عليه هو الآخر.

نعم.... سيفعل ذلك.

إمتدت يده إلى جيبه بسرعة ليخرج شيئاً ما.

مازالت السكين معه, السكين التي لم تفارقه يوماً منذ سنوات. سيستعملها كما إستعملها سابقاً, للقضاء على أولئك الذين يحاولون إيذاء من يحب. سيقتله هذا الكائن السفاح حتماً, ولكنه لن يسمح لنفسه بالموت قبل أن يرد له ما فعله بأصدقائه أضعافاً مضاعفة.

نظر إلى خصمه الصغير بعينين حملتا منتهى الغضب والتوحش ثم حرك السكين بخفة لينفرد النصل الفضي اللامع بينما تبخر أي خوف كان يحمله في أعماقه من إنتهاء حياته, إنه لا يبالي حقاً الآن.

-----------------------------------

"لن أسمح لك!".

(نويل) يقبض على معصمه مرةً أخرى!

تحركت العينان المتسعتان اللتان أعمتهما الشراسة لتنظرا إلى الشاب الذي تغلب عليه جنون من نوعٍ آخر.

جنون الخوف.

لماذا يُصرُ (نويل) على إيقافه؟ لماذا كان على البقية أن يموتوا هكذا؟ لماذا عليه هو أن ينجو؟ لم يكن يريد الآن سوى أن يذيق هذا القاتل العقاب الذي يستحقه. لن يكتفي بتعذيب الطفل المقيت مرةً واحدة, سيقتله مراراً وتكراراً, سيظل يقتله للأبد إن كان فعلاً لا يموت.

اللكمة التي تلقاها في معدته أوقفت أفكاره الدموية وأجبرته على السقوط على ركبتيه ليشعر بنفسه بعدها يُحمل حملاً على كتف (نويل) الذي انطلق نحو الغرفة التي تحوي الساعة, بينما رأت عيناه اللتان بدأتا تفقدان تركيزهما هدفه يتبعهما بإصرار بطيء.

لم يحس بالوقت الذي استغرقه وصولهما للغرفة ووعيه يتأرجح بين اليقظة والإغماء, ولكن سرعان ما سمع صوت باب خشبي يُركل وتبع ذلك إنزال (نويل) للجسد الذي حمله بأقصى درجات العناية التي تسمح بها الظروف. هكذا هو (نويل) فعلاً, يظل هذا الشاب مهتماً بصديقه المتهور حتى النهاية. حتى والخوف يمزق ما تبقى من عقله.

محاولات (ساي) للنهوض لم تكلل بالنجاح, فقد كان يجد نفسه يترنح ويعود للأرض مجدداً, وهو ما كان يريده (نويل) تماماً, فهو لا يرغب في أن يجد (ساي) يندفع بجنونه المعهود نحو حتفه. ليس الآن.

لقد تحملت (أمورا) عبء هذا العذاب وحدها سابقاً, ومستقبلهم المجهول سيقع على عاتق صديقه المتهور القصير, وهو يعلم مسبقاً نوع الألم الذي سيتوجب على (ساي) تحمله.

ولكن الآن, من أجلهم جميعاً, عليه أن يسير هو إلى حتفه.

إنحنى الشاب الطويل ليسحب السكين التي استقرت في راحة صديقه برفق, وقد تقابلت نظراتهما لثانيةٍ واحدة قبل أن يعتدل وهو يبذل أقصى جهده في لملمة شتات أعصابه قبل أن يستدير ليقف عند باب الغرفة أمام عيني (ساي) المشدوهتين.

-----------------------------------

لم يكن الممر الضيق الطويل الذي يسير فيه الطفل بتمهل هو المكان الذي يرغب (نويل) بالتواجد فيه حالياً, ولكن ما باليد حيلة. لا مجال للتراجع الآن, عليه أن يمضي قُدُماً فيما يتوجب عليه فعله. تسارعت أنفاسه وضربات قلبه منتظراً وصول النهاية القادمة لا محالة.

"(ساي)...علي الإعتذار إليك بينما أنا أمتلك الفرصة لذلك, أعلم أنك لا تفهم ما يجري, وربما كرهتني لما فَعَلتهُ بك, ولكنني أريد لك أن تعيش لتنقذ (أمورا), لتنقذنا جميعاً."
صوت الخطوات بدأ يصبح أكثر وضوحاً, مما يعني أن الكائن يقترب منهم حثيثاً.

"....إنني خائف لأصدقك القول....إنني خائف يا (ساي)....ولكن إن كان لابد لي من الموت فأريد أن أكون مفيداً على الأقل..."

ما بال (نويل) الأحمق يثرثر عوضاً عن الهرب؟! أراد (ساي) أن يصرخ بذلك ولكن صوته لم يسعفه فلم يسمع سوى صدى أفكاره يملأ رأسه.

" لذلك...أرجو أن تعيش يا (ساي)...يجب أن تعيش, من أجلنا جميعاً."

بالرغم من عدم وضوح الرؤية إلا أنه لاحظ شحوب وجه (نويل) المفاجئ.

لقد وصل الطفل.

"(نويل)!!!".

لم يعبأ المذكور بالصرخة المتألمة التي خرجت بصعوبةٍ حاملةً إسمه بينما كان هو يندفع فجأة ليدفن السكين القصيرة في منتصف جبهة الصبي الذي فتك ببقية أصدقائه, وهاهو دوره يحين الآن.

الصرخة الشيطانية التي أطلقها الصبي الشاحب لم توقف (نويل) الذي انتزع السكين من مكانها ليهوي بها مرةً أخرى على عنق الكائن الذي توالت صرخاته النائحة بلا إنقطاع.
تحرك (ساي) الذي تمكن لتوه من النهوض وهو يترنح ويعب الهواء عباً آملاً في أن يتمكن من إنقاذ (نويل) من موت محقق, يجب عليه أن يفعل ذلك ولو كلفه ذلك روحه, لن يترك صديقه يموت كالبقية. واحد فقط...يريد إنقاذ شخص واحد فقط على الأقل.

ولكن في نفس اللحظة, إخترقت يدٌ صغيرةٌ منتصف بطن الشاب بعنف مرسلةً رسالةً حمراء صاحبتها شهقةٌ متألمة أعلنت لـ (ساي) بكل وضوح عن فشله الذريع في تنفيذ ما عقد العزم عليه.

ثانيةٌ واحدة, ضربةٌ واحدةٌ سلبته أقرب وأعز صديق حصل عليه في حياته...أمام عينيه....وهو لم يستطع فعل شيء لمنع ذلك...

تراخى جسد (نويل) كدمية إنقطعت خيوطها ليسقط على ركبتيه وقد بدأ يشعر بالتنفس يصعب عليه بينما انحدر خطٌ قرمزي من ركن فمه الذي طالما حمل الإبتسامة للجميع.

كان (نويل) يبتسم الآن أيضاً. يبتسم برضى وهو ينظر نحو إنجازه حيث بدأ الكائن الصارخ ينكمش ويذوب مرةً أخرى.

إلتفت وجهه الذي تحول من البياض إلى الشحوب في غضون ثوانٍ ليواجه (ساي) بنفس الإبتسامة, منظرٌ جعل الأخير يغص بمشاعرٍ لم يكن يدري أنه يحملها. هذا القهر الساحق الذي اندفع عبر كل عرق في جسده كصاعقةٍ دمرت آخر معاقل التحمل لديه يوشك على يقتله, إنه يكاد يسمع صوت شيء ما يتكسر بداخله مثل جدار من زجاج يتهاوى تحت ضربات القدر.

أهو قلبه؟ عقله؟ روحه؟

"(ساي)....هل تبكي؟...لا تفعل...ستراني مجدداً...هناك (نويل) آخر...يحتاج ذهابك لإنقاذه...لإنقاذ الجميع...".

لم يكن (ساي) يشعر حتى بالقطرات التي انحدرت من ركني عينيه الجاحظتين لتصل إلى شفتيه المرتجفتين. إنه يريد أن يصرخ بأعلى صوته عله يفرغ بعض هذا الألم الذي يعتصره من الداخل, إذن لماذا تأبى حنجرته أن تطيعه؟ وجد نفسه يندفع رغم عدم توازن ساقيه ليترك جسده يتهاوى كيفما اتفق بجانب الشاب المحتضر وذراعاه تمتدان لتحتويا الجسد الدامي أمامه بقوةٍ حملت كل ما يتأجج بداخله من أحاسيس.

سعل (نويل) مرةً وهو يجاهد ليبقي الهواء في رئتيه, ترك جسده المنهك يسترخي بين ذراعي (ساي), الشخص الوحيد الذي كان (نويل) يعلم يقيناً بأنه على إستعداد للموت من أجله لولا أن اتخذ هو احتياطاته لمنع ذلك.

كان الشاب الوسيم يتألم جسدياً ونفسياً كما لم يتألم من قبل في حياته, ولكن حياته كانت الآن تتسرب بسرعةٍ جعلت الألم يُستَبدلُ بخَدَرٍ بدأ ينتشر في أطرافه. جفناه يصبحان أكثر ثقلاً بمرور الثواني لينسدلا ببطء على العينين الخضراوين اللتين بدأتا تفقدان بريقهما الهادئ تدريجياً.

"الوداع.........إلى وقتٍ قريبٍ....كما أتمنى...."

-----------------------------------
كان هو وحده الذي يعلم السبب.

لقد ضحوا جميعاً بأرواحهم مقابل منحه هو فرصةً للنجاة. فرصةٌ لا يريدها إن كانت تعني الحياة وهو يحمل ألم فقدانهم في قلبه. ولكن إن ألقى بهذه الفرصة الآن فسيخسر أكثر من سلامة عقله: سيخسرهم للأبد. أصدقاؤه الذين لم يفكر يوماً بأنه سيفقدهم هكذا, لقد كانوا هناك فقط, لم يضع في إعتباره أبداً بأنه سيصل إلى زمنٍ لا يكونون فيه هناك كما عَهِد. لم يريدوا أكثر من إجازة يقضونها سوياً. كيف تحول الأمر إلى مجزرة سلبت حياتهم ومستقبلهم وأحلامهم؟.

لم يكن من السهل عليه حمل الجسد النازف الذي فقد دفء الحياة إلى داخل الغرفة, لذا فقد كان يسحبه من ذراعه مخلفاً وراءه خطاً عريضاً أحمر اللون بينما انتكس رأسه ليغطي الشعر الثائر عينيه الدامعتين. شهقاته القصيرة اختلطت بصوت حفيف الملابس وهي تتحرك على الأرضية الخشبية.

لا فائدة مما يفعله الآن فالموتى لا يشعرون بشيء ولا يبالون بما يحل بأجسادهم, ولكنه رغم ذلك لم يكن ليترك جسد الشاب -الذي قُتل بلا ذنب سوى أنه أراد حمايته-متكوماً في الممر الدامي. برفق شديد, وكأنه يعامل طفلاً حديث الولادة, قام بتسجية الجسد على ظهره, ثم تحرك ليضع اليدين المتراخيتين واحدةً فوق الأخرى على صدره الذي اصطبغ بالدماء التي لم تتوقف عن الخروج بعد.

"....أنت لا تستحق هذه النهاية....لا أحد منكم يستحقها...لماذا جعلتموني أعيش؟...لماذا فعلتهم هذا بي؟....كل ما أريده الآن هو العودة لكم حيثما كنتم...".

امتدت يده الدامية نحو نحره لتسحب القلادة التي تدلت من طرفها الوردة السوداء اللامعة وتقطع السلسلة التي جمعتها بعنقه.

" سامحني فهذا كل ما أملك الآن...", ما باله يتكلم وكأن صديقه سيرد عليه؟

قام بوضع الوردة بين أصابع الشاب الذي ازداد جلده برودة, ثم اعتدل متباطئاً وكأنما كانت أكتافه تعتليها صخرة لا قِبل له بحملها.

واقفاً في الغرفة التي توسطها جسد آخِر أصدقائه وقد فارقته الحياة, كان ينظر بعينين خاملتين إلى وجه الفتى الملقى على الأرض , كأنه نائم لا غير. لم يكن يعرف أين ينتهى الشَعر وتبدأ الدماء , لقد كان كل ما يحيط برأسه هو هالة داكنة جعلت لون بشرته الأبيض يبدو أكثر شحوباً .

الساعة الكئيبة تصدر صوتاً رتيباً في خلفية المشهد الصامت .

في غُرفٍ أخرى متفرقة , كان باقي أصدقائه يرقدون وقد واجهوا نفس المصير. وفي كلِ مرةٍ كان يفقد فيها جزءاً من عقله. ولكن ها هو ذا , لقد وصل إلى النهاية. لربما كان هو الوحيد الباقي على قيد الحياة , ولكن شيئاً ما تحطم للأبد بداخله.

قطرات من سائلٍ قاتمٍ تنساب من بين أصابعه لتتساقط على الأرض برتابة , وما زال الشاب صامتاً.

لماذا ؟ ربما كان السبب معروفاً لديه , ولكن ذلك لا يساعده بأي حالٍ من الأحوال في منع الإنفجار العاطفي الذي يشعر بإقترابه حثيثاً. إنه لم يعد قادراً على تحديد شعوره في هذه اللحظة. ولوهلةً ما , أقنع نفسه بأنه فعلاً لا يحس بشيء.

ولكن هذه القناعة الزائفة لم تدم لأكثر من ثانيتين , وهي المدة اللتي إستغرقها لتذكر آخر كلمات قالها له صديقه مقترنةً بإبتسامة ناعمة. وعلى الفور, تماماً كما ينهار سدٌ من ورقٍ أمام طوفان جارف , سقط الشاب على ركبتيه وهو يحتوي وجهه بكفيه.

لقد أتى الإنفجار, وهو أسوأ أنواع الإنفجارات على الإطلاق...
إنه ذلك الإنفجارُ الذي لا يسمعه أحد...

-----------------------------------

VJdo0


نـــهـــايـــة الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة -إنتهى-


لا يمكن لنا إصلاح الزجاج المكسور, ولكن يمكننا إستخدامه لشق مستقبل جديد في نسيج الزمن.


 
 توقيع : ساي

دخول متقطع .


رد مع اقتباس