عرض مشاركة واحدة
قديم 09-22-2022, 12:10 PM   #7
ساي
عضو جديد


الصورة الرمزية ساي
ساي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1308
 تاريخ التسجيل :  Jul 2020
 المشاركات : 2,292 [ + ]
 التقييم :  3532
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Silver
شكراً: 0
تم شكره 4 مرة في 4 مشاركة

مشاهدة أوسمتي



. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طاب يومكم جميعاً أعزائي.

أريد أن أُشارككم إعترافاً صغيراً, وهو أنني...أشعرُ بالذنب.

شعرتُ بأني عقدتُ الأمور عليكم كثيراً في القصة, لذا حاولتُ جاهدةً وضع الجزء الجديد بأسرع وقت ممكن تجنباً لأن يقوم بعضكم بكراهيتي.

(( إحم...وكذلك لأنني أمتلك ذاكرةً لا تعيش لأكثر من خمس ثوانٍ, لذا أريد وضع كلماتي في مكان آمن قبل أن أنساها للأبد. ))

سأكون صريحةً جداً معكم, لم أتوقع أن أشعر بهكذا متعة عندما بدأت الكتابة, فقد كنتُ أخبر نفسي بأنني لن أُفلح قطعاً, ومازلتُ أعتقدُ بأنني لم أصل للمستوى الذي أطمح إليه بعد, ولكن التحدي بيني وبين نفسي يزيد إلتهاباً بعد قراءتي لردودكم الرائعة.

فشكراً لكم جميعاً, أنتم من ساعدني لأصِل إلى هنا, وأتمنى أن أتمكن من إكمال مشواري بصحبتكم.

حسناً, بعد أن قلتُ ما أريد قوله, إليكم الجزء الجديد (الطويل نسبياً) والذي أرجو أن يعجبكم.
الفصل السادس
-----------------------------------

لا تُطِلِ النظر في الجحيم, وإلا سينظر الجحيم إليك.

-----------------------------------


لم يلبث على خروج (آرثر) و (أمورا) سوى بعض دقائق حتى بدأ (لورانس) و (يوهانا) أحد جدالاتهما مجدداً, وكان الموضوع هذه المرة هو محتويات الحقيبة من الطعام.
"كيف لك بأن لا تحضري الصلصة الحارة في رحلة كهذه يا (هانا)؟ ألا تعلمين أنني لا أتناول شيئاً بدونها؟ ألا تفكرين في أصدقائك أيتها البليدة؟".

"أمن الحكمة أن تصفني بالبليدة والطعام طعامي؟ أعتقد أنني سأتركك تتضور جوعاً كالكلاب المشردة!".

"بليدة وقاسية!".

كانت أصواتهما المتعالية تدفع (نويل) للإبتسام. في وقت كهذا, حتى والخطر يحيط بهم من كل جانب, كانت بعض الأشياء لا تتغير. (لورانس) و (يوهانا) مازالا يتجادلان كطفلين في ساحة المدرسة, (آرثر) ما زال متماسكاً وهادئاً كالجبال, وهو مازال يفكر في أعماله التي تركها للقدوم إلى هنا. ولكن شيئاً واحداً تغير بشكل كبير منذ وصولهم إلى هذا المنزل المشؤوم.

(أمورا).

لسبب ما, بالرغم من أنها ما زالت تلك الفتاة الرقيقة الخائفة التي رافقها منذ الصغر, إلا أنه يشعر بشيء ما يختلف عن كل ما يعرفه عن (أمورا), شيءٌ يتحرك ببطء قاتل تحت مظهرها الكسير, وكأنه سمٌ ينتشر في أرجاء روحها تدريجياً. ولكن, أخبر (نويل) نفسه, مَن من الناس سيبقى طبيعياً بعد حدوث كل هذا لهم؟ إنهم حتى لا يملكون وسيلة للخروج من المأزق الذي وقعوا فيه.

"...(نويل)؟"

قاطعت (يوهانا) أفكاره المتشائمة فنظر نحوها راسماً إبتسامة سريعة على شفتيه: "أوه, عفواً (هانا), يبدو أنني لم أكن منتبهاً. هل قلت شيئاً؟"

"هل تشعر بتحسن الآن؟", نظراتها القلقة دفعته للإبتسام أكثر ليظهر لها بأنه لا داعي للقلق.

"نعم, بكل تأكيد. لقد كنت متعباً فقط, إنها إصابة طفيفة."

"في هذه الحالة, هل لك أن تخبرني عن قدومك إلى هنا؟ متى أتيتم؟ ومن كان معك؟".

أطلق (نويل) ضحكة قصيرة قبل أن يجيبها: "يا له من سؤال غريب. ولكن حسناً, فلنر...هممم...لقد إنطلقنا من المدينة في تمام الساعة الثامنة صباحاً ووصلنا في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً على ما أعتقد وأكملنا الباقي سيراً على الأقدام, أنا و (أمورا) و...من أيضاً؟...أكان (ساي) معنا؟ أم (آرثر)؟". صمت (نويل) لبرهة وهو يقلب خبايا ذاكرته بينما شَعَرَ بقبضة باردة تعتصر قلبه فجأة.

"...يا إلهي...لماذا لا أستطيع تذكر ذلك؟".

وضع يده على جبينه وبات يعتصره وكأن ذلك سيتسبب في خروج المعلومات التي كان يحاول جاهداً تذكرها. كانت محاولاته لإسترجاع الوجوه التي رافقته إلى هنا تشبه محاولة النظر إلى تلفاز يستمر في تغيير قنواته كل ثانية. العديد من الصور السريعة تمر في ذهنه, ولكن أياً منها لم يكن واضحاً.

(ساي)؟ (أمورا)؟ أم كلاهما؟ أم شخص آخر مختلف تماماً؟ إنه لم يعد يثق في ذاكرته على الإطلاق.

-----------------------------------

كان البهو هادئاً وخالياً.

المصابيح الكريستالية مازالت تتوهج بخفوت لتضفي بعض الإضاءة والدفء على المكان, بينما لم تترك معركتهم السابقة مع الطفل الشيطاني أثراً في المكان سوى بعض البقايا الخزفية المحطمة. لمح (آرثر) الحقيبة التي جاؤوا من أجلها وهي ترقد على الأرضية الرخامية, وبنظرة سريعة حوله تأكد بأن المكان خال فعلاً قبل أن يتقدم نحوها ويحملها بحركة رشيقة.

"حسناً, يبدو المكان آمناً...حتى الآن...", قالت (أمورا) وهي تتبعه عن قرب وعيناها تدوران في المكان.

" إننا لا نعلم إلى متى سنبقى محتجزين هنا. ولكن لحسن حظنا فإن الماء متوفر وكذلك الكهرباء. وبما أن الغرفة التي تركنا البقية فيها واسعة بما فيه الكفاية, فأعتقد بأننا سنتمكن من الصمود إلى أن نجد حلاً يخرجنا من هنا."

لم يكن (آرثر) على إستعدادٍ لإخبار (آمورا) بأنه ليس متفائلاً جداً حول فرص نجاتهم لو استمر الوضع على ما هو عليه, يبدو أن طبيعة الضابط المتأصلة فيه تمنعه من ذلك.
بالرغم من معرفتهما بالنتيجة مسبقاً, فقد توقفا أما الباب الرئيسي وحاولا فتحه دون جدوى. بعد زفرة يائسة تخلى (آرثر) عن المحاولة واستدار ليتجه صوب السلالم. لقد كان محقاً, لابد لهم من إيجاد طريقة أخرى فهذا الشيءُ لن يتحرك.

هل هو خياله أم أنه يسمع صوتاً ما قادماً من الممر الأيسر؟

كان إتساع عيني (آمورا) يدل على أنه لا يتخيل الصوت الذي بدا كصوت طرقات مكتومة في مكان بعيد. لم يستطع تمييز ماهيته, ولكن الصوت كان يتوقف ثم ينطلق مرة أخرى بعد وهلة. شعر (آرثر) بالرغبة في حمل مسدسه ليشعر ببعض الأمان, فقام بإخراجه من جيبه وأمسك به وهو يسير بحذر مترقب نحو الممر الذي امتد على يساره.

"...(آرثر)...فلنذهب بسرعة, أرجوك..."

أصبح من الواضح بأن الصوت قادم من خلف أحد الأبواب الخشبية المنتشرة في الممر. وبالرغم من نبرة (أمورا) المتوسلة, لم يتمكن (آرثر) من مقاومة رغبته في محاولة فتح الباب. وقف بتأهب أمام الباب المقصود ومد يده نحو المقبض.

كان الباب موصداً بإحكام.

"...أرجوك, ليس هناك أي داع لنبقى هنا...فلننطلق إلى الأعلى ونعد للآخرين."

بعد لحظة من الصمت هز (آرثر) رأسه موافقاً (أمورا) على كلامها, وانطلق كلاهما عائدين للطابق الثاني قبل أن يقعا فريسة لأي هجوم مفاجئ بينما كان الصوت يخفت تدريجياً وهما يبتعدان عن الباب.

-----------------------------------

إنشغلت (أمورا) بترتيب الغرفة بعد الفوضى العارمة التي اجتاحتها, فقبل عدة دقائق لم يكن ليخطر على بال أحدٍ بأنهم كانوا مهددين بالموت سابقاً. جلسوا جميعاً لتناول الأطعمة الخفيفة التي حملتها الحقيبة بينما بدأ التوتر يتبدد تدريجياً من الغرفة مع صوت ضحكات (لورانس) الرنانة وهو يتمتع بإغاظة (يوهانا) كالعادة, وما لبث الجميع إلا برهة حتى بدأوا مشاركتهما ضحكاتهما.

بعد أن قضت المجموعة فترةً لا بأس بها في الأكل والمزاح –وكأنهم كانوا يحاولون لاشعورياً تجنب الواقع الأسود الذي أحاط بهم- قام (نويل) بإخبارهم أنه من الأفضل لهم أخذ قسط من الراحة ما دام الوضع مستتباً.

تم الأتفاق على أن تقوم الفتاتان بالنوم على السرير بينما يقوم الشبان الثلاثة بتدبر أمرهم. إنتهى المطاف بـ (لورانس) على الأريكة و (نويل) على الأرض بجانب السرير واضعاً رأسه على ساعده, بينما جلس (آرثر) مسنداً ظهره ورأسه للجدار المقابل لهم. لم تكن الراحةُ ترفاً يمتلكونه الآن ولكن ما باليد حيلة.

خيَم الصمت على المكان لبرهةٍ والجميع مستلقون في أماكنهم قبل أن يشقهُ صوت (أمورا) وهي تقول بحزن خفيض: " هل سنخرج من هنا أحياءَ يا ترى...؟"

لم تتلق جواباً مباشراً على سؤالها الكئيب الذي عَلِقَ في الجو لفترة كغمامة سوداء قتلت مرحهم المؤقت, ولكن سرعان ما ابتسم (آرثر) ورفع رأسه لينظر للسقف قبل أن يقول بنبرةٍ هادئة مُطَمئنة: "سنخرج حتماً, وسنخرج معاً. سنجدُ (ساي) ونترك هذا كله خلفنا, وستصبح مجرد قصةً نحكيها لأحفادنا مستقبلاً."

ضحكت (يوهانا) بتوتر: "تبدو واثقاً جداً من ذلك (آرثر)".

"إنه عملي, أي ضابط يحترم نفسه سيكون واثقاً مما يقوله, حتى وإن كنت مؤمنا بأن أحداً لن يصدقنا."

"لطالما كنت كذلك حتى قبل أن تصبح ضابطاً, (آرثر)", هتف (لورانس) بذلك وهو يُطِلُ على صديقه من الأريكة.

"لسببٍ ما, أفشلُ في استيعاب أن (آرثر) قضى أكثر من خمسة عشرة سنة برفقتك يا (لورانس), إنني لا أستطيع تخيلك كَطفلٍ حتى.", قرر (نويل) مشاركتهم الحديث فيما يبدو.

أجاب (لورانس) بإبتسامة مغرورة: "لقد كنتُ طفلاً ظريفاً للغاية!".

"أشكُ في ذلك بكل صراحة.", همست (يوهانا) وهي تسدد له نظرةً مُزجت فيها السخرية بعدم التصديق.

تَبِعَ ذلك ضحكةٌ من (نويل) نجح في كتمها سريعاً, بينما حاول (لورانس) جاهداً إقناعهم بصحة كلامه.

كانت (أمورا) هي الوحيدة التي لم تنضم إليهم, فبالرغم من جو الألفة والمرح الذي أحاط بأصدقائها, بقيت هي صامتةً و مفضلةً النوم ووجهها يقابل الجدار بجانبها حتى لا يتمكن أحدٌ من رؤية عينيها الباكيتين.

-----------------------------------

أصواتٌ بعيدةٌ متداخلةٌ تطفلت على نومها الذي خلا من الأحلام.

".... هذا مستحيل!".
أهذا صوت (لورانس)؟

" لست أعلم أكثر مما تعلمه أنت...فالــ..."
تقطعت الأصوات وهي تحاول تصفية ذهنها من آثار النعاس.

" ولكن من الذي فَعَلَ ذلك؟!".
لِمَ يبدو (نويل) غاضباً هكذا؟

"(أمورا)...؟ (أمورا)!"
صوتٌ أنثوي مرتبك ينطق بإسمها لينتزعها من براثن النوم نهائياً.

فتحت عينيها الجميلتين ليستقبلها وجه (يوهانا) القلق, يبدو أنها تحاول إيقاظها منذ مدة. لم تكن (أمورا) تتوقع بأنها ستنام بهذا العمق.
اعتدلت في السرير ببطء وهي تهز رأسها بخفة, وسرعان ما لاحظت بأن جميع الأعين في الغرفة موجةٌ إليها.
"ماذا...حدث؟", نظرت إليهم جميعاً بعدم فهمٍ منتظرة أن يقوم أحدهم بتفسير ما يجري.
ولكن بدلاً من ذلك, تقدم (آرثر) نحوها وهو يقدم لها شيئاً ما. مدت يدها النحيلة المرتجفة لتأخذه.

لقد كانت ورقةً مطويةً زاهية الألوان. تناولتها بحذر وهي ما زالت تتساءل عن ماهية ما يحدث, فتحتها لتجد بداخلها مفتاحاً برونزياً بسيطاً وبأن باطنها الأبيض قد خُطَت عليه عدة كلمات بخطٍ منمق.

" إتبعوا صوت الطرقات, الشخص الذي يتذكر سيخبركم بكل شيء."

قرأت الكلمات المبهمة بصوت متحشرج, ثم رفعت عينيها ببطء لتنظر إلى أصدقائها الذين بدت عليهم الحيرة والتوتر وقد شحب وجهها بشدةٍ ملحوظة.

كان (نويل) أول من يتحدث: "لقد وجدناها على الأرض, قام أحدهم بتمريرها أسفل الباب...ألا يبدو هذا مألوفاً؟".

"مالذي يفترض بنا فعلهُ الآن؟ لا نستطيع أن نصدق كلاماً مريباً كهذا ونحن حتى لا نعلم من قام بكتابته. مالذي يعنيه ذلك أصلاً؟", كان توتر (لورانس) ظاهراً بشدة في كلماته العصبية.

أجابته (يوهانا): "هل لدينا خيارٌ آخرٌ؟ ربما كان خلاصنا يكمن في تلبية هذا الطلب الغريب."

"وربما كان ذلك الطفل من الجحيم يحاول الإيقاع بنا!", هتف بها بحدة.

"بربك (لورانس), هل بدا عليه بأنه من النوع الذي سيلجأ لحيك المكائد؟ كل ما كان يفعله منذ وصولنا هو ملاحتقنا معتمداً على قوته الكاسحة!".

قبل أن يتصاعد جدلهما أكثر من ذلك, تنحنح (آرثر) وقال: "أعتقد بأنني أعرف المكان المقصود, لقد مررنا أنا و (أمورا) بباب تصدر من خلفه أصوات طرقات غريبة, ولكنه كان موصداً. لابد من أن هذا المفتاح سيتولى أمر فتحه."

"ولكن....", لم يبدُ على (نويل) الإقتناع وإن لم يكن يرغب أيضاً في الإعتراض فكلام (يوهانا) صحيح, ليس لديهم فعلاً خيارٌ آخر.

أتبع (آرثر) بحزم: " لن نخسر شيئاً من التجربة. أُفضِلُ قضاء نحبي وأنا أحاول عوضاً عن التقوقع هنا كحيوانٍ حبيس."

لم يكن هناك الكثير ليُقال بعدها.

-----------------------------------

لم يبدُ (آرثر) كضابط من قبل كما بدا عليه الآن, فقد كان يمشي في مقدمة المجموعة منتصباً وقد صُبِغت عيناه بالعزيمة التي طغت من روحه. كان يعاهد نفسه على أن يقوم بإخراج الجميع من هنا سالمين. إنها مسؤوليته, إنه واجبه تجاههم. ورغم أنه لا يستطيع توقع ما سيحدث عندما ينفتحُ هذا الباب الغامض, إلا أنه أولج المفتاح في فتحة القفل بكل ثبات, وقام بإدارته مرتين حتى سمع صوت تكة معدنية صغيرة.

لم يجرؤ أحدٌ على التفوه بشيء وقد حُبست أنفاسهم توتراً وترقباً لما سيجري, ولكن كل ما حدث هو دفعُ (آرثر) للباب لتظهر من خلفه مجموعةٌ من السلالم البسيطة المتجهة للأسفل.

" يبدو...أنه قبو..", قالت (يوهانا) وهي تُطِل من خلفه لتلقي نظرة.

لم يكن المكان مكتوماً بنفس الطريقة التي يمكن لقبو لم يفتح من سنوات أن يكون عليها, لابد من أن أحدهم كان هنا قريباً. إنتبه (آرثر) إلى أنه لم يسمع صوت الطرقات هذه المرة.

محاولاً الحفاظ على رباطة جأشه, تابع (آرثر) السير نحو السلالم ليهبط بيها إلى حيث تأخذه بينما تبعه الآخرون بتردد.

لقد كان فعلاً قبواً شبه مظلم.

لم تكن هنالك العديد من الأشياء في هذا المكان, فبإستثناء عدد من الصناديق الكبيرة التي غلفها الغبار, وبعض الأرفف الخشبية الثقيلة التي حملت أنواعاً متفرقةً من الأوعية والأدوات, لم يكن هناك شيءٌ غريب.

ربما بإستثناء الجسد الذي تكوم في أقصى الأركان وقد امتد حبلٌ سميك ليحكم إيثاق اليدين اللتان رُبطتا خلف ظهره بأحد الأرفف الخشبية. كان جسد الشخص يتحرك ببطء وهو يسحب أنفاسه بثِقَل ظاهر بينما كانت عيناه شبه المغلقتان تنظران بعدم تركيز إلى المجموعة التي بدأ يعتريها الجزع.

تقدم (آرثر) ببطء من الشخص الملقى وهو يشعر بدقات قلبه تتسارع, لم يكن يحتاج للإقتراب أكثر لكي يعرف من هو.

لقد كان (ساي).

-----------------------------------

صوت الأمواج التي ترمي بنفسها على أحضان الشاطئ الصخري مصدرةً سيمفونيةً رتيبة مُزِج برائحة الهواء الرطب الذي تشبع من ملوحة البحر وعبقه المميز ليُشكل خلفيةً رائقة لمنظر المحيط المتلألي تحت ضوء القمر الفضي, هي ليلةٌ جميلةٌ بحق.

(( "...لماذا؟..." ))

الحركة مؤلمة, أصابعه الصغيرة كانت ترتجف ببطء, يكاد الجفاف أن يفتك بحلقه لذا فقد فضل البقاء صامتاً رغم أن كل ما يريد فعله الآن هو البكاء بأعلى صوته.

(( "...لماذا فعلتَ هذا بي؟..." ))

قهقهةٌ عاليةٌ أتت من الغرفة المقابلة شقت بوقاحةٍ هدوء الليل بينما كان ذلك الشاب يقول لزميله شيئاً لا يدري هو عن كنهه.

(( "...أريد العودة..." ))

بقي جسده الضئيل متمدداً بلا حراك في ركن الغرفة التي صبغها الصدأ بلونٍ بنيٍ كئيب, كم هو بغيضٌ هذا المنظر. لقد اشتاق لغرفته النظيفة, لرائحة الكعك والزهور القادمة من المطبخ, لأصوات الطيور التي كانت تطربه كلما فتحَ النافذة صباحاً. ولكن هاهو الآن في هذا المكان العطن ذي اللون البني الكريه, وقد أصبح لا يدري إن كان سيعود لحياته السابقة مجدداً.

أغمض الطفل عينيه بقوة محاولاً سد الطريق أمام تيار الدموع الذي كاد يطفح من مقلتيه بينما ألقم نفسه طرف إبهامه ليعض عليه, لقد بكت عيناه بما فيه الكفاية, لدرجة أن الألم الحارق في عينيه بدأ ينافس أوجاع قلبه الصغير.

ولكن عذابه لم يدم طويلاً, حيث بدأ وعيه يخبت تدريجياً حتى إنطفأ تماماً, ولكن ليس قبل أن يسمع صوتاً بعيداً مكتوماً يناديه بإسمه تكراراً.
(ساي)؟...(ساي)!!".

رفرف جفناه ببطء لعدة مرات قبل أن يبدأ بالتفتح على مهل. نظرةٌ نَعِسةٌ ملأت العينين البنيتين الفاتحتين لوهلةٍ قبل أن يبدأ (ساي) في تجميع وعيه وأفكاره رويداً. هل حقاً يرى بحراً يتموج أمامه؟ بعد أن ضيق عينيه ليدقق فيما كان ينظر إليه بدأ نظره يصفو تدريجياً وإتضح له بأن ما كان يراه هو عينان واسعتان سبحتا في الدموع.

"....أمي؟".

"أنا لستُ أمك قطعاً ولكنني مسرورة جداً لأننا وجدناك سالماً...شكراً لله...", تبسمت (أمورا) الباكية وقد تلون وجهها بالإحمرار المصاحب للبكاء مع خطوط جافة شقتها الدموع على خديها.

وكأنما قام أحدهم بإلقاء الماء البارد عليه, إستعاد (ساي) صفاء ذهنه وذكرياته فجأة, وجاء معها شعورٌ بأن وجهه سيحترق من الخجل جراء ندائه لـ (أمورا) بأُمه, ولكنه أمسك بزمام شعوره هذا وأجبره على البقاء بعيداً عن ملامح وجهه.

"إذن لا تقتربي مني لهذه الدرجة! بربك (أمورا), ألم تسمعي بالمساحة الشخصية؟!".

بدأ يرفع جسمه ببطء عن السرير الذي حمله. هذا غريب, كيف وصل إلى هنا؟ آخر ما يتذكره هو وجوده في القبو مقيداً ومكمماً لمدة بدت كالدهر بعد أن قضى أغلبها في ركل الصناديق والأرفف الخشبية أملاً بأن يسمعه أحدهم. أعادت له هذه الأفكار مجموعةً من المشاعر المختلطة والتي نسيها لوهلة, ما زال يشعر وكأن رأسه يتمايل بخفة كبالون مملوء بالهواء.

تنقل نظره بسرعة عبر وجوه أصدقائه. (آرثر) الواقف في الخلف يبادله النظر بينما ارتسمت إبتسامةٌ مطمئنة على محياه الهادئ. كانت يدا (يوهانا) تعملان بنشاط لسحب الوسائد وترتيبها خلف ظهره حتى يتمكن من الجلوس, رغم أنه لم يكن بحاجة لذلك فعلياً. حتى (لورانس) الذي لم يتفق مع (ساي) يوماً كانت تبدو عليه أمارات الإرتياح. كانت سعادتهم شيئاً طبيعياً فقد توقعوا حدوث الأسوأ عندما وجدوه بتلك الحال المزرية في القبو.

وضع (نويل) يده بخفة على رأس صديقه ذو الشعر الطويل وهو يبتسم ببهجةٍ إبتسامته الصافية.
" مرحباً بعودتك يا فتى, سأجعلك تدفع ثمن القلق الذي سببته لي لاحقاً. ولكن أنا أسعدُ من أن أفكر في ذلك حالياً.", ها هو يعود إليهم سالماً بعد أن كاد اليأس أن يتمكن منهم. لقد كان (آرثر) محقاً فعلاً, فقد وجدوا (ساي) ولم يبق سوى إيجاد طريقة للخروج من هذا المكان.

"إبق كما أنت ولا تتحرك كثيراً, هذا كل ما تحتاجه حالياً. لقد قمت بغسل الجرح ولكنه لحسن الحظ ليس عميقاً, فلا تقلق.", قالت (يوهانا) بلهجة عمليةٍ وهي تقوم بتطبيق معطفه الذي لم ينتبه على أنه خُلع من فوقه سوى الآن.

" (ساي), مالذي حدث لك؟".
" لقد قلقنا عليك كثيراً...".
" من فعل بك هذا؟".

هز (ساي) رأسه ببطء وهو يرفع يده لتزيح بعض خصلات الشعر التي تناثرت على جبينه. كان هو نفسه يرغب بمعرفة أجوبة هذه الأسئلة.

" أنا...-رفع رأسه بتمهل شارد-...لا أعلم...", وقبل أن يعلق أحدهم على كلامه أردف قائلاً: " لقد تركت لكم رسالتي. أحدهم كان يناديني, لقد خرجتُ لأحاول معرفة مصدر الصوت, ولكن...", تحرك إبهامه إلى فمه ليقوم بعضِ طرفه في حركة يعرفها (نويل) جيداً, فقد كانت هذه إحدى الحركات التي يقوم بها (ساي) لاشعورياً في حالِ شعوره بالتوتر.

"...ولكن؟", حَثهُ (آرثر) على الإستمرار بينما بقي الآخرون ينصتون بإهتمام مترقب.

" أحدهم...شخصٌ ما هاجمني من الخلف حالما ابتعدتُ عن الغرفة. ذلك القذر السافل...لم تتسنى لي رؤيته ولكنه كان طويلاً وقوياً, لذا فلا يمكن أن يكون هو ذلك الطفل الشاحب الذي رأيناه مسبقاً. لقد قام بشل حركتي وضغط بأصابعه على عنقي بطريقةٍ ما, حاولت مقاومته ولكن...تباً...-تحركت يده لتمرر أصابعها على الجرح الممتد أسفل نحره وكأنه يحس به للتو بينما قبضت يده الأخرى على ملاءة السرير بحقد-...أكره الحقراء الذين يهاجمون الآخرين من الخلف!".

غمغم (آرثر) لنفسه بصوت لا يسمعه سواه: " حركة يمارسها أعضاء الجيش والشرطة لشل المجرمين العنيفين وإفقادهم وعيهم...", كانت عجلات دماغه تدور بأقصى سرعةٍ وهو يحاول تحليل هذه المعلومات التي تلقاها.

كاد (نويل) أن يتلفظ بشيء لتهدئة (ساي) الذي بدا عليه غضبٌ يتنافى مع طبيعته اللامبالية, ولكن (آرثر) لم يترك له الفرصة لفعل ذلك حيث ألقى لـ (ساي) بسؤاله التالي مباشرةً.

" (ساي), هل تتذكر مع من جئت إلى هنا؟".

"مالذي تقصده؟ أنا لستُ عجوزاً خَرِفاً بعد, بالطبع أتذكر! لقد أتيتُ إلى هنا برفقتك أنت و (نويل) و (أمورا), ألم تضطر (يوهانا) لإيقاظ اللوح (لورانس) وبالتالي تأخرا على موعد القطار واضطرا لأخذ القطار التالي؟".

"أدعوتني باللوح للتو يا وجه الفتاة؟! لم تصرون جميعاً على هذا المزاح الثقيل؟ ألا تلاحظون بأنكم تذكرون كلاماً مختلفاً في كلٌ مرة؟!".

"كلاماً مختلفاً في كل مرة؟", نظر (ساي) لمن حوله بحيرةً حقيقية, "هلا قام أحدكم بشرح ما حدث هنا عندما كنتٌ منشغلاً بكوني حبيساً؟".

"إن أياً من ذكرياتنا لا يتطابق, هذا يعني بأنه ليس هو "الشخص الذي يتذكر" على الأرجح.", زفرت (يوهانا) بيأس.

"..........أنا آسفة...."

كانت (آمورا) صامتةً طول هذا الوقت مما جعل الآخرين ينسون وجودها تماماً حتى تمتمت هي بهذه الكلمات. كانت تشهق بخفوت وجسدها يرتجف وكأنها على وشك البكاء مجدداً.

"....أنا آسفةٌ حقاً........لم أخبركم بذلك من قبل, ولكنني أنا التي أتذكر...أتذكر كل شيء...".

لم يتمكن أي منهم من سؤالها عما تقصد حيث فاضت دموعها التي تسابقت معها للإنهيار على الأرض.

-----------------------------------

الـــســـاعـــة الأولـــى

الرعب, الذنب, الألم, الحزن, الرغبة في النجاة.

كان إعصار المشاعر الذي يعصف بداخل (أمورا) يختلط مع ضربات قلبها التي تسارعت بجنون وهي تدفع باب الغرفة متجهةً للداخل هرباً من الكائن الشيطاني الذي سيأتي ليخطف حياتها لا محالة.

تحرك الباب بعنف إثر اندفاعها بينما إستقبلها صوت الساعة الخشبية الكبيرة التي وقفت بشموخ في الغرفة. صفقت الباب خلفها ثم أكملت إندفاعها نحو أحد المقاعد الثقيلة وسحبته بصعوبةٍ لتضعه خلف الباب على أمل أن ذلك سيمنع مطاردها من الوصول إليها. كانت تحادث نفسها بطريقة أشبه ما تكون بالهذيان.

"...يا إلهي...لا...هذا لا يحدث.....هذا لا يحدث...."

تباطأت خطواتها تدريجياً وهي تلهث وتشهق بعنف, ما حدث لم يكن ليفارق ذهنها ولو لثانية.

" لقد ذهبوا...............لقد ماتوا....جميعاً...ذهبوا وتركوني وحيدة....رباه لا تجعل هذا يكون حقيقياً...أين هذا المفتاح التعس؟...يا إلهي...فلينجح هذا, أرجوك...", تقطعت كلماتها وهي تبحث بيدٍ مضطربة في أرجاء حقيبتها بينما كانت تدعي في سرها بأن لا ينتهي أمرها هنا.

وكأنما كان ينتظر هذه اللحظة, إقترب صوت خطواتٍ من الغرفة زاد من جنونها وهي تدعي وتهذي, ولكنها وجدت ضالتها أخيراً فانطلقت نحو الساعة ويدها المرتجفة تحمل المفتاح الأسود النحيل المزخرف بنقوش بديعة, وبحركة سريعة أولجته في الفتحة التي توسطت قرص الساعة بينما تعالى صوت الضربات الغاضبة التي بدأت تنهال على الباب من الجانب الآخر.

أدارت المفتاح وهي تصرخ بكل ما أوتيت من قوةٍ: " يا إلهي لا تجعل هذه هي النهاية!!!".

-----------------------------------

الـــســـاعـــة الـــثــــانـــيــــة

"لم لا تصدقونني؟! (ساي)! توقف أيها الغبي الأحمق!".

هتفت (أمورا) بـ (ساي) الذي تخطاها بإتجاه باب المنزل القديم الضخم غير مبالٍ بصراخها, هز كتفيه وهو يقول بمرح: " صدقاً (أمورا), إن كنت لا تريدين المجيء فلا تفعلي. ليس هناك من داعِ لأن تخترعي قصة كهذه, لقد كنتُ أظنُ بأن لديك خيالاً أوسع من ذلك."

"(نويل)...أرجوك...أنت تصدقني, أليس كذلك؟", نظرت لإبن عمها بكلِ ما ملأ قلبها من رجاءٍ ليصدق قولها ويستمع لكلامها.

ولكن الشاب اكتفى بالإبتسام بلطف وهو يجيبها: " أنا أوافق (ساي), لا داعي لأن تجبري نفسكِ على الدخول من أجلي, سأحاول أن أنهي الأمر بسرعةٍ وبإمكانك إنتظارنا خارجاً إن أردتِ."

وضع (آرثر) يده على كتفها ليطمئنها: " فعلاً ليس لأحد أن يجبرك على الدخول, ولكن أليس من الخسارة بقاؤك في العراء بعد أن قطعتِ كل هذه المسافة؟".

"المشكلة ليست في وجودي داخلاً أو خارجاً أيها المغفلون!", صرخت بعصبية وهي تدق الأرض بعنف بقدمها وكأنما تحاول إخراج بعض حنقها منهم فيها, بينما تقدم الشبان الثلاثة نحو الباب الخشبي بخطى حثيثة متجاهلين تحذيرات صديقتهم الغاضبة.

-----------------------------------

الـــســـاعـــة الـــثــــالـــثــــة

"مالأمر يا (أمورا)؟ تبدين شاحبةً جداً. هل تعانين من شيءٍ ما؟".

"لا...لا, أبداً...هل تعلم إن وصل الآخرون؟", كانت الكلمات تخرج من فاهها برتابةٍ وهي تنظر أمامها بعينين خاملتين كأنها إنسانٌ آليٌ مبرمج.

نظر (نويل) إليها بتساؤل قبل أن يجيب: " لقد انطلقوا من المدينة قبلنا لذا أتوقع بأنهم قد سبقونا للمنزل, أتوقع أيضاً بأن (ساي) و (لورانس) يقومون بالتناحر لدرجة تجلب الصداع, إنني أشفق على (آرثر) و (يوهانا) لإضطرارهم لتحمل ذلك."

توقع منها رداً حماسياً موافقاً كما هي العادة, ولكنها اكتفت بهز رأسها بالإيجاب ببطء وكأنها لم تعي أصلاً ما قاله.

لم يصدقها أحدٌ المرة السابقة, رغم توسلاتها وبكائها وصراخها لم يصدقها أحد, وساروا جميعاً لحتفهم تماماً كالمرة الأولى. مالذي يفترض بها أن تفعله؟ أنها تعود في كل مرة أما باب المنزل الشؤوم التعيس, بدون أي خيار للتراجع أو إصلاح الأمور. كل ما بإمكانها فعله هو التقدم مع بقية أصدقائها رغم معرفتها بما ينتظرهم في الداخل. كانت تظن أنها ستتمكن من تجنب ما سيحدث بما أنها عاشتهُ مرتين سابقاً, كل ما عليها فعله هو جعلهم يتبعون مساراً مختلفاً من الأحداث هذه المرة, ربما....ربما كانت هذه هي الطريقة الصحيحة لمواجهة هذا الجنون.

-----------------------------------

الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة

لم تنجح محاولتها في المرة السابقة أيضاً.

بالرغم من تغير الأشخاص الذين تجدهم معها أمام المنزل في كل مرة, إلا أن النهاية بقيت كما هي, جميعهم يذهبون ويتركونها. فكرت لوهلةٍ أنه بإمكانها الهرب لوحدها على الأرجح هذه المرة أيضاً...ليس هناك شيء تستطيع فعله...تكرارها لنفس السلسلة من الأحداث لم ينقذ أحداً. ولكن جميع أفكارها بالهرب وحيدة تم قتلها في المهد من قِبل ضميرها الذي لم يسمح لها بتقبل فكرة ترك أصدقائها يلقون حتفهم هكذا, هنا في هذا المكان الداني, وبهذه الطريقة البشعة. إنها ليست أذكاهم ولا أشجهعم, والسبب الوحيد لنجاتها في المرة الأولى هو حظها في كونها التي وجدت الكتاب ومفتاح الساعة بالإضافة إلى كونها أسرعهم هرباً.

كان المنزل البغيض يلوح لها في الأفق بينما تبعها (ساي) و (نويل) بتمهل.

أغمضت عينيها وأخذت نفساً عميقاً من نسيم الربيع العليل وهي تتمتم لنفسها: "كوني قويةً يا (أمورا)....من أجلهم كوني (قوية). تصرفي بطبيعتك, لا تجعليهم يشعرون بشيء...بإمكانك تدبر هذا الأمر وحدك, قومي بتجنب الأخطاء التي وقعتِ فيها سابقاً, لابد من أن شيئاً ما سيتغير...."




الـــســـاعـــة الـــرابـــعـــة -إنتهى-


خطوةٌ أخرى نحو الطريق المؤدي إلى الحقيقة, ولكن هل تجعلك الحقيقةُ شخصاً أسعد؟
]


 
 توقيع : ساي

دخول متقطع .


رد مع اقتباس