" سأعود غذا صباحا ، لهذا لا تستعملي غيابي كعذر لترتاحي .. قومي بعملك على أحسن وجه ، هل فهمتي ؟"
انتقاما منها على جعله ضعيفا قبل قليل .. لم يتوانى لحظة في شحذها بنظراته الباردة والحادة من فوق كتفه ، ثم مالبث أن أكمل طريقه .
" غذا صباحا...
، هل يعني أنه لن يبيت بالمنزل ؟ ".
تساءلت روجينا مع نفسها بحيرة و عينيها تتبعانه إلى حين اختفائه من أمامها دون أن يودعها حتى .
بينما هو كان يقطع الطريق نحو سيارته الليموزين الرابضة بالقرب من مدخل القصر ، كان يشعر بشيء خاطئ و غامض حيال الأمر .
لقد أصبح بقربها هشا و ضعيفا .. بدأ يشعر أنه مسلوب القوى أمامها و كأنها تصد خطوط دفاعه و تتخطى بسهولة الحصن المنيع الذي تعب في تشييده ..
جلس في مقعده الخلفي و أغلق زر سترته و هو يذَكر نفسه بشيء مهم .
" هكتور ، إنها هنا حتى تستمتع بتعذيبها و تضحك ملأ فمك عليها و أنت تحطم كبريائها و تسحقها كالحشرة ...
لا لكي تعجب بها و تحبها ، فالأمر خاطئ .. خاطئ جدا ".
كانت تنظر عبر النافذة إلى سيارته السوداء الفاخرة و هي تقطع طريقها بهدوء عبر الممرات الحجرية للحديقة ، أحست بالإنزعاج لسبب غير معلوم
حتى أن هناك قبضة غير مفهومة تجعل التنفس صعبا عليها .
تُركت هنا بين كل هذا الكم من الوحدة و الأشغال .. لكن على الأقل هو لن يكون موجودا ليصيح عليها و يوبخها كما اعتاد أن يفعل .
تنهدت عميقا و اتجهت نحو الطاولة حتى تلملم الأطباق و تشرع بالتنظيف و الغسيل .
و بشكل مفاجئ صادفت رالف في الرواق فجفلت لثانية ثم قالت بتساؤل : ألم تذهب معه ؟.
ابتسم بهدوء و أجاب : أنا لا أغادر القصر أبدا يا آنسة .. أنا مكلف بحماية ممتلكات سيدي و خدمته طوال مدة عملي .
تأوهت بتفهم و هزت رأسها قليلا قبل أن تردف باستغراب : لكن ألن يعود إلى المنزل اليوم حقا ؟.
" سيسافر إلى كاليفورنيا " أجاب باقتضاب كأنه لم يشأ أن يجيب منذ البداية .
" كاليفورنيا ... ؟؟
إنه محظوظ بالفعل ".
تركها رالف تقف عند العربة الحديدية التي تحمل عليها الأطباق و ذهب إلى عمله بعد أن ذكرها بالتعاليم التي تركها لها ذلك المتعجرف ـ هيكتور ـ
شرعت تنظف المطبخ ذو الأركان المزدانة بالمزهريات الجميلة و الأضواء المشعة .
كان الجو في الخارج صحوا و مشمسا ، ويبعث بالنشاط على الأنفس .. لا أخفي عليكم كم كانت تريد ترك ما بيديها لتذهب و تآخذ قسطا من الراحة قرب النافورة .
لكن هيهات .. فهي مرغمة على إكمال ما أتت من البداية لفعله .
كان هناك صمت غريب و ثقيل على مسامعها ، لأنها لم تعتد العمل إلا في الأماكن التي تضج بالحركة و الحياة ..
فالمكان هنا أشبه بالمقابر ..
روجينا
انتقلت بعد ساعة و نصف إلى العمل في الطابق العلوي ، كنت أجمع البطانيات المتسخة و شراشف الطاولات من كل الغرف حتى بات حملها شيئا عسيرا ..
وضعتها في غرفة التنظيف بالطابق السفلي ، وعدت حاملة المكنسة الكهربائية و بدأت العمل .
كنت أدندن بخفوت و أمد المكنسة برشاقة في كل الإتجاهات حولي ، لم أتوانى لدقيقة في الرقص ببلاهة .. فلقد ضجرت فجأة .
تنهدت بعمق و قد بدأ الشعور بالنفور من كل شيء يستولي علي ، لقد اشتقت للذهاب إلى الخارج حقا .
تنهدت من جديد و تذكرت هيكتور بغتة :
" كلما حاولت تحسين صورته ولو بالقليل ، يضرب بجهدي عرض الحائط ...
و يثبت لي أنه لا يستحق احترامي و تقديري له ،
أنا أكرهه ... و شعوري بالشفقة عليه سابقا هدر لوقتي و مشاعري فقط .. "
اشتعلت غيضا مع تذكر تجاهله لي هذا الصباح و كيف أنه لم يهتم حتى بإلقاء تحية الوداع لي ، أو يبدي إعجابه بالعمل الذي قمت به ..
إنه غير رحيم البتة ، ولا يملك ذرة تعاطف تجاه الآخرين ...
و فوق ذلك الغرور والتكبر ، هو يمقت الفقراء أمثالي ...
و عازم على فرض جبروته و غضبه على أي فقير محتاج يقع بين يديه ..
فكرت بحيرة
" لما لا ينسى فقط أمر الماضي ويحاول جعل حياته أفضل مما كانت عليه .
ألا يرى أنه ليس سعيدا البتة ، حتى و هو يمتلك ربما كل تلك الأشياء التي تمناها يوما.
و لكن ما يجعلني أحتقره أكثر ، أن أخاه ماتيوس لم يسلم من كل تلك الأفكار الجهنمية التي تملأ عقله.
إنه حقا شيطان حقيقي .. حتى يمنع أخاه من رؤيته بعد كل تلك التضحيات التي فعلها من أجله في الماضي.
ألا يملك بصيرة ليرى بها الأمور على حقيقتها ، ليس كما يفسرها هو "
ـ غريب حقا ..
تمتمت بحيرة و حجزت خصلة شعري خلف أذني ، تأففت بضيق ..
" لماذا فجأة أصبحت أفكر فيه كثيرا
أنا لا أهتم إن كان يكرهني أو يحاول إهانتي طالما لن أسمح له بذلك ... "
نزلت من جديد إلى الدور السفلي فقابلت رالف عند الردهة يحمل كتيبا في يده و متجه إلى الحديقة ، وقف يحدق بي بصمت استغربته قليلا و أنا أنزل السلالم
و دون أن يقول شيئا استأنف الطريق غير مبالي ..
إنه حقا صورة طبق الأصل عن سيده ، و أنا من كنت أتساءل كيف احتمل تصرفه كل تلك المدة ؟.
فهو لا يقل عنه برودة ..
هززت رأسي بلا حيلة و ذهبت يمينا نحو الرواق الذي توجد عند آخره غرفة التنظيف ، وضعت كل ما حملته إلى هنا قبل قليل في آلة الغسيل و تركتها تعمل وحيدة ..
و عادت إلى القبو ..
إلى المكان الذي تتمسك بهذا العمل فقط لأجله ، حتى و إن كان مظلما و باردا ..
ـ جون إف كينيدي ـ الدولي الموجود بالقرب من مدينة نيويورك ، إلتقى بموكب من عملاء شركته عند مدرج الطائرة في مطار
كان بهيبته وهالته المحيطة به يجعل الجميع يحنون رأسهم له احتراما لشخصه ، كان بذلك القلب الفولاذي و التقاسيم الحادة يبث الرهبة في كل منافسيه على الساحة.
إنه فقط لم يصبح أحد أشهر المليونيريين في أمريكا ، بل أصبح قدوة كل الشباب الذين لم تعطهم الحياة فرصة لإظهار ما بجعبتهم ...
فخلقوا فرصة من العدم و شقوا طريقهم الطويل لوحدهم كما فعل ـ هيكتور بلاديمون ـ الملقب بـ [ قلب الأسد ] .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
هيكتور
كان الجو حارا بعض الشيء ، لهذا تماما كنت أرتدي نظاراتي الشمسية .. صعدت سلالم الطائرة الخاصة بي أولا...
و لحقني بعدها طاقم عملي الصغير للذهاب في رحلة عمل إلى كاليفورنيا حتى نهتم ببعض التفاصيل الصغيرة عند الفرع الخاص بشركتي هناك .
لم تخفى علي نظرات الإعجاب و الدهشة التي يرمقني الجميع بها ، و لكنني اعتدت الأمر تقريبا ...
لم أعد أهتم إن كان الجميع يتهامس علي ، أو يحدق بي .. خاصة الشابات اللواتي هن مستعدات لتقبيل التراب الذي أمشي عليه ..
فقط ، للإستولاء على نصف الثورة التي جمعتها بنفسي ..
أجد في ذلك شعورا بإرضاء غروري ، وهو شيء أستمتع به كثيرا ...
على ذكر الفتيات ، لاح خيالها بغتة على عقلي ، إنها لا تنفك تتركني و شأني .. و الآن صارت تتبعني حتى إلى رحلات عملي .
ـ سحقا لها ...
تمتمت من بين أسناني بحقد و سكبت لنفسي بعض النبيذ في الكأس الزجاجية ، قبل أن آخد أول رشفة رن هاتفي .
ـ ماذا هنالك ؟.
استمعت إلى عميلي بانتباه الذي كان يدلي بآخر المعلومات ، وانعقد لساني فجأة و شعرت بالصدمة ..
أغلق الإتصال فأخفضت الهاتف و أنا لا أزال على أثر الصدمة .. عضضت شفتي السفلى بغيض فجأة و رميت الكأس من يدي .
ـ ذلك الحقير ، هل كان يقصد ذلك حقا حين قال أنه سيخرج من حياتي كليا ... ؟
أمسكت رأسي بين يداي و أحسست بانقباض قلبي و استيائي الشديد على ماتيوس .. إنه يجهز نفسه و عائلته للرحيل عن نيويورك قريبا
و هذا كله بسبب غبائي و و حماقتي معه ..
صحيح أنني كنت أمنعه من الحديث معي و رؤيتي ، لكنني لم أتصور يوما أنه سيقدم على فعل مثل هذا .. فماتيوس هو كل ما أملك الآن ، هو الشيء الوحيد الذي بالعائلة
يذكرني يأنني لست وحيدا تماما مثل وحش القصر المهجور الذي يقرأ عنه الأطفال في قصصهم الخيالية .
لقد استمديت تلك القوة و المثابرة منه ، لكنني لا زلت غاضبا عليه .. غاضبا على العالم بأسره .
و لا يسعني مسامحة أحد ، حتى أستطيع تعلم مسامحة نفسي و الغفران لها على كل ما أنا عليه الآن من شخص * حقير* .
روجينا
لم أنتبه لنفسي حين غفوت فوق طاولة العمل ، لقد تعبت كثيرا في التنظيف حتى أنني قد شحذت أربعة سيوف قبل أن أغط في النوم ...
دلكت عيني بتعب و رفعت رأسي نحو الساعة التي تشير إلى الخامسة مساءا .. ووقفت أصيح بذهول فجأة .
ـ مـــــــاذا ؟ هل نمت كل ذلك الوقت ... ؟.
خرجت راكضة من القبو حتى أنني نسيت أن أرتدي مئزر عملي ، وقفت عند الردهة الخالية و تساءلت عن المكان الذي يوجد به رالف .
" سحقا ، إن رآني الآن و أثر النوم على وجهي .. سأقع في ورطة حقا ".
دلفت إلى المطبخ و يا ليتني لم أفعل ، فقد وجدته هناك يقف مع الخادمة التي تبدو في عقدها الثالث بشعرها الأسود و شامتها الموجودة عند طرف وجهها .
همست بتأسف : المعذرة على تأخري ، لقد انشغلت بشحذ السيوف و لم أنتبه للوقت ..
نظر رالف نحوي بشيء من الحدة و قال : لقد قمتي بشحذ أربعة سيوف و استغرقت في النوم كل تلك المدة ، لذا لا تحاولي أن تلفقي الأكاذيب علي .
أحسست كأن صفعة قوية سقطت على وجهي من كثرة الإحراج ،
" تبا ، أنا في ورطة .. " همست مع نفسي بذعر .
تنهد رالف بامتعاض و نظر جهة الخادمة الواقفة إلى جانبه :
ـ هذه السيدة جولي ماكسن ، لقد استقالت عن عملها منذ مدة لكن أتت لتساعدك في معرفة الأمور التي يحبها سيد القصر و ما يكرهه.
انحنى لكلتينا و غادر المكان تاركا إيانا نحدق في بعضنا بصمت ..
كان الجو محرجا لذا استرسلت القول : عذرا يا سيدتي ، أنا روجينا .. أتمنى أن تساعديني بما أنك أكثر خبرة مني .
ابتسمت بشكل مصطنع و قالت : لنبدأ العمل إذا .
كان الوقت يمر ببطء مع هذه المدعوة جولي ، لم تكن ودية تماما معي ولكنها أفضل من كليهما و أفضل من الوحدة التي أحسست بها قبلا .
دونت لائحة لا أعلم حقا إن كان لها نهاية لكل الأشياء التي يحبها هكتور و الأشياء التي يكرهها .
و علقت فجأة مع نفسي أثناء حوارها بسخرية "و أنا من ظننت أنه لا يحب سوى جعل الناس من حوله يتألمون . "
علمت منها أنه يتبع نظاما صحيا و يحب تناول طعامه في أوقات محددة ، فمثلا العشاء ينبغي أن يكون جاهزا فوق طاولة الطعام على الساعة السابعة مساءًا.
أما الفطور فيحبذ تناوله في ساعة مبكرة إن كان لديه رحلة عمل ، و إذا لم يكن مشغولا فهو يحب تناوله على الساعة السابعة والنصف عند النافورة .
هو يكره اللون الأخضر و البني ، و لا يحبذ رؤية غرفته مبعثرة .. حتى أنه جاد حول وضع الزهور بمكتبه و الكثير من الأمور التي لن أستطيع تذكر ربعها.
" إنه حقا مغرور ومتعجرف .." همست بضيق مع نفسي .
في النهاية ، وضعت أمامي طبق الطعام و جلست مع رالف تحت أضواء المطبخ المشعة نتناول الوجبة ثلاثتنا في جو من اللاجدوى و البؤس .
بغتة رن الهاتف الموجود بالردهة ، رفع رالف رأسه و لبث مقطبا حاجبيه بشيء من الحيرة ، اتجه نحو الهاتف المعلق عند حافة الباب و ضغط زر التحويل و رفع السماعة :
ـ قصر السيد هكتور بلاديمون ، كيف أستطيع مساعدتك ؟
تريث قليلا ورد مجددا : السيد غائب حاليا عن المنزل ، سيكون هنا عند التاسعة صباحا .
ابتسم بخفوت و رد : حسنا سيدي الصغير ، سنكون بانتظاركما .
أكثر ما أدهشني من كلامه أن هناك ضيوفا قادمون غذا ، لكن من هم ؟، الأمر حقا غريب .. وأنا من ظننت أن هكتور لا يحب رؤية أحد .
انتبه رالف إلى علامات الإستفهام التي تدور حول رأسي ، فجلس مكانه قائلا بجدية :
عليك أن تباشري العمل عند الصباح الباكر ، سيد القصر سيكون هنا عند التاسعة وهناك زوار قادمون أيضا . لهذا جهزي الغذاء و حضري أشهى الأطباق .
حاولت استيعاب ما يحدث ، لكنني لم أحصل تماما على الإجابة التي أريدها .
قلت باستفسار : هل يمكنني معرفة هوية الزوار ؟.
تنهد عميقا و رد : إنهما السيد الصغير جون بلاديمون و أخته سوزي ، أبناء السيد ماتيوس.
انفرج فمي ذهولا لما سمعته و أنا لا أصدق ما سمعته للتو .. لم أكن أعتقد أن ماتيوس يملك عائلة .
و الأكثر صدمة أن ـ هيكتورـ ذلك الحقير هو عم الأبناء .
استرسل رالف القول : ليسا كثير التردد على القصر ، لكن أعتقد أن شيئا طرأ فجأة حتى يقومان بزيارتنا غذا .
ـ و هيكتور ، ألا يزعجه الأمر ؟. قلت بتعجب .
ـ طالما يبقيان بعيدان عن مكتبه و الأماكن التي يعمل بها ، فهما لا يضرانه أبدا ..
ـ يا إلاهي .. إن هذا حقا شيء غير معقول .
همست بذهول.
التعديل الأخير تم بواسطة شَمس. ; 04-21-2022 الساعة 12:14 PM