تبا لك أيتها المعدة الخرقاء ، ألا تستطيعين التحمل ليلة!!
زمجري كما تريدين ،فأنا لم أكن لأدخل ذلك المكان المشين لي و لن آكل طعام من قلت سأربه سودَ الأيام.. مازلت لدى كلمتي ، فقط لأربح التحدي مع هيكتور و أصلح أموري سأتفرغ لذلك العجوز الخرف الذي طردني أمام الجميع،،،
نهضتُ من سريري لأخرج من زوايا غرفتي و القبو صاعدة لحيث تطالب هذه المعدة قليلة الصبر ، الأجواء صامتة حقاًّ بما أننا بمنتصف الليل ...
دخلتُ المطبخ و فتحتُ الأضواء متجهةً للثلاجة الفضية، وقعت عيني على سلَّة من الفواكة المختلفة فأخذت أجاصاً و برتقالة ..
خطواتٌ بطيئة ، استشعرتُ بها فاختبئتُ دون شعور خلف الثلاجة من ناحية الزاوية الصادة لقربها من الجدار..
رأيت ُُ هيكتور !
مرتدياً ملابس نومٍ بسيطة بلون ٍٍ مزرق باهت ..و شعره مبعثرٌ بفوضوية..
ما الذي جعله يستيقظ بهذه الساعة المتأخرة ؟!..
تسائلت مع نفسي لم اختبئت ، دون إجابة مقنعة فحاولت الخروج .. ليس لدي ما أخفيه ..
لكن..
ضربَتُهُ العنيفة للطاولة أوقفتني تماماً، هذا المزاجي سيتسبب بموتي حتى و هو لا يعلم..سحقا له..
لكن لفتني كلماته الساخطة على زوجة أخيه التي لقيها البارحة : ما الذي تخطط له تلك الأفعى ساندي، بكل سهولة ستتجاهل كل هذه الثروة لتسافر مع أخي و ابنيه..تحرمني منه!!...علَّها اقنعته بهذه المسرحية الهزلية لاستعطافي...؟؟
تنهدت بيأس منه ، هذا التشاؤم متى سينتهي ... و مع ذلك أؤيده فتلك المرأة لا تبدوا لي كمن سيبعد نفسه عن طريق أحد لخير...
لحظة...هل قال*تحرمني منه* للتو؟!؟!
لماذا..!!!..فضول يقتلني حقا..
لكن...
هذا يبشرني أن لي باب قد أطرقه حتى يفتح بقلبه المتجمد...
فتح هيكتور صنبور المياه على آخره و بدأ برمي الماء على وجهه حتى لطَّخ قميصه و شعره ،و ثم خرج تاركاً لي مجال الراحة و الخروج بأمان ،،،
***************
أصبحنا و للتو يظهر أثر ما حصل بيوم مجيئ عائلة ماتيوس ، فبالأمس قضيتُ الوقت ساهيةً عن كل شيئ رغبةً ببعضِ الحريَّة...
و لم تنته إلا بما يحطم الأعصاب لحسن طالعي الإستثنائي ...
أتممت ُُ عمل الإفطار و انتظرتُ مجيئ هيكتور ... أتى بهدوءٍ هو الآخر ليأكل بصمت...
لم يحاول إزعاجي بحرف حتى ..!!!
لكن هذا يخيفني أكثر مما يسرني ، قد يخطط لإذلالي بطرقه الخارجة عن نطاق الإنسانية تعويضاً عن راحةِ الأمس ...
كنت أنظر له بين فينةٍ و أخرى ، و شعورُ انقباضٍ ينتابني .. يبدوا مهزوزاً بداخله و عدم تركيزٍ قد محى مظهر الثقة و الكبرياءِ بناظره...
كأنَّه أضاع عرش ملكه!!
لكني لن أسئَلَ ما به، رقبتي قد تنكسر هذه المرَّة و ينتهي أمري .. لا زلتُ شابة على الموت..
لكن..
منظره هذا .. لا أحبذه بتاتا..
أنهى إفطاره بين شروده الغريب و نهض ليبتعد ، فقلت لألفته : هل ترغب بشيئٍ آخر سيدي ؟
صافحت بؤبؤي خضرة حدقتيه التائهتين حتى قال : قومي بتنظيف غرفتي و مكتبي .. و جهزي لجلسَةِ ضيافة جيِّدة ..سيأتيني بعض الضيوف .
انحنيتُ بطاعة ، طاعَةٍ هي الأمثل للفوز على تجبُّره الذي تحداني به و لبَّيته ب "حسنًا سيِّدي"
*****************
*هيكتور*
أشعر بصداعٍ يلتهمُ رأسي، ما أفعل لمنع ماتيوس من الرحيل ...؟!
إنَّه قد اتخذ قراراً جدّي بالإبتعاد عني ..!!
كلُّ هذا بسبب تلاعب ساندي بعقله.. تلك الخبيثة..
مازالت رسالةُ ماتيوس التي وصلتني البارحَة تؤرقني وتظهر نفسها أمام عيني..
*سترتاح مني ..ستقلع طائرتنا إلى فرنسا بظهيرة الغد و بعدها سيحصل ما أردته دوماً.. أخيك ماتيوس..*
يسمي نفسه أخا ًً..!!
لأجل كلمتين يسافر و يتركني خلفه..
قاطع تفكيري صوت رالف حيث نبهني بوصولنا للشركة ، إلى حيث يجب أن يظهَر *قلب الأسد*
ترجَّلتُ و أنا أنفض ما شتت تركيزي و سلبني النوم ...
لم يكن مجيئي إلا لأجل أخذ ملفاتٍ سرية ستكون صفقَتُها في منزلي ، لذا أمرت رالف بالانتظار حتى أعود..
بدى أنَّ رالف ليس على ما يرام أيضا ًً و أعلم لمَ ، فسنوية موت عائلته بنهايَةِ هذا الأسبوع..
أخذت نفساً عميقاً و أنا أضغط زر المصعد منتظراً وصوله ..
أفكر.. هل يمكنني منع ماتيوس من الرحيل؟؟..أم لا حقَّ لي ..؟!
***************
*روجينا*
إنَّها غير مهذَّبة فعلاً ، كيف لها أن تقتحم غرفة نومِ هيكتور هكذا ... !!!!
تجعلني أندم على إدخالها للمنزل ..رغم أن عدم إدخالها تحت ظلِّ هذه الظروف التي أراها كان سيكون لي عقابا لا اتخيله من هيكتور ، فهو كما بدى يرغب بإيقافها عن ما تخطط و هذه فرصته...
يا إلهي، لم أفكر به و أجعل نفسي بواجهة المدفع..؟!
زجرتها بكلماتي الناهية : سيدتي، لا أظن أنه من المسموح و اللائق الدخول لغرفة شخصٍ غريب .
واجهتني بنظرةٍ حادة تظهر الوداعة مع إبتسامة ممتزجة بالخبث و النعومة : قلتِ غريب؟!..الغريب هنا هو أنتِ أيها النمر البري ..أنا، زوجةُ أخيه كما تعلمين..
رصصتُ على أسناني أحثُّ أعصابي على الصبر على أسلوبها المستفز جداً و قلت : أنا هنا بأمرٍ منه سيدة ساندي ، انتظري بغرفة الجلوس حتى يأتي و يدخلك هنا بنفسه و بغير هذا الحال لَـ....
قاطعتني ..
قاطعتني بصمت و فعلٍ لم أتصَّوره، لقد بدأت بتفتيشِ الغرفَةِ أمام عيني..!!
إنَّها تجسيد ٌٌ للوقاحة حقاً رغم منظرها البديع ..
اقتربتُ ممسكةً برسغها و أنا أقول بإندفاع : توقفي..
لكنها دفعتني بقوَّةٍ لأسقط و يصطدم رأسي بزاوية سرير هيكتور المدبب ..
شعرتُ بدفءٍ علمت أن مصدره بعض الدماء ، لكنَّه جرحٌ بسيط...
و مع ذلك ..توقعت ردَّة فعل مختلفة و لو بهروب من الواقفة مرتدية الفستان الزهري أمامي.. ليسَ أن تتم عملها و كأنني شبحٌ ما ...
أمسكتُ برأسي الذي آلمني بشدة و وقفتُ و بعيني أثر الغضب الجمِّ منها .. للتو أنهيت ترتيبها و ها هيَ ترمي بكل شيئٍ على الأرض تبحث عن شيئ ٍٍ لا أعرفه...
طفح الكيل حقاً ، أسرعتُ نحوها و أمسكتها بكلتا يدي أجرها للخارج و هي تقاومني صارخة بكلماتها المندهشة مني: أنتِ... كيف تجرؤين..؟؟!!..نفاية مثلك كيف تجرؤ على لمسي هكذا!!!....
كانت لا تتوقف عن كلامها المنفعل و أنا لا آبه بها، سأرميها خارج اليوابة التي أتت منها و لا شيئ سيوقفني ...
هذا ما تمنيته، إلا أن ظهور هيكتور قرب باب غرفته قد تكفل بإيقافي ..
واضحٌ منه الذهول و هو يصوب ناظريه المثبتتان نحونا..
"ما هذه المهزلة..؟!"
فتحت فمي لأجيبه ،لكنه لم يسمح لي أو لساندي بذلك بل اقترب بخطواتٍ باردة ينظر لي و قد اضطررت لتركها ..
لم أفهم ما يفكر به لكن .. إنه ينظر للجرح الذي ظهر بجبيني و قرب شعري ..
لا يبدوا سعيداً بما حصل ، لكنه اكتفي بقول ..
"أخرجي "
ظللتُ انظر له بغير استيعاب... هل أنا من يتوجب عليها الخروج؟!
هناك شيئ بعقله خاطئ حقاً...
أعادها بحدة نوعاً ما
"قلت أخرجي.."
فخرجت أصفق الباب علَّ هذا يبدي مدى غضبي مما يجري ...
عائلة مجنونة بالكامل ..
**************
*هيكتور*
عدتُ لآخذ لي غفوة راحة لأتجاهل الصداع الذي يلازمني ، صعدت الدرج و أنا آمل أن تكون روجينا أنهت غرفتي .. لا شيئ آخر...
لكني صادفت مفاجأة ، بل صدمة وقعت على رأسي كمصيبة ..
ما هذا ..؟؟!!
شعرتُ بتيبس أطرافي و أنا أرى ذلك المنظر ..
وجه روجينا به خيط من الدماء ، و هي تجر ساندي و ساندي تجر شعر روجينا بيد و بيدها الأخرى تحاول صدَّها و إبعادها ...
كدتُ أسرع نحو روجينا، أمسح ذلك الدم و أستفسر سبب ظهوره تحت صفرة شعرها ، لو لم أتمالك نفسي .. و لا أعلم كيف استطعت التوازن لألا أضعف أمامهما..
كلُّ ما استطعت فعله هو نطق ..
"ما هذه المهزلة"
مبدياً صدمتي ...ذهولي.. رغبَة رمي ساندي من النافذة التي تتواجد بيسار سريري ..
خطوت مقترباً من روجينا ، لا أستطيع رفع ناظري عن جرحها ، قد يبدوا صغيراً لكن الدماء منن سالت حتى أسفل وجنتها ..!!
أمرتها بالخروج ، لتذهب تنضف هذا الجرح و تعقمه ، و أنا سأرى ما بهذه المختلة ..
وجدت روجينا لم تستوعب ما قلت فأعدت حروفي لتخرج ..
كانت إبتسامة الشر تطغى وجه ساندي و هي تنهض ترتب فستانها و شعرها ، و لكن.. ما زالت قطرات حمراء على ملابسها من جرح الأخرى..
خلعت معطفي و رميته على السرير ، لأجلس بجانبه أنظر لها بشزر و استهجان من حظورها: ما سر تواجدك الآن؟..أليس موعد طائرتك قد اقترب ؟..
اقتربت من أدراج مكتبي تفتحها و لسانها يتحدث معي بنبرتها الكريه: أنت تعلم من هو وريثك الوحيد حالياً..أليس كذلك؟
"و ماذا؟"
نظرت لي بعدستيها القهوائتين بثقة غير مهزوزة و لو قليلا: الورقة التي تثبت هذا..أين هي ؟
لم تفاجئني أبدا ًً، فتفكيرها القذر واضح منذ عرفتها ...
اكتفيت بإبتسامة سخرية على حالها المزري و هي تسعى جاهدة لإيجاد تلك الورقة التي يستحيل معرفة موقعها...
لكن تغيرت ابتسامتي بعدما أخذت بيدها تلك التحفة الخشبية..
كيف تجرأ..؟؟!!
رغبت حقا بقتلها و هي تنظر بعينها لتلك التحفة بإستصغار .. كلَّ شيئ إلا هذه..
عضضتً على شفتي قائلاً لها : لا تلميسها بيدك القذرة ساندي .
التمعت عينها لتهددني بها قرب النافذة ، الجو ممطر و الغيوم لا تتزحزح و هذا ما أرعبني ..قد تتلف تحفتي ..
" الورقة أو أنِّي سأرميها.."
نهضتُ أحاول عدم إظهار انفعالي و غضبي، رغم تصارع دقات قلبي المطالبة برؤيتها جثة هامدة قد حاربت عقلي بشدَّة : الورقة ..لا ورقة كهذه لدي ..فما زلت شاباً كما تعرفين ، لم قد أكتب شيئا هو بمثابة الوصية أيتها المجنونة ..؟!
لم تفقد ثقتها بما تجزم به و قالت: لكنك لست متزوجاً حتى الآن ، و ثروتك الهائلة لابد من تثبيت اسمٍ و لو مستعار لها لإغلاق أعين الطامعين بها، و لا أحد غير ماتيوس لديك تستطيع أن تستفيد من إسمه..
ابتسمت بهزل و انا أجوب الغرفة بحذر لكي لا أقترب منها فتنفذ تهديدها لي : اسمعي، من قال أني لم أنو الزواج حتى الآن .. قريباً سيكون لهذا الإرث الهائل خير وريث لا تقلقي زوجة أخي..
تكتفت بغنجٍ تقابلني به لإستفزازي : أنت حقا تظنني بلهاء هيكتور ، لا تقل أنها النمر اللابث لديك.. فتلك الخادمة التي أخذتها من نفايةٍ ما تناسبك حقاً..كليكما حثالة .
تغاضيت عن إهانتها مؤقتاً و قلت و أنا أرفع كتفي بلا مبالاة مجارياً خيالها الواسع: و ما بها؟؟.. أستسيغها، أتزوجها .. هذا شأني على ما أظن..
غضبت و رمت ما بيدها .. فعلتها حقا..!!!!
ظللتُ أنظر لها بصدمة و هيَ تخرج بوجهٍ قد علته حمرة الغضب الشديد و تقطيبة واضحة على جبينها...
لقد رمتها... !
هرولتُ مسرعاً لحيث الحديقة... يجب أن أجدها بسرعة ، قبل أن أفقدها ...ليس مرَّةً أخرى..
*****************
*روجينا*
تجاهلت ما حصل مع تلك الغبية و أتممت عملي الذي أوجبني به هيكتور ، و ها أنا في المطبع أعد الضيافة اللازمة ..
شعرتُ بألمٍ طفيفٍ برأسي لأضع إبهامي عليه لاعنةً حظي الذي قادني للقاء هيكتور و عائلته جميعاً.. إنهم يحتاجون مصحةً عائلية خاصة ...
بالبداية هيكتور و ثم سوزي الشقية و جون و الآن المختلة ساندي...
تاريخٌ مبهر حقاً ..
سمعت ُُ ضوضاءً عرفتُ مصدرها لأخرج .. هاهي المختلة تنزل ساخطة لتخرج، لا حظتني واقفة أنظر لها فغيرت اتجاه خطواتها نحوي ..
لم اتزحزح من مكاني ، بل انتظرتها... أود أن أعمل عرض فلم أكشن ضحيتها هي ..
وقفت قبالتي ...لـ...لتصفعني!!
حسناً، هي البادئة .. كلَّ شيئ إلا كرامتي و هي أدنى من هيكتور بكثير..
بادلتها بالمثل لتشتعل عينيها الحقودتين نحوي : هل تظنين أنك بإغوائك هيكتور ستأخذين أمواله ببساطة..؟!
اه، لقد جنَّت بالكامل هذه المرأة ..
أعتذر، لا أجد ثروته المقيتة أو حياته مثيرةٌ للإهتمام فعلاً ...
لكني رغبت حقاً بجعلها تحترق من الداخل فأجبتها بإبتسامة باردة: حقاً.. ألا تعرفين طبع هيكتور، هو ليس لعبة لأغويه..لديه عقل ،و إن أصبحت زوجته..فأنا سيدة المنزل و لست بسارقة ثروة .. فكري جيدا قبل التحدث هكذا معي... أسكت عنكي فتطاولين، من الأفضل لك الخروج الآن و إلا سترين مخالب النمر الحقيقة بحد زعمك...
لاحظت بعينيها الكثير من الحروف التي ترغب بمهاجمتي لكنها ضربت الأرض بقدمها و خرجت لآخذ نفساً عميقاً من تعب الأعصاب الذي عانيته منذ الصباح..
أردت العودة للمطبخ ،لكن لاحظتُ هيكتور من نافذة طويلة بالصالة المطلة على الحديقة ..
ماذا يفعل تحت هذا الجو الماطر..؟؟!!
يبدوا أنه يبحث عن أمر مهم بهذا المنظر الجنوني ...!!!!
لا أعلم لم أسرعت راكضةً للخارج، لحيث مكانه..بين تلك الزهور التي تقاوم غوارة المطر الهاطل عليها و العشب المنحدر و بين الرمال التي غطت ملابسه و وجهه الوقور ...
و أي وقارٍ أرى..
إنه يقاوم جنوناً زاهرا عليه و هو يبعد كل ما هو أمامه ...
على ما أذكر،فقد كانت حرارته مرتفعة قبل يومين.. فكيف يكون هنا الآن..؟؟!!!
انحنيتُ أمامه أسئله: عن ماذا تبحث هيكتور ؟
نظر لي لحظة سريعة ليجيب و يعاود البحث : لا شأن لك ، اتركيني الآن..
حتى الآن لا يكف عن أسلوبه العفن ... لكن لا أستطيع تركه هكذا ..
أوقفته ممسكة بوجهه بين يدي لأواجه عينيه: قل ما الذي تبحث عنه هيكتور؟..سأساعدك على البحث عنه..
فاجئني تلألؤ عدستيه.. حتى انهمرت دموعه جارية كسيلٍ لم يشأ التوقف ..
هو يبكي .. بحرارة ..
ناطقاً لي حروفاً تحرقه : أبحث عن أمي.. جديها لي..
بلعتُ ريقي و هو يكرر لي : جدي لي أمي روجينا..
أمه!!!..
إنه حقاًّ كطفلٍ أضاع أمه بالضبط.. ما أفعل برجل قد قارب الثلاثين و بدا لي كطفلٍ بالخامسة ..
تحيَّرت..حيرةً لا أفهمها بنفسي..
مسحت تلك الدموع التي مازالت تنسكب عليها قطرات المطر مواسية له...
و طمأنته قائلة بإبتسامة باهتة : لا تقلق .. أعدك أني سأجدها..
ظللنا نبحث يمنة و يسرة بكلِّ زاوية حتى وجدت مجسَّمٌ خشبي بين كومةٍ من الوحل .. أخرجته فوجدته مجسمَّةٌ لإمرأة واقفة.. لا يبدوا أن صانعها بتلك المهارة ..
لكنها بسيطة بساطةَ محب صانعه .. فحتى خطوط الوجه و تعبير العين الحنونة قد أتقنه ، عرفتُ ما حصل فور رؤيتها.. هو لن يجرؤ على رميها هنا و بهذا الطقس ..إنها تلك الساندي ..لقد نجحت بأذيته حقاً...
أوقفت بحث هيكتور بقولي بصوتٍ عال له : لقد وجدتها ..
رفعت ما بيدي ليراها و يأتي بسرعة نحوي ، أخذ ما يخصه ينظر له بتأكد..
تفحصَّها ، شمَّها.. و من ثمَّ قبلها و هو يبكي متأسفاً..!!
و أنا أنظر له.. هل هذا هو الأسد المفترس الذي يحادثني دوماً..
لقد جرني للبكاء .. لقد تذكرت يتمي ..تذكرت أن أمي بمقبرةٍ ما تحت التراب بعيدة عني ..
رفعت كفي بتردد لاضعها فوق رأسه.. لا أعلم ما هو الصواب و ما هو الخطأ.. ما هو الذي سيجعلني أخسر التحدي و ما هو الذي سيربحني ...ما هو الذي سيستغله تاليا و ما سيكون بصالحي...
أعلم أنني في موقف إنسان.. يرى شخصاً حطمه الدهر .. يرى ضعيفاً ينادي والدته في مجسمة صنعها بكفيه..
رأيت طيبةً بعدستيه الخضراوان حتى غرقت بها .. و نبرةٌ من الصدق قد بدت تسمعني
"شكراً لك روجينا"
سقط بعدها.. مغماً عليه...!!
ملامحه الهادئة.. عينيه الباكية.. تجعلني أرغب أن أمضي ساعات بمواساته..
لقد انهك جسده و أعصابه بما يكفي حقا...
لكني لم أشأ لمسه أو ايقاضه...
هو الآن يجعلني أخشى الاستيقاظ من هذا الحلم الغريب ...
*****************
التعديل الأخير تم بواسطة شَمس. ; 04-21-2022 الساعة 12:25 PM
استيقظ هيكتور على نور أشعة الشمس بتكاسل وجلس على سريره، نظر عن يمينه وشماله فلم يجد أحداً بالغرفة معه...
فقد كانت روجينا بالمطبخ تعد الإفطار ككل صباح...
انتبه للساعة الجدارية التي تواجهه ليرى أنها السابعة والنصف، جلس في سريره الذي فرشته روجينا بلحاف أزرق محاولاً تذكر ما قد حدث لكن ذاكرته قد خانته فعلاً ،أمسك برأسه يتحسس جبينه فقد كان لديه صداع غير محتمل.....
أدار وجهه إلى أن ارتمت عيناه على كنزه الخشبي الذي شكَّله بكيفيه الصغيرتان بالماضي، مجسَّمٌ لإمرأة في الأربعين من عمرها ...
أمسك به و بسمَةٌ حنونة قد غزت وجهه الحنطي الباهت وقد احتظن المجسَّم بحنانٍ كالطفل الذي يحتضن لعبته...
جيِّد أن روجينا وهبته فرصة خلوة الضعف هذه ، فلو تواجد أحد ما كان إلا ليصمت مطيعاً كبريائه ..
لم يدم هذا طويلاً فقد ففوجئ بدخول رالف بعد سماع طرق على الباب يدل على دخول أحدهم ، ظن هيكتور أنها روجينا لوهلة ، لكن حدسه قد أخطأ هذه المرة ،،
علائم الخوف و القلق كانت باديةً على وجه رالف فقرر أن يسأل سيده ليطمئن عليه ...
-صباح الخير سيدي ،كيف حالك الآن؟
تساءل هيكتور" الآن" لما؟ مالذي حصل له ؟لا يتذكر شيئا أبداً على نحو الجزم..فقط لقطات مشوشة ،أجابه بعد دقيقتين من التحديق في الصورة محاولاً تذكر شيئ مهم ..
-رالف، أين هي روجينا ؟
-الآنسة روجينا في المطبخ سيدي
آنسة قال ، ليست سوى خادمة فقيرة ...
امثالها لا يستحقون هذا اللقب حتى..
لكن، بصراحة هذا يناسبها..
مالذي افكر به أنا ثانيةً بحق الله ؟!
لقد بدأت تسيطر على عقلي كثيراً،بل الأسوء أني أصبحت أفكر بها بشكل هستيري ..يوماً فيوم تزداد خشيتي من أن أضعف أمامها يوما ما ، إنتهيت لرالف الذي كان ينتظر مني أن أعطيه أمرا باحضارها ربما وكأنه يشك في شيئ ما ...
أمرته بذلك حقاً، فبذلك سأستفسر منها كل شيئ قد حصل لينمحي هذا التشوش الغير محتمل ...
فروجينا مهما حاولت لن تستطيع الكذب لأني سأكشف كذبها بسهولة ..
خرج رالف مومِئاً بالإيجاب لسيده و اتجه للقبو ظنًا منه أن الكسل قد غلب روجينا و لا زالت نائمة كما تفعل أحياناً...
بالحقيقة هي ليست كسولة ، بل إنها تنسى أن لديها عمل أحيانا ًً ، لا يجب أن تُلام... فهي تتعب كثيراً بالأعمال التي يعطيها لها ذلك المتعجرف..
و فوق ذلك سهرت مدة يومين على راحته لارتفاع درجة حرارته بشكلٍ سيئ جداً ....
نزل الدرج داخلاً القبو المظلم نسبياً، لم يكن هناك حركة بالمكان أو بالاحرى كان المكان كمقبرة يسكنها الأشباح..
كل شيئ كان مبعثراً ، لم يهتم لهذا الأمر بل دخل لغرفة نومها فهي الأكثر أهمية الآن...
فلم يجدها !!
نظر لسريرها خائباً ليهمس لنفسه بعد تنهدٍ ظجِر :حتى غرفتها لم ترتبها ،لابد أنها تاخرت كعادتها .
عرف أنها ستتوجه للمطبخ لإعداد الإفطار للسيد.. فتوجه هناك مباشرة
دخل المطبخ بعد طرق في الباب كي لا يخيفها ، استدارت هيَ الأخرى بعد سماع صوت طرقات الباب..
كانت بأملٍ واهٍ بأن هيكتور قد استيقظ آتياً ليتناول إفطاره،ليزعجها ... و يوبخها .. و قد يذكرها أنها ما زالت تحت سيطرته ...
لكنها تعجبت من رالف...
ظنت أنه سيعطيها لائحةَ الأعمال لليوم لكنه فاجأها بطلبه الذي بشرها بتحقق أمنيتها الخافية بلطف : السيد يريدك بغرفته .
السيد؟!
حقا..؟!!
هل استيقظ؟... وكيف حاله الآن ؟...هل هو بخير؟
هذا ما تبادر بذهن روجينا حينها، لم تحاول سؤاله عن شيئ ، فهي تعرف الإجابة مسبقاً...
رالف شخص منضبط في العمل، ليس مثلها كسولة وتحشر أنفها في ما لا يعنيها بفضولٍ زائد عن حده.. و ما هب إلا لحظات و جميع الإجابات لديها بكل حال..
أومأت برأسها و اتجهت مباشرة لهيكتور ،طرقت الباب وفتحته قبل أن تسمع أي رد من ذلك المتسلط...
فإذا بها تصتدم به وتقع أرضا..!!!
كان خلف الباب مباشرة،
روجينا الغبية ...
كيف لا ترى أمامها وكيف لا تنتظر سماع الإذن منه، لشدة حماسها لرؤيته قد ارتكبت ما قد يكون ضدها ثانيةً..
تحدثت هي قبل سماع كلمات سيدها غير مستوعبة ما جرى قبل دقيقة:يا إلهي متى وضع هيكتور جدارا خلف باب غرفته ؟
انحنى هيكتور دون شعور منه نحوها، فقد كان قلقاً من كونها قد آذت جرحها الماثل بجبينها مما حصل مسبقاً ، نطق بهدوء غير معتادٍ منه : هل أنتي بخير روجينا ؟
تفاجأت منه كما فعل هو...!!
لم يتوقع يوما أن يصل للسؤال عنها عوض صرخة اشمئزاز لكونها لامسته...!
ما هذا الإنقلاب بالحال..؟!؟!
كان هيكتور يفكر ، كيف له أن يصلح الوضع المخزي ... و كيف لا يسأل عن حالها و قد تضررت ضررا أكبر من سابقه بسبب ساندي ...
و مع هذا التضارب ، أسعدته وقفة روجينا بعد هذا متلعثمة :
-أ..أ..أنا بخير الآن..
تنحنح مستعيداً رباطة جأشه :ماذا تفعلين هنا ؟
*روجينا*
مهلاً...
لمَ هذا السؤال ...؟؟!!!
أليس هو من طلبني للمجيئ ..؟!
لا تقل أن رالف اختلق هذا فهذا مستحيل..
رالف لن يختلق أمراً بخصوص هذا الوحش البشري ... ينظر لي ببرود و كأنه نسي فضلي عليه بمساعدتي له و هو في قمة جنونه..
تشجعت وقلت له : ألم تطلبني عندك هنا سيدي؟!
*هيكتور*
سحقاً، لقد أرسلت رالف لإحظارها...
نسيت هذا تماماً..يا للغباء
أجبتها قبل أن تلاحظ شرودي في وجهها البريئ و زرقة البحر بمحجريها الجميلاتان : نعم طلبتك، نظفي غرفتي ورتبي سريري.. وبعد ذلك أحظري إفطاري لمكتبي،أريدك في أمر مهم .
***************
مكتبه!!
" هل سيباشر العمل الآن ؟!
ألا يعي ما حصل له؟؟
و ما هو الأمر المهم ..؟!
هل معقول أن ََّّّ مدة عملي عنده انتهت عنده ؟
لا لا لا لا .... مهما وصل من الجنون لن يكافئني بهذا ...هذا غير ممكن"
بقيت روجينا ، شاردة حتى أفاقها هيكتور منه بذكر إسمها : روجينا، قومي بعملك .
لم تجد ما تقوله فانحنت قائلة بإحترام: حاضر سيدي .
نظرت روجينا لغرفته بتمعن، لم تكن المرة الأولى التي تدخلها و أيضا ليست المرة الأولى التي تُبهر بجمالها وتنسيقها لكنها هذه المرة تشعر أنها ترى هذه الزوايا لأول مرة...
فصاحب الغرفة ليس المعهود.. هي كانت تدخل غرفة من...؟!
هيكتور المتعجرف .. القاسي .. المغرور ... و الآن تقف بغرفة بها قد انحنى يسألها عن إن كانت على ما يرام ..؟!!!!
تود حقاً أن تضرب رأسها تستوعب ما يجري ...
ابتسمت بعد لحظاتٍ من التفكير ببلاهة ، هي حقاً قد استطاعت فعل الكثير... و سوف يرى كم سيتغير حتى لن يعرف ذاته القذرة هذه...
انهت عملها بعد ساعة ٍٍ تقريباً و لم يبق لها سوى ترتيب السرير بعدما نفضت الغبار الذي يتراكم بشكل جنوني بين ساعاتٍ معدودةٍ فقط...
توجهت للسرير و نظرت له نظرة عميقة،،،
فقد تذكرت عندما هيكتور كان مريضاً، و كانت هي تسهر بجانبه
كان يهذي وينادي والدته بين حينٍ و آخر ، إنه حقاً طفل..
هذا ما خطر على بالها قبل انشغالها بآخر ما بقي أمامها من ترتيب تجعدات لحاف السرير الممتثل أمامها...
توقفت يديها..!
بل عقلها عن التفكير أيضا ًً بعدما رأته..!!!
خصلات ذهبية خلف وسادته...!
أحقاًّ هذه خصلاتها أم أنها تتوهم فقط ؟!
أمسكت بها وهي تعرف بحق أنها لها، و بدأت أسئلة أخرى تتقاطر لذهنها كقطرات المطر الذي يأبى التوقف...
توجهت لمكتبه كما طلب منها و الصدمة و الحيرة يعلوان وجهها ...
و عينيها تكاد تدمع..!
لقد اصبحت عيناها كالسماء الزرقاء وهي تمطر لكنها لم تبك ...
فلا يوجد سبب لذلك من الأساس...
وصلت لباب مكتبه وأخذت نفساً عميقاً قبل أن تطرق الباب ، فإذا به يقاطع حركتها و كأنه يعلم أنها من تقف خلف الباب : ادخلي روجينا .
لقد أصبح الأمر محيِّراً ..
لم تعد تتحمل هذا التشوش الذي ينبع من عدم منطقية المجريات التي تعيشها..
سمعت صوت هيكتور يقول : روجينا أين ذهبتي بشرودك ؟! اجلسي..
انحنت معتذرة عن شرودها الوقح هذا ، وجلست بدون أن تعارض حتى ، لاحظ هيكتور شرودها وعدم تركيزها و هو يتكلم فبالأغلب لم تسمع كلمة مما قاله والدليل على ذلك هو استجابتها البطئية لسماع اسمها المتكرر منه...!
"روجينا..روجينا ...روجينا"
قبل أن ينطق إسمها لآخر مرة ضرب المكتب بقبضته دالاًّ على نفاذ صبره ، بدى في تلك اللحظة الخوف على وجه روجينا... اختلطت المشاعر كلِّها ،،،
حتى أنها لا تعرف كيف تخرج نفسها من هذا الموقف الذي أقحمت نفسها به ، وقفت معتذرة منه وقد جرت و الدموع تنزل من عينيها كاللؤلؤ المتساقط ..!!
لقد بكت و هي من كانت تمتنع عن اظهار الضعف لحظةً أمامه... رغم أن حروفه لم تكن تستدعي رد الفعل هذا ..!!
تفاجأ من ردة فعلها ، أهي حساسة لهذه الدرجة؟!؟!
ما الذي يحدث معها ؟!
ولما تتصرف هكذا..؟!
لم تكن كذلك في الصباح ..
هل معقول أنها...!
التعديل الأخير تم بواسطة شَمس. ; 04-21-2022 الساعة 12:27 PM
أيُعقلُ أنهُ جرح مشاعرها بطريقةٍ ما ؟ لكن لما هو يهتم اذا جرح مشاعرها ، لقد سبق و فعل الأسوء و هذا لاشيء ، قال بنبرةٍ ساخطة :
" روجينا ! أنا أتحدث اليكِ ، كيف تجرأتي على تجاهلي وأنا .... ؟
أوقفت كلماتهُ حين بدأت تشهق و تمسح دموعها بكم قميصها الأبيض محاولة التوقف عن البكاء : " أنا أعتذر سيدي ! "
حدق بها بحدة وهو يُحاول صياغة تسائلاته في سؤالٍ مفيد ، أرادها أن تتوقف عن ذرف المزيد من الدموع و التي بدت له كشظايا ثلجية متكسرة !
تاهت خضراوتاه في مراقبة تلك الخطوط الزرقاء المتوسطة في عينيها البحريتين ، يكاد يقسم انه رأى الامواج تسحبه لمحيطٍ هادئ ! :
" هذا يكفي ...... لقد بدأتُ اضجر منك ! "
رفعت حدقتيها المتوسعتين تحاولُ انتشال استفسار لتفهم ما يعنيه ، هيكتور يتصرف بغرابة ! اخذ نفسًا عميقا وهو يقول :
" روجينا ، ما الذي حدث خلال اليومين السابقين ؟ "
أنزلت رأسها لتستعيد سلسلة الأحداث التي حدثت معها ، ثم مسحت ما تبقى من دموع وهي تجمع شتات نفسها :
" لقد كنت محموما ! "
لقد اثبتت له أنها غبية ! هذا أول ما طرأ في خاطره لينظر لها مطولا ماذا ستضيف ، أكملت حين شعرت بموقفها الغبي :
" لقد غادرت ساندي حين هرعت للحديقة ... و ارتفعت حرارك مجددا ، لقد بقينا أنا و رالف نراقب حمتك نحاول اخفاضها ، جاء طبيبك الخاص مرتين
و طلب نقلك للمشفى لكن رالف رفض ذلك ، قال أن ذلك سيغضبك .... و أيضا جائت ساندي مجددا لكننا لم نسمح لها بالدخول ، و ....
و أعتقد أن هذا كل شيء ! "
لقد كان ذلك سريعًا جدًا ! لم يتوقع أن تتكلم كل هذا دفعة واحدة ! و بدت صادقَة له فطريقة سردها البلهاء وذلك القلق المرسوم على وجهها اثبتا ذلك !
رغم انه لايزال يشعر بدفء لمساتها على يديه لكنه لم يستطع الاقرار بذلك .... و تلك المشاهد التي بدت له كحلمٍ او هلوسة بقيت تزلزل تفكيره ......
" أهذا كل شيء ؟ " قال وهو يضيقُ عينيه الخضراوتان ....
لقد ظنت أنهُ يختبرها بطريقةٍ ما ، أومئت برأسها لتضيف بعدها " اجل سيدي ! "
أمسك بذقنه و هو يفكر بعمق ، رفع نظره لتتلاقى عينيهما فجأة ، : " هذا يستدعي مكافئة ! "
توسعت حدقتاها على اوسعهما ولكنها لم تستطع ايقاف دموعها المنهمرة ، لم يغب عن بالها أمر الخصلات التي وجدتها تحت وسادة هيكتور ،
مع أنها كانت واثقة أنها تنتمي اليها ، الى أنها لم تستطع صياغة أسألتها له ! فقررت ترك الأمر لوقتٍ آخر ، لتقول بصوتٍ متقطع و هي تعض على شفتها السفلى :
"م...ك...افئـ..ة ؟ "
استغرب هيكتور من نفسه ، لم يكن هذا ما يبغي قوله ..... انما لم يستطع ان يسأل عن تفاصيل ادق ! أعجبته الفكرة حين طرأت في باله
فكرة شيطانية فأسفر ثغرهُ عن ابتسامةٍ متمردة : " روجينا ! هل تقبلين دعوتي للعشاء ؟ "
كسى الصمتُ جو المكتب لحظات قبل أن يُدركَ هيكتور نفسه فوالاها ظهره ! ففتحت روجينا فاهها مُعبرة عن عدم تصديق ما سمِعتهُ من الجبل الجليدي ،
السيدُ المُتجبّر صاحب العقدة الدونية لأمثالها ! لم تفتح بنس شفتيها ، كانت تنظرُ لينفي ماقاله وهي تنظر لأكتافه العريضة مطولًا .....
" سيد هيكتور ؟ ما هذه الدعوة المفاجئة ؟! هل ضربت رأسك هنا أو هناك ؟!!!!! "
التفت نحوها وضرب الطاولة بقوة : " أيتها الغبية ! كيف تجرئين على قول ذلك ؟ "
تراجعت بحذر " لايمكنك أن تلومني ، فلطفك مفاجئ جدًا ! اعتدت السب و الشتم و الرفس ، لكن لطفك مرعب ! "
صك على اسنانه قائلا بغضب : " من اللطيف ؟! اتعلمين انسي المكافئة ! "
" أنا أعتذر ، لم أقصد ذلك سيدي ! هات مكافئتي لكن لاترعبني بلطفك !... "
والاها ظهره ليخفي ابتسامتهُ عنها ..... نوعا ما هذه المشاحنات الصغير ممتعة له ! هو كطفلٍ مشاغب يحلو له اللعب بالعابه المفضلة
وقد أصبحت هذه اللعبة -روجينا- ، لعبته المفضلة .... :
" اعتذار مقبول ، لكن لا تظني أني نسيت ما بقي عليك من دين ! "
بقيَّ يواليها ظهره ليخفي ملامحهُ عنها ، فقد كان عاجزًا على مواجهة نفسه ، لم يشأ أن تهتز صورة كبريائهُ أمامها .....
حتى ان كانت آخر انسانة على وجه الأرض ! قال و هو ينظر لخارج النافذةَ أمامه : " روجينا ، شكرا لما فعلته ، سأقدرهُ لك ! "
تشبثت بقميصها كأنها تحاولُ انتشال قلبها من محله لتوقفهُ عن الخفقان ! كيف يُمكن لاحدٍ أن يرفض دعوةٍ مُرفقة مع ابتسامةٍ صادقة ؟
بطريقةٍ ما ترائت لها ابتسامتهُ حتى وهو يواليها ظهره !
مَدَت يُسراها نحوه كما لو كانت ستتجاوز كُل تلك المسافة بينهما ، ارادت أن ترى تلك الإبتسامة مجددًا ، مرةً واحدَة فقط ستكفي !
قالت بصوتٍ مخفض و بتردد:
" اذا كُنت جادًا .... أقصِد ... أمممم .... أنا موافقة ! "
أدار بجسدهُ نحوها محاولًا استيعاب كلماتها ، لقد كان مستغربًا و سعيدًا لكن لم يظهر لها أيهُما ، .....
انتظري يا روجينا سأجعلك تعترفين بنفسك !
*******
بقيت روجينا تنظرُ لإنعكاسها في الصحن المُلمعِ بين يديها ، لقد لمعتهُ جيدًا ! اخفت وجهها به وهي تقول لنفسها :
" تبًا ! ماذا دهاك يا روجينا ؟! ماذا لو كانت خدعةً منه ؟ ماذا لو كان يحاولُ اذلالي بمكانته و تعييري بمستواي المتدني مقارنُة به !!
لن استغرب اذا جعلني اعدُ العشاء لنا ، فقط لإذلالي ! اتوقع اي شيء من السيد مُتكبر ! "
أخفضت الصحن تنظرُ لإنعكاسها مجددًا ، وهي تستعيدُ ذكريات الليلة المسبقة .....
******
كان هيكتور محمومًا للغاية و لليلة الثانية على التوالي و .... بقيت تبذلُ جهدها لإخفاض حرارة جسدهُ بالمناشف المُبللة ....
تحرك هيكتور وهو يُزيلُ المنشفة عن جبينه والأخرى عن صدره ، لينهض .... حاولت ايقافه عن التحرك متحججة - بأنهُ لا يفيدُ صحته - ....
شعر بالضيق لأنها تعترضُ طريقه ، فأبعدها بدفعها بكفهُ الواسع لتقع على الأرض بجانب السرير ونهض عن سريره بصعوبة وكاد أن يقع
فوقها لصعوبة المشي .... لكن روجينا نهضت بسرعة مستعملة كل طاقتها لتمسكهُ و تُسندهُ على كتفها !! سألتهُ بملامح قلقة :
" هيكتور أأنتَ بخير ؟ تماسك ! " لم تستطع إلا أن تقلق عليه !
أسند برأسه على كتفها الأيسر ليهمس بصعوبة بالغة وعينيه الخضراوتان شبه مغلقتين : " الى الحمام ! "
لم تستطع مناقشتهُ فحاولت حمل جسدهُ الثقيل بأكتافها الهزيلة و بصعوبة أدخلتهُ الحمام وفتحت الدُش لتمتص المياه الباردة حرارتهُ ....
تبللت كثيرًا جراء ذلك لكنها لم تهتم فقد كانت تُركز كل طاقتها في حمل ثقل جسده .... أغلقت مجرى المياه الباردة فاتكأ على كتفها الأيسر
مقتربًا من اذنها ليهمس بصعوبة : " شكرًا لكِ روجينا !! "
لم يتسن لها الإستغراب كما يجب فقد دخل رالف مستغربًا من منظرهُما الغريب ، لم يكن ليتخيل من فتاةٍ هزيلة أن تحمل رجلًا بوزنِ هيكتور !
حملَ جسدهُ من الجانب الآخر و وجه كلامًا صارمًا لها : " مالذي تظنين نفسكِ فاعلة ؟! لما لم تُناديني لمساعدتكِ ؟! "
تنفست الصعداء بعد أن شعرت بحملِ وزنِ هيكتور يخف من على كتفيها و قالت مُدافعة عن نفسها : " ما ذنبي ان كان هيكتور عنيدًا ؟ "
قطب حاجبيه بلا حيلة هو يعرف سيده ، وجه نظرهُ بعيدًا عنها : " جففي نفسك و غيري ثيابك قبل أن تُصابي بالبرد ! "
*******
كانت صدى جملة هيكتور تتردد في عقلها ، " شكرًا لكِ روجينا !! " كانت تلك ثاني مرة يشكُرُها هيكتور في يومين و اليوم شكرها للمرة الثالثة !
ظنت أن ذلك بسبب الحمّى و لكن ..... قبل قليل وفي مكتبه ..... لقد كان صاحيًا بكل وضوح ! التفكيرُ بذلك رسم ابتسامة بريئة على شفتيها !!
لكنها لم تدرك ذلك ...
اقترب رالف من خلفها ، فأفزعها بمناداة اسمها .... كاد الصحن أن يقع من بين يديها لكنهُ أمسك به بسرعة ، ليقول بلكنةٍ مُعاتبة :
" روجيينااا !! ، أين عقلكِ ؟ أتودين أن تعاتبي بدل المكافئة ؟! "
نظرت لهُ ببلاهة و هي تُخاطبهُ في سرها " ألا يكفيني سيدُكَ المجنون ؟! أتيت تُكملها علي ؟! " وحين ادركت ما قالهُ لها اجابتهُ مستغربة و بصوٍتٍ حاد :
" المكافئة ؟! "
ابتسم رالف وهو يقول : " قال السيد انهُ يريدُ أن يُكافئكِ للوقوف معه اثناء مرضِه في اليومين الماضيين فقرر أن يدعوكِ للعشاء خارجًا ، فوافقت !
الم توافقي على دعوتهُ لكِ ؟! "
أجابتهُ ببلاهة تامة : " و ليكُن ؟ "
استفزتهُ ردة فعلها فانفعل قليلُا على غير العادة : " ولما تظنين اني أحملُ هذا ؟ "
مدهُ أمام وجهه ليترائى لها ثوبٍ لازوردي بلا أكمام ذا تنورةً واسعة يتدرج لونهُ عند حوافها الى الأبيض ، مع زينة فراشة عند حمالات الفستان ،
بدى لها جميلًا للغاية !
اخذت الفستان منه لتُقربهُ من جسدها غير مصدقة وهي تتصورُ نفسها ترتديه ، كان قصيرًا لكنها لم تهتم ، فقد كانت سعيدةً به !
وقد رأى هيكتور سعادتها من خلف شاشة المراقبة على مكتبهُ ... ابتسم غير مدركً لنفسه و أطفئ الشاشة حين لاحظ أنهُ اطال النظر لها !
خرجت روجينا وهي ترتدي الثوب بعد أن اعتنت بنفسها جيدًا و ساعدها رالف لتتزين ! هذا الرالف ماهرٌ في كُلِ شيء وهذا يفسر تمسك هيكتور به !!
جلست في الخلف بجانب هيكتور والذي بدى انيقًا أكثر من العادة ! فالبذلة الارماني* السوداء تليق به و تجعلهُ يبدو مُهيبًا ......
بقيت صامتة تُحاولُ تصديق أن هذه ليس نوعًا من الخطط الشيطانية لإذلال الخادمة من حثالة المجتمع كما يعتبرُها هيكتور .
تذكرت حين قال لها رالف عن ما يجب أن تفعلهُ في المطعم لكي لا تُحرج السيد هيكتور ، هي ليست غبية لهذه الدرجة سبق و راقبت الكثير
من الآنسات وهن يتصرفن برُقي في المطاعم التي عملت فيهم .... هي ستفاجئ هيكتور لن تسمح بأن يستصغرها بمكانتها !
توقفت السيارة و نزلت روجينا بكعبها العالي مستندة على يدُ رالف ، كان المشي بالكعب تحديٍ اعظم من ما تعتقد ان هيكتور يخططهُ من أجلها ....
همس رالف في اذنها سرًا : " السيد هيكتور يعتز بمن يعتز به ! فلتعتزي به ولن يتخل عنكِ أبدًا "
قال ذلك و عاد ادراجهُ ليستوي هيكتور بجانبها ، رفعت رأسها لتجد نفسها أمام المطعم خمسة نجوم الذي طردت منه قبل لقاء هيكتور !
تراجعت لتعود للسيارة رافضة دخول المطعم ، لكن رالف كان قد أخذ السيارة وتركها مع هيكتور ! تجمدت غير قادرة على التقدم او العودة
كأنها التصقت بالأرض ، تتمنى أن تنشق الارض و تبتلعها الآن ..... في المرة السابقة كان رالف هو من جاء بها الى هنا ، لكن الأمر مختلف الآن !
فقد أحضرها هيكتور بنفسه ولمكافئتها ! بقيت متسمرة بمكانها وهي تُمسك طرفي فستانها بحسرة ! ماذا مع هؤلاء و هذا المطعم بالذات ؟
بين ملايين المطاعم في هذه المدينة الكبيرة ، لما تجد نفسها في الموقف نفسه ؟ دائمًا تعود لنقطة البداية ، كأنها تائهة في دوامةٍ زمنية ....
بقي هيكتور ينظر اليها مٌتجمدة ، ظن أنها غير قادرة على المشي بسبب حذائها ابتسم بشقاوة على موقفها بفعل العادة ، ولكن تمسكها
بفستانها بتلك الطريقة اثار ريبته فمد يدهُ بعد نفاذ صبره و جرها من يديها بهدوء : " لم نأتي لمشاهدة المكان ! أعرف أنه جميلٌ جدًا ....
لكننا هنا لنحضى بعشاء راقي ! "
تقدمت معهُ ويدُها محبوسة يده الواسعة ، فاقدة القدرة على الرفض او التراجع .
تقدم مدير المطعم ، ذلك العجوز الجشع وهو يُسلكُ ابتسامات مزيفة لهيكتور قائلًا : " يا أهلا بالسيد بلاديمون ..... يالهُ من شرفٍ عظيم ان تزورنا !
تفضل فأفضل موقع في المكان شاغر ! يا مرحبًا ، يامرحبًا بكَ سيدي .... "
تقدم هيكتور بكل ثقة نحو افضل مكانٍ في المطعم بلا حجز ! و نظرة القوي المنتصر تعلو محياه ، كان الزبائن ينظرون له باعجاب و يخطفون
نظرات له وهو يسير ممسكا بيد الفتاة التي بدت آية في الجمال برفقته !
بقيت روجينا تُطئطئ رأسها حسرةً على موقفها الذي حسدها الآخرون عليه ، سخرية القدر ! سحب المدير الكرسي لها و ساعدها على خلع
المعطف الأبيض الذي يصل لفوقِ ركبتيها حيث تتجلى نهاية الفستان ، ووضعهُ على الكرسي المجاور لها ..... لم يتعرف عليها ابدًا ، بالتاكيد
هو لن يفكر أن الآنسة الواقفة امامهُ قد تكون نفس التي اهينت وطردت ظلمًا من المطعم !
كان هيكتور يجلس وهو يضع رجلًا فوق الأخرى و ينظرُ لروجينا مظلمة الملامح ، نظر بشكوكية نحوها ، بدت له تمامًا كما وصفها رالف !
هي رفضت دخول الطعام و كانت تبدو منزعجة جدًا ، كان ذلك أهم اسباب اختياره للمكان ، لكشف سر هذا الإنزعاج المرسوم على وجهها ! طبعا
الى جانب شكرها على الأعتناء به ! وبعد ذلك يحل العذاب على خادمتهُ الفقيرة !
" روجينا ! هذا العشاء على شرفكِ ! انها طريقة تعبيري عن الإمتنان الشديد لما فعلته من أجلي في الأيام الثلاث الماضية ! "
استعادت روجينا ما همس به رالف قبل قليل " السيد هيكتور يعتز بمن يعتز به ! فلتعتزي به ولن يتخلى عنكِ أبدًا " ابتسمت له ابتسامة باهتة
وهي تقول " وهو أكثر من ما اتمنى ! "
استغرب كلامها ، ولم يفهم كيف تفكر هذه الفتاة ! - تناول العشاء مع سيد غني في مطعم خمسة نجوم – الا يفترض ان تلك قد تكون امنية أي فتاةٍ عادية ؟!
لكن روجينا ليست فتاة عادية ، فقد قاست ما يكفي لكي لا تفكر بمثل هذه الأماني الجميلة !
" الم يعجبكِ المكان ؟ أنهُ أفضل المطاعم و المفضل لدي ! "
نظرت حولها تجول بذكرياتها و تعلقت نظرها بتلك الطاولة اللعينة و كست ملامحها غيم حزنٍ كثيفة لتجيب ببحةٍ خانقة :
" نحنُ نُولد في عالم لا نختار نوعه ليكون عالمنا* ولا نحلمُ سوى بسقفٍ يأوينا من برد الشتاء وخبز يُشبعنا ! هيكتور ؟! أخبرني من الأسوء
الفقراء أم الفقر ؟ ماذنب الفقراء و وحش الفقر يدقُ أعناقهم !؟ ربما بعض الفقراء يدفعهم بؤسهم للخطأ ولكن ما ذنب الطيبين منهم ؟ لا
اخفي عنكَ حتى أنا أتمنى أن اتجرد من بؤسِ حياتي ولذلك اكد بدمي يوميًا للتخلص منه ... ! "
كانت كلماتها تصفعهُ كلمةً كلمة .... انعقد لسانهُ من اجابة تسائلاتها ، وبقيت تصدعُ في رأسه غير قادر على تجاهلها - من الأسوء الفقراء أم
الفقر ؟ - لم يسبق له أن فكر بتلك الطريقة ! كل ما كان يعرفهُ ، هو انهُ يحتقر الفقراء لأن أحدهم قتل والديه !
بقيت عيناهما متشابكة ، غير قادرين على انتشال انفسهم ، لتتصارع باحثة عن جواب يشفي غليل تسائلاتهم ! نهضت روجينا بهدوء لتقول له بثقة:
" اتعلم لم احلم بارتداء ثوبٍ جميل او أن اتأنق كآنسة جميلة عديمة الهموم ، في حياتي كلها ! شكرًا لمنحي الفرصة لتجربة هذا الشعور الجميل !
لكن .... كرامتي لاتسمح لي بأكل لقمةٍ واحدة في المطعم الذي ظلمني و أهينت فيه انوثتي . من أجل بضع سنتات "
نهض هيكتور مصدومًا لما سمعه ولفت انتباه الجميع ، صر على اسنانه غاضبًا لما سمع و بدأت شياطين الغضب تعبث بافكاره !
تقدم نحوها و اخذ معطفها وهو في قمة الغضب غير قادر على اتخاذ قرارٍ سليم أمسكها من يدها و سحبها مغادرًا المطعم الذي كان يومًا ما جميلٌ في عينيه ....
ما ان خرج من المطعم حتى وقف مقابلها ليغطي اكتافها بالمعطف بين يديه وكان الصمت سيد الموقف . .
التعديل الأخير تم بواسطة شَمس. ; 04-21-2022 الساعة 12:28 PM
لم يستوعب هيكتور بدايةً سر كلماتها المفاجأة رغم أثرها القوي به ، إلا بعد آخر ما كشفته بين شفتيها الكرزيتين...
لقد اكتشف ما كان يبتغي بمجيئه هنا ، لكنه لم يتوقع أن يكون ما يسمع سيغضبه إلى هذه الدرجة !!
قال لها أن تتبعه بهدوء و قد فعلت ذلك بعد إيماءةٍ راضية بما وصل له الحال بخروجها ، و لو كان موقفاً غير محبذ .. إلا أنه افضل من تجاهل كرامتها ، فها هي تعمل بذل لحفظ هذه الكرامة و رفعة شأنها بعد تحطيم كبرياء هيكتور...
استقل هيكتور مقعد القيادة لكونه أمر رالف بالرحيل لأمور ٍٍ أخرى، و بدأ يبحث عن مقر راحةٍ آخر، فاستغلال حيلة الهديةهذه ، تحتاج اعتذاراً فعليا و تعويضا عن تحطيمِ أعصابها...
كانَ ينظر لها بين لحظاتٍ متقاطعة ، ملاحظاً بقاء أثر الإنزعاج عليها و قد أسندت رأسها على الزجاجة يمينها تنظر للخارجِ بشرود ...
المعطف الناصع قد زادها إشراقاً وملامحها الهادئة جعلت السكينة تعكس نفسها بداخله لينسى ثوانٍ عمق المصائب التي حلَّت و تحلُّ عليه...
لم يتصور أن تلك الثواني القليلة ستقوده إلى نتيجة غير متوقعة ، بعدما تفاجأ بشاحنة قد ظهرت أمامه ..!
بدت روجينا بقمة انفعالها و هي تشير له بالابتعاد و لسانها يتحرك بسرعته القصوى منتهياً بصرخة : هل أنت أعمى؟؟..ابتعد عنه ، سوف نهلك...
اكتفى بإدارة المقبض بكلِّ قوته شمالاً ليكون بالطريق الصحيح : اصمتي ..
انتهت ثواني القلق تلك لتبدأ دقائق الغضب ، و كلاهما يقفان بجانب سيارته المرفهة التي تلقت ضربةً جانبية أودت بجانبها الأيمن بخسائر فادحة .. و حتى الباب ...
قد سقط بعد مقاومته ذلك الاصطدام ليضرب هيكتور وجهه بكفه لهيبة الأمل التي تواجهه و هو يشتم نفسه و روجينا سراً...
لم تكن بعيدة عن أجوائه ، فها هي تضربه على رأسه لينتبه لها و تخرج غيضها به : أنت أحمق ، لكن لم أكن أعلم أن بنظرك خطب أيضا ًً... كدنا نودع هذه الحياة بغبائك..
ردَّ عليها بدوره منفعلاً : لو لم تكوني بجانبي لما حصل لعيني خطب ما بزعمك روجينا.
أطلقت عنان قدميها لتضرب الأرض ساخطة : و ما علاقتي بعينيك؟..لو كنت أعلم أنك كنت تصوبها نحوي لاقتلعتهما..
تأفَّف معلنا لنفسه الاستسلام حالياً و هناك سائق ذو لحية كثيفة يقف على بعد أمتار ينتظر وصول شرطة المرور لأخذ حقه، فترك روجينا خلفه ليذهب نحو ذلك الرجل الكهل... و ما أن اثترب حتى نطق الآخر : لا تظن أنك ببعض التوسلات ستفلت بجلدك، قف بصبر كفتىً جيد .
" خمس مائة دولار ، أظنها ستعوِّض الخسائر و سوف تزيد..ما رأيك"
هذا ما قاله هيكتور ببرود لتتسع إبتسامة شقاءِ و رضا من صاحب الشاحنة التي لم تتلقى ضرر جدي بالواقع : تعرف كيف تسعدني .. يعجبني هذا .
***************
***************
خرج الإثنان من مركز اصلاح السيارات ، كانت الجدية هي مرافقهما الثالث حيث سألت روجينا : و ماذا ستفعل الآن؟
اجابها و هو يتقدم قدماً بخطواته الكويلة نسبة لها لتركض هي خلفه : سوف نستقل سيارة أجرة و نكمل ما بدأناه، إن عدنا للمنزل فانسي المكافئة..
صرخت خلفه و عينيها تجيب بأكثر من لسانها السليط : و كأن المكافئة هذه بقي منها ما يسر ..
وقف مكانه ينظر خلفه : ألا تجدين نفسَك قد تماديت بحديثك كثيراً اليوم آنستي الصغيرة.. لا تنسي أنك لست سوى قمامة التقطها لتكون خادمتي .
عضَّت شفتيها و قد بلغ ما نطق عمق مشاعرها لتجرح مرَّةً أخرى ، لها فرصة أن تهينه كما تشاء وتهرب في هذا المكان ..ليس بالعسير عليها..
لكنها أتعبت نفسها بتحديه كل تلك الفترة لتظهر له خطأ أفكاره المشينة هذه.. و هذا ما جعلها تتنفس الصعداء لتدخل الأكسجين رئتيها و هي تنحني له : أعتذر عن وقاحتي سيدي الشاب ، أعدك أن لا تتكرَّر هذه الحماقة .
ابتسم لما يرى، توقع ردة فعل مختلفة بالواقع،، و هذا ما كان يستهدف حيث أنه يرغب بأن يريها كم من المذلة رأى.. وكم من إهانة قد تلقى...
في الحقيقة هو كان سيقول لها أن هذه الجملة إحدى ما كان يتردد على مسامعه الصغيرة يوماً ، لكنه صمت مكتفياً بتبجيل احترامها له ليمضي بصمت ...
و هي تتبعه بسرعة لكي لا تفترق عنه لسرعة مشيه...
****************
****************
أخيراً بعض الراحة التي امتزجت مع الموسيقى الكلاسيكية الهادئة ، و لا صوت ينغص عليهم هناء أكلهم بعد كل الجوع الذي ازداد مع الفترة الماضية ...
حتى أصوات بعضهم البعض ، و هذا ما كان حتى سألت روجينا سؤالاً حساساً لجليسها...
" هل ستترك أخاك هكذا ؟..الأطفال لا ذنب لهم بما بينكم من حرب صامتة.."
بالكاد استطاع أن يبلع اللقمة التي بفمه ، فقد كان سؤالاً في الصميم و هو للآن لم يجد الإجابة المناسبة ..!!
أخذ كأس الماء الذي ملئته روجينا و قدمته له ، و بعد أن هدأ أجابها بما توقعت : هو من رحل و لم أجبره على ذلك ... هو فقط يستمع لكلام تلك الأفعى.
لم تكترث لمراوغة كلماته التي تود إلقاء كلِّ الذنب على غيره ، لإراحة ضميره المتقوقع بسباتِ الغفلة و وجهت بؤبؤيها البحريان نحو عدستيه مباشره : أنت تعلم أن أقوالك هذه لن تفيد بشيئ ، حتى و إن كان الجميع مخطئ و أنت المصيب .. فهذا الوضع الذي خلقتموه غير صائب ... أنتما إخوة، هل تفهم هذا ؟؟
أغلق عينيه ليبتعد عن تأثير نظرتها التي تكاد تسحره ..بل سحرته، و نطق ممتعضا من جانب شفتيه بخفوت: ستقتلينني قريباً يا فتاة ..
أعاد فتح محجريه الحائرين ليجيبها بثقة: هو من تخلَّى عني ، عندما رحل عنا .. عندما عاد لطفل مكتئب يحتاج بعض الصبر .. و الآن أيضا.
كلماته واقع ، لكنها خاطئة ،فالتعبير خاطئ جداً...
و الفهم غير صائب بتاتاً...
فبدأت بمحاولة إقناع شبه يائسةٍ منها له : تخلى عنك ... !! ، أعد ذاكرتك للوراء... ألم يذهب للعمل في ديار غربة لجمع ثمن يساعدكم على الحياة السهلة ... ؟! ...ألم يأتيك بعد فقد والديك ليكن كل عائلتك و أنت دفعته للوراء خلفك ... و الآن ألا تحتفظ بذاكرتك الصَّدِئَة أي ذكرى عن أسلوب تعاملك السيئ لأخيك و ظنونك الواهمة به..؟؟؟!!!
أنهت كل حروفها التي صاغتها بشكلٍ مؤثرٍ حقا لينطق ببضع كلمات ألجمتها : هل أراني بعض العزة..ام سبب لي العزة ...
تبًّا لعقدة المعزة تلك ... لقد سبب له ماضيه الأسود عقدَةً يصعب تعديها..
فكبرياءه المتعالي الذي تراه روجينا ليس إلا سلاح كونه هيكتور الغني ذو الجاه و المكانة ،فكيف سيجده خطأ؟؟!!
تذكرت ما قاله لها رالف عند وصولهم ...
أنه يعز من يعزه و لا يتركه ، و هذا بالضبط ما يفتقر إليه...
لم تتحدَّث بعد ما سمعته و بقيت تفكر مليًّا كيف تجعله يرى العزة في غير الكبرياء .. فعندها ستحل كل مشاكله...
*************
*************
السوق ..
دواء لا منازع له لروجينا كأغلب النساء ، فرغم أنها تعرف ان كلَّ فضلٍ من هيكتور ليس بالمجان حتماً
إلا أنها لم تستطع بتاتاً أن تردع نفسها عن هذا الدلال الذي لن يحصل بيومٍ آخر...
و لهيكتور ذوقٌ جيد بكل شيئ ، الملابس.. المجوهرات ..النظارات الشمسية ...
و بالنهاية بعد كل ذلك المشي ، أجبرته على أخذ صورة فورية ..التي بدى بها كالأحمق غير المتزن لمعارضته..!!
كان يوماً شبه مثالي رغم مشاكله و معاركه
لكن...
دوام الحال من المحال
فبعد ساعاتٍ من المرح لروجينا الذي جر هيكتور لتجاهل الوقت لأجله
عادا ليستقبلهما رالف لدى الباب منحنيا لهيكتور مبدياً خبره : سيدي ، السيد جينيفر ينتظرك بغرفة الضيوف يرغب بالحديث معك.
**************
**************
*روجينا*
شعرتُ بشحوب وجه هيكتور بعد سماع اسم الضيف ، بدى لي غير مرغوب ٍٍ به في الواقع...
لكنه اعطاني معطفه و اللحن الجدي منه طاغٍ عليه : جهزي له بعض القهوة الداكنة ..
أكمل بعد نظرة جدية حادة لي و كأنه سيلتهمني : فقط.. لا تزيدي أي شيئ .
"فهمت"
قلتها و توجهت للمطبخ فوراً لتحضير تلك القهوة ، و لا أعرف لم قد اعتراني الخوف من نظرة هيكتور أكثر من كلِّ مرة ..
فعينه لم تحمل غضبا أو انزعاجا أو حتى حقداً ..
لقد حوت إبهاماً شرساً ،و كأنه أسد مهاجم بعد حكمة ..
آه... بالضبط كأسدٍ بعرينه..
ربما هو هكذا في أعماله التجارية لعدم ثقته بأحد...
أنهيت ُُ القهوة و وضعتها بفنجانٍ حلبي اللون ، و بعد تجهيزي للذهاب نحو مقصدي ..
سمعتُ صوتَ الهاتف...
كان هذا قابضاً لقلبي دونَ إنذار، فمن يتصل بهيكتور المنعزل ..؟؟؟
توجهتُ حيث وضعت السماعة اللاسلكية الرمادية و رفعتها : منزل السيد هيكتور بلاديمون، هل أخدمك بشيئ ؟؟
لم أشعر بشيئ إلا و قد سقط الفنجان من يدي ... !!
ما الذي يقوله هذا الشقي ؟؟!!..
هل يود قتل عمه بما يقول ..؟؟!!
ألم يكفه ما فعلته أمه...!!
لا ، طفلٌ مثله لن يكون بهذا المكر و الخبث .. بكاؤه صادق أيضا ًً...
لكن....
أنا كيف لي أن أخبر هيكتور بانتكاسة أخيه هذه..؟!
التعديل الأخير تم بواسطة شَمس. ; 04-21-2022 الساعة 12:28 PM