••
العودة   منتدى وندر لاند > القصص والروايات > روايات الانمي_ روايات طويلة

روايات الانمي_ روايات طويلة لجميع أنواع الروايات " الحصرية، العالمية، المنقولة والمقتبسة"


الحارس الأعمى ~ Blind Guardian

روايات الانمي_ روايات طويلة


إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-22-2022, 01:58 PM   #1
ساي
عضو جديد


الصورة الرمزية ساي
ساي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1308
 تاريخ التسجيل :  Jul 2020
 المشاركات : 2,292 [ + ]
 التقييم :  3532
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Silver
شكراً: 0
تم شكره 4 مرة في 4 مشاركة

مشاهدة أوسمتي



[size="4"][center]. أسعد الله صباحكم هذا بكل ما يسركم.

حيث أنني - وبطريقةً ما - تمكنتُ من إنهاء كتابة الجزء قبل الموعد الذي توقعتهُ, لذا قررتُ وضعهُ فوراً قبل أن أقوم بإفساده بكثرة التعديلات.

إن أردنا أن نعلم سبب كون الأشخاص ما هم عليه في الحاضر, سيكون علينا النظر إلى الماضي, لذا سيكون هذا الجزء رحلةً إلى الماضي بكل أنواعه: القريب, والبعيد, والذي ظل سراً مدفوناً على مر السنين.

ليس كل ما يجري من أحداثٍ هنا مرتبطاً بالحاضر, ولكن من أراد أن يخوض هذه الرحلة الطويلة في أعماق الزمن فليتفضل.

الفصل الحادي عشر
-----------------------------------

لا شيء يقتل البراءة سوى الزمن.

-----------------------------------


سار الشاب الطويل في الممر شبه المظلم بحذر محاولاً إبقاء تحركاته صامتةً قدر الإمكان, تبعته الفتاة بخطواتٍ رشيقة وهي تلتفت حولها وكأنها تخشى أن يفتضح أمرهما في أي لحظة, جعلها ذلك تشعر وكأنهما لِصان يحاولان السطو على منزل أحدهم.

"أكاد لا أصدق بأن الفكرة نجحت, لقد فعلها (ساي) حقاً. ولكن علينا أن لا نفسد هذا الأمر وإلا خسرنا كل شيء.".

"إطمئني, أنا لستُ حديث العهد بهذا, ولكن كل ما أخشاه هو أن يرى وجوهنا إن لم نكن حذرين.".

ردت عليه الفتاة مبتسمة: "ولهذا السبب أنا هنا.".

رغم أنه لم يكن من النوع سهل التوتر, إلا أنه بدا قلقاً وهو يقول: "هل عليناً حقاً فعلُ ذلك؟ ربما كانت هناك طريقةٌ أخرى ما...".

هزت الفتاة كتفيها وهي ترد عليه ببساطة: " هذه هي أضمن وأسرع الطرق, هل تتخيل أنت بأنه سيحافظ على حياته إن طلبنا منه ذلك مباشرة؟ أنت تعلم أي نوع من الأشخاص هو, سيندفع بلا تفكير عند أول بادرة للخطر وكأنه بطلٌ ما, وما نحتاجه الآن ليس بطلاً.".

صحيح, للحظة كاد ينسى عن أي الأشخاص يتحدثان, إنها محقةٌ تماماً فيما قالته.

لم يكونا يحتاجان لإعادة سرد خطتهما الصغيرة مرة أخرى, ففور وصولهما إلى المكان المقصود تقدمت الفتاة بخطواتٍ ثقيلة ثابتة ناقضت خطواتها الخفيفة السابقة نحو أحد الأبواب لتطرقه برفق لثلاث مراتٍ وتنبس بشيءٍ ما, بينما سارع الشاب ليخفي نفسه عن الأنظار في غياهب الممر المقابل وهو يأخذ نفساً عميقاً مؤهباً نفسه لما سيحصل لاحقاً.

لم ثلبث الفتاة إلا عدة ثوانٍ قبل أن تسرع الخطى نحو الجهة الأخرى وهي تشير له بيدها بأن يستعد, فهز رأسه موافقاً وهو يلتصق بجسده في الجدار منتظراً الخطوة التالية. مرت الدقائق ببطء الأعوام وهما لابثان كلٌ في مكانه المتفق عليه, حتى صدر صوت صرير خفيض لأحد الأبواب وهو يُفتح ببطء, تبعه خروج شابٍ قصير من الغرفة التي خيم عليها السكون وهو يلتفت يميناً ويساراً بحذر قبل أن يخطو للأمام ويقوم بإغلاق الباب خلفه بنفس الحذر. كل شيءٍ يسير كما هو مخطط له إلى الآن.

ما أن همَ الشاب القصير بالتقدم نحو الممر المظلم حتى تعمدت الفتاةُ –التي كانت واقفةً في زاوية ذلك الممر-إصدار صوتٍ يلفت إنتباهه, وقد كان ذلك الصوت أيضاً إشارةً لزميلها بأن دوره قد حان.

وفور أن وصل إليه ذلك الصوت المنتظر, قام (آرثر) بالتحرك من مخبئه بسرعةٍ مذهلة, وبحركةٍ مدروسة كانت إحدى يداه تُكمم فم (ساي) بينما إلتَفَت الأخرى حول عنقه.

-----------------------------------

"كل هذا يبدو كحلمٍ ما, حلم سيء, ولكنه يحدث بالفعل...".

لم يكن البهو الصامت يروق لـ (أمورا) على الأطلاق, خاصةً بعد ما رأته فيه سابقاً, ولكنها تمالكت نفسها وأطبقت بيديها على المسدس الذي حملته وكأنه كنزٌ ما. لم تكن واثقةً تماماً من قدرتها على فعل هذا, ولكن هل من خيارٍ آخر؟ جميع أصدقائها يحاولون جهدهم لتنفيذ هذه الخطة الغريبة التي قد تحمل خلاصهم, إن كان كلام (يوهانا) صحيحاً. أقل ما يمكنها فعله هو بذل قصارى جهدها.

"آخر الممر...ثم إلى اليسار...أعتقد بأن هذا هو المكان الذي ذكره (ساي).", أحكمت أصابعها على مقبض الباب الخشبي الذي واجهها متوقعةً أن تجد مصيبةً ما خلفه, ولكنه انفتح بسهولةٍ فهو لم يكن موصداً من الأساس, ولم تجد خلفه ما يدفعها للخوف. مجرد مطبخ بريء وإن كان قديم التصميم نوعاً ما.

"كل ما علي فعله هو وضع هذا الشيء في مكان واضح ليسهل على (نويل) العثور عليه, صحيح؟", لم يكن برفقتها أحد ولكن ذلك لم يمنعها من الحديث بصوت مسموع وكأنها بذلك تخفف حدةَ توترها.

لم يكن عليها التفكير طويلاً في مكانٍ تضع فيه السلاح المعدني البارد, فقد تقدمت نحو الطاولة التي توسطت المكان ووضعته عليها, لن يمكن لأي شخص بأن لا يراه هنا.
"يا إلهي, فلينجح هذا...أرجوك...".

-----------------------------------

"إن لم تنجح هذه الخطة فسيُقضى علينا, أتمنى بأن (ساي) يعلم ما يفعله...لستُ متفائلاً جداً لولا أن (يوهانا) تشاركه الرأي.".

غمغم (نويل) لنفسه وهو ينظر للورقة الصغيرة ذات الألوان الزاهية التي استقرت في راحة يده وهي تغلف شيئاً معدنياً صغيراً, راجياً الله في سره بأن تسير الأمور كما هو مفترض بها. إن المهمة التي أوكلت له ليست بالهينة, ولكنه وافق عليها عالماً بأنه ما من أحد غيره سيمكنه فعل ذلك. إن (آرثر) و (يوهانا) مشغولان بما أوكل إليهما, و ليست هذه بالمهمة التي يمكن إسنادها لفتاةٍ كـ (أمورا). (لورانس)؟ تبسم رغماً عنه للفكرة, ليس من الحكمة أبداً الجمع بين (لورانس) والديبلوماسية.

شعورٌ غريبٌ ينتابه الآن, فهو يسير في نفس المكان الذي كان به منذ وهلة, ولكنه ليس نفس المكان فعلاً.

حبس الشاب الوسيم أنفاسه وأرهف سمعه عندما اقترب من الغرفة التي كان يقصدها, ووقف أمامها لعدة ثوانٍ بصمتٍ قبل أن ينحني ليدفع بالورقة الصغيرة وما تحمله للداخل عبر الفتحة الرفيعة أسفل الباب الخشبي السميك.

لم ينتظر بعدها ولا للحظةٍ إذ سارع بالإتجاه نحو السلالم المؤدية للدور الأرضي قبل أن ينتبه الأشخاص في الغرفة لما وضعه, سيكون عليه أن يقابل (أمورا) في المكان الذي حدده (ساي) وينتظر معها حتى يتمكنوا من تنفيذ الجزء الثاني من الخطة.

-----------------------------------

تنهد (ساي) وهو يحرك الحلوى المصاصة التي استقرت في فمه بشيءٍ من الملل بينما انشغلت يداه بفرد وطوي سكين الجيب التي لا تفارقه مراراً وتكراراً بشرود, وكأنه يرى في هذه الحركة البسيطة مهرباً من الضجر الذي أَلَم به وهو يجلس وحيداً في الغرفة بعد أن غادر الجميع. إن تتبع أصوات أنفسهم السابقة والوصول إلى الباب المرتبط بكل فترةٍ أخذ من طاقته الشيء الكثير, ولكنه لن يسمح لنفسه بالتذمر من الإرهاق بينما هم جميعاً يخاطرون بحياتهم بعيداً وهو يجلس هنا منتظراً. لطالما كان يكره لحظات الإنتظار...

"توقف عن الحركة ذهاباً وإياباً في الممر يا (لورانس), إن صوت خطواتك يحطم أعصابي.".

جاوبه الصمت لعدةٍ لحظات قبل أن يأتيه صوت (لورانس) قائلاً: "يا لك من مرهف.".

"لمَ أنت هنا أصلاً؟", زفر (ساي) وهو يحرك رأسه بإتجاه الصوت في حركةٍ غريزية إكتسبها منذ أن فقدت عيناه بصرهما. إنه يتأقلم على وضعه الجديد أسرع مما كان يتوقع.

"إن (يوهانا) لم تطلب مني فعل أي شيء.".

"أستطيع تفهم ذلك, فنحن لسنا بحاجة للمزيد من المصائب.".

بالرغم من تهكم (ساي) الواضح, إلا أن (لورانس) أطبق فمه على مضض. لم يكن يريد إخبار الأول بأن (آرثر) هو من طلب منه البقاء معه إحتياطاً وتحسباً لأي أمر غير متوقع قد يحصل بينما الجميع مشغولون في أماكن متفرقة. في حالته الراهنة, لم يكن (ساي) ليستطيع عمل الكثير وحده.

ألقى (لورانس) بجسده على الأريكة المجانبة للمدفأة بينما استرقت عينه النظر على الشاب الذي جلس على الأرض على مقربة منه محاولاً استشفاف ما يفكر به. بالرغم من أن (نويل) و (آرثر) شرحا للجميع ماهية ما أصابه, إلا أنه لم يلبث أن تساءل بينه وبين نفسه عما يقبع تحت قطعة القماش التي غطى بها (ساي) عينيه. تحركت يده لا شعورياً لتلمس عينه المغطاة منذ سنوات. لقد إعتاد هو على ذلك, ولكنه على الأقل احتفظ بالعين الأخرى. ترى مالذي يشعر به شخص فقد بصره كلياً في غضون ثوانٍ؟

"إنني أشعر بالملل...", غمغم (ساي) بنبرةٍ نائحة.

"ومالمطلوب بالضبط؟ هل تتوقع مني تسليتك؟", رد عليه (لورانس) بحنق وهو يلوم نفسه لأنه حاول التعاطف مع هذا الطفل الكبير أصلاً.

أخرج (ساي) الحلوى من فمه ورد بعفوية وكأنه يسرد حقاً بديهياً من حقوقه البشرية: "نعم. بما أنك هنا, فأجعل نفسك مفيداً على الأقل.".

هَم (لورانس) بإعطائه رداً حاذقاً آخر لولا أن (ساي) سبقه قائلاً: "ما رأيك بلعبة "التحدي أو الحقيقة" ؟".

بإبتسامةٍ ماكرةٍ لم يرها (ساي) بطبيعة الحال, قال (لورانس) بثقة: "لا مشكلة لدي في ذلك, سأختار "التحدي" إذاً.", لم يكن (لورانس) يخشى الخوض في التحديات لذا فقد اتسعت ابتسامته وهو ينتظر رد (ساي), ربما كانت هذه فرصة له ليجعل (ساي) يندم على حذلقته المعتادة.

"جيد, سأختار أنا "الحقيقة", وبما أنني من سيبدأ, أتحداك بأن....", أخذ (ساي) نفساً عميقاً قبل أن يكمل, "...أن تخبرني بسبب ارتدائك لعصابة العين هذه.".

بُهت (لورانس) بهذه الكلمات فهو لم يكن يتوقع شيئاً كهذا أبداً. هذا الموضوع هو أمر تجنب الحديث فيه على مدار سنوات, ولم يكن يعلم بحقيقته سوى صديق عمره (آرثر). لِمَ كان على الخبيث (ساي) إختيار هذا التحدي بالذات؟! لقد وقع في فخ (ساي) كغر ساذج!

"أي نوعٍ من التحديات هذا؟!", هتف (لورانس) معترضاً.

"مالأمر؟ هل تريد الإنسحاب قبل بدء اللعبة حتى؟ لم أكن أتوقع أنك بهذا الضعف, ياللعار!", تعمد (ساي) أن يهز رأسه ممثلاً الأسى وهو يبتسم إبتسامةً جانبية.

اشتعلت أعصاب (لورانس) النارية فور سماع ذلك, وانحنى للأمام وهو يجيب بحدة: "من هذا الذي تنعته بالضعف؟!".

" أوتش! لا تصرخ هكذا, أتريد إصابتي بعاهة سمعية؟!", غطى (ساي) أذنيه بكفيه وهو يستطرد, "كل ما في الأمر هو أن الفضول ينتابني, فأنت لم تخبرنا عن السبب أبداً.".

"وماذا عنك أنت؟ لقد إخترت "الحقيقة", أليس كذلك؟ إذن سأجعلك تخبرني بحقيقة هذه السكين التي تحملها معك دائماً. منذ أن عرفتك وأنت لا تدعها تفارق جيبك, كما أنني أعلم أنك تتحاشى التحدث عن سبب حملك لها فقد سمعت (أمورا) تسألك عنها عدة مرات ولكنك تتجاهلها دوماً.".

التعبير المتفاجئ الذي طغى على وجه (ساي) كان خير إنتقام بالنسبة لـ (لورانس) الذي جعله ذلك يشعر بنشوة الإنتصار, لقد تمكن من مباغتة (ساي) بنجاح على ما يبدو.

"لستُ متأكداً بأنك تريد فعلاً سماع قصة هذه السكين, ولكن...قد أخبرك بها إن أخبرتني أنت عما سألتُك عنه أولاً.", كانت نبرة (ساي) وهو يقول ذلك غريبةً نوعاً ما, وقال لنفسه بأنه لا مجال للتراجع الآن, ليس بعد أن وصف (لورانس) بالضعف عندما حاول الإعتراض قبلاً. لقد حاصر كل منهما الآخر, وبطريقةٍ ما, يكون الذي ينسحب الآن هو الخاسر, وقد كان كل منهما يفضل المجازفة على إظهار ضعفه أمام الآخر.

ما بدأ كلعبة تحول الآن إلى أمر أكبر من ذلك.

-----------------------------------
. الثالث من مارس, الساعة الثانية وعشر دقائق ظهراً.

كان صخب الفتيان والفتيات يعم أرجاء مبنى المدرسة الثانوية الواسع وكل منهم يسير عبر ممراتها منطلقاً إلى منزله بعد إنتهاء اليوم الدراسي, رافق ذلك العديد من الضحكات المرحة والتحايا المتفرقة. ولكن أحد الممرات الجانبية كان أقل ترددا من قِبل الطلبة فهو لا يؤدي سوى إلى معامل الكيمياء والأحياء التي تراصت بجانب بعضها على طول الممر,في الواقع كان هذا الممر شبه خالٍ من الحركة والأصوات لولا تواجد شخصين بداخل معمل الكيمياء الرئيسي ذو الباب الموارب.

تحرك الطالب الطويل ذو الشعر الأشقر الباهت بهمةٍ في أرجاء الغرفة التي حفتها الطاولات ذات المغاسل والأرفف الحاملة لجميع أنواع المواد الكيميائية التي تتطلبها دروس الكيمياء العملية وهو يمسك بيده ورقةً وقلماً, ولكن زميله ذو الشعر الأسود الذي يصغره سناً لم يكن يشاركه نشاطه, بل اكتفى بالوقوف متكئاً على أحد الدواليب وقد علت علامات الضجر وجهه منتظراً إنتهاء صديقه مما يفعله ليتمكنا من الإنصراف كباقي الطلبة.

"هل سنبقى هنا إلى الغد يا (آرثر)؟ لم كان علي أن أكون صديقاً لطالب مثالي لا يرفض للمعلم طلباً؟".

"إعتراضك هذا متأخر عشرة أعوام يا (لورانس).", رد (آرثر) صديق عمره دون أن يرفع عينيه عن الورقة التي حملت أسماء بعض المواد الكيميائية المفترض عليه تنظيمها, إنه شاكر لوجود (لورانس) معه فتذمر الأخير المستمر يبقيه مستمتعاً على الأقل. إنه عمل رتيب فعلاً ولكن على شخص ما القيام به, وهذا الـ "شخص ما" ينتهي دوماً بكونه (آرثر).

"دعني أحزر...بعد انتهائك من عملك الممل هذا ستنطلق فوراً إلى المنزل لتقوم بالدراسة, أليس كذلك؟", أدار (لورانس) عينيه في محجريهما وقد كانت لهجته اللائمة تشي جلياً بمدى تضايقه من ذلك. لم يكن الفتى مهملاً في دراسته هو الآخر, ولكن شح الوقت الذي يقضيه مع صديقه مؤخراً بسبب الإمتحانات يجعله يتحين الفرص للتعويض عن ذلك, حتى وإن كان هذا يعني البقاء معه بعد إنتهاء الدوام المدرسي ومراقتبه وهو يؤدي مهامه هذه.

"توقف عن التنهد هكذا, أنت تشعرني بأنني أكثر الأشخاص إثارة للسأم على وجه الأرض. لم يتبق لي سوى الشيء اليسير.".

"ولكنك فعلاً كذلك!".

إلتفت الإثنان نحو مصدر الصوت السليط الذي اقتحم محادثتهما بلا إذن مسبق, ليسقط بصرهما على طالبٍ كانت جميع ملامحه وتحركاته تشي بالوقاحة. إبتداءاً من وقفته المرتخية اللامبالية, مروراً بزييه الذي لا يحظى بالكثير من الإهتمام كما هو واضح, وانتهاءاً بنظراته السافرة نحوهما, كأنه حيوان مفترس يعاين فرائسه.

"يا إلهي...أي ريحٍ نحسة ألقت بـ (جوني) إلى هنا؟", غمغم (لورانس) بحنق وقد زاد هذا الظهور المفاجئ من تعكر مزاجه.

ولكن (آرثر) لم يبد عليه التأثر أو الإهتمام, فقد عاد للانشغال بما يفعله وهو يخاطب القادم الجديد ببرود هادئ: "للأسف ليس إعجابك بشخصي ضمن قائمة أولوياتي يا (جوناثان).".

هز المذكور كتفيه وابتسامته الوقحة لا تفارق ثغره بينما تحرك ليقترب منهما ببطء ويميل نحوهما متكئاً بيديه على سطح المنضدة المعدنية التي تفصله عنهما. لم يكن (جوناثان) يعرف أياً منهما معرفة شخصية, ولكن كون (آرثر) هو تلميذ جميع المعلمين المفضل كان حرياً بجعله مستهدفاً من قبل أولئك الذين لا يبلون حسناً في حياتهم الدراسية, بالإضافة إلى أن (جوناثان) –الذي كان في صف (آرثر) – مشهور في أرجاء المدرسة بكونه متنمراً عتيداً لم تتمكن حتى الإدارة من السيطرة عليه رغم تكرار سوابقه وفصله التأديبي المستمر. تساءل (آرثر) في سره عن نوع البيئة التي يمكن أن تنتج شخصاً كهذا.

حملت يد (جوناثان) إحدى القوراير الزجاجية التي ملأت سطح المنضدة وتظاهر بتأملها وهو يقول: "يالك من طالب نموذجي مزيف. أراهن بأن المديح المستمر الذي تحصل عليه يعود لكون والدك رئيس الشرطة في المدينة, ألا تعتقد ذلك؟".

لم يكن (آرثر) هو الشخص الذي رد عليه, بل تكفل (لورانس) بذلك مزمجراً في وجه (جوناثان) وهو يقول: "أتتخيل بأن جميع الطلبة فاشلون بطبيعتهم مثلك يا (جوني)؟ ليس (آرثر) كذلك بكل تأكيد, فهو على الأقل سيملك مستقبلاً مشرفاً بخلافك, إن شاكلتك ينتهون دائماً بكونهم حثالة المجتمع!".

رفع (جوناثان) عينيه بحدةٍ لتلتقيا بعيني (لورانس) الزرقاوين وقد تأججت نيران الغضب فيهما وكأنه لا يصدق بأن طالباً في الصف الأول يقوم بالرد عليه بهذه الجراءة: "لستُ أتذكر مخاطبتك أيها الجرو, فلتصمت وتدع الكبار يتحدثون إن كنت تعلم ما هو خيرٌ لك!".

"توقف يا (لورانس), إنه لا يستحق حتى إهتما-...", لم يصغ المذكور لكلمات صديقه المهدئة بل استمر مندفعاً: "اجعلني أصمت إن كنتَ تستطيع ذلك, لربما كنت معروفاً بهمجيتك بين الطلاب ولكنني أكثر من مستعد لتحطيم وجهك. أنا لستُ (آرثر) ولن أتردد في زرع قبضتي في فمك القذر هذا!", كانت نبرة (لورانس) الحادة تتعالى مع كل كلمة ينطقها وقد فارت الدماء في عروقه غضباً لإهانة شخص دنيء كهذا لـ (آرثر) أمامه. وكذلك كان غضب مواجهه (جوناثان) الذي تحرك بسرعةٍ ليلتف حول المنضدة ويشتبك مع (لورانس). وقبل أن يتمكن (آرثر) الذي أخذته المباغتة من التدخل كان كلاهما يتبادلان الضربات الحانقة أمام ناظريه.

لم يكن قتالاً عادلاً بأي مقياس من المقاييس, فقد كان (لورانس) أصغر عمراً وحجماً من مهاجمه, لذا وجد نفسه تحت الفتى الأضخم جسداً في غضون لحظات قبل أن تنهال عليه اللكمات والشتائم. ولكن لحسن الحظ فقد ظهر (آرثر) بسرعة خلف (جوناثان) ليسحبه ويلقيه أرضاً قائماً بتحرير صديقه الذي تلوى متألماً على الأرض.

صرخ (آرثر) اللاهث في وجه (جوناثان) الذي بدأ يستعيد توازنه بصرامة خالجها الإضطراب فهو لم يكن معتاداً على خوض النزاعات بالأيدي هكذا: "هل جننت أيها المختل؟! ألا تعلم أنك بصدد الحصول على فصل نهائي إن تسببتَ بجروح خطرة لأحد الطلبة؟!".

زمجر الفتى الذي وجه (آرثر) كلماته له وبات واضحاً بأنه لا يأبه لأي شيءٍ مما قيل له, فهو لم يبد أي علامةٍ تدل على نيته للتراجع أو التوقف, لقد طغى غضبه الأعمى وكبرياء المراهقة بداخله على كل شيء آخر.

"اخرس واحتفظ بمثاليتك الزائفة هذه لنفسك! أتظن بأنني سأتركك وصديقك الصغير هذا تنجوان بفعلتكما؟!".

"نحن لم نفعل شيئاً سوى الدفاع عن أنفسنا ضد جلف بربري مثلك!", كانت رباطة جأش (آرثر) تتسرب سريعاً فقد اتخذت الأحداث منحنىً لا يترك مجالاً للهدوء والتفاهم, ونظرة (جوناثان) الشرسة لا تبشر بالخير قطعاً.

-----------------------------------

الثالث من مارس, الساعة الرابعة عصراً.

كانت الحديقة الغناء التي تحف أطراف المبنى الأبيض الشامخ تسر الأنظار بأشجارها وزهورها التي تم تنسيقها بشكل فني أنيق لولا أن تخلل المنظر البديع صوت نحيب سيارة الإسعاف المتوقفة أمام الباب الرئيسي للمستشفى الوحيد في المدينة.

أطل الفتى المراهق الذي أسند جبهته على زجاج نافذة الغرفة الواقعة في الطابق الأرضي نحو المنظر متابعاً تحركات الممرضات اللواتي سارعن بإنزال الحمالة التي احتوت الشخص الذي احتل سيارة الإسعاف وقد بدا من أطرافه المتراخية بأنه فاقد للوعي, لم يكن المنظر واضحاً جداً من حيث يقف هو, لكن الدماء التي صبغت ملابس وجسد الشاب ببقع كبيرة كانت ظاهرةً بما فيه الكفاية. ضحية حادث سير على الأرجح...

من المضحك المبكي أن مشاهدة منظر كهذا جعله يحس ببعض العزاء تجاه ما حدث, هناك دائماً شخصٌ أسوأ حالاً وحظاً, ومعرفة ذلك تجعلنا نشعر بالرضا عن مصائبنا الأصغر حجماً, حتى وإن كان ذلك الرضا مؤقتاً.

التنهيدة التعسة التي فرت من بين شفتيه كانت العامل الذي كسر حاجز الصمت المتغلغل في الغرفة الصغيرة, بالرغم من نظافتها واصطباغ أغلب أجزائها باللون الأبيض النقي إلا أن التواجد هنا كان خانقاً.

"..... ليس الخطأ خطأك يا (آرثر), عليك أن تعلم ذلك جيداً.", هذه النبرة الخفيضة المسطحة لم تكن معتادةً أبداً من قِـبل (لورانس), وقد كان (آرثر) يعلم أنها ليست ناتجة عن الإرهاق وإن بدا التعب جلياً على ملامح صديقه, وعلمه بذلك كان يعتصر قلبه بقبضة الذنب أكثر وأكثر.

"لقد ظللتُ أفكر في الأمر ملياً, ولستُ أرى كيف أن الذنب ليس ذنبي...", لم يكن (آرثر) قادراً أو حتى راغباً في النظر إلى وجه (لورانس) وهو يحدثه.

"أأنت من طلب من (جوناثان) بأن يقوم بإلقاء زجاجة الحمض تلك نحوك؟".

"....لا, ولكنني أيضاً لم أطلب منك بأن تقوم بدفعي بعيداً عن طريقها, ولكنك فعلتَ ذلك على أي حال... لم كان عليك أن تفعل ذلك؟...", محاولاتٌ فاشلةٌ لإخفاء تهدج صوته لم تسفر عن شيءٍ سوى جعل (لورانس) ينفعل أكثر.

"لست أفكر حتى بالإجابة عن سؤال سخيف كهذا, أنت تعلم بأنني لم أكن لأظل متفرجاً وأنا أرى حدوث ذلك. إن لومك لنفسك هو أكبر إهانة تقترفها تجاه نفسك وتجاهي! إن لم أكن أنا المصاب فستكون أنت, أعتقد أنه من الأنانية قول ذلك, ولكنني لا أريد لنفسي أن أقف متفرجاً عليك وأنت تخسر مستقبلك الذي طالما تمنيته بسبب وغد وضيع.".

"وماذا عن مستقبلك أنت؟!".

"لا تفتأ تتحدث وكأنني أصبحتُ عاجزاً, إنها مجرد عين واحدة يا (آرثر).", تحسس (لورانس) الضماد الذي غلف عينه اليمنى بأطراف أصابعه قبل أن يستطرد, "لست أنوي الكذب عليك...هذا مؤلم لدرجة كبيرة, ولكنها ليست نهاية العالم. بالإضافة إلى أن رؤية (جوني) يُفصل نهائياً من المدرسة لهو أمر يسرني, لطالما كان القذر يستحق ذلك.".

كانت والدة (آرثر) ترافق والدة (لورانس) لإنهاء إجراءات إخراج إبنها من المستشفى بعد عملهم لكل ما يستطيعونه حالياً. لم يكن الحمض الذي تلقاه (لورانس) في عينه وجانب صدغه قوياً, فهو لم يتسبب سوى بحروقٍ بسيطة تركت لوناً محمراً واضحاً لن يلبث أن يزول تدريجياً حسب كلام الأطباء. ولكن العين عضو أكثر حساسيةً بكثير من الجلد, لذا فقد كان الضرر الذي لحق بها مستحيل الإصلاح, وعلى ذلك فقد حُكم على (لورانس) بالعيش بقية عمره بعين واحدة فقط.

كيف يمكن لطيش لحظات أن يقلب حياة الإنسان هكذا؟ رغم علمه بأن (جوناثان) سيحصل على ما يستحقه جزائياً, إلا أن هذا لم يكن كافياً ليشفي غليل قلبه.

وقبل أن يستدير (آرثر) ليواجه صديقه الذي فعل ما فعل لأجله, اقسم بأنه لن يسمح لنفسه بجعل (لورانس) يعاني أمامه مرةً أخرى.

-----------------------------------

التاسع من أكتوبر, الساعة الثانية عشرة ظهراً.

جلس الطفل أشقر الشعر ذو السنوات الثمانية مسنداً ظهره للشجرة الباسقة التي إحتلت ركن الحديقة, كان منهمكاً بالكتابة في الدفتر الذي استقر في حِجره لدرجة أنه لم يلق بالاً للطفل الأصغر عمراً الذي يسدد كرته نحو الجانب الآخر من الشجرة مرةً تلو الأخرى, وكأنه ينتظر ردة فعلِ ما من صديقه. وعندما لم يحصل على مبتغاه, حمل الطفل أسود الشعر الكرة وتقدم نحو الآخر زافراً بضجر: "متى ستنتهي من الكتابة يا (آرثر)؟ بإمكانك عمل فروضك في المنزل, أليس كذلك؟ ليس من الممتع لي اللعب وحدي هكذا.".

"أعطني بضع دقائق يا (لورانس), أكاد أنتهي.", أجابه (آرثر) الصغير بهدوء دون أن يرفع عينه عما يفعله.

"ما هذا أصلاً؟ أنت تكتبُ منذ فترةٍ طويلة, أهو فرض الحساب؟", تساءل (لورانس) بفضول.

"إنه تعبير حر, لقد طلبت منا المعلمة الكتابة عما نريد أن نكونه عندما نكبر.".

إتسعت عينا (لورانس) لتنافس زرقتهما الصافية لون البحر وهو يقول بدهشة: " هل تفكر فيما تريد أن تكونه عندما تكبر منذ الآن؟ أراهن بأنك تريد أن تصبح شرطياً مثل والدك!", نطق الطفل الكلمات الأخيرة بحماسٍ طفولي وهو يبتسم بثقة.

"هذا صحيح, إنه حلمي فعمل والدي مهم جداً, وأريد أن أصبح مثله يوماً ما!", أخيراً رفع الطفل الآخر رأسه لينظر إلى صديقه وهو يبادله الإبتسامة, فلطالما كان هو منبهراً بوالده الذي يشغل مركزاً مرموقاً في شرطة المدينة الصغيرة التي يعيشون فيها.

"وماذا عنك أنت يا (لورانس)؟ مالذي تريد أن تكونه؟".

"أنا...؟", رمش المذكور بتساؤل فهو لم يفكر في أمور كهذه من قبل أبداً, ولكن رؤية حماس صديقه جعله يفكر في الأمر ملياً محاولاً إيجاد الإجابة قبل أن يقول ببراءة: "بما أنه لا والد لي, فأعتقد بأنني أريد أن أصبح أباً!".

إنفجر (آرثر) ضاحكاً ملء فمه من هذه الإجابة الساذجة بينما شيعته نظرات (لورانس) المتسائلة, فسارع (آرثر) بالتوضيح بعد أن تمكن من السيطرة على ضحكاته: "هذه ليست وظيفةً أيها السخيف! عليك التفكير بشيء آخر. هل هناك أمرٌ ما تود تحقيقه؟".

لم يفهم (لورانس) لم كان حلمه الأول يبدو سخيفاً بالنسبة لـ (آرثر), ولكن الأخير يكبره عمراً فلابد من أنه يعلم العديد من الأمور المعقدة التي لا يستوعبها (لورانس) ولا يلقي لها بالاً. لم يكن فرق العمر بينهما يتجاوز السنتين والنصف ولكن لطالما كان (آرثر) يشبه الكبار في عيني (لورانس), إن ذلك أحد أسباب إنبهاره به وقربه منه.

"شيءٌ آخر...؟ حسناً...هممم...", رفع الطفل رأسه لينسدل شعره الأسود الناعم خلفه بينما قابلت عيناه الواسعتان السماء الخريفية, "أريد أن أطير!".

"إذن...تريد أن تصبح طياراً؟", لم يرغب (آرثر) بأن يشرح لـ (لورانس) بأن لا طريقة آخرى هناك لجعله "يطير".

ولكن لم يكن هناك داعٍ للشرح فقد إلتفت الطفل إليه بنظرة ملأتها الآمال والأحلام: " نعم! ألن يكون ذلك رائعاً؟ ستكون أنت ضابطاً وسأكون أنا طياراً!".

أغلق (آرثر) دفتره عقب إنتهائه من فرضه واستوى واقفاً قبل أن ينفض ملابسه ومن ثم التفت الى صديقه المتحمس قائلاً بشيء من العبث: "إذا سيكون عليك أن تبدأ بالتوقف عن نسيان فروضك والتعرض للعقاب من قبل المعلمة, وسنتحدث عن الطيران بعدها.".

-----------------------------------
التاسع من أكتوبر, الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً.

"(ساي), توقف عن إلتهام غدائك دون مضغه جيداً, هذا ليس صحياً!".

هتفت السيدة جميلة الملامح بطفلها بنبرةٍ حملت توبيخاً هادئاً, فهي لم تكن يوماً من الأمهات اللاتي يستعملن الصوت العالي لإيصال ما يردن لأبنائهن. ولكن المُخاطب توقف عن الأكل قبل أن يدفع بكرسيه الذي كان يجلس عليه إلى الخلف ويركض نحو مغسلة المطبخ بمرح: "ولكنني انتهيت أصلاً!", كان يحدث والدته وهو يقوم بغسل وتجفيف يديه وفمه باستعجالٍ قبل أن ينطلق نحو باب منزلهم الفخم ويفتحه وهو يهتف: "سأذهب الآن, لن أتأخر عن موعد العشاء فلا تقلقي.", ولكن قبل أن تخطو قدمه خارج المنزل, إقترب منه أخوه الصغير وهو يتهادي يميناً ويساراً محاولاً الحفاظ على توازنه وهو يمد يده الصغيرة مطلقاً سيلاً من الكلمات المتداخلة وكأنه يطلب من أخيه أن يأخذه معه, وعلى الفور تبدلت تصرفات الصبي وهو يتقمص دور الأخ الأكبر ويستدير مائلاً إلى الأمام ومسنداً يديه على ركبتيه بينما هو يخاطب أخاه الصغير مبتسماً: " لا أستطيع أخذك معي يا (إيدن), ولكنني سأعود قريباً ومعي هديةٌ لك.".

لم يفهم الطفل الصغير شيئاً مما قيل له, ولكن إبتسامة أخيه انتقلت اليه بينما حملته والدته بحنان لتقبل رأسه الذي اكتسى بشعر ناعم بني كأخيه وهي تحتضنه قريباً منها. إن إبنها الأكبر (ساي) كان طفلها الوحيد لمدة تسع سنوات, لذا فإن قدوم (إيدن) كان بمثابة هدية من السماء لعائلتهم الصغيرة المكونة من ثلاث أفراد, فحتى إن كان لم يتذمر يوماً, إلا أنها كانت تدرك مدى وحدة طفلها دون أخ أو أخت يقضي معهم وقته, بالإضافة إلى أنه كان من النوع الخجول الذي يصعب عليه تكوين صداقاتٍ مع الأطفال في مثل سنه. كان يقضي وقته في القراءة أو التجول وحيداً في أرجاء المدينة حتى يصل إلى شاطئ البحر الذي يحد أطرافها, ولكنه وبالرغم من إنطوائته لم يبد تعيساً أبداً, وكأنه لا يرى أي مشكلة في إنعزاله الدائم هذا.

"حسناً, علي الذهاب الآن حقاً.", التفت نحو الباب مرةً أخرى ليندفع خارجاً ويعبر حديقة منزلهم بخطواتٍ سريعة قبل أن يصل إلى الشارع الواسع الذي امتد وسط الحي السكني الراقي والذي تجرد من المارة في هذا الوقت.

لم يكن المكان الذي يقصده ببعيد, فقد كان السير إليه يستغرق خمسة عشرة دقيقة تقريباً, لذا فقد تباطأت خطواته الراكضة رويداً وأخذ يجول ببصره بين الأشجار المتلونة التي حفت جانبي الطريق وأصوات سكانها من العصافير تتناهى إلى مسامعه. يومٌ آخر جميل.

بعد فترة من الزمن, والعديد من التغييرات في مسار الطريق, وصل أخيراً إلى الحي الذي يريده, واتجه مباشرةً صوب المبنى الصغير الذي احتل ركن الشارع وقد استقرت على بابه لوحة خشبية نقش عليها بحروف كبيرة إسم المكتبة الواقعة تحتها, والتي كان يتردد عليها بإستمرار في الأسابيع القليلة الماضية.

تعالى صوت جرسٍ رنان عندما دفع (ساي) الباب ليخطو إلى الداخل بأريحية وكأنه بيته الثاني, وفور أن رأى مالك المكتبة الوقور وجه زائره الصغير, بادره محيياً بلطف: " مرحباً بك يا (ساي), لقد أتيت في موعدك كالعادة.".

بادله الصبي التحية قائلاً وهو يحني رأسه: " مرحباً يا سيدي, هل (روهان) موجود هنا؟", لم يكن هناك داعٍ لهذا السؤال فـ (روهان) يعمل هنا, ولكن جولة سريعة بعيني (ساي) لم تظهره في المكان, مما دفعه لذلك.

"إنه في المخزن العلوي يقوم بتفريغ بعض صناديق الكتب التي وصلت هذا الصباح.".

لمعت عينا (ساي) وهو يبادره بالسؤال: " هل من شيء عن الحيوانات ضمنها؟".

أطلق الرجل كبير السن ضحكة صغيرةً قبل أن يجيبه: " أعتقد بأن هناك مجموعة من الكتب التي ستعجبك, لم لا تذهب للأعلى وتلقي نظرة؟".

لم يكذب الفتى المندفع خبراً فقد إنطلق قبل أن ينهي الرجل جملته حتى, لمح في طريقه عدداً من الكتب المصورة الخاصة بالأطفال صغار السن, فأخبر نفسه بأن يتذكر إستعارة أحدها لـ (إيدن) عند خروجه.

كانت عدة خطوات كفيلة بنقله للأعلى عبر السلم القصير الذي استقر في زاوية المكان, وأطل برأسه ليلمح فوراً الشاب ذو الشعر الأحمر والعينين العسليتين وهو ينحني ليضع صندوقاً بدا عليه الثقل على إحدى الطاولات.

" (روهان), مرحباً!".

رفع الشاب رأسه لينظر إلى الصبي قبل أن ترتسم على محياه ابتسامة دافئة: " ربما كان من الأفضل أن تقوم بالمبيت في المكتبة عوضاً عن القدوم إليها كل يوم في نفس الوقت. أهلاً (ساي).".

أطلق المذكور ضحكة مرحة وهو يقول: " لستُ أمانعً ذلك إطلاقاً ولكن والدي لا يسمحان لي بالبقاء خارج المنزل بعد حلول المساء.".

استقام الشاب وهو ينفض يديه بعد أن أنهى نقل الصناديق وتقدم نحو (ساي) ليربت على رأسه: "يالك من فتى مطيع.".

انتفخت أوداج الصبي الصغير فخراً بهذا المديح الذي تلقاه من شخصٍ يحبه جداً. لطالما كان (روهان) شاباً لطيفاً ومرحاً, كما أنه يعلم نوع الكتب التي يفضلها (ساي), ويقوم دائماً بتوفيرها له وحتى قراءتها معه أحياناً. لابد من هذا هو ما يشعر به من يمتلكون أخاً أكبر, ولكن (ساي) ليس لديه واحد, لذا فهو يرى بأن (روهان) هو أقرب شيء سيحصل عليه لأخ أكبر.

"حسناً, ربما لم يكن مسموحاً لك البقاء خارجاً لوقت طويل, ولكن لديك الوقت الكافي للذهاب معي إلى الشاطئ, صحيح؟ لدي شيءٌ لك هناك.", كان (روهان) يتحدث مع (ساي) معطياً إياه ظهره وهو يفرغ محتويات الصناديق من الكتب ويقوم بترتيبها بإحتراف.

"شيءٌ لي..؟", كرر (ساي) الكلمات بتساؤل قبل أن يستطرد وقد بدأ حماسه وفضوله يزدادان, "ما هو؟".

إلتفت (روهان) بوجهه نحو (ساي) الذي اتسعت عيناه بترقب ليجيبه وهو يبتسم إبتسامةً واسعة: "إنها مفاجأة".

-----------------------------------

التاسع من أكتوبر, الساعة السابعة مساءاً.

"يا إلهي, لم أشعر بمرور الوقت إطلاقاً, ستوبخني والدتي لعودتي متأخراً.".

"لا تقلق, لقد غربت الشمس منذ قليل فقط.".

مشى الطفلان بجانب بعضهما وقد بدأت عباءة الليل تهبط ببطء لتغلف الكون, كان (لورانس) يتسلى بركل الكرة بين الفينة والأخرى بينما سار (آرثر) متقدماً إياه ليقف على عتبة الباب الخلفي الذي تتركه أمه مفتوحاً لهما. لم يكن من غير المعتاد قدوم (لورانس) مع (آرثر) إلى منزل الأخير فوالدتاهما صديقتان حميمتان, وهو ما نتج عنه صداقة إبنيهما أيضاً.

دفع (آرثر) الباب الخشبي الصغير بحذر خشية أن تستقبله والدته بمحاضرة صارمة أخرى عن التأخر في القدوم إلى المنزل, ولكن ما استقبله كان صوت التلفاز العالي الذي تردد في أرجاء غرفة المعيشة بينما كانت والدته تقف على مقربة من الجهاز واضعةً كفها على فمها وقد بدت على وجهها ملامح الأسى, كانت مندمجة مع ما يتم عرضه لدرجة أنها لم تنتبه لقدومهما إلى أن قام (آرثر) بمناداتها بصوتٍ عال طغى على صوت المذيع للحظة.

"أوه, (آرثر), (لورانس), مرحباً بعودتكما. تفضلوا يا أعزائي, سيكون العشاء جاهزاً خلال دقائق.", بالرغم من قولها ذلك إلا أنها ألتفتت لتكمل ما كانت تشاهده بينما تنفس (آرثر) الصعداء فيبدو أنه نجا مما كان يخشاه. مهما كان الشيء الذي يشغلها فهو شاكر له.

تقدم الطفلان نحو المطبخ بينما تبعهما صوت المذيع الرتيب.

"...لم يعد منذ خروجه من منزله ظهر هذا اليوم, وتحتفظ الشرطة بإسم الطفل الذي يبلغ من العمر أحد عشر عاماً, والذي ترون صورته هنا. كما أن عائلة الطفل تناشد أي شخص يراه بالتواصل معهم فوراً.".

لم يعبأ الطفلان بما يعرض أو يلقيا بالاً له, وبينما كان (آرثر) يصب لنفسه كأساً من الماء حدث والدته من داخل المطبخ الذي جاور غرفة المعيشة رافعاً صوته لتتمكن من سماعه: "أين والدي؟ ألم يعد من العمل بعد؟".

دلفت السيدة مطبخها حينها وهي تجيبه: "مع ما يجري الآن, لا أتوقع بأنه سيتمكن من الإنضمام لنا على العشاء. يا إلهي, مالذي يجري في هذه الدنيا؟ يالطفل المسكين.".

مط (آرثر) شفتيه ولم يكلف نفسه عناء الإستفسار عما تقصده رغم أن الأسى لم يفارق وجهها المليح, فقد كان أكثر إنزعاجاً من كونه لن يرى والده الليلة. ولكن هكذا هو عمل الشرطة, عليه أن يكون معتاداً على ذلك الآن.

-----------------------------------

صوت الأمواج التي ترمي بنفسها على أحضان الشاطئ الصخري مصدرةً سيمفونيةً رتيبة مُزِج برائحة الهواء الرطب الذي تشبع من ملوحة البحر وعبقه المميز ليُشكل خلفيةً رائقة لمنظر المحيط المتلألي تحت ضوء القمر الفضي, هي ليلةٌ جميلةٌ بحق.

(( "...لماذا؟..." ))
الحركة مؤلمة, أصابعه الصغيرة كانت ترتجف ببطء, يكاد الجفاف أن يفتك بحلقه لذا فقد فضل البقاء صامتاً رغم أن كل ما يريد فعله الآن هو البكاء بأعلى صوته.

(( "...لماذا فعلتَ هذا بي؟..." ))

قهقهةٌ عاليةٌ أتت من الغرفة المقابلة شقت بوقاحةٍ هدوء الليل بينما كان ذلك الشاب يقول لزميله شيئاً لا يدري هو عن كنهه.

(( "...أريد العودة..." ))

بقي جسده الضئيل متمدداً بلا حراك في ركن الغرفة التي صبغها الصدأ بلونٍ بنيٍ كئيب, كم هو بغيضٌ هذا المنظر. لقد اشتاق لغرفته النظيفة, لرائحة الكعك والزهور القادمة من المطبخ, لأصوات الطيور التي كانت تطربه كلما فتحَ النافذة صباحاً. ولكن هاهو الآن في هذا المكان العطن ذي اللون البني الكريه, وقد أصبح لا يدري إن كان سيعود لحياته السابقة مجدداً.

أغمض الطفل عينيه بقوة محاولاً سد الطريق أمام تيار الدموع الذي كاد يطفح من مقلتيه بينما ألقم نفسه طرف إبهامه ليعض عليه, لقد بكت عيناه بما فيه الكفاية, لدرجة أن الألم الحارق في عينيه بدأ ينافس أوجاع قلبه الصغير.

لم يلبث إلا قليلاً حتى انفتح باب الغرفة التي احتجزته وأطل عليه وجه شابٍ بدا عليه الخبث سرعان ما قال بسخرية: "إن ضيفنا الصغير مطيعٌ فعلاً.", تبسم القائل لـ (ساي) بوقاحةٍ وكأنما قرر بأن لا يرى معاناته.

أتى صوت مألوف من الغرفة المجاورة وهو يقول: " سيحين الوقت قريباً, استعد للتوجه إلى حيث اتفقنا. اتبع ما قُلته لك بحذافيره لكي لا يفسد كل شيء.".
إلتفت الشاب لزميله وهو يقول: " ربما علينا تقييده على الأقل, قد يحاول هذا القذر الصغير الهرب.".

رد عليه الصوت بهدوء: "إنه مجرد طفل, مالذي سيمكنه فعله؟ عض يدك؟", كان التهكم جلياً في كلماته, وهو ما جعلها مؤلمةً أكثر وأكثر.

"لعلمك فإن عضته موجعة, مازلتُ غير قادر على تحريك يدي بشكل طبيعي!", هتف به بحنق وهو يلوح بيده اليمنى غاضباً قبل أن يلتفت نحو (ساي) ويعطيه نظرةً نارية جعلت الصبي ينكمش في مكانه أكثر.

"لقد كان ذلك بسبب إهمالك, ولكن هذا لا يهم الآن.".

كيف كان للأمور أن تصبح هكذا؟ لماذا؟

"ولم الإنتظار كل هذه المدة يا (روهان)؟ نحن هنا منذ ساعات, كان بإمكاننا إنهاء كل شيء منذ دهر!".

"كالعادة أنت لا ترى أبعد من أنفك, عزيزي (داني). إن الإنتظار يجعلهم أكثر ذعراً وبالتالي أكثر قابليةً للتفاوض. ولكنني لا أتوقع منك أن تفهم هذه التفاصيل, لذا دع التخطيط لي وانطلق لتنفيذ ما يخصك من الخطة, إتفقنا؟", النبرة الهادئة الحازمة بعثت بقشعريرة باردةٍ في جسد (ساي), كيف يمكن أن يكون هذا هو (روهان) اللطيف الذي يعرفه؟

زمجر المدعو (داني) بشيء ما قبل أن ينقلب على عقبيه متجهاً نحو الباب الحديدي الصدئ الذي يفصل المكان عن العالم الخارجي متجاهلاً حتى إغلاق باب الغرفة التي كان فيها (ساي). كان صدى خطواته يتردد بوضوح على الأرضية حتى امتزج ذلك بصوت صرير معدني لباب يفتح ببطء ويغلق بعد دقائق تاركاً الطفل والشاب وحدهما.

ساد الصمت بعدها, صمتٌ لم يقاطعه سوى صوت الحشرات الليلية التي تخرج من أوكارها بعد غروب الشمس. إنه لا يعلم حتى أي ساعة هي الآن, وجعله ذلك يتساءل عما تفعله والدته الآن, لابد من أنها ووالده قلقان جداً.

بعد برهةٍ قصيرة لم يتغير فيها الوضع الساكن, رفع الصبي نفسه عن الأرض ببطءٍ مستنداً على كفيه وهو يشعر بشيء من بقايا الدوار الذي احتل رأسه سابقاً. خطواته المتمهلة الحذرة أخذته نحو الغرفة المجاورة التي احتلها (روهان). كانت الإضاءة الرديئة تزيد من كأبة المكان, ولكن رؤية وجه (روهان) الخالي من أي تعبيرات وقد انشغل بتقشير تفاحةٍ صغيرة بسكين جيب دون أن ينظر بإتجاهه رغم سماعه لخطوات الصبي هو ما جعل قلب (ساي) يغوص في جوفه.

لماذا؟ لماذا؟

"هل أخبرتك سابقاً عن شقيقاتي اللاتي يصغرنني عمراً؟ إن بعضهن بنفس سنك تقريباً. أنا الأخ الأكبر في العائلة, وهي ليست بالعائلة الصغيرة.", بدأ (روهان) بالحديث بهدوئه المعتاد وقد أنهى تقشير التفاحة, وحالما فعل ذلك قام باستقطاع جزء منها و رفعه إلى فمه أمام عيني (ساي) الذي وقف كالتمثال وهو لا يدري مالذي يفترض به قوله أو فعله.

"أنت محظوظ لأنك ولدت لعائلة ميسورة الحال, ولكن لا يمكن لكل البشر أن يكونو محظوظين, ولذلك فعلى البعض أن يفعلوا ما يجب عليهم فعله من أجل عائلاتهم, حتى وإن كان ذلك يعني تلطيخ أيديهم بقذارة الجريمة.".

مالذي يقوله (روهان)؟ هل يعني هذه الكلمات فعلاً؟ أي نوع من التبريرات هذا؟ إن (ساي) لا يعلم حتى مالذي يشعر به الآن, أهي الكراهية؟ أم الإحباط؟ أم الصدمة؟ بدا وكأن الخواء الذي عم قلبه وعقله هو ما مكن لسانه أخيراً من نطق الجمل التي كان يفكر فيها.

"كيف لك أن تفعل شيئاً كهذا؟! لقد وثقتُ بك..! أنت تقول أنك تفعل هذا من أجل عائلتك, ولكن كيف لهم أن يسامحوك على اقترافك لفعل كهذا بسببهم؟!", إلتفت (روهان) ببطء لينظر إليه بعينين غلفهما البرود دون أن ينبس ببنت شفة بينما تحرك جسده ببطء ليفارق المقعد الذي جلس عليه ويسير بخطوات متمهلة نحو (ساي) بعد أن قام بوضع التفاحة والسكين على طبق صغير استقر فوق الطاولة الخشبية العتيقة.

كانت المرارة التي تطفح من قلبه تتدفق عبر حنجرته بلا تفكير, ولم يتمكن من إيقاف كلماته رغم علمه في قرارة نفسه بأن ذلك ليس من مصلحته. (روهان) يقترب منه رويداً, ولكنه لا يهتم الآن.

"لم أتوقع يوماً بأن تكون دنيئاً لهذه الدرجة, ألم تجد سوى هذه الطريقة؟! لست أشك بأن أخواتك سيشعرن بالعار عند علمهن بأن شقيقهن الأكبر مجرد وغد جبان!!".

كانت الصفعة المفاجئة التي تلقاها كفيلة بإقتلاعه من مكانه وإلقائه على الأرضية التي كساها الغبار قبل أن يتمكن من إصدار أي صوت حتى.

الألم الحارق الذي تفجر في خده وجانب رأسه جعله يستعيد الدوار الذي لم يفارقه كلياً منذ وصوله إلى هذا المكان, ولكنه جاهد ليرفع رأسه فقط ليكشتف بأن (روهان) كان واقفاً أمامه تماماً وقد تبدلت نظراته الهادئة المعتادة كلياً ليحل محلها وجه التَوَت ملامحه بغضب مكبوت.

قبل أن يتمكن (ساي) المذعور من فعل أي شيء, وجد نفسه يرفع من على الأرض رفعاً بيد (روهان) القوية التي قبضت على ياقة قميصه لتدفعه خلفاً وتثبت جسده على الطاولة الخشبية بينما اقترب وجه الشاب منه لدرجةٍ جعلته يشعر بأنفاس (ساي) اللاهثة وهو ينظر مباشرةً نحو عيني الصبي اللتين اتسعتا بجزعٍ واضح.

"أنت صبي طيب طالماً أبقيت فمك مغلقاً, لستُ بحاجةٍ لأمثالك لكي يخبروني بمواعظ أخلاقية فأنت لم تعش يوماً بعيداً عن كنف حياتك الرغيدة!!", هدر (روهان) بذلك وقبضته تضيق حول ياقة (ساي) أكثر وهو يستطرد بصوت خفيض كالفحيح حمل الكثير والكثير من الحقد, "فلتعلم بأنني قادر على إسكاتك فوراً وللأبد, لستُ سأخسر شيئاً فما كنت سأحصل عليه بسببك أستطيع الحصول عليه عن طريق أخيك. أنت أخبرتني بنفسك بأن لا أحد سواه ووالدتك بالمنزل فوالدك دائم الإنشغال في عمله الذي يجني منه كل هذه الثروة, لن يكون من الصعب علي أن أضع يدي على طفل في الثانية إن أردتُ ذلك.".

فور سماع (ساي) لكلمات (روهان) المسمومة, توقفت كل مشاعر الألم والخوف بداخله ليحل مكانها شيءٌ مختلف اندفع عبر عروقه كطوفان ساخن جارف جعل جسده يتحرك كما لو أنه مسير من قبل شخص آخر, وفي لمح البصر كانت أصابعه الصغيرة تقبض على السكين التي رقدت بالقرب منه على الطاولة, وبدون تفكير شق طريقها لتستقر في أقرب ما يمكنه الوصول إليه من جسد الشاب الذي جثم فوقه.

"....مالذي قُلتَ بأنك ستفعله لـ (إيدن)؟".

أهذا الصوت البارد كحد سيف صوته هو فعلاً؟

تفجر اللون الأحمر أمام ناظريه ليغمره وما يحيط به بينما اتسعت عينا (روهان) العسليتان وقد جمعت الألم والمفاجأة وعدم التصديق, وربما كانت السكين المغروسة في جانب عنقه هي سبب عدم تمكنه من إخراج أي صوت ما عدا حشرجة ثقيلة توقفت بعد ثوانٍ عندما تراخى جسده ليستقر بكل ثقله فوق جسد (ساي) الصغير الذي تجمدت قبضته على مقبض السكين.

وفي تلك اللحظة, توقف الزمن بالنسبة لـ (ساي), ومعه تباطأت أنفاسه وتوقف عقله عن العمل وكأنما هو غير قادر على استيعاب ما حدث للتو. كان كل ما يشعر به هو الضياع التام, وكأنما هو جزء من حلم مريع لا يريد أن ينتهي.

ولكن ما حوله أبى إلا أن يذكره بأنه يعيش واقعاً لا دخل له بالأحلام. دقات قلبه العنيفة, الدماء الدافئة التي مازالت تتدفق بغزارة لتصبغه بلونها, الجسد الهامد الذي استقر فوقه.

كان الموت المحلق حوله هو آخر ما يربط (ساي) بحياته السابقة, قبل أن يفقد شيئاً بداخله للأبد.

-----------------------------------

العاشر من أكتوبر, الساعة الخامسة فجراً.

الطرقات المتتابعة على الباب المصنوع من الخشب الفاخر أجبرت السيدة التي أنهكها البكاء منذ ساعات مديدة على التحامل على نفسها والإتجاه بتثاقل نحو الباب بعد أن تأكدت من أن إبنها الصغير يرقد بسلام على الأريكة غير عالم بحجم المصيبة التي حلت على هذه العائلة منذ الليلة الفائتة. من عساه يكون الطارق في ساعةٍ كهذه؟ إنه ليس زوجها بالتأكيد فهو قد غادر مع رئيس الشرطة منذ وهلة. قد يكون فرداً من أفراد الشرطة؟

إمتدت يدها النحيلة لتمسك بالمقبض بينما خرج صوتها الجاف متسائلاً عن هوية الطارق.

"....أمي؟".

كانت هذه الكلمة المتهدجة الوحيدة كافية لقلب جميع مشاعرها رأساً على عقب في غضون لحظة واحدة هي كل ما استغرقته لتسحب الباب بسرعةٍ مظهراً خلفه آخر ما كانت تتوقع رؤيته الآن وأكثر ما كانت تريد رؤيته منذ البارحة.

كان إبنها (ساي) الواقف على عتبة الباب صورةً مجسدةً للبؤس والإرهاق, كان شعره متناثراً والماء يقطر من ملابسه مكوناً بركةً صغيرةً تحت قدميه بينما ارتجفت يداه الصغيرتان بشكل واضح. ملابسه التي كانت نظيفة مهندمة تحولت إلى عجينة من الطين والنسيج.

ولكنها لم تعبأ لأي من ذلك وهي تطلق صرخة ملتاعة بإسمه وتندفع لتحتويه بقوةٍ إعتصرت جوانب جسمه وهي تنفجر باكيةً بحرقة من ظنت أنها خسرت إبنها للأبد.

"(ساي)!! يا إلهي...يا طفلي العزيز... مالذي حدث لك يا حبيبي؟...شكراً لله الذي أعادك إلي سالماً...يا إلهي...".

لم يتحرك هو من مكانه ولم ينبس بشيء على الأطلاق, لذا فقد ابعدت نفسها عنه لتلقي نظرة على وجهه وقد تحركت أصابعها المتلهفة لتمسك بخديه الذين تغلغل فيهما البرد والبلل وهي ما زالت تشهق وقد رفضت عيناها أن تتوقف عن ذرف الدموع.

"كيف عدت إلى هنا؟ لقد إتصل أحدهم على والدك وأخبره بأنك...يا طفلي الصغير...مالذي فعلوه بك؟".

رغم كل ما حدث معه في الساعات الماضية, رغم الألم والخواء والمرارة والخوف, إلا أنه في هذه اللحظة شعر بدفء حنانها الفياض يذيب كل ذلك. لم يعد عليه أن يخشى شيئاً فهو بين ذراعيها الآن, وهو المكان الذي كان يتوق إليه بشدة.

لماذا إذن يجد نفسه غير قادرٍ على إخبارها بالحقيقة؟

إنها أمه الرؤوف, هي لن تلومه ولن تخبر أحداً عما فعله, ستحميه بحياتها إن تطلب الأمر ذلك, وهو يعلم هذا يقيناً. ربما كان ذلك هو السبب الذي يمنعه, إن مشاركتها سره سيجعلها أيضاً شريكته في الألم والذنب. أي نوع من النظرات ستنظر إليه بها حينها؟

إبتلع (ساي) ريقه ومعه رغبته في البكاء بالإضافة إلى كل مشاعره المختلطة وكأنها كُرة من الأشواك انحشرت في حلقه.

لم يستطع إخبارها بأنه قضى أكثر من ساعة متسللاً على شاطئ البحر تحت جنح الظلام برَوَعٍ ليقوم بغسل نفسه وملابسه من آثار الدماء وهو يدعو في سره بأن لا يراه أحد, لم يكن الأمر سهلاً فقميصه الأبيض لم يستعد لونه السابق كلياً, مما حدا به لأن يقوم بتلطيخه بالطين عنوةً لإخفاء ما لم يتمكن الماء من إزالته. كان يخشى أن يعود شريك (روهان) قبل أن يتمكن هو من الفرار, ولكن السكين التي انتزعها من عنق الأخير كانت مستقرةً في جيبه, مما أعطاه شعوراً بسيطاً بالأمان. قام بغسلها هي أيضاً قبل أن يطويها ويعيدها إلى حيثُ كانت.

"لقد تمكنتُ من الهرب...تشاجر أحدهما مع الآخر وانتهزتُ أنا الفرصة للفرار...أتيتُ راكضاً من الشاطئ إلى هنا...", كان صوته المنهك يزداد ضعفاً مع كل كلمة ينطقها, إن وزن الكذبة التي يخبرها بها والذنب تجاه ما فعله يكاد يسحق قلبه, "...إنني متعب يا أماه...".

حانت منه نظرةٌ نحو الجسد الصغير الذي نام ببراءة ملائكية على أريكة غرفة المعيشة, وقد كان ذلك كافياً ليجعله يشعر بأن الثمن الذي دفعه مقابل سلامة أخيه كان يستحق ذلك. وعندها فقط سمح (ساي) لنفسه أخيراً بأن يسند رأسه على صدر أمه الدافئ, ولم تكذب هي خبراً فهي لم تكن تهتم بالتفاصيل بقدر إهتمامها بكون إبنها قد عاد إليها سالماً معافى. أعادت ذراعيها حوله لتضمه بقوةٍ وكأنها لا تنوي إفلاته أبداً, وترك هو العنان لجسده ليسترخي في أحضانها طمعاً في الهروب من هذا كله.

-----------------------------------

"... ولذلك أفضل إبقاء هذه السكين معي. إنها تذكرني بأن الجبناء لا يقتاتون سوى على الضعفاء, ولهذا السبب أنا أرفض أن أكون جباناً أو ضعيفاً.".

كان السكون الذي حل بالغرفة بعد جملته ثقيلاً, ولكن (ساي) كان يستطيع بسهولة تخمين نوع التعبيرات الذي يكسو وجه (لورانس) الآن.

لقد أخبر كل واحد منهما الآخر بنسخةٍ مختصرة من قصصهما, محتفظين بالعديد من التفاصيل لنفسيهما. ثمة شعور بالراحة ينتاب المرء بعد أن يفصح عن مكنوناتٍ سكنت بداخله لسنوات دون أن يفصح عنها, لذا لم يكن أي من الشابين يشعر بالضيق الذي تخيلاه. في هذا الوقت العصيب, وفي هذه الغرفة الواسعة التي لم تحمل سواهما, تشاركا شيئاً سيربطهما سوياً للأبد: الثقة.

"....كان بإمكانك أن لا تخبرني الحقيقة, أليس كذلك؟ لا تبدو مستمتعاً بقص هذه القصة علي, ولكنني لستُ ألومك على ذلك.", حتى (لورانس) أدرك بأن ما سمعه للتو ليس مجرد فبركة وليدة اللحظة, فقد كانت نبرة (ساي) وملامحه تنطق بأكثر مما تفعله كلماته. لا مجال للمزاح والمشاكسة بعد ما سمعه, فقد رأى جانباً لم يكن يحلم حتى بتواجده داخل (ساي) الذي طالما بدا وكأنه لا يملك هماً في الدنيا.

"كان بإمكانك أنت أن تفعل ذلك أيضاً, ولكنني أعلم بطريقة ما بأنك أصدقتني القول. كنتُ أستطيع سماع صوت أنفاسك ونبضات قلبك تقفز وأنت تروي علي حكايتك. علي الإعتراف يا (لورانس)...", صمت (ساي) للحظة قبل أن يكمل بلهجةٍ صافية لم تحمل ذرة من التكهم أو التصنع, "...أنت لست بالسوء الذي توقعته أبداً.".

مهما كان (لورانس) يتوقع من (ساي) قوله, إلا أنه لم يكن يترقب مديحاً كهذا أبداً, لذا فقد كان مسروراً لكون الأخير لا يستطيع رؤية إحراجه الواضح.

"لا تبدأ في الإعجاب بي الآن, سيكون الأمر مقززاً.".

ضحك (ساي) بمرح بعد سماعه لهذه الجملة وكأنهما لم يكون يخوضان في ماضييهما السوداوين منذ دقائق: "أنا لستُ بهذه الدرجة من الجنون بعد.".

دون أن يحتاج الشابان المتناقضان لأي كلمات أو وعودٍ منطوقة, كان كل منهما يعلم في قرارة نفسه بأن سره بمأمن مع الآخر.

-----------------------------------



الـــســـاعـــة الــخـــامــــســـة -إنتهى-


لا تستطيع منع الأشياء السيئة من الحدوث, ولكن يعود القرار لك في جعلها تُعلمكَ أو تحطمك.


 
 توقيع : ساي

دخول متقطع .

التعديل الأخير تم بواسطة ساي ; 09-22-2022 الساعة 02:01 PM

رد مع اقتباس
قديم 09-22-2022, 02:27 PM   #2
ساي
عضو جديد


الصورة الرمزية ساي
ساي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1308
 تاريخ التسجيل :  Jul 2020
 المشاركات : 2,292 [ + ]
 التقييم :  3532
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Silver
شكراً: 0
تم شكره 4 مرة في 4 مشاركة

مشاهدة أوسمتي



[SIZE="4"][CENTER]. طابت ليلتكم وأيامكم جميعها.

تحت عتمة الليل, وبينما يسكن الكون من حولي, أتيتكم بآخر ما تبقى في جعبتي من كلمات لأرصفها هنا لكم.

لقد حان الوقت.

لكل شيء أجل, ولكل طريق نقطة وصول. وها نحن ذا, في الجزء الأخير من هذه القُصيصة الصغيرة التي لم أتخيل أنها ستكتمل حتى عندما بدأتُ أضع لبنات حروفها هنا أول مرة.

لن أطيل عليكم, بل سأترك الكلمات لتقودكم إلى النهاية, فأنا أجد نفسي غير قادرة على ذلك.
الفصل الثاني عشر و الأخير
-----------------------------------
لا تمشِ خلفي, أنا لا أريد أن أقودك. لا تمشِ أمامي, قد لا أستطيع اللحاق بك. إمشِ بجانبي فقط وكن صديقي.
-----------------------------------





كان الظلام دامساً, لم تستطع حتى رؤية أصابعها.

كان الصمت مخيماً, لم تتمكن حتى من سماع صوت دقات قلبها.

كان الخواء مطبقاً, لم تتمكن حتى من الشعور بوجودها.

مشاعرها تجاه هذا العدم كانت تتأرجح كبندول تائه بين السلام الداخلي والقلق. كونها وحيدةً هنا يعني بأنه لا أحد سيتمكن من إيذائها, ولكنه مكان مقفر... مقفر جداً.

ولكن لحظة...لم بدأت أطراف هذا السواد تكتسي بلون أحمر فجأة؟ من أتت أصوات العواء الصارخ هذه؟ كيف أصبح جسدها ثقيلاً كطن من الفولاذ هكذا؟

تصاعد الرعب في قلب (أمورا) كمقطوعة موسيقية بلغت ذروتها بينما تسللت قشعريرة الخوف نحو كل جزء من جسدها. لقد إنتهى كل شي, هنا والآن, ستقضي نحبها بكل تأكيد. كل أحلامها, كل آمالها, لن يكون لها أي معنى إن أُزهقت حياتها الآن. أجبرت نفسها على الركض على غير هدى من الخطر الذي يحدق بها. ولكن ماهو هذا "الخطر" بالضبط؟ إنها لا ترى حولها سوى اللاشيء, لماذا إذن هي تشعر بأن ثمة شيءٌ ما يطاردها؟ ما مصدر الفزع الذي يدب في أوصالها؟

أين كانت؟ وإلى أين تتجه؟..... من يعلم؟ كل ما تعيه الآن هو حاجتها للإبتعاد.

" (ستة)...ها قد غربت الشمس, ما عساك ستفعل؟

(خمسة)...ظلال سوداء خرجت زاحفة, هل بدأت توجل؟

(أربعة)...جثث ميتة, من كان هذا الشخص قبل أن يرحل؟

(ثلاثة)...أبواب لا مفاتيح لها, هل من سبيل لتدخل؟

(إثنان)... بلا أعين يحرسان, أرأيت أحدهما وأنت تتجول؟

(واحد)...هو الذي سيبقى, هل هو أنت؟ هل ستقبل؟".


اللحن الخافت الطفولي بدا دخيلاً على ما أحاط بها من أجواء سوداوية, لم تتساءل عن كلماته الغريبة قدر تساؤلها عن المكان الذي أتى منه.

باب خشبي وقف وحيداً في منتصف الفراغ الأسود الذي احتواها, لم يكن هناك من شك بأن الغناء كان ينبعث من خلفه... باب؟ لا جدران هنا ولا غرف, كيف لباب أن يتواجد بهكذا مكان؟ وكيف لم تره من قبل؟ ولكن...هل يهم ذلك حقاً؟ إن أي مكان يؤدي إليه سيكون أفضل بالتأكيد من هذا, حيث لا ينتظرها سوى الذعر من المجهول والذي لن يؤدي إلا إلى جنونها. نعم, هي لا تبالي طالما ستتمكن من الهرب. إنقضت يدها على مقبض الباب الصغير لتفتحه وتدفعه دفعاً منطلقةً ركضاً إلى حيث يكتب لها القدر.

كان إفتراضها بأنها ستجد ملاذاً وراءه خاطئاً جداً.

وكأنما قامت بضغط زر سري ما, إنقطع صوت الغناء فوراً حال وصولها للداخل, وما رأته أجبر قدميها المتسارعتين على التوقف, وبدلاً من تشعر بالإطمئنان لهربها مما كان يلاحقها, إذا بالرهبة تتفجر بداخلها أكثر وأكثر.

الأرضية الرخامية الفاخرة حملت الأبيض والأسود بتناسق فني بديع, ولكن حجم الغرفة – إن صحت تسميتها بذلك – كان كبيراً بشكل مهول. الأعمدة الرخامية الباسقة امتدت للأعلى حتى تلاشت ملامحها في غياهب الظلام. كم يبعد سقف هذه الغرفة عن أرضيتها؟! من الواضح أن لهذا المكان أبعاداً فيزيائية بخلاف ذلك الذي سبقه. كيف؟ هل هي تهلوس؟

تقدمت ببطء نحو الأشكال المبهمة التي تراءت لها على الأرض الممتدة مد بصرها, لم تكن ماهيتها واضحةً ولكنها لم تكن تتحرك, مما أعطاها شعوراً ضئيلاً بالأمان.

وحالما إقتربت كفاية لترى المنظر الذي ينتظرها عن قرب, كاد قلبها الذي يخفق بشدة أن يقفز عبر ضلوعها, وتحجرت مقلتاها في نظرة طفحت جزعاً وصدمة, صدمة لدرجة أن عقلها لم يستوعب منذ أول نظرة, ولا الثانية ولا الثالثة.

الأرضية اللامعة الأنيقة حملت ساعةً مرسومة عملاقة خُطت حدودها وأرقامها الفوضوية التي بدت وكأنها كتبت على عجل بلون أحمر قان تناقض بشدة مع الأبيض والأسود أسفله. هذه الساعة الكئيبة كانت تحتوي في منتصفها على أربعة عقارب بدلاً من إثنين.

أو بالأحرى...أربعة أجساد.

تنقلت عيناها غير المصدقاتان بين وجوههم...(نويل), (يوهانا), (لورانس), (آرثر)... بدوا جميعاً وكأنهم نيام لا أكثر رغم إختلاف وضعياتهم, ولكن الخيوط الحمراء التي تسللت من أجسادهم لتختلط بأرقام وحدود الساعة كانت توحي بغير ذلك.

(نويل) الذي استلقى على ظهره ورأسه الذي حمل عينين شبه مغلقتين.

(يوهانا) الراقدة على جانبها الأيسر وقد امتدت ذراعها.

(لورانس) كان يواجه (يوهانا) على جانبه الأيمن.

(آرثر) لم يكن وجهه ظاهراً بوضوح, ولكن جسده المنبطح على بطنه وشعره الأشقر الباهت اللذان دلاها على هويته.

إرتجفت شفتا (أمورا) وهي تتراجع فرقاً ببطء, بينما أخذت تهز رأسها لا إرادياً وهي تتمتم بصوت متهدج: "لا...مستحيل...ماهذا؟...مالذي أراه أمامي؟...كيف لهذا بأن يحدث؟...". ما أن توقفت شفتاها عن الغمغمة حتى نبهها عقلها بأنها نسيت شيئاً مهماً جداً.

أين هو (ساي)؟

ولكنها لم تكد تستحضر إسمه في ذهنها متسائلةً عن مصيره حتى شعرت بقشعريرة باردة تسري عبر ظهرها, رافقها إحساس ساحق بأن ثمة شيءٌ ما يقف خلفها مباشرة.

"(أمورا)...".

هذا صوته! إنه صوت (ساي)! هتفت لنفسها بسعادة قبل أن يكمل الصوت بهدوء: "هل لكِ أن تموتي لأجلي رجاءاً؟".

الكلمات المشؤومة التي وأدت سعادتها الوليدة دفعتها لتستدير وتواجه الشخص الواقف خلفها لتتراءى أمامها إبتسامةٌ عذبة قابلها (ساي) بها, إعتلاها زوج من الأعين عديمة التعبير فاحمة السواد.

-----------------------------------

هذا ليس وجه (ساي), إنه... (نويل)؟

بدأ ذهنها يستعيد صفاءه تدريجياً وجفناها يرتفعان ببطء ليظهرا عينيها الناعستين.

"أوه, (أمورا). عذراً, هل تسببتُ في إيقاظك؟", إبتسم (نويل) بشيء من الخجل وتأنيب الضمير وهو يكمل ما كان يفعله, يبدو أنه وصل للتو وأن صرير الباب الخشبي الذي كان يغلقه خلفه هو ما انتزعها من سباتها الطفيف. متى حل عليها النوم أصلاً؟ إنها لا تتذكر سوى أنها جلست في طرف الأريكة الوثيرة وأسندت رأسها للخلف لعدة ثوانٍ.

صوت دقات الساعة الرتيبة في هذه الغرفة التي كانت المحطة التالية لهم, هل لذلك علاقة بالحلم الذي رأته للتو؟ تداعت إلى ذهنها صور ما عاشته في ذلك العالم الآخر الكريه, ولكن قبل أن تتمكن من التبحر في ذكراها السوداء تلك قامت بهز رأسها عدة مرات وكأنها تنفض عن رأسها ما تعلقت به من أفكار. لعيني (نويل) المهتمتين, كان الأمر يبدو وكأن (أمورا) تقوم بطرد آثار السبات عنها.

إنه مجرد حلم, إنه مجرد حلم.

"إذن, هل انتهيت مما طلبته (يوهانا) منك؟", ابتلعت ريقها وهي تحاول جاهدة أن لا يظهر اضطرابها على صوتها.

تقدم (نويل) ليجلس على الكرسي المواجه للأريكة التي حملتها ويعقد ساقيه بأناقة وخفة من اعتاد على ذلك, أطلق الشاب زفرة قصيرة وهو يميل برأسه على يده التي إتكأ ساعدها على ذراع الكرسي الأثري الفخم.

"نعم, لقد إنتهى (آرثر) و (يوهانا) من تنفيذ دورهما, و (ساي) يرقد الآن في القبو. هذه الخطة محطمة للأعصاب فعلاً. لقد كنت أخشى أن يُفتضح أمري بينما أنا أدس الرسالة والمفتاح أسفل الباب. فكرة من هي بأن نكتب رسالة كهذه على غلاف قطعة حلوى مصاصة أصلاً؟! حسناً...أعلم بأنه لم يكن لدينا خيار آخر, ولكن الأمر مثير للضحك والبكاء في نفس الوقت. سنكون محظوظين إن أخذونا...أعني...إن أخذنا أنفسنا على محمل الجد!". لم يكن من عادة (نويل) الثرثرة هكذا, ولكن (أمورا) أدركت في قرارة نفسها بأنه إنما يحاول تفريغ توتره هو الآخر بطريقة ما.

إبتسمت الفتاة بلطف وهي تطوي خصلات من شعرها الحريري الطويل خلف أذنها قبل أن تقول: "أنا متأكدة أنك أبليت حسناً, (نويل). لم يبق لنا سوى القليل قبل أن نتمكن من العودة للجميع.".

تلونت وجنتا المذكور قليلاً بهجةً بهذا الإطراء, ولكنه نظر بركني عينيه للأسفل وهو يغمغم: "ما بقي هو الجزء الأصعب. سيكون علي إقناعهم...إقناعنا...بالموت من أجل حماية (ساي).".

على الفور تبادر إلى ذهنها منظر الشاب الباسم الذي كان واقفاً خلفها في الحلم المقيت, طالباً إياها أن تموت لأجله. القشعريرة الباردة بدأت تسري في جلدها مجدداً, إنها لا تريد الموت لأجله ولا لأجل أي شخص آخر!

ولكن...أليس وجودها هنا, الآن, أكبر دليل على أنها "ماتت" لحمايته سابقاً؟

إنعقد حاجباها الجميلان وإجتاحتها موجة من الغضب والحقد بسبب هذه الفكرة, ووجدت نفسها تهمس بغِل: "سحقاً لك يا (ساي)! أنا لا أرتاح من مشاكلك حتى بعد الموت!".

-----------------------------------

التفت (لورانس) برأسه نحو (ساي) الذي عطس فجأة وسط جملته التي كان يقولها, قبل أن يشهق الأخير بعمق ويقول: " تباً, يبدو أنا هناك نذلاً ما يذكرني بسوء!".

"هل تمزح؟ لا أحد يذكرك بخير أصلاً, لم أنت مستغرب هكذا؟", تراقصت الإبتسامة المتشفية على شفتي (لورانس) وهو يرد عليه بذلك.

غمغم (ساي) ببرود: ".....شكراً لك على رأيك الثمين هذا, سأتظاهر بأنني لم أسمعه.".

تداخل صوت أنثوي متهكم مع نهاية جملة (ساي) قائلاً: "نذهب ونعود عبر الزمن وأنتما مازلتما تتجادلان كالصغار, ويحكما متى ستعقلان؟!".

استدار الشابان – وإن كان أحدهما لا يرى -نحو (يوهانا) التي خَطَت إلى داخل الغرفة عاقدةً ساعديها, يتبعها (آرثر) الذي انتبه (ساي) فوراً إلى أن نبضه أسرع بشكل ملحوظ عن المعتاد.

"ألم تسمعي بأن الحكمة تؤخذ من أفواه المجانين يا (هانا)؟".

"هذا صحيح! (لورانس) على حق تماماً, كما أن التعقل ممل جداً.".

رفعت الفتاة أحد حاجبيها وهي تنقل نظرها بينهما لثانية قبل أن تقول بإستغراب ساخر: "منذ متى كان (ساي) و (لورانس) يتفقان على شيء واحد؟ هذه سابقة تاريخية جديرة بالتسجيل.".

لم يرد عليها أي منهما, بل قرر (ساي) أن يدير دفة الحديث نحو موضوع آخر أكثر أهمية في محاولة منه لعدم الخوض في تفاصيل ما كان يفعله مع (لورانس) قبل حضورهما.
"إحم, إذن... كيف كانت رحلتكما؟ أستطيع رؤية أنك بذلت مجهوداً كبيراً يا (آرثر). آه... ليست كلمة "رؤية" دقيقةً بالتحديد ولكنك تعلم ما أعني.".

"في الواقع..", بدا المذكور محرجاً قليلاً وهو يجيب محدثه, "لقد سار الأمر على أفضل مما يرام, لولا أن أحدهم كان يقاوم كخرتيت ثائر, مما أدى إلى أنني قمت بالتسبب في إصابته إصابة طفيفة أسفل عنقه. لم أكن أقصد ذلك, صدقاً! ولكن, رباه, كم أنت عنيد يا (ساي). لقد استغرق الأمر أطول مما توقعت.".

طأطأ (ساي) برأسه مفكراً وهو يتحسس أسفل عنقه: "شكراً لك, سأعتبر هذا مديحاً. حسناً... أعتقد أن هذا يفسر الجرح الذي حصلتُ عليه في المرة السابقة, وكل ما تبقى الآن هو إنتظار عودة (نويل) و (أمورا). أتمنى أن البلهاء لم توقع نفسها في مصيبة ما هناك.".

جلس (آرثر) على الأريكة بجانب (لورانس) الذي رمق (يوهانا) بعينه وهي تتجه نحو السرير الوحيد في الغرفة قبل أن يقول لها بنبرة متشككة: "هل كان من الضروري فعلاً أن تقوما بحَبكِ خطة ملتوية كهذه؟ نحن حتى لا نضمن بأن كل هذا سيؤدي إلى نتيجة ما في النهاية.".

استقرت الفتاة على السرير مسندة جسدها بيديها على الجانبين وهي تنظر إلى محدثها بصمت, ولكن سرعان ما أخذت نفساً عميقاً وقالت موجهةً حديثها له: "هل تعلم كيف هي الدوامات يا (لورانس)؟".

رمش الشاب المستغرب عدة مرات قبل أن يعقد حاجبيه بتساؤل: "الدوامات؟...وما دخل الدوامات بما يجري هنا؟".

عدلت (يوهانا) نظارتها فوق أنفها قبل أن تجيبه: "الدوامات هي ظاهرة ناتجة عن وجود محور وهمي يتحرك حوله تياران أو أكثر في اتجاهات مختلفة. فلنبدأ بإفتراض أن هناك دوامة في سطح من الماء, إنها لا تغطي المكان كله, ولكنها تؤثر على منطقة معينة فقط. من السهل جداً أن تنزلق بداخلها, ولكنك لا تستطيع العودة من نفس البؤرة لأن الضغط يختلف في الجانبين.", كانت تحرك يديها لتدعم شرحها بينما انصب تركيز الشبان الثلاثة في الغرفة على ما تقوله, وكأنهم طلاب في صف مدرسي ما.

"على ما أعتقد – وإعتقاداتي صحيحةٌ عادةً فيما يتعلق بهذ الأمور –فإن ما يحدث هنا مشابه لذلك. إن تخيلنا بأن بؤرة الدوامة الزمنية هي هذا المنزل, ومحورها هو (فرانسيس), فسنجد أن الأمر يصبح منطقياً نوعاً ما. إنه طريق بإتجاه واحد فقط, فتيار الزمن في الداخل يختلف عما هو عليه بالخارج. إنه أبطأ بكثير, بكثير جداً. لا شك بأن ذلك ناتج عن محاولاته المتكررة للعبث بالوقت. لذا يمكننا الدخول ولكن لا يمكننا الخروج. وعلى الأغلب لن نتمكن من فعل ذلك حتى يصبح جانبا الدوامة متساويين, أو... حتى يختفى محورها.".

تبادل (آرثر) و (لورانس) النظرات قبل أن يسألها الأول بهدوء وهو يميل للأمام: "وما علاقة (ساي) بذلك؟ كيف لما فعلناه الآن أن يساهم في حل هذه المعضلة؟".

إبتسمت (يوهانا) وكأنها كانت تنتظر سؤالاً كهذا: "أليس الأمر واضحاً؟ كما أخبرتكم سابقاً, إن من قام بمساعدتنا في المرة السابقة لم يكن سوى نحن. فكروا في الأمر, إن لم يحضر (ساي) إلى هنا عالماً بما يجري لأنه من استخدم الساعة في المرة السابقة, لما تمكن من مواجهة (فرانسيس) كما فعل, ولما اكتسب قدرته هذه. لقد فهمتُ وقتها لمَ كان من الضروري أن يكون هو الناجي. لكي تضمن ثبات المستقبل, عليك أن تضمن ثبات الماضي أولاً. المواجهة المباشرة مع أنفسنا لن تجدي قطعاً بل قد تتسبب في حدوث تعارض زمني, كما أن (ساي) لم يكن ليقبل على الإطلاق بأن يموت الآخرون لحمايته هو. إنه من ذاك الصنف الذي يحسب نفسه لا يقهر ولا يحتاج للمساعدة.".

تمتم (آرثر) باسماً: " يبدو أنه أيضاً من الصنف الذي يغطس في النوم فوراً خلال المحاضرات الطويلة.".

نظرت (يوهانا) و (لورانس) بتساؤل نحو (ساي) ليجدا بأنه قد استلقى على جانبه مسنداً رأسه على ساعده المنثني أسفله, بينما أخذ صدره يتحرك ببطء رتيب مع كل نفس يأخذه. تساقطت خصلات من شعره الطويل على وجهه بعشوائية ولكن لم يبد أن ذلك يضايقه على الإطلاق.

"أحياناً...أعتقد أن هذا الأحمق متبلد الأحاسيس هو أكثرنا حظاً.", زفر (لورانس) وهو يحني رأسه يأساً بعد أن قال ذلك.

-----------------------------------

"يا إلهي...يا إلهي..."

"(نويل)! هل أنت بخير؟!".

إندفعت (أمورا) نحو إبن عمها اللاهث الذي تواضعت راحة يده المضطربة على صدره وكأنه بذلك يهدئ من روع قلبه الخافق بشدة, بينما اسند ظهره على الباب الخشبي الذي أغلقه خلفه على عجل بعد دخوله. لقد كانت تنتظر عودته في نفس الغرفة بعد أن خرج لأداء آخر ما يفترض به فعله, ولكنها لم تتوقع رجوعه بهذه السرعة. يبدو أنه كان يتوق للخلاص من هذه المهمة حقاً.

"لستُ أصدق بأنني فعلت ذلك.. لقد تحدثتُ إلى (آرثر) حقاً! يا إلهي, كاد قلبي يتوقف خوفاً من أن لا يستمع إلي, لو أنه فتح الباب ورأني لانتهى كل شيء...!".

مسحت بكفها الصغير على كتفه وهي تهتف به: "إهدأ يا (نويل), لقد مضى الأمر على خير حتى الآن, فلا داعي للقلق.".

لم يكن القلق هو ما يسبب إرتعاد فرائصه هكذا, بل هو الخوف من أن يكون قد أخطأ في مكان ما, أو كلمة ما. إن أصغر التفاصيل قد تعني إنهيار جميع ما يبنونه الآن, وهو قطعاً لا يريد بأن يكون السبب في ذلك. ليس عندما يكون ما على المحك هو حياته وجميع أصدقائه.

حسب ما خططت له (يوهانا), فقد كان من المفترض به أن يتحين الفرصة ليتحدث معهم, مع أنفسهم السابقة, بينما (ساي) لا يتمكن من سماعهم. خلال قصته الطويلة جداً, ذكر (ساي) بأنه تركهم لفترة وجيزة ثم عاد ليجدهم يتصرفون بغرابة لم يفهمها, ولم يكن من الصعب عليهم عندها جمع قطع اللغز ليحصلوا على إجابةٍ لما حدث أثناء غيابه.

تباطأت أنفاس (نويل) لتصل إلى معدلها الطبيعي واعتدل في وقفته على مهل, لقد فعل كل ما بوسعه فعله, ولم يبق لهم سوى الرجاء بأن تسير الرياح كما يشتهون.
"فلنرجع فوراً, إن كل دقيقة أقضيها هنا تقربني أكثر من حصولي على سكتة قلبية. كما أنه مازالت أمامنا مهمة صغيرة أخيرة".

-----------------------------------

لم يكن (ساي) نائماً حقاً.

في الواقع, لم يكن قادراً على النوم حتى وإن أراد ذلك. ولكنه بإستلقائه هنا, بعينيه المغمضتين, بأنفاسه البطيئة العميقة, إنما كان يحاول أن يخفف على نفسه وقع كلمات (يوهانا) التي كانت مؤلمة بقدر ما هي صادقة.

صحيح أن كل ما حصل, وكل ما يحصل, يصب في مصلحة الجميع في النهاية. ولكن كيف له بأن لا يشعر بالذنب بعد كل هذا؟ إن مجرد تذكر بأنهم يُقتلون في زمن آخر الآن بينما كان هو غارقاً في جهله كالأبله عما يجري, عما يفعلونه من أجله, يثير حنقه.

ولكنه أيضاً لن يسمح لنفسه أن ينسى.

حرك (ساي) رأسه فجأة عندما وصلته أصوات خطوات مختلطة تنتمي لزوجين من الأقدام, ورفع جسده عن الأرض بحركة سريعة جعلت الثلاثة الآخرين يلتفتون إليه بذهول. وأخيرأ, وأخيراً سيتمكن هو من القيام بدوره, من فعل شيء لأجلهم بدلاً من الجلوس والإنتظار.

"لقد عاد (نويل) و (أمورا)!".

"مالذي تقوله أيها الـ-".

إنفتح الباب الخشبي برفق بعدها ليُظهِر خلفه المذكوران, أتبع ذلك إنطلاق (ساي) نحو (نويل) بلهفة أدهشت الجميع. من الواضح أنه كان يتحرق شوقاً لعودة أعز أصدقائه سالماً. رفع (ساي) يده أمام (نويل) بترقب, مما جعل الأخير ينظر إليه متسائلاً.

" المفتاح! ألم أطلب منكما إحضاره من الغرفة التي بالأسفل عند عودتكما؟!".

" بحق الله يا (ساي), ألن تسألني حتى إن كنتُ بخير؟!", هتف به (نويل) بغيظ.

" لا! أنا أثق بك وبقدراتك تمام الثقة الكاملة العمياء. والآن أعطني ما طلبته منك."

"...أنت تقول ذلك لتسكتني فقط, صحيح؟".

هوى كتاب المذكرات الجلدي على رأس (ساي) من حيث لا يحتسب, وقبل أن يتمكن من الصراخ ألماً كان صوت (أمورا) المدوي يخترق أُذنيه بلا رحمة: "ألا تخجل من نفسك يا قليل الذوق والإحساس؟! أتعلم مقدار الجهد الذي بذله (نويل) لينفذ ما طلبتموه منه؟!".

أجابها (ساي) بحدة وهو يفرك رأسه: "مالذي فعلتهُ لأستحق ذلك؟! ثم إن (نويل) لا يحتاج لفتاة مسلحة بالكتب للدفاع عنه!".

"هذه الفتاة ستصفعك بالكتاب حتى تقضي نحبك إن لم تخرس!".

إن صراخ الإثنين على بعضهما البعض لم يحمل أي نوع من أنواع الغضب الفعلي, وبدا منظرهما مضحكاً أكثر منه مُهَدِداً. لم يتمالك (نويل) نفسه من التبسم وهو يشاهد ذلك. لقد نسي كل ما يتعلق بالزمن والهروب والموت, ولوهلة شعر بأنهم قد عادوا إلى حياتهم السابقة التي بدت وكأنها مجرد ماضٍ سحيق.

حتى في أوقات كهذه, هنالك دائماً مجال للإبتسام.

-----------------------------------
[COLOR="black"].
الثلاثون من إبريل, 1884م:

كان الشارع المزدحم في القرية يحمل أشكالاً وألواناً مختلفة من المارة والبائعين والمتسوقين. إن ما قبل الظهيرة هو وقت الذروة الذي يضج فيه المكان بالحركة والحيوية, بالإضافة إلى صخب الأطفال الذين كانوا يلاحقون بعضهم البعض ضاحكين غير عابئين بما يدور حولهم من أمور الحياة التي تركوها للكبار, على الأقل حتى يصبحوا هم كباراً في يوم من الأيام.

ولكن صخب اليوم كان أقل من المعتاد, وقد عَلَت بعض الوجوه نظراتٌ جمعت بين الوجوم والدهشة وعدم التصديق.

عدلت (مادلين) ثوبها الأصفر الطويل ذو الطبقات الخلفية المتعددة الذي تفتحت في نسيجه نقوش لزهور زاهية الألوان, بينما كانت قبعتها المزخرفة ذات الأطراف الواسعة هي كل ما يحول بينها وبين شمس الربيع القادحة فوقها. السلة المجدولة التي حملتها ذراعها تحتوي مشترياتها لعشاء اليوم, وكانت تتذمر في سرها عن أسعار الشوفان الفاحشة هذه الأيام, والبائع الجشع ذو النظرات الزائغة. مجرد يوم ممل آخر... حتى لمحت بطرف عينها سيدةً في منتصف العمر تسرع أمامها لتعبر الطريق المرصوف وقد حملت يدها سلة مشابهة. لملمت (مادلين) أطراف ثوبها وانطلقت خلف السيدة الأخرى مناديةً لها.

"سيدة (تابيثا)!".

إلتفتت المذكورة وقد علت وجهها علامات الدهشة قبل أن تتسع الإبتسامة على ثغرها, وتوقفت عن سيرها المتعجل لتسمح لمناديتها باللحاق بها.

"سيدة (مادلين), ياللمصادفة! من الرائع رؤيتك هنا, لم تسنح لي الفرصة للتحدث معك على الإطلاق مؤخراً.".

هزت (مادلين) رأسها محيية السيدة التي بدأ الشيب يخط شعرها المندثر تحت قبعة بيضاء قماشية, وشكرت الله في سرها كونها وجدت شخصاً قابلاً للثرثرة معه قبل عودتها لأشغالها المنزلية الرتيبة.

"تسرني رؤيتك أيضاً, أنا آسفةٌ حقاً بشأن ما حصل لزوجك. سمعتُ أنه لم يعد يعمل في منزل عائلة (كينزي) الآن. هل من خطب ما هناك؟". لم تكن (مادلين) تجهل ما حصل هناك بالقدر الذي تدعيه, فجميع أهل القرية يعرفون. إن كان هناك شيءٌ ينتقل بسرعة في هذا المكان فهو الأخبار, خصوصاً السيئة منها. ولكنها ألقت طرف الخيط للسيدة (تابيثا) مدعيةً الغباء أملاً في أن تعرف المزيد, فزوج الأخيرة كان بستانياً في المنزل المذكور منذ قدوم العائلة إلى هذه الضواحي.

ولم تكذب السيدة (تابيثا) خبراً فقد تنهدت بعمق وهي تهز رأسها بأسى قبل أن تلقي نظرةً على المنزل الضخم الذي لاح على قمة التل المجاور للقرية.

"تلك الأسرة البائسة لم تهنأ بحياتها القصيرة هنا. رغم حزني على خسارة زوجي لعمله إلا أنني أشد حزناً على حالهم بعد أن أصابتهم مصيبتان في يوم واحد.".

"مصيبتان؟!", اتسعت عينا (مادلين) بدهشة حقيقية فهي لم تسمع بهذا من قبل, وكل ما كانت تعرفه هو أن إبنة الأسرة الصغيرة قد توفيت منذ يومين إثر مرض ألم بها. بدأ فضولها النهم يلتهمها بجنون وهي تنتظر بشوق إكمال السيدة (تابيثا) لحديثها.

"نعم, أنتِ تعلمين أنني لا أحب الثرثرة ونقل الأخبار, ولكن...", مالت السيدة (تابيثا) نحوها لتهمس بخفوت, "أنا أعلم أنكِ ستبقين الأمر سراً, أليس كذلك؟".

هزت (مادلين) رأسها مشجعةً إياها على الإستطراد وهي تقول بلهفة: "بالطبع يا سيدتي!". لم تعبأ لكون ما تفعلانه يتناقض بشكل صارخ عما تقولانه. إن هذه هي إحدى سبل التسلية القليلة المتوفرة لهاته السيدات الملولات.

"حسناً إذا...لقد أخبرني زوجي بما حدث حقيقةً. أعلم أن هذا صعب التصديق, ولكن فليرحم الله أرواحنا فقد حصل ذلك فعلاً. وحتى الصبي (مارك) الذي كان يعمل بالحظيرة يقسم أغلظ الأيمان على ذلك. إن الأسرة لم تقرر الرحيل لأنها لا تطيق العيش هنا بعد وفاة طفلتهم المسكينة كما يقولون. إنهم لا يستطيعون الدخول إلى منزلهم أصلاً, وقد اختفى إبنهم الوحيد في نفس اليوم أيضاً!".

-----------------------------------

"هل أنت متأكد بأنك تريد الذهاب وحيداً؟".

كان القلق يتقاطر من صوت (أمورا) التي يبدو أنها نسيت جدالها الحاد مع (ساي) منذ برهة, ولكنها لم تكن الوحيدة التي تشعر بذلك. كان الجميع – يتقدمهم (ساي) – واقفين أمام باب ما, قادهم الأخير إليه. نظرة (نويل) فضحت توتره وهو يعزز كلامها: "ليس عليك فعل ذلك بنفسك, بإمكاننا جميعاً أن نأتي معك. سيكون ذلك أكثر أماناً بلا شك.".

هز (ساي) كتفيه وهو يقول بأريحية: " لستُ الشخص الذي يحب العمل مع الغير, أنت أدرى بذلك.".

أدار (لورانس) عينه في محجرها قبل أن يقول: "ياللأنانية! ليس الأمر متعلقاً بما تحبه أو تكرهه, بل بما سيكون الأفضل للجميع أيها الطفل!".

"إذا اتركوني أذهب لوحدي, فذلك سيعفيكم من مرافقة طفل مثلي. لقد فعلتم كل ما بوسعكم, دعوني الآن أفعل ما بوسعي. كما أنني أشك أنه من الحكمة أن يظهر ستة أشخاص من العدم هناك دون أن يبدو الأمر مشبوهاً.".

"للأسف, (ساي) محق في ذلك. لن أمنعك من الذهاب طالما عزمت أمرك, ولكن عدني بأنك لن تحاول القيام بأي عمل مجنون متهور هناك. لا تفسد كل ما سعينا لأجله حتى هذه اللحظة. أنت لن تعطينا سبباً يجعلنا نقلق عليك, صحيح؟". ابتسم (ساي) بإمتنان لـكلمات (آرثر) الذي كان الوحيد المؤيد له في هذا, وهز رأسه موافقاً له بصمت.

"آه, نعم, إنني سأتفطر قلقاً وحزناً إن لم تعد بكل تأكيد.".

"مشاعرك الفياضة هذه تثلج صدري يا (لورانس), إنني بالكاد أسيطر على دموعي.".

"توقفا عن التهريج!", تلقى الإثنان ضربتين حانقتين من (يوهانا) قبل أن تلتفت الأخيرة نحو (ساي) لتحدثه بجدية: " تذكر يا (ساي), ليس عليك أن تكون بطلاً. كل ما عليك هو أن تكون... مُقنعاً.".

"أعلم ذلك! لم يصر الجميع على تذكيري بذلك مراراً وتكراراً؟ هل قدراتي التواصلية مع البشر بهذا السوء؟!".

لم يحصل على جواب على الإطلاق, مما دفعه ليرفع يده بإستسلام مردفاً: "حسناً, إنسوا أنني سألتُ ذلك. أنا ذاهب من هنا!".

-----------------------------------

صمت مطبق, برودة قارسة, وحدة مؤلمة. مازال طائر الموت يحلق في هذه الغرفة التي كانت حتى وقت قريب مسكناً لفتاةٍ صغيرة تسربت حياتها القصيرة شيئاً فشيئاً حتى اختفت نهائياً.

سرير الطفلة المرتب كان يحمل باقةً من الزهور شاحبة اللون بدلاً من جسدها, ربما كانت محاولةً بائسة من أحدهم لتخفيف وقع الكارثة التي خيمت على المكان. مجموعة الفساتين الصغيرة ذات الألوان الزاهية التي تكومت على طرفه, بالإضافة إلى لعبة الدب الذي جلس ببراءة على أحد المقاعد جاهلاً بأن مالكته رحلت للأبد, وغيرها من التفاصيل الصغيرة التي ليست سوى تذكار بأن شخصاً ما كان هنا, ولكنه لن يعود مجدداً.

تحت وطأة تأثير هذا المشهد السريالي, أطبق الطفل الدامع ذو الملابس الفخمة يده على مفتاح معدني غير مألوف الشكل وهو يشهق بين الفينة والأخرى. لم يكن الموت أمراً يفكر فيه أبداً, لم يخطر على باله يوماً بأنه سيتذوق مرارة فقدان من يحب بهذه السرعة. هذه المشاعر الطاحنة أكثر مما يمكنه تحمله, أي حياة هذه التي تنتظره وحيداً بدونها؟ التفكير بالتبعات وعواقب الأمور لم يكن لمن هم في مثل عمره, وفي عالمه المحدود الصغير, كان تواجد (إيفانجيلين) أمراً مفروغاً منه, ولكنها رحلت وتركت مكانها ثقباً مهولاً لا يعلم كيف يسده.

ولكن ربما, ربما كان بإمكانه فعل شيء لتغيير ذلك.

بالرغم من أنه لم يستعمله سوى مرة واحدة, بالرغم من أن أحداً لم يصدقه حتى بدأ هو نفسه يشك في ما حصل له, بالرغم من أنه خائف من خوض هذه التجربة لوحده, إلا أنه استدار وترك الحطام الذي بقي من حياة (إيفانجيلين) خلفه لتسوقه قدماه نحو غرفة معينة بالدور الأرضي.

لم يكن هناك أي شخص بالمنزل سواه, فقد خرج والداه وجميع الخدم والعاملين منذ ساعةٍ لتشييع جنازة شقيقته إلى مثواها الأخير. العاملون خلعوا قبعاتهم وساروا مطأطئي الرؤس حداداً على من اعتبرها الجميع إبنة له, بل قد حضر بعضهم مولدها ونشأتها منذ بدايتها وحتى نهايتها المفاجئة. السيدات المتشحات بالسواد تعالى بكاؤهن بدرجات متفاوتة طغى عليها جميعاً صوت نشيج والدته المكلومة التي أخذت تنتحب بحرقة وقد تعلقت بذراع والده وكأنها تستمد منه بعض المواساة. لطالما كان والده رجلاً مهيباً صارماً, ولكنه الآن يبدو كمن يستنفر كل خلية من خلايا وجهه ليمنع نفسه من الإنهيار. عيناه الزرقاوان الذابلتان لم تنظر إليه أو إلى ولدته, بل تسمرتا على التابوت الأسود الصغير الذي تسحبه أمامهم العربة الخشبية السوداء, التي كانت بدورها مربوطةً بحصانين كان لونهما أيضاً.... أسود.

لقد أُجبِر هو أيضاًعلى إرتداء ملابس بنفس القتامة. بنطال قصير وصدرية وحذاء أسود, لم يتخللها من الألوان سوى جواربه الطويلة وقميصه الأبيض الذي التفت حول ياقته شريطة حريرية رمادية. هذا السواد لا يليق بـ (إيفانجيلين) أبداً.

كان يسير متمهلاً تاركاً مسافةً بسيطة بينه وبين الركب الصغير متحيناً الفرصة للعودة دون أن يلاحظه أحد لينفذ ما جزم على فعله, ولم يزده ما رأه سوى عزيمةً وإصراراً على المضي قدماً في ذلك. إنه لم يبك منذ أن وصله الخبر, لم يصدق أن الأمر واقع حتى يبكي. ربما تقبل أبواه كونها قد ماتت, ولكنه هو لن يفعل.

تصاعد صدى كعب حذائه اللامع على الأرضية الرخامية للممر الذي عشش عليه السكون, وماهي إلا ثوانٍ حتى كان يدلف إلى الغرفة الصغيرة التي انتظرته بداخلها ساعةً خشبية قديمة الطراز.

لم يهتم بإغلاق الباب خلفه فهو الوحيد المتواجد هنا الآن, لذا فقد تنفس بعمق وهو يخطو نحو الساعة, ويده الندية بالعرق تقبض على المفتاح وكأنها تخشى إختفاءه في أي لحظة.

"لا تفعلها.".

كشحنة كهربائية مفاجئة, تسبب الصوت الغير متوقع في جعله يثب من مكانه جزعاً وهو ينظر حوله بخوفِ من تم كشفه متلبساً بجريمة ما. هل رآه أحدهم وهو يتسلل عائداً إلى المنزل؟! لم يكن من المفترض أن يعود أحد حتى غروب الشمس على الأقل.

ولكن الشخص الذي أطل عليه من باب الغرفة لم يكن بأي حال من الأحوال شخصاً يعرفه.

-----------------------------------

كان المجهول القادم يرتدي ملابس لم ير (فرانسيس) لها مثيلاً من قبل, كما أن ملامحه كانت صعبة الرؤية وهو يغطي رأسه بقلنسوة هربت بضع خصلات من الشعر الطويل من طرفيها, وحتى عيناه توارتا خلف قطعة قماشية خضراء. بإختصار, لم يكن هناك أي شيء طبيعي على الإطلاق في هذا الشخص. جعل ذلك (فرانسيس) ينسى سبب تواجده في هذه الغرفة بينما شعر بقدميه وصوته يخذلانه بسبب المفاجأة والرعب اللذين شلا حركته.

أي نوع من الأشخاص هذا؟ أهو لص استغل فرصة فراغ البيت من قاطنيه لينهب ما يمكنه حمله؟ أهو شيطان ما من تلك الشياطين التي كانت مربيته تخيفهم بها؟ أهو أحد معارف والده؟ منذ متى كان أبوه يعرف أناساً بهذه الغرابة؟

تحدث الشاب بهدوء وهو يتقدم للداخل دافعاً الباب بيده لينغلق ويتركهما وحيدين مع بعضهما البعض: "لا تخف يا (فرانسيس), أعلم أنك متفاجئ من تواجدي, ولكنني كنت أنتظر قدومك.".

تراجع (فرانسيس) المرتاع مبتعداً وهو يهتف بصوت مرتجف: "من...من أنت؟!".

"من أنا؟ سؤال وجيه, وإن كنت أعتقد أن إسمي لن يعني لك شيئاً.", تبسم الشاب بعدها بكل ما استطاع استجماعه من لطف, وهو أمر لم يكن معتاداً عليه قطعاً, "بإمكانك مناداتي بالحارس.".

"الـ...حارس؟", تمتم الطفل وقد استعاد بعضاً من صوابه فهو لا يرى بأن هذا المجهول يحمل أي أسلحة أو ينتوي به شراً, بل على العكس تماماً, كان واقفاً بإستراخاء ويداه مدسوستان في جيبيه. هز الشاب راسه موافقاً دون أن يتقدم أكثر.

"مالذي تحرسه بالضبط بينما أنت لا ترى؟".

أخذ السؤال المفاجئ الشاب على حين غرة, فهو لم يكن يتوقع شيئاً كهذا.

(( طفل نبيه. ))

ولكنه سرعان ما استعاد تعبيره الهادئ وهو يجيب: "بإمكانك القول أنني أحرس الأرواح. أرواح أولئك الذين سيعانون إن لم افعل.".

نظر (فرانسيس) نحو الشاب الغريب وقد اتسعت عيناه بإنبهار طفولي قبل أن يقول بأنفاس مبهوتة:"حارس للأرواح؟ هل أنت هنا لحراسة روح (إيفانجيلين) أيضاً؟".

للمرة الثانية, رفع الشاب حاجبه مندهشا من المجرى الغير متوقع الذي اتخذه هذا الحوار, ولكنه لم يعط الطفل إجابةً مباشرة, بل قابل سؤاله بسؤال آخر:"أنت تنوي استخدام هذا المفتاح لتعيد الزمن أملاً في أن تتمكن من إقناع والدك بأخذ (إيفانجيلين) للمشفى لعلاجها قبل فوات الأوان, أليس كذلك؟".

"كيف...عرفت ذلك؟".

"أنا الحارس يا صغيري, أنا أعلم الكثير من الاشياء التي تجهلها أنت. ومنها بأن ما تنوي فعله لن ينجح.".

ذُهل الطفل بعد تلقيه لهذه الكلمات القاسية التي حطمت أمله الوحيد في استعادته لأخته, وبدأت مقلتاه تنزان الدموع مجددا وهو يصرخ بمحدثه غاضباً: "لم لا؟! كيف يمكنك الجزم بذلك أساساً؟!".

(( لأنني إن تركتك تفعل, فسيؤدي ذلك إلى أكثر من تدميرك لحياتك أنت. ))

"لأنه لن يصدقك أحد سواي.".

"سيصدقونني عندما يرونها تعود للحياة مجدداً!".

"لم تسر الأمور بهذه البساطة عندما استعملت المفتاح للمرة الأولى, أليس كذلك؟ تماماً كما ظن الجميع أنك تكذب أول مرة, سيعتقدون المثل في المرة الثانية.".

لم يبد أن صراخ الصبي ودموعه المتساقطة يهزان شعرة في جسد الشاب الذي اكتفى بالوقوف مكانه بصمت لبرهةٍ قبل أن يقول: "أنت طفل ذكي يا (فرانسيس), ولكن خسارتك كبيرة جداً. ذلك هو ما تسبب في هلاكك. لنفترض أنك أعدت الزمن فعلاً, لِم تتوقع بأن والديك سيصدقانك هذه المرة؟ لا أحد سيتذكر ما حصل هنا. لا أحد. ستبقى أنت الوحيد الذي يتذكر ويعاني عذاب هذه الذكرى. ومالذي سيحصل في النهاية؟ تموت (إيفانجيلين) مجدداً. ما ستفعله لن يتسبب في إنقاذها, إنه سيتسبب في قتلها ثانية. مرة تلو الأخرى, ستتعذب الفتاة وتموت لأن أخاها لن يدعها تنال راحتها الأبدية. أهذا ما تريده؟".

تراخت يد (فرانسيس) التي حملت المفتاح لتتدلى بجانبه وقد تحجرت عيناه متخيلاً هول ما يصفه الشاب المجهول. كيف لم يفكر في ذلك من قبل؟ هل سيكون بإمكانه العيش مع نفسه إن تسبب فعلاً في موت (إيفانجيلين) لعدة مرات؟ هل بإمكانه حقاً أن يثق بكلام شخص مشبوه كهذا؟

لم يكن (ساي) يرى هيئة (فرانسيس) أمامه, ولكنه كان يسمع أنفاسه المضطربة المتلاحقة جيداً. ليس بحاجة لأن يكون عبقرياً لكي يعرف نوع الأفكار والمشاعر التي تجول في رأس الصبي بعد كل ما قاله له, ولكن ما من خيار سوى الإستمرار. وإن لم يجد الحديث مع (فرانسيس) نفعاً... فإنه يجد نفسه مرغماً على إتخاذ إجراءٍ أكثر جذرية. إن ذلك هو في الواقع ما كان يمنعه من اصطحاب أي شخص معه, فإن كان لابد عليه أن يقوم بتلطيخ يديه مرةً ثانيةً فهو يفضل أن يقوم بفعل ذلك وحيداً.

التفت راحة يده اليمنى على مقبض السكين الراقدة في جيبه وهو يفكر فيما سيكون مجبراً على فعله حينها.

من مفارقات القدر أن يكون (فرانسيس) الباكي المثير للشفقة الآن هو نفسه ذاك الكائن الذي يتذكره (ساي), بهيئته المنفرة وقوته الغير طبيعية وجموده الجليدي.

"لم يكن من السهل رؤية (إيفانجيلين) تتألم وتتوجع قبل وفاتها, أليس كذلك؟ لماذا تفكر في تكرار ذلك؟ صدقني, أنا أفهم شعورك, هناك أوقات نشعر فيها بأن علينا فعل ما يجب علينا فعله حتى وإن اضطررنا لدفع الثمن غالياً لاحقاً. ولكن هذا ليس أحد هذه الأوقات. من أجلها, ومن أجل نفسك...", خفت صوت (ساي) وهو يكمل, "أرجوك...دعها ترحل.".

(( لم يفت الأوان بعد, أرجوك لا تجعلني أفعلها... ))

ثانية...

ثانيتان...

ثلاث ثوانٍ...

صوت صليل ارتطام شيء معدني صغير بالأرض تبعه فوراً شلال جامح من الدموع والبكاء الهستيري دفع بـ (ساي) ليسعى نحو (فرانسيس) الذي يكاد يسمع تمزق نياط قلبه, ودون أي كلمة أخرى هبط أمامه على ركبتيه وتحركت يداه لتحتوي الصبي النائح بقوةٍ لم يعلم هو ذاته سببها.

تناهت إلى ذهنه صورة (ساي) الصغير, وحيداً وغير قادرٍ على البكاء حتى بعد أن شاء القدر أن يجعله يتخذ قراراً مصيرياً في سن غضة. لقد كاد هذا الصبي التعس أن يكون (ساي) صغيراً آخر, ولكن ليس بعد. مازالت هناك فرصة, مازال هناك أمل.

امتدت يد (ساي) لتحمل المفتاح المعدني الذي تمدد على الأرض بقربه وتدسه في جيبه, بينما تشبثت أصابع (فرانسيس) النحيلة في ملابسه بشدة حتى شَعَرَ بها تخترق جلده. ولكنه لم يكن يبالي.

لقد تبخرت آخر مشاعر الكراهية التي كان يحملها تجاه (فرانسيس) القاتل, ليحل محلها شعور لا يعلم كنهه تجاه (فرانسيس) الضحية. ما كان ذنبه إلا أنه ألقى بنفسه نحو التهلكة بغير علم عما سينتهي به المآل في المستقبل.

"أنا وأنت يا (فرانسيس)...", همس (ساي) للصبي برفق وقد استقرت يده الأخرى على رأسه ذو الشعر الناعم, "...سيكون هذا سرنا الصغير, إتفقنا؟".

-----------------------------------

دفء الشمس اللذيذ, منذ متى لم يستشعر جسده هذه المتعة؟

نسماتٌ من هواء ربيعي عليل تراقصت حوله ملاعبةً شعره الطويل بخفة ودلال, بينما أطرب صوت حفيف أوراق الشجر وزقزقة العصافير أذنيه. إرتجف جفناه قليلاً قبل أن يرفعهما بتراخٍ ليكشفا له عن سماءٍ صافية لونتها بضع سحب بيضاء متناثرة بإستحياء كبقع ناعمة في المساحة الزرقاء الشاسعة.

لحظة... سماء؟! سحب؟!

إعتدل بحركة سريعةٍ مفاجئة وهو لا يكاد يصدق ما تراه عيناه. أو بالأحرى, لا يكاد يصدق أن عيناه ترى مجدداً.

رفع يديه أمامه ناظراً إليهما بتعجب سرعان ما تبدد لتحل محله السعادة. وكأنما كان يحاول تأكيد الأمر لنفسه, فقد جال بنظره في كل ما حوله متشرباً جميع ما يقع بصره عليه. الأشجار الشامخة, الزهور الملونة المنسقة بعناية, الحشائش المتمايلة, الشمس الذهبية المتألقة, ملابسه, شعره, وحتى هاتفه المحمول وسماعاته الزرقاء المفضلة. بعد أن نال كفايته, سمح لجسده بأن يتراجع ليستلقي على الأرض العشبية مجدداً وقد تناثر شعره حوله, غير عابئ بكونه يشعر برضوبة التراب الذي يبدو أنه سُقي حديثاً تحته. غمرت رائحة الأرض الندية أنفه مُؤكدة له أكثر وأكثر أنه لا يحلم.


أغمض (ساي) عينيه وأطلق ضحكة صغيرة سرعان ما تعالت لتحمل كل فرحه وارتياحه. إن عالمه الذي اتشح بالظلام قبلاً يجعله يستمتع بكل ما يراه الآن وكأنها أول مرة. إنه لم يدرك قيمة وجمال الألوان سوى بعد أن عاش في السواد الكالح.

بدأ يتذكر ما قاده إلى هنا, إلى هذه اللحظة. لقد فارق (فرانسيس) على عجل مانعاً نفسه من النظر إلى الخلف وعاد إلى حيث أتى, إلى حيث ينتظره خمس أشخاص بلهفة, إلى ما كان يأمل أن تكون نهاية هذا المطاف الطويل المرير.

وهاهو ذا الآن, بعد أن ادخل المفتاح في الساعة للمرة الثانية على التوالي. أي مستقبل ينتظرهم هذه المرة؟ على عنى كل ما فعلوه سابقاً شيئاً؟ تُرى مالذي حدث لـ (فرانسيس) بعد تركه له؟ إنه لا يستطيع منع نفسه من التساؤل, ولكن التساؤل هو أيضاً كل ما يمكنه فعله, فهو على الأرجح لن يعرف أبداً.

"(ساي)؟ أيها المغفل! لم أنت مستلق على الأرض هكذا؟! أما كان لك أن تخار وقتاً ومكاناً أكثر ملائمة للنوم؟!".

انتفض جسد (ساي) واتسعت عيناه على مصراعيهما قبل أن ينعقد حاجباه بحقد عندما قام صوت (لورانس) الحاد بتمزيق حبل أفكاره شر ممزق, ولكنه في الوقت ذاته وجد نفسه – وياللغرابة -متشوقاً لرؤية وجه هذا الشاب المزعج. لم يتحرك من مكانه بل اكتفى بإرجاع رأسه إلى الخلف لتبدو له هيئة (لورانس) رأساً على عقب.

"(لورانس), كم تسرني رؤيتك. متى وصلتهم إلى هنا؟".

"متى وصلت أنت؟! لقد تأخرت في القدوم حتى قرر الآخرون الدخول بدونك.".

"إذن...", ابتلع (ساي) ريقه وهو يتأهب لسماع الأسوأ, "...جميعهم في الداخل ماعداك؟".

"نعم, إن (نويل) يقضي وقتاً ممتعاً بالتجول في أرجاء المكان مع المالك, بينما خرجتُ أنا لأن (آرثر) طلب مني الإتصال بك. الإرسال رديءٌ جداً بالداخل.".

"المالك؟!....أنت كنت بالداخل وخرجت؟!", رفع (ساي) جسده فوراً واعتدل ليواجه (لورانس) بتعجب لم يفهم له الأخير سبباً, فهو لم يقل شيئاً غريباً على حد علمه. هل هذه إحدى ألعاب (ساي) المعتادة إذن؟ عقد الشاب ثائر الشعر ساعديه وهو ينظر نحو الآخر بشك قبل أن يقول: "لديك مشاكل جدية في الإستيعاب, أتعلم هذا؟ لست أدري لم أنت مذهول كهذا, ما قلته لك لم يكن صعب الفهم لهذه الدرجة.".

لم يعره (ساي) إهتماماً بل انتصب لينطلق راكضاً بينما لاحقته كلمات (لورانس) الحانقة نحو الباب الكبير الذي توسط واجهة المنزل, والذي كان موارباً وكأنما يدعوه للدخول, ولم يكذب (ساي) خبراً فقد انبعث عبره ليقف في منتصف البهو المألوف ملتقطاً أنفاسه, فقط لينتبه بحجم الإختلاف الذي يراه عما يتذكره.

كانت المزهريات الثمينة واللوحات الفنية منتشرة بسخاء في المكان الفسيح الذي سبح تحت أضواءٍ ناعمةٍ كانت مصدرها ثريا كريستالية ثمينة المنظر تتوسط المكان, وبجانب أحدى اللوحات كان يقف كل من (نويل) و (أمورا) مع شخص وقور المظهر رمادي الشعر يشي منظره وملبسه بالرقي, وكذلك تحركاته وهو يشير بإحدى يديه نحو اللوحة الجدارية وكأنه يشرح لهما شيئاً عنها.

التفتت (أمورا) ليقع نظرها عليه, وقامت من فورها بالإبتسام له والتلويح بيدها وكأنما تحثه على الإنضمام لهم. حانت منه نظرة نحو الباب الرئيسي الذي انفرج ببطء ليدخل من خلاله (لورانس) العابس, ثم عادت عيناه نحو الثلاثة الذين استمروا في محادثتهم الصغيرة مقرراً الذهاب إليهم.

عندما اقترب منهم كفاية ليلاحظ (نويل) المتحمس وجوده, قام الأخير بإستقباله بإبتسامته المعتادة وهو يقول ببهجة: "(ساي), من الجيد أنك وصلت أخيراً! دعني أقدم لك السيد (ألفريد كينزي), المالك الحالي لهذا المنزل البديع.". إلتفت السيد (ألفريد) المذكور ليواجه (ساي) محنياً رأسه له في تحية لبقة قبل أن يمد يده له مصافحاً, وهو ما قابله (ساي) بالمثل وإن كان غير مستوعب بعد لحجم هذا التغيير الذي يراه.

"يسعدني تواجدكم هنا اليوم, إن لهذا المنزل – و لعائلة (كينزي) – تاريخاً عريقاً هنا. لقد عاش أجدادي فيه منذ القرن الثامن عشر تقريباً, وكما ترون فإن جميع القطع الفنية هنا أثريةٌ أصليـ-".

"عفواً, ولكن...", قاطعه (ساي) متسائلاً بلهفة, "... هل تعرف شخصاً يدعى (فرانسيس كينزي)؟ هل يبدو الإسم مألوفاً؟".

بدا كل من (نويل) و (أمورا) محرجين من وقاحة (ساي) مع شخص قابله للتو. ولكن السيد (ألفريد), وإن ظهر أنه تفاجأ في البداية, إلا أنه سرعان ما استعاد بشاشته وهو يجيب (ساي) برحابة صدر: "بالتأكيد أعرفه! أنت تتحدث عن جدي الأكبر بلا شك, لقد كان من أول قاطني هذا المنزل, وعاش فيه مع عائلته منذ مائتي عام مضت, حتى ورث عنه المنزل إبنه (لويس). في الواقع, أغلب اللوحات الفنية هنا هي قطع تم رسمها في زمنه, لقد كان مولعاً بالفن جداً.".

شاركتهما (أمورا) المحادثة بمرح قبل أن يتمكن (ساي) من التعليق: "أعتقد بأن لوحاته ستروق لك كثيراً يا (ساي), إن بها قدراً لا بأس به من الغرابة.".

وفي تلك اللحظة بالذات, وكأنما كانت تنتظر وقتها المناسب لتظهر نفسها له, تراءت له لوحة على الجدار المقابل, لم يعلم مالذي جذبه إليها فهو لم يستشف معالمها المبهمة إلا عندما تحرك سائراً ليقترب منها. وعندها, تحولت الدهشة إلى فرحة, والفرحة إلى إبتسامة واسعة نبعت من أعماق قلبه.

لم تكن تلك اللوحة المحاطة ببرواز خشبي برونزي فخم تحمل من الألوان أو الدقة في التفاصيل الشيء الكثير, وكان محتواها يختلف بشكل ملحوظ عن غيرها, ولكن ما حملته كان يعني الكثير والكثير, كان يعني العالم بأسره.

وقف (ساي) بصمت أمامها وكأنه يقابل صديقاً قديماً كان يتشوق لرؤيته, وامتدت سبابته بشغف لتلمس الإسم الذي استقر منقوشاً أسفلها على لوح معدني صغير:





(الـــحــــارس الأعــمــــى)


- إنـــتـــهـــى -


 
 توقيع : ساي

دخول متقطع .


رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

شرح حديث

علف


الساعة الآن 07:14 AM