" ضعَ أضواء ال LED ، في المقعدّ الخلفي ، المكان مكتظ هنا بالأدوات "
" ستأخذين جهازكِ اللوحي ، لستِ بحاجةٍ لأخذِ دزن الكتبِ و الملفاتِ هذه"
" للاِحتياط فقط ، يُقال أن ذبذاتِ الأجهزةِ الكهربائية تتشوش هناك"
" بِصدقٍ ، مارثا ، أعنيّ ،أنا موافقٌ على لقاءِ مارتينز لكنني لستّ متأكدًا بشأنّ الدمية.. تلك"
تحدجه مارثا متكهمةً، تغلقُ باب المقعدّ الخلفي بقوةٍ :
" أتخاف من أن تحلَ عليكَ لعناتُ الدمى و على ألفِ جيلٍ منك،
أيها الصغير المتحذلق؟"
يبلع وارف ريقه بنفاد صبرّ ، يشغل مقعدّ السائق ، و دون أنّ يطرف لمارثا يقول :
" أنتِ ممقتةٌ حقًا خلالِ ملاحقتكِ لخبركِ الصحفيّ ، أخليّ يدي من تصرفاتكِ الطائشة ، و ملاحقاتِ سحرة الفودو بعدئذٍ"
تبتسمّ مارثا ببهوت ، بنبرةٍ تتصنع الودّ تهمس :
" أفضل سبقٍ صحفي في خانةِ الرعب على الإطلاق!"
" حدث ذلك منذ عهدٍ بعيد ، 1904 على ما أذكر؟ قبل أن أولد حتى .."
برهفةٍ ، و لمعان زوجينّ من الأعينّ المتحمسة ، أكمل ليوناد مارتينز ذو الستين عامًا قصته :
" كانتَ والدتِي خادمةً عندّ عائلةِ أوتو ، في منزلهم البذخ بفلوريدا ، بحسبها ،
كان آل أوتو فاحشيّ الثراء كثيري السفر ، و كانا غالبًا ما يتركانّ طِفلهما جين،
أعني روبرت يوجيني، عندّ تلك المربية ، ماذا كانّ اسمها؟ هه!"
ارتشفَ قهوته و هو يعانق بأهدابهِ الأفق ، خلال محاولاتٍ ثبطتها النساوة و تقدم العمر ،
لكنس غبار الذاكرة.
" المهمّ، كانت من الباهاما - جزر الباهاما- و كمّا تعلمونّ ، تكثر هنالك الجماعات
الممارسة للسحر الأسود و استحضار العفاريت و الفودو و الخ من العاداتِ الليلةِ المثيرة للتوجس."
" السيدة أوتو كانت ذات عجلةٍ قاسيةٍ مع الخدّم وقتها ، و كانت قد أرسلت خمسًا و عشرين
ممن عملوا عِندها في سبيل البطالةِ فِعلًا !
ذلك اليومّ ، صدف وجودّ السيدةِ أوتو في المنزلِ أثناء حادثٍ غير ذي أهميةٍ ارتكبته تلك المربية ،
هُمم ، ماذا كان؟ أعتقدّ أنها كسرت كوبًا أو استعارت أحدّ كتب السيد بغير إذن ، لا أذكر حقًا.
الأكثر أهمية ، استشاطت السيدة أوتو غضبًا و قامت بطرد المربية،
لكنّ جين كانّ متمسكًا بها حقًا ، فأمهلتهَا السيدة حتى نِهايةِ الشهر ،
خلال ذلك، أبقت المربية على نفسها في غرفتِها و لم تغادِرها إلا لمامًا ، كنت الشكوك و النميمة
تلعب لِعبتها مع طقمِ خدم المنزل وقتها ، أذكر أن أميّ قالتّ لي : " لقدّ كانت تحادث ابليس عينه ،
ليو ، انكَ ما إنّ تقترب ما حجرتها ، تشعر بالفظاعةِ تمزقكَ ، و يخيل لأذنيك صوت أجراسِ السعير .."
ألتمعت مقلتا مارتينز بتوجسّ ، ابتلع ريقه و أكمل بنبرةٍ يشوبهَا التردد:
" خرجتّ المربية من خلدها أخيرًا ، و قبيل رحيلها ، ارتقتّ سلالم غرفة الصبيّ جين ، و اهدته دمية،
كانت قدّ صنعتها بِنفسها ، أخبرته أن اسمها روبرت ـ تيمنًا بإسمه ، و بعينين ملأهما دموعٌ زجاجية
، ودعت الساحرة ربيبها جين.
سرعانّ ما ارتبط يوجينيّ بدميته روبرت ، ألبسهَا ثياب البحرة و منعَ أيًا كان من العبثِ بها ،
حرفيًا ، كان بالكادِ يترك الدمية تنك ، بل حتى أثناء نومه ، كانّ متعلقًا بها كأي طفلٍ يمتلك دمية.
كانّ الوضع طبيعيًا في البادئ ، و سُرّ الجميع بمن فيهم أمي برؤيةِ جينّ مستمتعًا بوقته ،
كان يلعب مع دميته لعبة البحارةِ و حفلات الشاي ، و كان يغلظ صوته في محاولةٍ لمحاكاةِ ما
ظنّه صوت دميته ، هنّا بدأ الوضع يتخذ منحنى أكثر رهبة."
حدق ماتينز ببقايا قهوته، رفع بصره نحو وارف الذي كان يحك ساعده بعصبيةٍ واضحة ، ثم أردف:
" ذلك اليومّ ، كانت أمي تكنسّ الردهة المؤدية إلى غرفةِ جينّ ، حينها ، رأت ماكسيمليان - كبير
الخدم- يسترق السمع من باب غرفةِ الصبيّ ، عجبت أمي لأمره و كانت على أهبة نهره ، لكنه
اخرسها بحركةِ من يده ، و طلب من أمِي أن تنصت لما يجري معه.
جينّ كان يلعب لعبة القراصِنةِ وقتها ، طلب بصوتهِ الطفوليّ الناعم أن يرفع روبرت السارية ، أجابه
صوتٌ خشنٌ نافيًا ، فغضب جينّ و قرر رفع السّارية بنفسه ،
" ليس بالأمر المقلق ماكس، جين يلعب فحسب"
" لكنكِ سمعت ذلك الصوت الخشنّ ، ألم تفعلي؟ "
"أنه فقط يُغلظ صوته بغية التحدث نيابةً عن دميته ، ليس بالأمر الجلل"
" يستحيل أن يكون ذلك صوت جينّ ! أنه خشنٌ كصوتِ عجوزٍ أعزب شبه ثملٍ و يعيش بمفرده ،
الأمر مريب يا امرأة!"
و حسنًا ، تبادرت الشكوك إلى سلكِ الخدم بشأنّ الصوتِ غامض المصدر الذي يحادث يوجيني ،
و بعدها بفترةٍ قصيرة ، أخذت الأصوات تتعالى ، و تحولت إلى نواحٍ زئيريٍ مجزع ، حتى أن السيد و
السيدة اوتو كأنا يهرعانّ إلى غرفة جين فيجدانهِ متكومًا على نفسه و يصرخ بعصبية :
"لست أنا، إنه روبرت ؛ هو من بدأ العِراك أولًا!"
كانت هذه شرارة ما حدث بعدها، إذا أخذت يدٌ خفية تعيث فسادًا في أنحاء المنزل ،
الصحونّ التي على الموائد تقع و تتهشم ، الكتب تقع من على الأرفف ، الأبواب تقفل دون قفل ،
كان فيلم رعبٍ كلاسيكي حيّ و مباشر!
ثم طالت اليد الغريبة ألعاب جين و دماه ، إذا كان تُمزق بهمجية و يرمى حشوها القطني في أنحاء
الممراتِ ، أما الوالدين فقد طفح كيلهما من كل تلكِ التصرفاتِ الفوضوية و اخذا يعنفانّ جين - ظنَا
منهما أنه وراء كل تلك الأفعال، لكن هيهات !- و أخذ جين ينوح بعينين متورمتين و صوت متحشرج :
" لست أنا، إنه روبرت ، هو من فعلها!"
لمّ يكنّ يوجيني وحده من يشير البنّان نحو أفعال روبرت التخريبة ، بل أن الخدم - و منهم أمي-
قدّ رأوا الدمية تجري عبر الممراتِ ، و أخبرتني والدتي أن ماكسميليان نفسه قد لاحق الدمية
مقتنصًا ذات مرة،
فامتطت الدمية الحائط و أخذت تمشيّ رأسًا على عقب - محطمةً كل قوانين الفيزياء و الجاذبية -
و هي تلقي بوابل من الشتائم و الكلمات الاذعةِ على أعقاب رئيس الخدم.
بل أن بعض الجيرانّ زعموا، في أكثر من مشهد، رؤية دميةٍ ما تعبر خلال النوافذ عند غياب أهل المنزل ."
أغمض مارتينز عينيه ، و هو يغطي ذقنه بكفه ، تنشق بعض الهواء ليستعيد انسياق حديثه ، ثم أكمل:
" تلك الليلة ، بلغت الأحداث ذروتها ، و هاهنا نصّل لِنهاية العلاقةِ بين جين و روبرت..
كان منتصف الليل تقريبًا ، ذكرت والدتِي أن السماء كانت مثقلةً بالسحب السوداء يومها،
بدأ الأمر بسماع بكاءٍ يخترق هواء الممر ، كان البكاء ليلًا عادةً لدى جينّ لذا لم يلق أحدٌ له بالًا،
تطور الأمر بسرعة، و تنامّى الى والديّ جين صوته الزاعق بوجلِ،
كان ينوح باندفاع ، صوته المهتاج صاح مختلطًا بالصريخ و الدموع طالبًا النجدة.
دلف الخدم جميعهم و معهم سيدا المنزل إلى الغرفة ، و وجدوا ، أثاث الغرفةِ بشكل أو بآخر ،
قد رُكم كله فوق سرير جين و الذي كان متكورًا ، بعسرٍ يلتقط أنفاسه ، شبه فاقدٍ للوعي.
و في أوج صحوته ، لفظ جين :" إن روبرت،يريد إيذائي"
و حالمّا استفاق الوالدان من إندهاشهما لما يجري، طفح بهما الكيل و حاولا تمزيق الدمية ،
لكنّ رئيس الخدم تدخل، و حذرهما من حلول اللعنةِ على كل المنزل إذا هما فعلا.
لذلك، قرر السيد أوتو احتجاز الدميةِ في عليةِ المنزل، و منع أيًا كان من الوطء طرفًا إليها."
صبّ مارتينز فنجانًا إضافيًا من القهوة ، عرض المزيد منه على مارثا فأبت ، و سألته :
" ماذا حدث بعدها؟ أحاولت الدمية الهرب؟"
" ذلك العامّ ، ربما قبل ثلاث أو خمس سنواتٍ من وفاة والدتِي،
ذاع صيت روبرت يوجيني أوتو كفنانٍ ، و تداول أن بعضًا من لوحاته أُستلهمت من
ماضيه مع تنك الدمية المتوحشة،
كنت يانعًا حينها ، حينما زرنّا أنا و والدتِي أحد معارضه في فلوريدا ،
و قد استقبلنا بحفاوةٍ بالغة هو وزوجته آني،
أذكر أن أمي سألته وقتها عن " الدمية في العلية" فقال أنها لم تبارح سجنها قطّ ،
و أن بعض الجيرآن - خصوصًا الجدد منهم-
اشتكوا عدة مراتٍ من أن شخصًا يحدق بِهم عبر نافذة العلية ،
رغم أنه و وزوجته عرفا قطعًا أنه روبرت، لكنهما لم ينبسّا ببنت شفةٍ عن الأمر."
" ثم ، في 1972 رحل جين منّ الدنيا ، تاركًا زوجة ، بيتًا و "دمية علية"، فباعت زوجته
المنزل بكل ما فيه لأسرة بينهم فتيّةٌ في ربيعها العاشر.
قرر الملاك فتح العليّة، و عجبوا لما وجدوا روبرت ،
بل كان عجبهم الأكبر حينما وجدوه نظيفًا تمامًا فيمَ المكان غارقٌ في الغبار،
و لسوء حظهم - و حسن حظ روبرت- تعلقت الطفلة بالدميّةِ و أخذتها معها،
لكنّ الأمر لم يطل حتى بدأ النواح و شكوى الطفلة من تحركِ الدمية ،
بل أنها أقسمت ذات مرةٍ أن الدمية حاولت إيذائها."
" أخيرًا ، تبرعت الأسرة بالدمية لِمتحفِ (فورت اِست مارتيلو) و
أغلب الظنّ أنهم فعلوا ذلك في سبيل الفكاكِ من شر الدمية"
هسهست مارثا :
" إذًا المتحف هو مستقرها الأخير"
هز مارتينز رأسه إيجابًا.
" هيا ، وارف، إنه وقت لِقاء روبرت شخصيًا"
كان اشبه بتمثالٍ رومانيٍ يعرض مشهدًا سيرياليًا و هو ينظر نحو مارثا ممانعًا :
" لا ضرورة لذلك ،مارثي ، قدّ سمعتِ القصة و كل شيء و.."
" من هو صبيّ السابعة الخائف من خزبعلاتٍ قديمة ؟ هاه"
" حسنًا، لكن يباغتني شعورٌ سيءٌ بخصوص ذلك"
أقر بعصبية.
" نشاهدّه يتجول عبر رِحابِ المُتحفِ ليلًا ، لذلك وضعناه في قفصٍ زجاجيٍ في النهاية"
قال مدير المتحف، ناقلًا ناظريه بين مارثا و وارف.
" نريد التقاط صورٍ له" قالت مارثا
" عليك بأخذ الإذن منه أولًا"
بتهكم ، استأذنت مارثا الدمية لتصويرها ، فجأة، آمالت الدمية رأسها طفيفًا.
جزع وارف و أطلق صرخة ، قال المدير بهدوء :
" هو يرفض ذلك"
سحبت مارثا كاميرا وارف بعصبية
" لا يهم ، سأصوره" صاحت.
و بعنادهَا ، كادت تلتقط صورةً له حتى بدأت تسعل بقوةٍ و ألم.
" هذا.. دم!"
كانت مارثا تتقيأ دمًا ، زحفت نحو دورة مياه السيدات بألم ،
لكنها ما خرجت بعدها،
و لم يرها أحد إطلاقًا.