••
العودة   منتدى وندر لاند > القصص والروايات > روايات الانمي_ روايات طويلة

روايات الانمي_ روايات طويلة لجميع أنواع الروايات " الحصرية، العالمية، المنقولة والمقتبسة"


الطريق نحو الحرية | السجين |

روايات الانمي_ روايات طويلة


إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-20-2023, 08:00 PM   #96
آدِيت~Edith
https://www.anime-tooon.com/up/uploads/at165286508456371.png


الصورة الرمزية آدِيت~Edith
آدِيت~Edith غير متواجد حالياً








ظل يقلب الأمر مراراً محاولاً أن يقنع نفسه أنها مجرد أوهام ، ضغط على رأسه بيديه مستاءاً وهو يشتم ذاته و"ماذا لو " التي تكررت في أعماقه كثيراً تصيبه بالعجز .

" إن كان كلامها حقيقة .. إن كان مجرماً خطراً ماذا سأفعل ولست وحدي بهذه المعمعة ، عائلتي .. ماذا لو آذاهم ، كيف يمكنهم فهم الخطر المحدق بهم .. مجرد بسطاء ضعفاء بلا حول أو قوة ، ماذا عنك إيفان ؟ إنك تزمجر وتصرخ بسطوة وتجبر ، لكن .. هل ستقدر على مواجهته ، إنك أضعف من ذلك أيها الغبي "

زفر عميقاً بضيق واستند إلى مقعده مفكراً ، ومالبث أن أحال طرفه نحو الجزء السري من المكتبة ، سار بتردد نحوها والفضول يسبقه لكنه توقف قبل أن تمتد يده لاستكشافه ، و تراجع مغيراً وجهته تاركاً مكتبه .

_ إلى أين سيد إيفان ؟.

نطقت الشقراء بغطرسة معهودة فأجابها وهو ينظرها بازدراء : ماشأنكِ؟ هل وكلتِ لمراقبتي فقط ؟ أخبري سيدكِ أني منحت نفسي إجازة لليوم ، ففي كل الأحوال إني أجلس خلف تلك الطاولة لتراقبني أعينكم وحسب ، لاجدوى من عمل لا عمل فيه صحيح ؟

خرج دون انتظار إجابتها بينما تجهمت وسارعت تكلم رئيسها شاكية : خرج إيفان ياسيدي وهو ...

_ أعلم .. أذني في كل مكان عزيزتي ، دعيه يفعل مايشاء لابد وأن الهواجس تخنقه الآن ، لنرى ماسيعيش من كوابيس غداً.

....................................

سار في الردهة شارداً حتى وقف أمام آلة بيع القهوة ،فأدخل البطاقة ووضع الكوب منتظراً أن تنهي عملها .

_ أنت هنا؟

التفت لصاحبة الصوت وكانت تقف خلفه تنظره بعتاب وضيق ، أجابها وهو يأخذ كوبه : إني هنا كل يوم تقريباً ، الغريب هو أن تجيئي بعد كل هذا الانقطاع .

صمتت ولاتزال عيونها تتأمل زرقاويه بكبرياء جريح غاضب ، تكلم بعدما ارتشف القليل من قهوته : ترغبين بواحدٍ أنتِ أيضاً ؟

أومأت بالنفي فأتبع : جيد أنكِ جئتِ ، لم نتحدث بشأن التفاصيل بالأمس .

سار نحو مكتبه فتبعته بصمت حتى دخلا مكتبه فأغلقت الباب من خلفها وجلست على الأريكة أمامه حيث جلس .

_ إذاً .. هل دبرتِ الأمر كريستينا ؟، يحب أن أدخل الغرفة أثناء انشغالهم بالحفل .

_ هل هذا هو مايهمك فقط ؟! ، إنك ترمي بمشاعري عرض الحائط ولاتكترث إلا بما تريد ، ألا ترى كم أنت أناني سي ؟

بابتسامة باردة أجابها : تحدثنا بالأمر ليلة أمس وأظننا اتفقنا على أن نفصل بين العمل والعاطفة ، ولكن إن كنتِ مصرة فيمكننا تجاهل الأمر ، ولتعتبري أني لم أطلب منك شيئاً ، أستطيع تدبر الأمر بمفردي .

زفرت بضجر وأجابته بحدة : إلى أي مدى تريد اختبار صبري ؟ لاتقلق سأساعدك بشأن ماتريد ، لكني أتسائل حقاً متى ستلتفت لي ، متى ستفهم أنك تسيء لي وتتصرف معي بوقاحة لاتغتفر .

رد وعيونه تنظرها بجدية : وإذاً لاتغفري ، لست مهتماً البتة ، ربما يمكنكِ حينها فهم أننا لم ولن نعود صديقين حتى ، استفيقي من هذا الوهم عزيزتي .

_ لقد خدعتني !

مستنكراً كان ينظرها بينما نطقت بنفاذ صبر : تعلم كم هو صعب أن أحب أحدهم وأثق به ، لكنك علقتني بك ووعدتني بأن تحبني دائماً وبكل بساطة الآن تشعرني أني لم أكن لك شيئاً ، تقبلت حتى أن نكون مجرد صديقين ثم أيضاً تركتني وجعلتني مجرد غريبة عنك لاقيمة لها .

_ تريثي كريس .. حبنا كان طفولياً بريئاً ، لم يكن جاداً البتة ، لنتفق على هذه الحقيقة أولاً ، لا أنكر كم كانت ذكريات جميلة وأياماً لاتتكرر ،كنتِ الأنثى الوحيدة المقربة مني بعد شقيقتي ، وكنت مجرد مراهق لايعي حتى ماهو الحب ، ولأنكِ كنتِ دائماً بقربي تعينينني وتسنديني والوحيدة بعد شقيقتي التي منحتني ما أنا بحاجة له من عاطفة ، حسبت أني أحبك ، وحالما كبرت قليلاً وأصبحت مجنداً وفهمت الحياة أكثر وصعوباتها صارحتكِ بأنني تسرعت بقراري وأن علينا أن نعيش صديقين فقط ، وقد قدرت صداقتنا وعاملتكِ باحترام واحتفظت بخاتم ارتباطنا احتراماً لتلك الذكرى حتى بدأتِ خيانتي ، مالذي انتظرته مني بعد هذا ؟ ماذا لو تفهمت موقفكِ وسامحتكِ وأعدتكِ لحياتي ؟ ، هل سيغير ذلك شيئاً ؟ هل سيعيد من رحلوا بسببكِ ؟ لقد شاركتِ بهلاكهم وسواء شئتِ أم أبيتِ عليكِ تقبل الحقيقة ، الكثير من العوائل تتألم بسببكِ ، مهما اعتذرتي فالأمر ليس بهذه البساطة ، لن تعود الأمور لما كانت عليه مطلقاً .

_ أنت وغد حقاً ، عابث ومتلاعب .

بابتسامة هادئة أجابها : أخطئتِ العنوان ، تقصدين نفسكِ حتماً ، لقد خاطبتكِ بكل احترام وانظري ماذا أجبتني!

استقامت بغضب جلي وهي تصرخ به : أعلم جيداً لم تفعل هذا وتحاول إيجاد سبب لتركي ، أن توهمني أن ماكان بيننا لم يكن حباً ، ألا ترى أنك تتلاعب بي وبمشاعري لأجل غريبة تعرفت عليها منذ أيام قليلة ؟! ..

صمتت مستدركة انفعالها وتنفست الصعداء محاولة أن لاتنطق بطيش : إني أحاول إصلاح الأمر بيننا رغم قسوتكِ ووقاحتك إن كنت تدرك ذلك ، لاتثر غضبي أكثر رجاءاً .

_ لذلك أخبرتكِ أن لانتحدث اليوم سوى عن العمل ، واضح وجلي أننا لن نتفق بشأن الأمور العاطفية .

جلست وتنفست الصعداء وبهدوء تكلمت : ستدخل الغرفة حوالي الساعة الخامسة ، سأتدبر أمر دخولك لكن عليك بالحذر فالحراسة هناك مشددة ، الكثير من أجهزة المراقبة تحيط بالغرفة خارجها وداخلها ومن الصعب تعطيلها أجمع ، من ناحيتي لا أجيد فعل ذلك ، وأيضاً .. أمامك ساعة واحدة وربما أقل ، لايمكنني تدبر أمرك لأكثر من هذا الوقت .

فكر قليلاً قبل أن يجيبها : لم تجعلي الأمر سهلاً كما ظننت ، لكنه سيغدو أكثر متعة هكذا ، شكراً على كل حال .

وضعت البطاقة أمامه والتقفت ورقة دونت بها بعض الأرقام السرية .

_ هذه بطاقة الدخول للغرفة السرية الزجاجية ، والتي تقع أسفل نهاية غرفة الملفات الخاصة والقضايا السرية ، وهذه مفاتيح الحاسوب وأقفال الخزينة ، أكرر لك .. إني الآن وإياك نرتكب جريمة لاتغتفر ، إن قُبض علينا لن يكون مصيرنا السجن وحسب ، سندفع أرواحنا ثمناً لذلك!.

_ لاحاجة لتذكيري بهذا ، أفهم ذلك جيداً ، مالاأفهمه هو ماأرسلته لي ، أعني قرص الذاكرة ذاك .

_ شاهدته إذاً؟

أومأ إيجاباً فأتبعت بضيق : لقد كانت علاقتهما مزعجة بالنسبة لي كذلك ، ولم أعلم بها سوى مؤخراً .. حين قررت والدتك التخلي عن والدي وعدلت عن قرارها في مساعدته عندما أدركت مدى خطورة ماأقدما عليه ، قرر والدي حينها التخلص منها ، ولكن مرضها أوقعها قبل أن يفعل هو ، وبينما هي في المشفى أرسل فريقاً لتفتيش منزلها بحثاً عن الأدلة ووجد ماسجلته ، وقد أمر الرجال أن يتلفوه لكني استطعت انقاذه و أبقيته لأجلك .. كان في الصندوق أموراً أخرى ألم ترها؟

_ كلا .. لست من قام بفتحه ، لذلك لم أعلم سوى بأمر هذا .

صمتت تفكر بريبة : سأتأكد أولاً إن كان ذلك الشخص الذي أوكلته قد سرقها لنفسه أو أنه ظنها غير مهمة فتركها ، حينها سيتوجب عليك رؤيتها فحتماً ستغير الكثير ،هل أعرفه؟أعني الشخص الذي فتح الصندوق .. هل هو ديريك؟

_ لا .. شخص آخر لايمكنني توريطه والبوح باسمه .

_ اسمه سيجعلني أعرف هدفه من إخفاء الملفات عنك ، حذار أن تثق بأي كان سي ، كان يجب أن تفتحه بنفسك ففيه أسرار صادمة ستجعلك تدرك أن والدي ليس سوى جزء من وحل هذه البقعة ، هناك الكثير يعيثون فساداً ويتصنعون البراءة .

نظر إليها حائراً متسائلاً فنهضت قبل أن تبوح بالمزيد : كن حذراً ، موعدنا الساعة الخامسة .

خرجت بعدها وعيونه تتأمل البطاقة والأرقام مرتاباً وجلاً .

" إن كان ماتقوله كريستينا صحيح فهذا يعني أن الرئيس ربما .. لا ... لا يمكن !"

حالما اجتاحته الهواجس المرعبة نهض يقصد غرفة رئيسه، لكن أحدهم كان بانتظاره في الخارج مما جعله يؤجل ذلك اللقاء وقد نطق مستنكراً : ستيف! مالذي جاء بك .

بنبرته الهادئة أجابه : لدينا حديث لم نتمه بعد ..

..........................

في الغرفة الصغيرة كانا يقفان وأمامهما لاحت الأهداف المتحركة وشاشة تعلوها لتسجيل النقاط ، تكلم بتحدٍ وهو يسلمه السلاح الخاص بالتدريب وسماعات الأذنين : لطالما أردت منافستك واختبار قدرتك على التصويب ، مارأيك لو بدأت أنت إذاً .

ابتسم موافقاً وأخذ السلاح منه وسرعان ماضغط على زر البدء وصوب نحو الأهداف بتركيز ، أطلق الرصاصة الأولى وتبعها بأربع أخريات ليصيب أول الأهداف بدقة وبراعة ، لاح الإعجاب في عيون رفيقه وهو يرقبه مأخوذاً ببراعته ، وما إن أنهى جولته حتى صفر أزرق العينين بإعجاب : سمعت الكثير من والدك حين كان يمتدح مهارتك بالتصويب ، لكن بعد مشاهدتها .. إنك عبقري .

_ لاتبالغ ، لم تكن جولة صعبة .

أخذ السلاح منه وهو يجيبه : يارجل لاتكن متواضعاً ، إنك لم تحمل سلاحاً منذ سنوات طويلة ومع هذا أدائك الأول لامثيل له ، بت أخشى الخسارة الآن .

ضغط زر البدء ووجه السلاح بتركيز على الهدف بينما رفيقه يجيبه : لست أحفل بذلك ، إنها موهبة ولدت بها ولذلك لست أجاري من بذل جهده للحصول عليها ، برأيي أنت تتفوق علي في هذا .

لم يجبه وقد مرت الثواني الأولى دون أن يطلق أي رصاصة فالتفت رفيقه يتأمله بقلق وقد غدت ملامحه متعبة شاحبة والحيرة تخالطها .

_ سيكيم .. هل أنت بخير ؟

أومأ إيجاباً بتردد ونظر ليده المرتعشة يحركها بقلة حيلة : لابأس .. سأبدأ بجدية الآن .

عاد يحمل السلاح وقد ضغط زر البدء من جديد يحاول الإطلاق دون أن يقدر على ذلك ، يده المرتعشة ماكان يقوى على الضغط عليها ، والصورة أمامه باتت مشوشة متداخلة ، الطنين بأذنه غدا مزعجاً للحد الذي لايمكنه تحمله ، شعر بذراع رفيقه تسنده وقد أوشك أن يفقد وعيه : لاتجبر نفسك سيكيم ، أرح نفسك قليلاً .

أبعده بكبرياء رافضاً الاستسلام : ربما لأني لم أنم ليلة الأمس .. هذا كل شيء .

ترك السلاح وعاد يقبض يده ويبسطها وهو يجلس على الأريكة ويده الأخرى تمسد جبينه ، تبعه ستيفانز وجلس قبالته وهو يتأمله بضيق : أما آن الوقت لتستسلم للحقيقة التي تعيشها قبل أن تسوء الأمور أكثر ؟

_ أخبرتك أن هذا حدث لأني لم أنم وحسب ، لاعلاقة لذلك بمرضي ، كفاك تذكيراً لي بذلك في كل فرصة .

_ سي .. أنا لا أذكرك لأزعجك ، ولكن ..

_ رجاءاً ستيف .. لنتحدث عن أمر آخر ، قل لي مالذي أردت الحديث معي بشأنه ؟

زفر بضيق ومالبث أن تكلم بيأس: هذا بالفعل ما أردت التكلم به معك ، ألا ترى أن تصرفاتك باتت مزعجة ؟ لن أكذب أو أجاملك ولن أقول أني لست مستاءاً وأتفهمك ، أنا بالفعل غاضب منك ، لقولك لما يسيء لي ولسيدة محترمة مثل إيرينا وكان هذا هو الأسوأ ، لتصرفك الأناني وكأن حياتك ملك لك وحدك ، هل حقاً تظن أن تجاهل العلاج سهل لهذه الدرجة ؟ ، لازال ماتواجهه هو البداية ، يدك ستستمر بالارتعاش وستفقد شيئاً فشيئاً قوتك ويضعف جسدك ولربما لن تقدر على الإبصار بشكل جيد حتى وهناك من يواجه صعوبة في الكلام ! هل تدرك الآن خطورة وضعك أم لا ؟! هل تريد الموت لهذه الدرجة دون أن تكترث بمن حولك ؟!

صمت يستمع له بعجز أبى كبريائه أن يبديه ، وبتردد تكلم معتذراً : لقد تصرفت بوقاحة .. أدرك كم تكلمت بطريقة سيئة وأن الاعتذار لايكفي ، ستيف .. قبل أن أعلم ما أواجهه كنت أفضل حالاً ، ربما لذلك لم أرد أن أعرف ..دون أن أدرك وجدتني أغرق أكثر فأكثر وحالتي تسوء بسرعة مرعبة ، لذلك أحاول أن أنسى مرضي ، حتى الأمس أفسدت الكثير من علاقاتي لقد تهورت وتصرفت بحمق ولؤم مع الجميع ، صدقني أنا مستاء من نفسي للغاية .

بتفهم أجابه : النسيان لن يشفيك سي ، لذلك أخبرتك أن الجزء الأهم في علاجك هو النفسي ، لايجب أن تسوء حالك أكثر لذلك لاتفكر بالأمر بسوداوية ولاتستلم ، واجهه وتلقى العلاج بأسرع مايمكن ، قبل أن تفقد نفسك .

دلك رأسه بأصابعه وقد أسند مرفقيه لركبتيه ومالبث أن رفع رأسه متنهداً بتعب : بقي القليل فقط .. لن يطول الأمر ، على الأقل ليكن أهل القرية بأمان .

_ اهتم بنفسك رجاءاً ونم جيداً ، كي لاتسوء حالك من جديد .

أومأ له إيجاباً وعيونه تنظر للبعيد : أتعلم ماهو حلمي .. مذ أخذت على عاتقي الأخذ بثأر صديقي ، كنت دائماً أتخيل تلك النهاية السعيدة التي نستحقها .

رفع عيونه ينظر لصديقه بابتسامة هادئة : تخيل معي ستيف ، يقام حفل كبير أكبر من كل الاحتفالات العسكرية ، يحضره الحاكم بنفسه ، على المنصة الضخمة يقف الجنرال وينادي بفخر واعتزاز : ستيفانز ابن الكولونيل الراحل ميخائيل .

ابتسم الآخر تلقائياً وهو يرقب رفيقه يكمل بحماس : تصعد أنت على المنصة فتُعطى شارة والدك ووسام النبل والشرف وتستعيد مكانة والدك وشرفه الذي خسره بسبب تلك التهمة الحقيرة ، من بعدك ينادون باسم والدي الكولونيل الثاني ويعاد له شرفه ومكانته أيضاً ، ويعتذرون منكما أمام الجميع لكل الظلم الذي لحق بكما ، وأخيراً ...

لاح حزن طفيف على محياه رغم ابتسامته وهو يكمل : نواه .. سيصعد على المنصة بتحية كبيرة وسينحني الجنرال بنفسه ليلبسه الشارة التي لطالما حلم والده بامتلاكها ، سيذكر اسم آدم أخيراً ، وسيعلم الجميع ببطولاته التي لم تظهر للعلن ، حتى وإن لم يكن حاضراً ليشهد تجنيده ، وتقدير الجميع له .. فنواه سيشهد ذلك وسيفخر كثيراً بوالده ، إيرينا أيضاً وجوزيف الصغير .. والسيد رونالد ، سيعيشون بكرامة وسيمنحون الحياة التي استحقوها وحرموا منها منذ أمد بسبب الطغاة الذين سلبو آدم حياته وحلمه ، حينها فقط.. أعدك أن أتراجع وأترك الساحة ، سأعيش لنفسي وأتدارك مافاتني ولن يكون هناك ألم بعدها مطلقاً.

_ وربما يكون الأوان حينها قد فات لذلك .

ربت على كف رفيقه وهو يتبع : حلم جميل أحب أن أشاركك فيه بكل تفاصيله ، لكن تذكر .. حتى ذلك الحين سيكون الوقت قد تأخر كثيراً سيكيم ، ولربما لن تجد فرصة للحياة من جديد ، هل أنت مستعد لدفع هذا الثمن الباهظ .

أومأ إيجاباً بلا تردد : إنه يستحق .. أليس كذلك .

ابتسم باستنكار : أنت مجنون .

بادله بابتسامة ضاحكة: أعلم ذلك ياصديقي .

.....................................


داعب النسيم شعراتها المموجة وقد وقفت على التل تجاورها الصهباء صاهلة ، مسحت بكفها عليها لتهدئتها وقد احتارت لفزعها حتى انتبهت للسيارة القريبة ووجهتها منزلها الخشبي الصغير .

لملمت شتات قلبها الحائر الوجل وامتطت فرسها تسابق الريح، حتى وصلت فنزلت عن ظهرها وسارت نحو الفتاة الواقفة أمام الباب تطرقه، من خلفها خادم يحمل صندوقاً فاخراً وباقة من الزهور .

_ مالذي أردت يا آنسة ؟ لابد وأنكِ أخطئتِ العنوان !

التفتت لها مبتسمة وحيتها بلباقة : لابد وأنك الآنسة فيكتوريا صحيح ؟

ضيقت عينيها مرتابة فأتبعت الشابة وهي تشير للخادم : جئنا لإرسال هذه الهدية بشكل خاص حسب توصية السيد آندريه ، إنه ينتظركِ عصر هذا اليوم لمشاهدة السباق ، ويأمل بشدة أن لاترفضي دعوته .

قبل أن تجد فرصة للرفض كان الخادم قد أعطاها الهدية وباحترام استأذنها والشابة ليغادرا .

خرج نيكولاس متسائلاً وهو يرتب معطفه : آسف لتأخري .. هذه أنت فيكي ؟

التفتت له وقد انعقد لسانها دون أن تدري ماتقول بينما تكلم بتعجب : ماهذا ؟!

أشارت بأنها لاتعلم فساعدها ليحمل الصندوق، تاركاً الباقة بين يديها تداعب وجهها ورائحتها الزكية تسللت لأنفها .

تحلقت العائلة حول الطاولة يتأملون الهدية الغريبة دون أن يعلق أياً منهم ، فالزمرديتان كانتا تبحران في البعيد مجهولتا الشعور .

_ إذا فيكي .. ألن تفتحي الصندوق ؟

سألت ليديا ببراءة وحماسة قطعتها شقيقتها بنظرتها الجادة الصلبة ، نهضت بعدها تحمل العلبة للغرفة مقفلة الباب من خلفها ، فتحتها بروية وإذ بها فستان بلون النجيع ناهز طوله ركبتيها ، مع حذاء فاخر بياقة عالية أبيض اللون تناسب والمعطف الأنيق ، وصندوق حوى بعض الحلي مع حقيبة صغيرة فضية .

أغلقته وقلبها ينتفض غضباً شاتمة في أعماقها من يحاول جرح كبريائها ، خرجت والعيون ترقبها متنظرة جوابها مدركة أن صمتها سيخلف عاصفة لاترحم ، تكلمت باعتزاز وأُنفة : سأخرج للتسوق أمي ، من يريد منكم شيئاً ليدونه بسرعة .

نطقت الأم بابتسامة رغم حيرتها : خذي هذا المال علكِ تكونين بحاجته .

_ لا أمي .. مامعي يكفيني ، شكراً لكِ .

خرجت وسط حيرتهم وقد تسائلت الصغرى : مابها ؟ يجب أن تكون سعيدة لأن هناك من يهتم بها .

أجابها روسيل بقلق : أرى أنها محقة باستيائها ، لم يكن تصرفه لائقاً أبداً .

_ على العكس! ، لاتنس أنه عاش في المدينة فحتماً قوانينهم مختلفة عنا .

_ لاشأن لذلك بالقوانين بل بالمنطق .

تكلم نيكولاي موبخاً يقطع جدالهما : كفى ! بغض النظر عن موقفه وخطأه أو صوابه ، يجب أن نحترم قرار فيكتوريا فهي الأكبر بيننا والأكثر حكمة ، حتماً لن تفعل مايسيء لها أو لنا .

_ أنت محق .. أتمنى أن تكون سعيدة فقط ، لتنتهي الأوقات العصيبة ولنبدأ أياما نستحقها .

_ أرجو ذلك عزيزتي ليديا .

.....................


أعلنت مراسم الاحتفال العسكري الضخمة مبتدئة بمسيرة عسكرية اجتمع حولها الحشود بإعجاب ولهفة ، وأخيراً توقف العسكر في ساحة المبنى الضخمة تحيطهم الزينة والموسيقى العسكرية وهم يرددون أغنية الوطن ، على المدرجات جلس كبار الشخصيات العسكرية بأبهة واعتزاز ، بينما في المقدمة اصطف الرؤساء الأقل مكانة لاستقبالهم من بينهم كان سيكيم وهو يتأملهم بشرود مفكراً بكلمات حمراء الشعر وعيونه ترقب سيمونز بين الحين والآخر ، كان الآخر يبتسم وعلى وجهه السمح بدت السعادة جلية .

" هل يعقل أن يخفي خلف هذه الملامح الطيبة شيطاناً خبيثاً لم ألحظه ، ماذا لو كان ذلك صحيحاً "

تنهد بضيق متعباً ودلك جبينه مغمض العينين " فقط لو يتوقف هذا الصداع قليلاً " .

بدأ الحفل بتكريم الطاقم العسكري وترقية بعض الشخصيات ، وما إن نطق الجنرال باسم الأخير حتى اتسعت العيون الزرقاء ذاهلة وقد بدأت الشكوك تتسلل لقلبه أكثر: القائد سيمونز باتريكس ليحل بمكان الرائد ليونيد كومينز والذي سيكون اللواء المبجل! .

تقدم كليهما لمنصة التكريم وسط استنكاره واستهجانه لما حدث ، كتم غيضه وانتظر حتى انتهت مراسم التكريم وبدأت الولائم والموائد الضخمة تعلن عن نفسها .

سار نحو الرئيس بنظراتٍ باردة اختزلت غضباً ونقمة وما إن وقف أمامه حتى نظر إليه الآخر بذعر خفي وتوتر ، سارع لإنهاء حديثه مع من يرافقه من الرجال واستأذنهم ليغادر مع الشاب مبتعداً وقد أحاطه بذراعه : كيف حالك اليوم بني ، لم أستطع رؤيتك قبل الحفل أردت سؤالك عن بعض الأمور .

_ عن ماذا مثلاً سيدي الرائد ، اوه العفو نسيت تهنئتك بمنصبك الجديد .

بتلعثم أجابه رغم محاولته التكلم بنبرته المعتادة : صدقني أردت حقاً أن تتم ترقيتك كما تستحق ، لكن اللواء عارض بشدة ذلك ، لم يكن بيدي فعل شيء رغم أنك تستحق أن تكون قائداً بجدارة .

أطلق ضحكة صغيرة ساخرة وهو ينظره بازدراء :اللواء؟!، من الجيد أن لاتتم ترقيتي في مثل هذا المكان الصدأ ، صدقني ماكان ذلك ليكون مشرفاً بقدر خزيه ، لكني تعجبت حقاً من كونه يمنحك مركزه وهو يسعى ويخطط لقتلك ؟!

بدا الارتباك جلياً عليه وهو يبرر : إنه يحاول إغلاق فمي وإسكاتي بهذا المنصب ، لكن هذا لايعني أن الخطر قد زال ، ثق بي إني لا أكذب أو أخدعك .

بريبة أجابه وهو ينظر بعينيه يحاول أن يستشف منهما الحقيقة : ماذا عن الخزينة ؟ قيل أنها كانت تحوي ملفات أخرى لكن شيئاً منها لم يصل لي ، هل كانت تفتضح حقيقتك إذاً ؟

صمت مذهولاً وبعد تفكير نطق بجدية : هل تشك بي الآن ؟ حذار أن يخدعك هؤلاء ، لقد ارتبكت مثلك حين تمت ترقيتي وخشيت أن تظن السوء بي ، لكن يبدو أنهم قد دبروا الأمر جيداً لتفقد ثقتك بي ، لاتفعل بني ، تعلم كم أحبك وأعتز بصداقتك أنت ووالدك .

لم يجب وظل يتأمله بضيق حائراً فأتبع وقد وضع كفه على كتف الشاب : لن أقوم بخيانتك مطلقاً ، إنك بمثابة الإبن لي ، إن خشيت أني أخدعك فلتترك كل شيء وكلتك به ، حتى تشعر أنك تفعل الصواب وتثق بصدقي ، بإمكانك الابتعاد قدر ماشئت وأخذ قسط من الراحة لتفكر جيداً ماالصواب وما الخطأ .

ظل بصمته لايعرف ماعليه تصديقه وسريعاً ابتعد دون أن ينبس ببنت شفة ، توقف حالما لحظ قبالته كيانه المقيت وقد تهندم بأبهى الحلل معتداً بنفسه كعادته ، صوب نحوه عيونه الكارهة الناقمة ، بينما الآخر كان ينظره بابتسامة خبيثة وخيلاء : ألن تهنئني أيها الولد الوقح .

_ مبارك لك منصب الجحيم ، أرجو أن يكون هذا طريقك للهاوية .

_ هه ياللسانك السليط ، أتعلم .. كنت لتصعد المنصة وترتدي شارة القائد لكنك لم تستحق ، تدرك لم أليس كذلك؟

اقترب يهمس له بمكر : لأنك وقح ووغد يستحق الموت ، أنت ووالدك قريباً ستدفنا في قبر واحد ، حيث تخبئه أيها الأحمق .

ابتسم ساخراً بفتور : يالك من ساذج ، يبدو أن والدي جعلك تموت غيظاً حين استطاع الهرب منك ، يحرقك كل يوم أنه لايزال يتنفس بينما أنت ترتعد خوفاً منه وتراه في منامك وكلما أغمضت عينيك .

همس له هو الآخر بدهاء : بقي القليل فقط لتقبر ياعزيزي ، الأب وابنه سيكونا لك ظلاماً لاينتهي .

ربت على كتفه ولايزال يبتسم بتوعد وسرعان ماتركه والآخر ينظره بحقد وكراهية ، أشار لابنته أن تتبعه ففعلت بتكدر وضيق مستسلمة ، دخلت مكتبه لتجده قد جلس على مقعده مسنداً رأسه لكفيه ومرفقيه على الطاولة ، فاقتربت منه قلقة تمسد ظهره : هل أنت على مايرام ؟

رفع رأسه يتأملها بضياع وحيرة : سأسألك لمرة واحدة كريس .

نظرته متسائلة وقد أكمل بتردد : هل سيمونز واحد منكم ؟

سكتت قليلاً تتأمل زرقاويه المترقبتين لجوابها وكل حواسه تنتظر منها أن تنكر ذلك ، لكنها خالفته الرأي وأومأت إيجاباً : إنه تحت سلطة والدي ، لكنه اختلف معه منذ فترة ويبدو أن والدي استطاع إرضائه.

بخيبة أطرق برأسه مفكراً يتمتم: عرفته لسنوات وعملت بين يديه ، كيف يمكن أن يخون المرأ مبادئه ومن حوله هكذا بكل بساطة ؟!.

_ إنه المال .. المال والمنصب قادران على تغيير كل شيء ، المباديء ..الضمير والإنسانية .

نظر لعينيها وهو يكمل مابدأته : وحتى القلب .. صحيح ؟!

_ لاتقارنني بهم ، أنا وأنت نعيش الظروف ذاتها سي ، لذا لاتظلمني أكثر .

_ لست مثلك .. بسببك لم أعد أعرف ماهي الحقيقة حتى ! ماذا لو أنك ووالدك اتفقتما لتشويه سمعته لدي ؟ ماذا لو أنكما أردتما بإصرار أن أمقته وأحاربه ؟! ، لم علي تصديقك ؟ .

بنفاذ صبر أجابته : إنك لاتعي ماتقول ، بدأت تهذي سي ، لاتستطيع تصديق أي منا لكنك حتماً لو فكرت قليلاً ستدرك الحقيقة ، ولن تحتاج لأن يخبرك بها أحد أو يوضحها لك .

عاد يدلك صدغيه بأصابعه وقد أنهكه الصداع، ومالبث أن أخرج من درج مكتبه قرص دواء ، التقم منه واحدة أتبعها بشرب القليل من الماء .

_ سيكيم .. هل أنت بخير ؟

رد بصوت أنهكه الألم : إنها الخامسة .. دعينا نبدأ الآن .

_ وأنت بهذه الحال ؟

نهض وهو ينظرها بحدة : كل ما أريده هو أن تراقبي الطريق ، سأتكفل بالبقية .

زفرت بضجر وردت بنبرة جافة : بأمرك أيها العنيد .

سارت أمامه فسلك طريقاً آخر متسللاً وهو يراقب المكان ، بينما هي اقتربت من الشاب الذي يحرس الغرفة بتململ وبابتسامة بادرت: مرحباً آرميس ، كيف أنت أيها الشاب ؟

_ وأخيراً تذكرتِ أن لديكِ صديقاً اسمه آرميس وعملاً عليكِ إنجازه ، بالطبع طالما والدكِ هو كبير هذا المقر فلن تحتاجي المجيء للعمل ، تأتين للتسلية وحسب .

_ يالك من لئيم ، ليس هذا هو السبب ، لقد اضطررت للابتعاد هذه الفترة ، كان لدي وضع خاص مزعج .

_ لابد وأنكِ كعادتكِ كنتِ تركضين خلف ذلك المتعجرف ، لا أعلم لم لازلت معه وهو يؤذيكِ باستمرار كريستينا .

_ لقد انفصلنا .. لم نعد أصدقاء حتى .

قالت ذلك بضيق وعيونها ترقب الباب الزجاجي خلف صاحبها، وقد لاح لها سيكيم بداخل الغرفة متمكناً من التسلل إليها .

_ ماذا لو دعوتني لشرب القهوة ؟

_ لمواساتك؟أم للاحتفال بهذا الخبر؟

_ لأجل الاثنين معاً .

_ لايمكنني ترك المكان دون حراسة مع الأسف ،لننتظر حتى ينتهي دوري .

_ هيا أيها الجبان، هناك الكثير من أجهزة المراقبة ، من ذا الأحمق الذي سيتمكن من الدخول دون أن يُفتضح أمره؟ كما أن المركز تحت الحماية المكثفة لأجل الحفل وجميع الطاقم هناك من قد يجيء إذاً ؟

تأفف بضجر وتبعها : حسناً ولكن دعينا لانتأخر .

ابتعدا معاً وماإن غابا عن عينيه حتى أسرع نحو جهاز التحكم الرئيسي الذي تصدر الغرفة وأسرع بتشغيله بحذر مدخلاً فيه قرصي ذاكرة صغيرين ، أحدهما كان لتعطيل نظام المراقبة والآخر لنقل كل المعلومات بداخله .

وضع إصبعيه على جهاز الارسال الصغير بأذنه وهو يتكلم بصوت منخفض : ديريك هل تسمعني ؟

أجابه الآخر وهو ينزوي بعيداً عن الآخرين : أسمعك .. قل ماتريد .

بلل شفتيه وقد صمت للحظة يحاول استجماع كبريائه : ذكرني .. الرقم التسلسلي الذي يجب أن أدخله .

هم بأن يسخر فتذكر ماقاله له عن مرضه ولزم الصمت مؤنباً نفسه : حسناً .. سألقنك الخطوات بسرعة فعندما تدخل الرقم سيكون عليك أن لاتخطأ بشيء قبل انتهاء الوقت حتى لا يُكشف أمرك .

_ أنا جاهز لهذا ، فلتبدأ إذاً .

أسرع يمليه وهو ينفذ بسرعة ودقة حتى ظهرت أمامه الشاشة الخضراء وقد سمع صوت إقفال أجهزة المراقبة .

_ جيد لقد تم الأمر ، بقي أن أقوم بحذف ماتم تسجيله وأجد ما أريد قبل أن تبدأ الأجهزة بالعمل من جديد .

_ هل تستطيع فعل ذلك ؟

سكت قليلاً وهو ينظر الشاشة كما لو أن ماتعلمه لسنواتٍ قد تلاشى ، تكلم مستسلماً : لا .. أحتاج مساعدتك .

_ حسناً إذاً .. لنكمل معاً ياصديقي .

_ شكراً لك ديريك ..

ما إن استتم عمله حتى أسرع يكلم والده وقد بدأ بتصوير الملفات له : بسرعة أبي ، أي واحد هو ما أردت ؟

_ ليس في هذه الناحية ، انظر للعمود الخامس ،على الرف الثاني حسبما أذكر .

أسرع لتلك الناحية وهو يرقب الباب بين الحين والآخر : أسرع أبي ليس أمامي الكثير من الوقت .

نظر لهاتفه محاولاً أن يجد ضالته دون جدوى : كلا .. إنه ليس هنا ، أين أخفاه هؤلاء ؟

نظر الشاب حوله وسرعان ماتذكر ماقالته حمراء الشعر : الغرفة الزجاجية .. ربما هناك .

أسرع يفتح البوابة بالبطاقة وينزل نحو الغرفة الزجاجية السرية ، كثير من الملفات والصناديق الفولاذية المغلقة اصطفت بعناية ، اقترب يبحث بينها وهو يصور لوالده : انظر جيداً أبي ، هذه كلها ملفات سرية قديمة .

_ انتظر سي عد ليسارك .

استدار فهتف والده بسرعة : أجل هذا ، الملف ذو اللون الأحمر .

فتحه بيد واحدة وإذ بالأوراق تتناثر على الأرض : تباً لقد سقطت ، حسناً أبي مضطر لتركك ، إن أردت أمراً آخر أخبرني .

_ كن حذراً بني .

أغلق هاتفه وأسرع يلملم الأوراق ويرتبها ، وإذ بصورة آدم من بينها مع مجموعة من الرجال تستوقفه ليتأملها بغصة ودهشة .

صوت قريب أجفله جعله يغلق الملف بسرعة ويضعه داخل حقيبته التي ارتداها سريعاً وهو ينظر حوله باحثاً عن مخبأ ، ومالبث أن أدخل جسده في الحجرة الفولاذية المتوسطة الحجم كحل يائس.

الأصوات باتت قريبة والعتمة تحيطه في تلك الغرفة الخانقة التي لم يعد قادراً على فتحها ، أرسل سريعاً لكريستينا لتتدارك الأمر فاتسعت عيونها بقلق وذعر .

_ مابكِ يافتاة ؟ هل حدث مكروه ؟

بتوتر أجابته وهي تفكر بحل تلك المعضلة : لا .. لاشيء ، آرميس .. هل لك أن تسدي لي خدمة ؟

ضيق عينيه متسائلاً فأتبعت بسرعة : سيارتي ! أوقفتها في مكان خاطيء وقد أرسلوا أني قد أتلقى مخالفة ، هل لك أن تأخذها لموقف السيارات الخاص رجاءاً؟

_ ولم لا تفعلي أنتِ؟ ثم كيف لكِ أن ترتكبي مثل هذه الحماقة ؟

_ أرجوك آرميس لم أطلب منك شيئاً منذ وقت طويل وهكذا ترفضني ؟

تنهد ضجراً وأخذ المفتاح منها : سيكون لذلك مقابل أيتها المتبجحة .

_ حتماً .. لك كل ماتريد ، ممتنة لمعروفك .

ذهب وهو ينظرها بريبة وما إن غاب عن عينيها حتى أسرعت نحو الغرفة تستخرج قرصي الذاكرة قبل أن يكتشف أحدهم وجودها ، خبئتها في جيبها وأسرعت نحو الغرفة الزجاجية قلقة ترقب المكان ، وقد كان والدها وثلاثة من رفاقه يتحدثون وهم يقفون أمام أحد الصناديق السرية.

التفت لها والدها بتعجب متسائلاً : مالذي جاء بك كريستينا ؟

نطقت محاولة إخفاء توترها : كنت أبحث عنك أبي ، بالكاد وجدتك .

_ لدي عمل الآن نتحدث لاحقاً .

_ أرجوك أبي .. هذا مهم للغاية!

زفر بضيق وهو ينظرها متوعداً وسرعان مااستدار نحو رفاقه : لنكمل لاحقاً إذاً ، رجاءاً تفحصها جيداً سيد آدريان ، سأكون ممتناً لو اجتمعنا مجدداً واتحدنا سوياً.

_ وأنا كذلك أيها اللواء ، سيكون لقائنا قريباً حتماً .

أشار لهم أن يتقدموه ففعلوا وتبعهم وهو ينظر إليها باستياء هامساً : انتظريني في مكتبي ، ولسوف توضحي لي سبب تصرفك السيء هذا .

أومأت إيجاباً وقد ازدردت ريقها ، وما إن خرج حتى أسرعت تنادي باسم صاحبها وجلة ، طرق على باب الحجرة الفولاذية فهرولت نحوها تفتحها ، وما إن فعلت حتى خرج سريعاً يحاول التقاط أنفاسه المكتومة وهي تسنده قلقة : هل أنت بخير ؟

أجابها بصعوبة : كيف أبدو .. برأيك ؟

أحاطته بذراعها وأسندته على الخزانة حيث جلس ليرتاح : مالذي أستطيع فعله لأجلك .

أخذ نفساً عميقاً مريحاً قبل أن يجيب : اتبعي والدكِ كي لايشك بشيء.

أومأت إيجاباً وأعطته قرصي الذاكرة وهي تنهض: سيعود آرميس بعد قليل ونظام المراقبة عاد للعمل ، أسرع بالمغادرة لأتمكن من حذفها قبل مجيئه .

نهض مستجيباً وسار نحو المخرج ومالبث أن توقف يخاطبها قبل أن يمضي : شكراً لكِ .. كريستينا .

أجابته بابتسامة بينما أسرع يغادراً وعيونها تشيعه بنظرة غامضة بعيدة .

....................

رماديتاه جالتا البقعة بحثاً عنها ولأول مرة لم يكن واثقاً ما إذا كان سيتحقق مايصبو إليه ، توقف ناظريه فجأة عند كيانها المقبل ، بثوبٍٍ بلون السماء وحذاءٍ فضي أنيق ، و قد جمعت شيئاً من شعرها بمشبك الفضة بينما انساب بقاياه كموجات الذهب .

كان يتأملها مأخوذاً بسحر تلكما العينين اللامعتين بصلابة وكبرياء لامحدود ، اقتربت منه فمد يده مصافحاً بابتسامة غامضة : سعيد حقاً لتلبيتكِ دعوتي، بالفعل لاوصف لبهجتي آنسة فيكتوريا .

أضاف متسائلاً بريبة : لكن .. ألم تصلك الهدية ؟

بعزة أجابته : بلا .. لكن تلك الهدية أحزنتني وأغضبتني ، هل كنت تحسب أني لا أملك ثوباً جميلاً لألبسه؟ أم أنك دعوتني وأنت تخجل من أن آتيك بملابس قروية لاتليق بمقامك ؟

برر سريعاً: ليس هذا مقصدي ، ورغم ذلك أعترف أني أخطئت بحقك ، آسف إذ تصرفت بطريقة تجرحكِ وتؤذي مشاعركِ دون قصد مني ، أردت من ذلك فقط أن تكون هديتي مكتملة ، والواقع أن ذوقكِ أفضل مني بكثير ، إنكِ وبكل التفاصيل مميزة .

لم تلن أو تنخدع بكلماته المنمقة ، بل نطقت بحدة دون اهتمام : لقد أغضبتني وبشدة ، فكرت أن أتجاهل الأمر وأعيد هداياك لك ، لكن ذلك لم يكن ليطفأ غضبي مطلقاً ، لذلك قررت المجيء لا لأجلك ، ولا لأجل السباق حتى .

صمتت وعيونها تحرقه بلهيبِ كبرياءٍ جريح ، ودون أن يدرك كيف ومتى! أحس بأثر تلك الصفعة المنتقمة ، العيون صوبت نحوهما ذاهلة ، بينما هي استدارت مغادرة وسط دهشته وقد قبض كفه بقوة متسللاً بأعماقه شعورٌ غريبٌ لم يألفه من قبل ، ارتسمت على شفتيه ابتسامة جنونية مرعبة وقد تمتم مستمتعاً : أيتها الفتاة أنتِ لي بلا شك ، إنكِ محظوظة لتنالي إعجاب الشيطان ، سأذيقكِ طعم الذل بقدر كبريائكِ الملعون هذا ، قريباً وللغاية .

......................................

وقف أمام الطاولة يلف له شطيرة على عجل مخاطباً رفيقه : دعنا نذهب للمشفى للاطمئنان على الفريق .

_ قلت أنك تتضور جوعاً ، لم لا نبق قليلاً لتناول الطعام إذاً .

أشار لشيطرته وهو يسير نحو الخارج : هذه تكفيني ، لاوقت لذلك كما تعلم .

ركب كليهما السيارة وقد جلس ديريك خلف المقود بينما سيكيم بجواره يتناول شطيرته ، سارت السيارة نحو وجهتهما بصمت قصير قطعه رملي الشعر بتردد : سيكيم .. كيف تشعر الآن؟

رد وهو يمسح فمه : لم تسأل؟

_ منذ قليل .. أنت .. لاتفهمني بشكل خاطيء ولكن .. هل نسيت حقاً كل ذلك؟

أجابه وهو يتأمل الطريق بشرود : ليكن .. ماذا عساي أن أفعل ، لا أريد التفكير بالأمر أكثر ، ذلك سيصيبني بالجنون مجدداً وسأغدو أحمق كما كنت بالأمس ، لذلك من الأفضل أن أتجاهل مايزعجني ، الكثير من الأحداث توالت هذا اليوم ، التفكير بها يقودني للجنون الحتمي ، عندما أجن لا أكون أنا ، سأرتكب الكثير من الحماقات لذلك من الأفضل أن لا أفكر طويلاً بها .

أومأ له بالإيجاب بضيق : أنت محق .. أرجو من كل قلبي أن لايكون ماتفكر به صحيحاً ، فإن انضم لهم الرئيس سيمونز حتى فبمن سنثق؟

تنهد الآخر بثقل وعادا لصمتهما حتى وصلا للمشفى ، سارا نحو غرف الجرحى ليطمئنا عليهم واحداً تلو الآخر حتى وصلا لغرفة آنديرسون والذي كان نائماً بعمق ومخطوبته من خلف الزجاج تتأمله بألم وغصة .

وقفا بجانبها وقد ابتدر عسلي الشعر يخفف عنها : آسف لما جرى جوانا ، كيف حاله الآن ؟

أومأت بالنفي متعبة ودموعها قد احتجزتها مقلتيها : ستجرى له عملية أخرى بعد غدٍ ، قال الطبيب أن حاله باتت مستقرة ، لكنه استيقظ مرة واحدة فقط وسائت حاله سريعاً بعدها .

انهمرت دموعها وهي تكمل بحرقة : لايزال رغم كل شيء خائفاً على الفريق ، أمسك يدي بقوة وظل يردد ..لاري لاري ، حاولت تهدئته أخبرته أنه بخير وكذلك الجميع ، لكنه استمر بتكرار اسمه حتى جاء الطبيب وأعاده لرقدته .

_ ولم لاري؟

أومأت بأن لاتعلم وأضافت وهي تمسح دموعها : كانا معاً عندما ابتدأ المجرمون هجومهم الشرس ، لايزال خائفاً من أنه قد قُتل ربما .

عادت تجهش بالبكاء فاقترب منها ديريك يخفف عنها بينما كانت الوساوس تهاجم الآخر وهو يتأمل رفيقه الممد على الفراش بسكون .

عاد رملي الشعر له بعد أن ترك الفتاة مع صديقتها وصمت صديقه أثار فضوله : مالذي تفكر به سي ؟

أجابه الآخر وهو يسير معه مبتعداً كي لاتسمعهما الفتاتين : تراودني ظنون مرعبة ديريك .

قطب رملي الشعر حاجبيه متسائلاً فأكمل الآخر وجلاً : ماذا لو أن لاري تعمد إيذاء آنديرسون ، فكر جيداً .. كيف سيقع رجل مثله في فخ كهذا بكل بساطة ، وكيف سيصاب إصابات بليغة كهذه رغم أن الفريق بأكمله معه والخطة كانت محكمة.

رد مستنكراً وهو يومأ بالنفي : ماهذا السيناريو المجنون سيكيم ، لقد فقدت صوابك حتماً وبدأت تتخيل الجميع خونة .

بجدية واصرار أكمل أزرق العينين : لاري غضب كثيراً عندما حل آنديرسون مكانه ، أراد الانتقام مني وإظهاري على خطأ وأني المتسبب بكل ماحصل ليثبت فشلي للجميع ، وفي الوقت ذاته حقق انتقامه من آندي الذي حل مكانه .

صمت ديريك وهو يفكر باحتمال كون مايقوله صائباً ومدى كون الأمر كارثياً مرعباً : سيكيم .. إن كان ماتقوله حقيقة ..

_ فالأمر لن ينتهي عند هذا الحد ، سيكون بيننا مافريكي جديد ، وسيكبر العفن بذلك المكان أكثر وأكثر ، وسأكون السبب بالفعل لما حل بآنديرسون ، لو لم أغضب ذلك الأحمق واستمر باستفزازه لما حدث ماحدث .

_ لا سيكيم .. إن كان ماتظنه صحيحاً فهذا يعني أن ذلك الفاسد يجب أن ينال جزاءه بأسرع مايمكن ، لايمكن لأحدهم أن يغتال فريقه فقط لأنه غاضب من آخر استفزه وأزعجه ، من يخون مرة فسيكررها ألف مرة ، قلتها بنفسك .. قد يكون بيننا مافريكي آخر ، ولا أخالك نسيت مافعل ذلك الحقير فيما مضى وماسلب منا .

زفر عميقاً بتعبٍ وضيق : ياله من عالم معتم مخيف ، الشياطين تختبأ بيننا وتغتالنا بوحشية ، كيف يجدر بنا مواجهتهم أجمع ، لم يجب أن يكون الشر قوياً لهذا الحد؟!

_ إنها قوانين هذه الحياة التعسة مع الأسف.

_ على كل حال حري بنا أن نتأكد من حقيقة الأمر أولاً ، وكخطوة أولى ستشدد الحراسة على آنديرسون تحديداً وسننتظر حتى يستفيق ، إن كان لاري من فعل به هذا حقاً فسيعود لإكمال مهمته كي لايفتضح أمره .


سار بمحاذات رفيقه في الممر الطويل نحو غرفة المراقبة وماإن دخلاها حتى أخرج سيكيم شارته مما جعلهم يهدأون على الفور ويقفون باحترام ، اقترب من أحدهم مشيراً على حاسوبه وهو يخاطبه بحزم : ستراقب هذه الغرفة دون أن تغفل ولو للحظة ، ولن يدخلها سوى بعض الأسماء التي ستُعطى لكم ، سيقع على عاتقكم حماية من فيها بكل سرية مهما جرى وحدث ، لن يصاب بأي مكروه .

_ عُلم سيدي .

هم بالخروج لكنه تراجع مستدركاً أمراً لايزال عالقاً بذهنه : مااسمك أيها الشاب؟

_ جيوفان سيدي .

_ استمع لي جيداً جيوفان ، هناك أمر خاص أريد أن تبحث عنه لأجلي ، ويجب أن لايطلع عليه أحد مطلقاً .

_ بأمرك سيدي .. إني في الخدمة .

أمر الآخرين ليخرجوا عدا ديريك الذي كان ينظره بحيرة متسائلاً: مالخطب سي؟

_ سإبحث عن قاتل أمي !

بدت عليه الدهشة بينما عاد سيكيم يخاطب الشاب بجدية : أريدك أن تستعيد السجلات الخاصة باليوم التاسع عشر من هذا الشهر .

بدأ الشاب عمله سريعاً وبعد قليل من الوقت استدار له متأسفاً : لم يتم تسجيل أي شيء بذلك اليوم سيدي ، أو لربما تم محوها ببراعة حيث لاتترك أي أثر .

أخذ يفكر بضيق وصاحبه يحاول التخفيف عنه : سيكيم .. لانشغل ذهنك أكثر ، أنت تعرف من القاتل بالفعل وتعرف أنه لن يترك ورائه أي دليل يوقعه لذلك ..

_ حاول استعادتها بكل ماتستطيع .

تنهد ديريك مستسلماً بينما أجابه الشاب وقد بدأ بالعمل : سيستغرق بعض الوقت سيدي .

_ لابأس .. لست في عجلة من أمري .

..............................................

أمام الجسد النحيل المتعب وقفت تسرح شعرها الأبنوسي الجميل ، ما إن انتهت حتى غطتها بوشاحٍ أحمر دافيء وتأملتها مبتسمة : أمي العزيزة .. هل تشعرين بتحسن اليوم؟

أومأت السيدة لها إيجاباً وعيونها لاتزال ذابلة حزينة ، مسحت الشابة الكفين اللتان احتضنتهما كفيها وهي تبث ألمها باختناق: سنترك القرية قريباً أمي ، سنودع الذكريات الدافئة التي جمعتنا بمن نحب ، لكننا أينما ذهبنا سنحملهم في قلوبنا .

أدارت طرفها لصورة صبي في الخامسة عشر من عمره بشعر بني ذو خصلات ذهبية داكنة ، وبشرة قمحية وملامح شقية ، ابتسمت بذبول وهي تكمل : لقد فقدتِ ابنكِ ، وأنا فقدت زوجي .. كلانا فقدنا روحاً سكنتنا واحتجزتنا بذكراها ، لكنني لا زلت قوية أمي ، أعلم كم كان مؤلماً ماعشتِ ، لكن هذا القدر من المعاناة يكفي ، عودي لنا من جديد كما كنتِ ، قوية وصلبة تملكين أجمل بسمة وقلب ، انهضي أمي وحرري روح فقيدك ، كم يتألم لرؤيتك تعانين هكذا .

دمعت عيون الأم دون أن تقدر على الحراك تتمنى لو كان بمقدورها العودة لأحبتها دون قيود ، احتضنتها ابنتها بحنان تحتوي ألمها مواسية : لابأس أمي .. اخلدي للراحة ياعزيزتي .

دخل الصبي وهو يحمل شقيقه واقترب منهما بابتسامة جميلة : جدتي انظري .. جاء جوزيف الصغير لزيارتكِ .

أجبرت نفسها على رسم ابتسامة للصغيرين بينما ابتعدت إيرينا لتفسح المجال لهما لمعانقتها ، وهي تأمل أن تستعيد والدتها كيانها وقوتها وماارتحل منها مع رحيل وليدها .

..................................

بدت علائم اليأس ترتسم على رملي الشعر لينطق متهكماً: بالله عليك سي دعنا نذهب ، صدقني لن تجد أي شيء ، انظر الفتى يحاول بجد لكن لاشيء .

كان الآخر لايزال بصمته يتأمل الشاشة بترقب وسرعان مابدت علائم الاستبشار على وجهه وقد ظهر على الشاشة كل ما سجلته كاميرات المراقبة .

_ أحسنت جيوفان ابدأ بتشغيلها على الفور .

فعل فبدأ الثلاثة يشاهدون الفيديو والأحداث كانت رتيبة حتى تلك اللحظة التي ولج فيها لغرفتها فتحدثا لبعض الوقت ليخرج بعدها غاضباً ، الاتصال الغامض وعودته للمشفى مذعوراً ، كل ذلك كان يجعل الصداع برأسه يزداد أكثر فأكثر .

في غرفتها كان رجل وحيد استطاع الدخول والخروج والبقاء بجوارها ، بزيه الطبي وشخصه المألوف حيث لم يكن مثيراً للريبة .

_ أوقفه قليلاً .

استجاب الشاب له فأخذ يتأمل صورته مستذكراً كلماته .. نظراته الهادئة المهيبة ، عدد المرات التي كان فيها إلى جانبه وجانب والده .

استدار ديريك نحوه يتأمله قلقاً وقد بدأ جبينه يتصبب عرقاً وشحوبه في ازدياد كما أنفاسه المكتومة بقهر .

_ هذا القدر يكفي ياصديق ، شكراً لك .. قم بتحميلها أجمع وسآتي لأخذها بعد قليل .

_ على الرحب هذا واجبي .

أسند رفيقه وخرج معه والآخر كان لايزال يغوص في دوامته حائراً منهكاً ، أجلسه على الكرسي وسريعاً فتح له قنينة الماء ومدها له : مالذي يحدث معك سبكيم ، يبدو الأمر أسوأ مما أخبرتني .

أومأ له بالنفي وقد شرب بعض الماء : لاتقلق .. أنا بخير ، أعدني لمركز الشرطة لآخذ دراجتي ، سأذهب للقرية فأبي بانتظاري .

_ هل ستكون بخير ؟ أستطيع أن أوصلك إن شئت .

_ صدقني إني بخير ، سأخلد للنوم وأكون بحال أفضل ، دعنا نخرج من هنا فالجو بات خانقاً ولايطاق .

أومأ له إيجاباً بقلق وساعده لينهض وسرعان ماتركا المكان والعيون الزرقاء تشيع ذلك المبنى الأبيض بقهر ونقمة ، وكل الأقنعة قد سقطت في ذلك المساء .

.....................


بعيداً ارتحلت وقد حان وقت زوالها ، ليحل مكانها مساء غائم بارد ، ترجل من دراجته منهكاً لايدري كيف استطاع الوصول دون أن ينهار في الطريق .

سار قليلاً وإذ بالرجال قد اجتمعوا كعادتهم أمام النار التي أشعلوها ليتدفئوا بها وهم يحتسون الشاي الساخن ، التفت له أحدهم بابتسامة مرحباً : مساء الخير أيها الشاب ، تعال وانضم لنا .

اقترب منهم وجلس بينهم وهو يجوب البقعة بعينيه : هذا غريب ، القرية تبدو هادئة في وقت باكر ، أين الجميع ؟

أجابه أحدهم مهموماً : كلهم يحزم أمتعته التي يحتاجها ، لقد جاء الأوغاد عصر هذا اليوم ، رحلوا منذ سويعات قليلة فقط .

_ ماذا ! مالذي جاء بهم ؟ وماذا فعل والدي هل رأوه؟

_ كلا .. لقد عاد لمخبئه وظل هناك حتى هذه اللحظة تحسباً لأي طاريء ، من الجيد أن الرجال كانوا يراقبون الطريق فأخبرونا قبل وصولهم لذلك أمكننا أخذ احتياطاتنا .

تنهد بارتياح بينما أكمل الآخر : لقد جائوا هذه المرة بخريطة جديدة للقرية ، ستهدم كل هذه المنازل التي بنيناها بأيدينا ، وستُبنى أخرى ، لا أعلم مالدور المتبقي لنا بهذه القرية .. أسنكون عبيداً لهم ، أم سنُقتل كي لا نكون عقبة تزعجهم ، إن رحلنا أو بقينا .. لن تعود هذه القرية مسكننا الآمن بعد الآن .

صمت البقية بأسى فربت الشاب على كتف الرجل مواسياً: لاتقلق .. ليحفلوا بذلك فترة من الزمن ، الفائز في النهاية هو من سيضحك أخيراً ، ستستعيدون ماهو حقكم حتماً يوماً ما .

شرب الشاي خاصته ونهض مستئذناً نحو والده ، لكنه توقف قليلاً يتأمل المشفى وطيف ذات العيون الغائمة من خلف النافذة قد لاح له ، بتردد سار نحوها وفتح الباب ليدخل مغلقاً إياه من خلفه .

استدارت تنظره بذعر وقد تركت ماكانت تفعل ، نطق بنبرة هادئة رصينة : هل نتحدث قليلاً بعد إذنك ؟

مستنكرة بازدراء أجابته : ماذا تفعل؟! اخرج حالاً فلست أطيق رؤيتك .

_ أعلم .. ولكِ الحق بذلك ، لكني آمل أن تستمعي لي قليلاً لأوضح لكِ مأربي .

_ لازلت تتكلم بوقاحة لا أريد الاستماع لأي شيء ، ابتعد حالاً لأخرج إن لم تفعل أنت .

صمت قليلاً يفكر بما عليه البدء به ومالبث أن نطق بجدية : ستُهدم القرية عاجلاً أم آجلاً ، ولن نستطيع أخذ كل أمتعتكم معنا ، أعلم كم يحوي هذا المكان ذكرياتٍ لاتعوض ولن تتكرر ، لذلك أردت الاحتفاظ بها في مكان آمن ليس ببعيد .

_ لم يطلب منك أحد التدخل بما لايعنيك ، كل مايخصني وعائلتي لاشأن لك به هل فهمت .

زجرته ساخطة فأتبع بهدوء : تصرفت بوقاحة ليلة الأمس ، لا أستطيع تبرير ذلك ولايسعني سوى الاعتذار الذي لن يجدي شيئاً ، أما بالنسبة لطلبي الارتباط بكِ .. إني جاد بذلك ولدي أسبابي اللا شخصية ، ثقي بذلك .

تجلى الغضب على محياها وهي تجيب بحزم : هو ذنبي أن استمعت لك ، اغرب عن وجهي .

_ أرجوكِ استمعي لي ، اسمحي لي أن أكمل..

صمتت مقطبة مستسلمة فأتبع بتروٍّ : قلتِ أن لارغبة لكِ بالرحيل والابتعاد ، بكل حال من الأحوال من الخطر البقاء هنا ، لكن أن تظلي قريبة من ذكرياتكِ أفضل من لاشيء ، السيد رونالد لن يكون قادراً على البقاء معكِ فهو رئيس القرية ولابد وأن يكون مطلبهم ، ولذلك أيضاً لن يقبل بقائك هنا بمفردك أنتِ والصغار كي لاتتعرضي للأذى ، ولهذا وجدت أن هذا الحل هو الأ فضل .

أجابته متهكمة : ياله من نبل ، إذاً قرارك هذا من أجلي لا لأجل نفسك ؟ هل أنا غبية جاهلة برأيك ؟

_ بالطبع لستِ كذلك ، لكنها الحقيقة ،إنه زواج زائف كي يأمن والدكِ تركك معي وكي لايشعر أياً منا بالذنب ببقائه قريباً من الآخر ، لدي منزل في المنطقة المجاورة هو ذاك الذي ترعرعت فيه ، كبير وبه حجرات كثيرة ، سيخصص لكِ منه الجزء الأكبر ، وأنا تكفيني غرفة بعيدة لتتمكني من العيش براحة دون أن يقلقك أو يزعجكِ وجودي .

صمتت تفكر بكلامه بينما أتبع بتردد : لا أريد أن أكذب بشأن شيء .. لي مطلب شخصي واحد ببقائكِ قريبة أنتِ والصغار .

نظرت إليه متسائلة قلقة فتكلم بصدق : أريد أن لا أنسى آدم أبداً ، وأن لا أنسى ما أعيش الآن لأجله ، إيرينا .. كوني ذاكرتي .

لم تفهم مقصده فظلت بصمتها تنظره بريبة حائرة بينما استتم كلماته : وأنا أقسم لكِ بدم آدم .. أني لن أؤذيكِ ولن أقربك أو أسيء لكِ مطلقاً .

لم تنبس ببنت شفة فابتعد خارجاً مما جعلها تطلق أنفاسها التي احتجزتها مع كلماتها ،وقد جلست على الكرسي تفكر حائرة وجلة .

....................................

في الممر المعتم سار حتى وصل لتلك الغرفة المنزوية الوحيدة ، فتح بابها ودخل لتلتقي عيونه بالعيون البندقية الدافئة ، طالعه بابتسامة مستبشراً : عدت بخير ، لوهلة خلت أن مكروهاً أصابك ، هل جرى الأمر بشكل جيد ؟

سار نحوه ووضع الحقيبة على الأريكة العتيقة، وسرعان ماارتمى على الفراش بجوار والده ملقٍ بثقل رأسه على فخده : لم يكن يوماً سهلاً أبي .

وضع كفه على رأس الشاب يمسحه بحنان رغم نبرته الساخرة : ماهذا ؟! هل عدت طفلاً سي ؟

أغمض عينيه بارتياح لتلك اللمسات الحانية وتمتم بصوتٍ ناعس : إنه شعور لايوصف .

ابتسم ضاحكاً وهو يتأمله وقد أغمض عينيه : لم تخبرني أي شيء وتريد النوم ! هذا ليس عدلاً .

_ ماذا تريد أن تعرف ؟ ماطلبته في حقيبتي .

_ كيف كان الحفل ؟ كنت أتوق لحضوره و العودة إلى حيث أنتمي .

فتح عينيه بذبول ناعس وبضيق أجابه : إنك بحال أفضل هنا صدقني ، لقد غدا ذلك المكان مقراً للضباع وحسب .

_ لم ؟! ماذا جرى ؟!

عاد يغمض عينيه بتعب وهو يتكلم بصوت ضعيف غالبه النعاس : ليو أصبح اللواء .. تخيل ! ، وسيمونز .. آه لو أني أعرف الحقيقة .. سأصاب بالجنون ، من الكاذب بينهم .. لا أحد يعلم .

سكت بعدها ووالده يتأمله حائراً دون أن يفهم أي شيء : هي سي هل غفوت ؟ .. لقد نام حقاً !

فُتح الباب تطل منه تيريزا وقبل أن تتكلم أشار لها والدها بأن تبقى هادئة ، صوبت ناظريها نحو شقيقها بدهشة وهمست : مابه؟

أشار لها بأنه لايعلم ، وسرعان ماأراح رأس ابنه على الوسادة ودثره جيداً : يبدو أني سأنام على الأريكة هذه الليلة .

ابتسمت ضاحكة وهي تقترب منه : بدأت أشعر بالغيرة .

_ تعالي عصفورتي الجميلة بإمكاني مساعدتكِ في النوم أيضاً .

ارتمت في حضنه بسعادة ، و مالبث أن بدا حزن طفيف على محياها وهي تخاطبه برجاء: كن بخير أبي .. أرجوك لاتتركنا مجدداً .

قبل رأسها وعاد يمسحه بعطف : لاتخافي ياابنتي ، سأكون معكِ وأحميكِ مااستطعت ، ثقي بذلك .

أغمضت عينيها والشعور بالأمان بين أحضانه لااكتفاء منه ، تباعدت الغيوم وتفرقت أخيراً لينشر القمر ضيائه وسط العتمة ، من خلف النافذة تعلقت العيون الغائمة بالسماء حائرة لاتزال ، والمستقبل القريب يقودها نحو متاهات لاتنتهي ، آملة أن يمسك الحبيب كفها فيقودها نحو النور يرشدها .

......




 
 توقيع : آدِيت~Edith

مواضيع : آدِيت~Edith


التعديل الأخير تم بواسطة آدِيت~Edith ; 03-23-2023 الساعة 12:41 AM

رد مع اقتباس
الإعجاب / الشكر
الاعجاب zenobya الاعجاب للمنشور
قديم 05-04-2023, 11:46 AM   #97
آدِيت~Edith
https://www.anime-tooon.com/up/uploads/at165286508456371.png


الصورة الرمزية آدِيت~Edith
آدِيت~Edith غير متواجد حالياً










المساء الأخير




تناثر الضياء كذرات الذهب تحيل الديجور بريقاً لايضمحل ، لم يكن ذلك التاريخ كما سواه ، بل كانت السويعات تمضي سارقة من حناياهم بضعة ،الوداع قريب والحياة الجديدة تنتظرهم بخفايا مجهولة ، والحرب قد دقت نواقيسها وكل استقبل مصيره برضاً وتسليم .

حول الطاولة تحلقوا، يسترهم سقفٌ عتيق مهتريء تسلل النور من شقوقه لتلتمع السطور السوداء المتعانقة معه ، أشار ليلكي الشعر لمنتصف المخطط ومهابة صوته أعادت الشابين لذكريات لاتنسى .. حين كان القائد والكولونيل الذي لن يتكرر .

_ هنا مركز البناء الذي ولجنا له أنا وابني من قبل ، في أواسطه حديقة ضخمة تنتهي كل زواياها بمدخل لأقسام القصر الأخرى ، هنا يكون القسم الخاص بمارفيل وهذه هي صورته ، إنه رئيس القصر وزعيمه لذلك إن كنا سنواجه أحدهم على وجه التأكيد فهو حليق الرأس هذا حتماً ، وهو رجل دين وصاحب سلسلة من الكنائس في المنطقة .

_ أذكره جيداً التقيته هناك مراتٍ عدة ، يبدو لي هادئاً متزمتاً وصلباً ، يملك من الحكمة مالايملكه رجاله ، لكنه يظن نفسه متديناً وقديساً ، وهو سيد الجحيم وسلطانها.

بضحكة خافتة أجابه الأب وأكمل مؤيداً : ماتقوله هو عين الصواب بني ، لنكمل .. هنا تكون بوابة القسم الخاص بالاجتماعات وتنتهي بالقاعة الأكبر في القصر بأكمله ، عادة تجتمع الرؤوس هناك لحل قضاياهم المشؤومة ، هنا كنت في آخر لقاء لي معهم .

تكلم ديريك مقاطعاً بفضول : كيف شعرت حينها وأنت بينهم جمعاً؟

أجاب وهو يتذكر كلماتهم والضحكات الساخرة من عدوه اللدود : كما يواجه الليث الضباع ، صدقني إنهم مجرد حثالة حمقى .

_ أحب ثقتك بنفسك سيدي القائد .

أكمل آرون متجاهلاً سخريته وهو يشير للبوابة الأخرى على المخطط : هذا القسم خاص حسبما أظن بخدمات القصر ،لم أتوغل فيه لذلك لا أعرف على وجه التحديد مايحتويه ، على كل هذا القسم هو المؤدي للسجون وغرف المراقبة والحرس ، الحراسة هناك ليست مثالية وبها ثغرات كثيرة ، ماجعلني أهرب منها ببساطة .

تأمل عسلي الشعر المخطط بتركيز وسار بإصبعه عليه : إذاً سلكت الطريق من القاعة وحتى الممر المؤدي للحديقة ثم مدخل السجن وبعدها خرجت من هنا ، ثم ماذا؟

أشار الأب وهو يرسم دائرة حول المكان المنشود : هناك فتحة الصرف الصحي في نهاية الحديقة الخلفية ، بإمكاننا تخطي الأمن هناك بكل بساطة فالمكان شبه خالٍ كونه للاستجمام وحسب ، ولدينا أيضاً فتحة التهوية هذه لكنها ستكون صعبة وحلاً بطيئاً لمجموعة من الرجال ، والسور كذلك عالٍ وخطر ، لذلك الخيار الأول هو الأفضل حتماً .

كانت العيون الزرقاء الواسعة تطالعهم دون أن تفهم شيئاً ، تكلمت مقاطعة بقلق : هل هي مهمة خطرة ؟ أين هو هذا المكان ؟

ربت رملي الشعر على كتفها وبنبرة ساخرة أجابها : ياصغيرتي لاتشغلي ذهنك بأمورٍ أكبر من عمرك .

_ كف عن إزعاج شقيقتي أيها الفظ .

أتبع وهو ينظرها بعطف : ليست خطرة ياعزيزتي ، إننا لها .

بدت غير مرتاحة وهي تتأملهم وقد أكمل القائد بجدية : هناك خمسة من الزعماء لديهم ، سأرتبهم لكم من الأضعف وحتى الأقوى بالطبع من وجهة نظري أنا ، لذا ليست نتائج دقيقة يارفاق .

صوبوا تركيزهم نحوه مجدداً فأكمل وهو يعرض صورهم : ليونيد وهو غني عن التعريف الأحمق الأكبر وأضعفهم ، كما تعلمون جميعاً هو شخص يهتم بمنصبه وأناقة ملابسه ، لذلك أراه الأضعف بينهم ، وأرى أنهم تواقين للخلاص منه كذلك .

عرض الصورة الأخرى وتأملها لثوانٍ قبل أن ينطق : هذا هو مارفيل ، رجل دين لايملك من القوة شيئاً سوى السلطة ،بالطبع هو يعتمد على رجاله لإدارة معاركه لكنه لا يفعل أي شيء عدا ذلك ، قوته في عقله ولكن جسده ضعيف دون حماية جنوده .

وضع صورة الرجل الثالث وهنا نطق ابنه بكراهية : آندريه صحيح؟

_ أجل .. إنه هو ، أصغر المجموعة ويبدو في بداية الثلاثين من عمره ، مظهره هاديء ومتزن ومن يراه يحسبه رجل أعمالٍ محترم ونزيه ، لكنه في الحقيقة داهية ، خبيث وظلامي وقاتل من الدرجة الأولى ، إنه يتلذذ بتعذيب خصومه نفسياً وجسدياً ، لذلك من بينهم هو الأكثر خطورة وهو يملك أكبر شركات المحاماة في المنطقة ، لكن من يليه أصعب منه مراساً وأكثر قوة ، رغم أني لم أواجهه شخصياً .

نظر الشابين للصورة وقد عرفا صاحبها الذي لاينسى على الفور : ذلك الرجل !

_ أذكره جيداً.. إنه يضرب بيد فولاذية ، من الصعب مناورة هذا الوحش أو توقع حركاته .

أيده رملي الشعر : معك حق ، ليس بالخصم السهل أبداً واضح كم هو حذق وخطر ، الشخص الذي لا أتمنى منازلته مطلقاً .

_ متى التقيتماه ؟

أجاب عسلي الشعر منزعجاً : عندما هاجم رجاله القرية لأجل السيد رونالد ، وحالما حاولنا التصدي لهم ظهر هذا وأطاح بنا بضربة واحدة .

همهم متفهماً وأضاف بتحذير جاد : اسمه آرميس وهو لايشبه الآخرين مطلقاً ، مقاتل محترف لايعرف معنى المزاح ، وهو يترأس الأقسام الطبية في العاصمة ، بالطبع كما الآخرين يظهر بوجه مختلف وشخصية أخرى .

أكمل وهو ينظرهما مؤكداً بتكرار: لايجب أن تقابلاه حتماً ، لن تواجهاه بأي نزال ، فور رؤيته ستهربان بخفة وسرعة دون أن يلحظكما .

بقلق واندفاع نطقت الشابة وعيونها معلقة برملي الشعر : وهل ستذهب أنت أيضاً ؟ ماذا لو تعرضت للسوء ؟ يبدو الأمر أخطر مما وصفتما ! رجاءاً لاتذهب ديريك أخشى أن تصاب بأذى !

أعقب شقيقها معترضاً مستنكراً : هي تيريزا ! أخوك سيقتحم الخطر كذلك لكنكِ لم تقلقي أبداً ، ماهذا التحيز ؟!

احمر خديها وقد استدركت ماأوقعت نفسها فيه وديريك يتأملها بابتسامة جانبية ونظرة أخفت الكثير : لاداعي للغيرة سي ، أخيراً هناك من يفكر بي ، ذلك لأنها ترى بوضوح أنك محاط بعائلتك وأنا لا ، شكراً لاهتمامك دميتي الجميلة .

بعثر شعرها فازداد خجلها وتراجعت بارتباك وهي ترتبه : سأعود للمنزل عل إيرينا تحتاج مساعدتي .

خرجت ولازال الثلاثة يرقبونها بتعابير مختلفة ، فالأول كان يشعر بنشوة في أعماقه رغم ماأبداه من سخرية ولامبالاة، بينما شقيقها كان يتأمل كليهما بريبة كما الأب الذي تكلم بحيرة : هل يجري شيء ما هنا لا أعلمه؟

بدفاع أجاب رملي الشعر متهكماً: مابالكما تضخمان الأمور وتجيئان باحتمالات غير منطقية ، الفتاة تصرفت بإنسانية وفوراً قررتما أنها تحبني؟!.

بابتسامة غامضة تكلم الأب وابنه يبادله ذات النظرة كما لو أنهما أوقعاه في الفخ : لا أخالني قلت هذا ! لكن يبدو أن ماتقوله منطقي .

أكمل الإبن بدهاء: ولربما كان الشعور متبادلاً .

_ هل يجروء برأيك على الاقتراب من ابنتي؟

_ ياللهول .. كنت أظنه يعتبرها أخته الصغرى !

احمر وجهه وهو ينظرهما بغيظ محرجاً : ماالحماقة التي تنطقان بها ، فقدتما عقلكما حتماً ، عذراً سيدي القائد كلامك هذا لايعجبني ، أظن أن من الأفضل أن أغادر أنا أيضاً .

خرج سريعاً فضرب الأب كفه بكف ابنه بانتصار : المسكين كم هو ساذج .

_ من الجيد أني لم أضحك وأفسد الأمر ، كان مُحْرَجاً للغاية .

_ يالك من صديق سيء لتفعل هذا برفيقك .

_ اوه أولست من بدأ الأمر سيد آرون ؟!

صمت للحظة مستدركاً : انتظر هل نسينا شيئاً ؟!

فكر الشاب هنيهة وسرعان ماتكلم محبطاً : أظننا قاطعنا اجتماعاً مهماً أبي .

_ هذه ضريبة المزاح السخيف بني ، أرجو أنك تعلمت درسك .

بنظرة جانبية باردة أجابه وهو يتمتم : أحقاً ؟!

....................................

لم يعلم كيف ساقته الخطى للمنزل الخشبي بعد أن طُرد منه وأعرب أصحابه عن عدم رغبتهم للقياه من جديد ، لم يملك بعد الرغبة في الاعتذار أو إبداء ندمه ، بل كان يجد نفسه محقاً بكل غضبه ذاك ، ففي الوقت الذي كان يحترق فيه لكون ذلك الرجل بينهم ، كانوا يجدون في لقائه ألفة وقرابة ومحبة .

وقف أمام الباب يملأ رئتيه بهواء الريف النقي عله يساعده في السيطرة على ردات فعله الشرسة عادة ، مد يده ليطرق الباب بيد أن شيئاً ما أجبره على الالتفات ، شيء أبدل كل الأنفاس التي التقطها تواً لجحيم يحرق أحشائه .

سار نحو باقة الزهور الملقاة في الحاوية القريبة رمادية اللون ، التقط منها البطاقة محاولاً ألا يصدق انها ذاتها التي وجدها في مكتب الشيطان ، كيف أمكنه أن يملك كل تلك الجرأة والشجاعة ليقتحم حياتهم هكذا بكل بساطة .

قبض كفه بغضب فتجعدت البطاقة بين أصابعه لتُلقى بعدها بعنف وصاحبها صرخ بأعلى صوته : فيكتوريا !

ارتعشت أطرافها وهي تسمع اسمها من بين شفتيه ينطق ، خرجت من المنزل تنظره ذاهلة تتبعها والدتها بقلق وذعر ، التفت لها وسار حتى وقف قبالتها وعيونه تطلق لهيبها المحرق القاتل : كيف سلمت قلبك له ؟! كيف أذنت له بأن يتجرأ ويقترب منكِ ، أين كبريائكِ وكرامتكِ ؟!

_ لم خمنت أني فعلت ذلك ؟! أحسبتني أنت ؟! إن كان يحاول اقتحام حصني فلن يقدر على كسره مطلقاً ، على عكسك إني قادرة على التمييز بين الصواب و الخطا ، ولا ألقي بحياتي في طريق خاطيء لارجوع منه .

أخرسته وألجمته كلماتها وقد أدرك أنها الحقيقة ، هو يعيش مايستحق بعد قراراتٍ خاطئة أسكنته في ندم وتعاسة ليس لهما نهاية ، بل وأوقع الآخرين معه في ذات الجحر المعتم .

بصعوبة نطق محاولاً أن لايظهر عجزه و انهزامه : أرجو أن يكون الأمر كما تصفينه ، لا أريد أن تسمحي له بالاقتراب مطلقاً فهو شخص خطر .

_ ومن أنت لتنصحني ؟ إن أردت أذنت له أو لم آذن ، هو قراري وحدي ولاشان لك به ، فلن أجد حتماً من هو أشد خطورة منك علينا .

_ كفاك هذياناً فيكي ، إني قلق حقاً بشأنكم .

بكبرياء أجابته دون أن ترق أو تلين : لاحاجة لتقلق ، كنا ولازلنا نعتني بأنفسنا دون وجودك .

بعتابٍ طالعتها عشبيتيه ومالبث أن استدار مبتعداً يجتاحه خوفٌ لايمكنه شرحه ، وقد غدا العدو الأول لعائلته التي ماعادت ترغب باحتوائه .

..............................................


توالت الساعات والأيام في اجتماعات ومخططات ومراقبة حازمة لكل أطراف ودائرة الخصوم ، وقد انضم ستيفانز ورونالد رؤساء القرية لهم .

_ يغادر مارفيل القصر مرة واحدة في الأسبوع ليزوركنيسة العاصمة ، بينما آندريه فهو لايزور القصر سوى نادراً ويقطن حالياً في الريف على أطراف المدينة قريباً من شركة المحاماة خاصته .

أكمل ديريك مابدأه رفيقه : ليونيد حالياً قد أُرسل بمهمة خارج موسكو لذلك سنرتاح من وجهه القبيح لمايقارب الستة أشهر ، بينما آرميس لامعلومات عن مكانه أو مسكنه أو مقر عمله ، لايزال كل شيء غامضاً بشأنه .

صمت آرون مفكراً بقلق وأتبع بهدوء : ورئيسهم الأكبر مجهول كذلك ، لم أعرف عنه الكثير حتى هذه اللحظة .

_ لاتقلق أبي ، كل ماسنفعله أننا سنطلق السجناء ونخرج دون أن يلحظنا أحد .

_ ليس من السهل أن تفعل ذلك كله دون أن يراك أحد ، على كل حال لم يبق سوى يوم واحد ، هل الجميع مستعد؟

أجابوه جميعاً بحماسة فأردف بنبرته الرصينة المحببة : أريحو أنفسكم جيداً هذا اليوم وأتمو حزم أمتعتكم بالغد قبل المساء لنبدأ التحرك ، سنساعدكم لنقل الأمتعة للمحطة ، وما ستتركونه هنا سيتم نقله للمخازن الخاصة لتستعيدوه عند عودتكم .


...................................

كعادتها اعتلت التلة مع الصهباء لتأخذ استراحة قصيرة ، على العشب الندي ألقت جسدها تطالع السماء بشوق ، رغم شعورها بالغضب منه إلا أنها تفتقده ، تشتاق أن تبتسم والدتها من كل أعماقها مجدداً ، وان يعودوا عائلة واحدة مترابطة سعيدة .

اعتدلت جالسة بتنهيدة متعبة ، ومالبثت ان استدارت مدهوشة وقد شعرت بكيانٍ مألوف قريبٍ منها ، بشعره الرمادي وعيونه التي تخفي الكثير ، واقفاً خلفها ممسكاً لجام خيله الفاحم .

_ مالذي تفعله هنا !

تكلمت مرتابة فأجابها بدماثة : هل أستطيع الجلوس معكِ ؟

ترددت قبل أن تجيب موافقة وعادت تنظر للريف الهاديء والخضرة التي احتضنتها ، تكلم بنبرة مااستطاعت أن تستشف كنهها : أنا أعتذر بشدة عن سوء ماحصل بيننا من قبل ، خجلت من نفسي كثيراً لإسائتي ، لكني لم أستطع البقاء دون أن أحرك ساكناً ، في النهاية إننا أقرباء والسوء في علاقتنا لن يكون جيداً .

بلا اكتراث أجابته وكأن الأمر لم يعد يعني لها شيئاً : لم تكن مضطراً لهذه المجاملة ، لقد مضى الأمر وماعاد لذكره أي قيمة .

_ أعلم ذلك ، لكني لم أعتد الهرب والتملص من أخطائي ، لقد قلتها لشقيقك من قبل ، لست جيداً مع النساء مطلقاً ، إني أعاني كذلك من فهم شقيقتي والتعامل معها ، بيننا سوء فهمٍ دائماً .

همهمت بتفهم : وأخي ليس بأفضل منك حالاً ، إنك تبالغ في العطاء لدرجة الإحتقار ، وهو يبالغ في إجحافه لدرجة مهينة .

خلع نظارته ينظفها بمنديله وسرعان ماعاود ارتدائها وعلى ثغره علت ابتسامة غامضة ، تكلم وهو ينظر للبعيد حيث المدى اللامتناه : في الواقع .. نحن أيضاً نجد صعوبة في فهم النساء وإرضائهن ، ربما هذا يعتمد على البيئة التي نعايشها كذلك ، فمثلاً .. حيث أعيش تحب النساء الهدايا الباهظة الثمن ، بكل الأوقات والمناسبات الصغيرة والكبيرة ، وأعني بالنساء صديقات والدتي ومعارفها فلم أعش علاقة حقيقية بعد .

أجابته ساخرة : لست مضطراً للتوضيح سيد آندريه .

لم يعقب فسألت مرتابة : ماذا عن والدك؟ ولم لم تعش وأختيك سوياً ، إن لم يزعجك سؤالي بالطبع .

سكت قليلاً ومالبث أن أجاب ورماديتاه تنظران السماء : والدي .. أقدم على خيانة والدتي وهجرها ، تزوج بعدها ورزق بشقيقتيَّ ، لم يخبرهم بشأني ووالدتي ، بل لم يكلف نفسه عناء السؤال عنا والاهتمام بنا ، عشنا وقتاً عصيباً حتى كبرت وغدا بإمكاني تقديم المساعدة .

أدار ناظريه نحوها وهو يكمل : كنت أصب كل اهتمامي ووقتي بكتبي ودراستي ومشاريعي الصغيرة ، وحالما نضجت استطعت أن أحقق أحلامي وأسمو بعائلتي الصغيرة ، وعندما علمنا بموت والدي ، جمعنا السيد ريتشارد المحامي الخاص بوالدي ، لألتقي بزوجة أبي وأختيَّ لأول مرة من أجل اقتسام الإرث ، لم أستطع قبول شيء ، لقد رفضني فلم قد أقبل أن يمنحني إرثه، أردت فقط العيش مع أختيَّ بسلام ، لكنهما لم تقبلاني بينهم وأقدر ذلك فلم يكن حتماً بالأمر السهل .

بشك ردت : هل تحاول إقناعي أنهما لأجل ذلك كانتا تهربان وحدهما ؟!

_ لا .. لكن .. هناك أمور شتى خفية ، لم أكن أحسبني سأتكلم عنها لأي كان .

_ أنا أعتذر لتطفلي .. لست فضولية البتة ، لكني أشعر بأن حلقة ما مفقودة ، قصتكم مثيرة للريبة !

بابتسامة هادئة أجابها : ليكن هذا سرنا الصغير إذاً ، لن تعلم نتاشا أني أخبرتكِ ، ولن يعلم إيفان .

أومأت موافقة برأسها وباهتمام أصغت له وهو يكمل محدقاً بفيروزتيها اللامعتين : إنها حياة الأثرياء المقيتة ، بعد والدنا باتت الأنفس الشيطانية تحوم حول منزلهم وترعبهم ، شخص ما من العائلة بات يهددهم ليأخذ كل ماهو ملك لهم ، لم تحتمل زوجة أبي المسكينة كل تلك الضغوط وأقدمت على الانتحار !

لاح الفزع على قسماتها الهادئة وهي ترقب رماديتاه اللتان اكتنزتا سراً يثير رعبها بالرغم من هدوئه ونبرته التي حاول جاهداً أن تكون مريحة .

أكمل مستلذاً بنظرتها المرعوبة المستنكرة : استمر بإخافة الفتاتين والضغط عليهما ، حاولت المساعدة لكن ساشا كانت تبعدني دوماً وتمقتني ،لم تتقبلني مطلقاً بعد وفي مساءٍ معتمٍ بارد .. تركتا المنزل دون عودة .

_ ماذا عنك ؟!

لاح السؤال على وجهه فأتبعت بريبة موضحة سؤالها : ألم يقربك مطلقاً؟!

_ لا .. لأني رفضت الإرث تماماً ، لذلك لم أكن أعني له أي شيء ، شخص تخلى عنه والده وبلا أهمية .

أطرقت تفكر والضيق خالط شعورها بالأسف لأجله ، حاولت أن يبدو تعبيرها صادقاً دون أن يجرح كبريائه : أن يرفضك شخص يهمك لأمر مؤلم ، لكن .. يبدو أن هذا القدر يلازمنا جميعاً ، ففي حياة كلٍّ منا شخص يؤذينا ويؤلمنا ويرفضنا دون مبرر .

_ تقصدين إيفان ؟

لم تعقب فسأل من جديد : هل يحزنكِ ويؤذيكِ ؟

عادت تنظر للسماء والنسيم يداعب الوهج الذهبي برقة : إني وإياه متنافران دائماً ، منذ الطفولة وحتى الصبا ، نتشاجر باستمرار مهما كانت اللحظات القصيرة التي نعلن فيها هدنة بيننا ، إني أؤذيه كذلك .. وهذا حقاً يؤلمني ، ليت بإمكاننا أن نعيش سوياً بسلام ومحبة .

ظل يتأملها بصمت وقد حل سكون لاصوت فيه سوى صفير الرياح ممتزجاً بالوريقات المتناثرة الطائرة .

وقف وعاد لجواده يحرره : هل أستطيع اختطافكِ وفرسكِ لبعض الوقت ؟ لنمنح أنفسنا شيئاً من الراحة والبهجة .

نهضت تنظره متسائلة فأشار لها أن تمتطي فرسها وتسابقه ، ارتسمت على شفتيها الحمراوان بسمة تحدٍّ ، وسرعان ما بدءا يسابقان الرياح وكلٌّ يقدم أفضل مالديه لأجل الفوز .

.......................

سارا بمحاذاة بعضهما والأول قد دفأ كفيه بجيبي بنطاله بينما رفيقه وضع قبعة معطفه على رأسه ليحميه من الرياح الباردة ، تكلم وهو يفرك كفيه ببعضهما : رغم أننا على أبواب الربيع إلا أن البرد لايزال فتاكاً قاتل .

_ هذه هي الحال دائماً هنا كما تعلم ، لكني أتسائل كيف سيحتمل الصغار الطريق الطويل البارد والمتعب بهذه الملابس المهترئة .

أدار رملي الشعر طرفه نحوهم يتأملهم بإشفاق : ربما علينا مساعدتهم إذاً .

ابتسم رفيقه مؤيداً: أظن موعد التسوق قد حان .

_ لتجهز بطاقتك الذهبية إذاً ياصاحبي.

_ جاهزة ، ماذا عنك؟

أخرجها بابتسامة فخر : على أتم الاستعداد .

...................


ترجل من جواده وساعدها في النزول عن ظهر فرسها ممسكاً بكفها ، سار معها ليجتازا الأسوار نحو الميدان الضخم المجهز بعناية لتدريب الخيول .

_ هذا هو المكان الذي حدثتكِ عنه ، إن أردتِ المشاركة في التدريب فسيسرني ذلك حقاً ، سيكون لدي منافسة قوية وذكية .

سارت خطوات وهي تقود فرسها ممسكة بلجامها : يالها من ساحة مذهلة ، المكان هنا رائع حقاً ، أكثر مما تخيلت .

_ هل نبدأ التدريب إذاً ؟

_ بالطبع لنفعل .

أمر أحد رجاله بأخذ جواده للإسطبل والاهتمام به ، بينما وقف يرقبها وهي تحاول اجتياز الحاجز الأول بحذر لم ينجها من سقوط كاد يكون وشيكاً بعدأن جاشت الفرس مذعورة .

فتحت عينيها بعدما أيقنت من سقوطها لتجد أنه قد التقطها بين ذراعيه ، اعتدلت في وقوفها تتأمله بصمت وأحشائها في اضطراب وضيق ، بينما تكلم بنبرته المعتادة التي لاتقدر على فهمها : هل أنتِ بخير ؟ أتألمتِ ؟

أومأت بالنفي وبتردد أجابته : شكراً لك .

_ أخبرتكِ أن الفرس في الميدان الواسع حرة لاتقدر على أن تحتمل ميدان السباق وتعتاده بسهولة .

_ معك حق .. ظننتها لن تخاف شيئاً .

_ لاتقلقي ، معاً سنتجاوز كل هذه الحواجز ، الأمر يحتاج القليل من الصبر .

_ لكني تأخرت .. يجب أن أعود للمنزل ، ربما في يومٍ آخر .

_ حسناً إذاً ، دعيني أوصلكِ .

_ لاحاجة لهذا ...

قاطعها بجدية : لقد أتيت بكِ ولن أقبل إلا أن أعيدكِ لأضمن سلامتكِ ، كما أني اشتقت لوالدتكِ وإخوتكِ كثيراً ، أم أنكِ لاترغبين بدعوتي لشرب فنجانٍ من القهوة .

ابتسم ممازحاً وهو يسبقها للخارج بينما زفرت بتعبٍ وضيق " لاخلاص منه إذاً .. كل ما أرجوه أن لايجيء إيفان في الوقت الخاطيء " .

قبضت كفها وهي تتذكر شجارهما الأخير " ومن يهتم إن جاء ذلك الأناني البغيض .. ليغضب ويحرق ويفعل مايشاء ، لم قد أهتم لشخص جاحد مثله " .

سارت مع فرسها تتبع آندريه عائدة لمنزلها ، متمردة واثقة و مؤمنة بأن الاقدار ستحمل لها ماتستحق أخيراً .

......................................


فُتح الباب لتطل منه الشقراء باسمة ترافقها غائمة العينين بحيرة متسائلة ، قطبت حاجبيها ما إن شاهدت الشابين بانتظارهما في الغرفة المعتمة عدا من ضياءٍ تسلل من نوافذها العتيقة .

همت بالتراجع فأمسكت تيريزا كفها وهي تنظرها برجاء : لاتذهبي أرجوكِ ، استمعي لنا قليلاً فقط .

صمتت باعتراض لكنها مشت مع الفتاة مسايرة ، حتى وقفتا أمام الشابين فابتدر ديريك أولاً بنبرة مريحة : مالذي يجري زوجة أخي ، إنك تتجاهليننا هذه الفترة دائماً وتهربين منا ، إننا نحتاجكِ بأمر إنساني لايقدر عليه سواكِ .

_ قل مالديك دون إسهاب رجاءاً.

بطرف عينه نظر لصاحبه الذي تكلم بتردد : أردنا مساعدتكِ ب..

أخرسته موبخة رغم هدوء نبرتها : لم أحدثك أنت !

انتفض لوهلة وقد كادت ضحكة صاحبه أن تفلت بيد أنه سيطر عليها سريعاً كي لايقع في ماوقع فيه صديقه المشؤوم : حسناً كنا نريد شراء بعض الأشياء لأجل الصغار ولأجل أهل القرية ، تعلمين ..الرحلة طويلة وباردة ، لذلك أردنا شراء معاطف دافئة أغطية ولحافات وقبعات ، وكذلك أحذية إن استطعنا ، أنت من يعرف أهل القرية جيداً لذا ستكون مرافقتكِ لنا مهمة .

_ يالها من حجة جيدة ، أستطيع كتابة القائمة لكم ولتفعلوا بعدها ماشئتم دون الرجوع لي .

برجاء تكلم والفتاة معه تدعمه : هيا لاتكوني عنيدة ، من أجل هؤلاء الصغار إيري .

_ سأكون معكِ وسأحرص على ألا يزعجكِ أحد عزيزتي إيرينا أرجوكِ ياصديقتي ، سنفترق يوم غدٍ ولا أعلم متى سنلتقي مجدداً ، أريد أن ترافقينا بشدة .

صمتت مقطبة تستمع لهما وهما ينظرانها كالقطط الشاردة ، تنهدت بعمق وأجابت بلا اقتناع : لفترة قصيرة فقط ، لازال لدي بعض العمل لأنجزه .

هتف كليهما بحماسة شاكرين وقد عانقتها الفتاة سريعاً : شكراً لكِ لن أنسى معروفك هذا ماحييت ، لنذهب على الفور إذاً .

_ لنصحب نواه وجوزيف معنا إذاً .

قالها سيكيم بتوتر واضح ، أجابت بعد تفكير : حسناً .. لكن ذلك سيكون صعباً .

بدا مبتهجاً لجوابها فمذ حديثهما الأخير كانت تتجنبه بوضوح ولطالما كانت تبدي غضبها واستيائها منه ، وأخيراً هي ذا تاذن له بالكلام مما جعله يكمل ببشاشة : لقد احضرنا بالفعل مقعداً للطفل وعربة لتسهل عليكِ الأمر .

أومأت موافقة باستسلام فنهض مع رفيقه للسيارة بينما رافقت تيريزا إيرينا لمساعدتها ، وماإن انضمتا لهما حتى انطلقوا في طريقهم نحو السوق الشعبي والذي كانت أسعاره بخسة على عكس أسواق المدينة باهظة الثمن .

_ انظر أخي ، هذه اللعب جميلة للغاية وأسعارها مناسبة!

_ لم اللعب يا عزيزتي ، إنهم يريدون التخفيف من ثقل أمتعتهم لازيادتها لأجل أشياء لامعنى لها .

بحماسة أجابته معترضة : بل على العكس ، اللعب ستجعل الصغار سعداء أكثر وستلهيهم أثناء رحلتهم الطويلة بدلاً من البكاء والتململ ، كما أنها ذكرى جميلة منا ، ثم إنني وعدتهم بالأمس بتحقيق أمنياتهم وجعلت كل واحدٍ يكتب اسم لعبة يحلم بالحصول عليها .

_ ياله من تخطيط ذكي .

أعقب ديريك بينما زفر سيكيم مستسلماً وأشار لها أن تشتري ماتريد فأسرعت تنتقي بسعادة كما لو أنها عادت طفلة ، أمسكت يد إيرينا وجعلتها تنضم لها لمساعدتها في الاختيار فوجدها سيكيم فرصة للتقرب من الصغير الذي اشتاقه كثيراً : مرحباً نواه ، كيف حالك ياصديقي .

رفع عينيه يتأمله بحيرة وبتردد أجاب : مرحباً عمي ، أمي ترفض أن أتحدث معك .

_ أعلم ذلك .. وآسف لهذا ، الذنب ذنبي على كل حال .

عاد الصبي لصمته فوضع يده على رأسه وهو ينظره بعطف ومحبة : مارأيك لو قضينا هذا اليوم معاً ؟

أخفض رأسه بأسى وهو يجيبه :محال أن توافق أمي ، لا أريد أن أحزنها ، إنها الأقرب لقلبي ومن لايجب أن أعارضها مطلقاً .

_ لنحاول إقناعها إذاً .

رفع رأسه ينظره حائراً بينما كانت العيون الغائمة ترقبهما بوجل ، سارت نحوهما وهي تنظر الفتى بعيونها الحانية : عزيزي نواه .. هل هناك ماتريد شرائه لنفسك يابني؟

أومأ بالنفي بينما حبس سيكيم أنفاسه وداخله في صراع ، أمسكت يد ابنها وهمت بالمغادرة فأطلق العنان لصوته بالانطلاق أخيراً : إيرينا ..

باحتجاج تكلمت مؤنبة : سيدة إيرينا .

تكلم معتذراً مستدركاً: سيدة إيرينا ، هل تأذنين بترك نواه معي هذا المساء ؟

استدارت تنظره متعجبة يجتاحها لهيب تود أن تطلق عنانه ليشعل الواقف أمامها فيفهم مقدار ما يتملكها من كراهية وغضب : هل حقاً تظن أن من الممكن أن أوافق على هذا في حين أني لا أثق بك مطلقاً؟ هل أنا مجنونة برأيك؟ من أين جئت بكل هذه الشجاعة لتطلب مني هذا؟!

ضغط الصبي على كف أمه وهو يتأملها برجاء ، بينما أتبع عسلي الشعر بنبرة هادئة صادقة : لنترك كل مامضى جانباً ، طالما ذلك الأمر لم يرحك فلن أحدثك به من جديد مطلقاً ، لننسه كما لو لم يكن ، لقد قررتِ الرحيل لذلك أرجوكِ من كل قلبي أن لاتحرميني هذه الساعات القصيرة برفقته ، أريد أن يكون وداعنا ذكرى لاتنسى لكلينا ، إني مستعد لفعل أي شيء لأحظى على موافقتكِ .

تنهدت بعمق وهي تدرك أنه لن يستسلم بسهولة ، لكنها استدارت متجاهلة وعادت تقف بجانب تيريزا تساعدها في انتقاء الهدايا ، وديريك معهما يعينهما وهو يحمل جوزيف ويلاعبه بين الحين والآخر .

توقفا أمام بائع الأحذية ينتقون بحرصٍ مايمكن أن يكون مناسباً ، سأل ديريك وهو يحمل حذاءاً أسود بياقة عالية : كم سعر هذا الحذاء سيدتي ؟

أجابته متفحصة : إن لك ذوقاً مميزاً يابني ، لقد كان سعره ٢٥٠٠روبل ، ولحسن حظك هو مخفض للنصف اليوم .

نظر بطرف عينه لصديقه الذي همس له : مخفض بالفعل ، إنه ذو جودة ممتازة حقاً ، لكن إن اشترينا للجميع شيئاً باهظاً كهذا سنفلس قبل شراء مانحتاج .

_ أنت محق ، الأمر يبدو أصعب مما ظننت .

أتبع وهو ينظر للسيدة : سيدتي إننا نريد شراء كمية كبيرة من الأحذية بمختلف المقاسات ، لذلك نريد أحذية جيدة وبسعر مناسب رجاءاً .

_ كم الكمية التي نتحدث عنها هنا؟

فكر قليلاً قبل أن يسأل إيرينا محتاراً : كم عدد الأطفال في القرية عزي...

بتر كلمته مستدركاً : أعني زوجة أخي العزيز .

نطقت مستذكرة : إنهم مايقارب الخمسة وثلاثون طفلاً غير الرضع بالطبع .

ربت سيكيم على كتفه هامساً : حتماً سنعلن إفلاسنا ياصديقي ، هل أنت مستعد ؟

_ لاتقلق بهذا الشأن فمحفظة ديريك لاتفلس ، عمتي تملأها دائماً ياصديقي .

أتبع يخاطب المرأة بحيلة ودهاء : إذاً سيدتي الجميلة الشابة المميزة ،ما السعر الذي ستعطيه لنا ؟

ابتسمت المرأة بحنكة وهي تبحث بين مجموعة الأحذية المعروضة : انظر لهذا النوع من الأحذية ، سأبيعها لك بسعر مميز للغاية ، ٥٠٠روبيل لاغير ، تفحصها إنها ممتازة .

أمسك واحدة منها بين يديه متفحصاً : إنها جيدة حقاً ، هذا كرم بالغ منكِ سيدتي ، وسأشتري هذا أيضاً للآنسة اللطيفة هنا .

اقترب من تيريزا وقرب الحذاء الأسود الفاخر لقدمها : جربيه دميتي الجميلة .

احمر خديها وعلى ثغرها علت بسمة رقيقة وهي ترتدي الحذاء بينما هو يصفر بإعجاب : يليق كثيراً بقدمكِ الناعمة ياعزيزتي .

_ إنكما ثنائي لطيف للغاية ، لأجل هذه الشابة الجميلة سأخصم خمسمئة روبل من ثمن الحذاء .

_ أنتِ حقاً أكرم وألطف سيدة رأيتها في حياتي ، ثقي أني سأكون زبونك الدائم ياعزيزتي .

قَبَّل كف السيدة بينما الفتاة تنظره بضيق تحاول إخفائه جاهدة ، تكلم سيكيم أخيراً كما لو أنه ارتحل لعالم آخر : وجدته !

حدقوا به أجمع بتساؤل بينما كان يتأمل حذاءاً رياضياً بلونٍ أسود وخيوطٍ بيضاء وعلامة مميزة : تعال نواه وجربه .

نظر لأمه مستئذناً فلم تعقب الأخرى ، سار نحوه متردداً ونطق بأدب : لا أريد حذاءاً جديداً عمي ، لدي واحد بالفعل.

_ نواه .. حذائك صار ضيقاً ألا ترى ؟ لقد انتقيت هذا بعناية رجاءاً جربه ، إن لم يعجبك سنتخير لك آخر .

أومأ بالنفي والحزن قد التمع في عينيه الهادئتين : كان هذا الحذاء .. آخر هدية من والدي .

لحظة صمتٍ حلت كأنما هي إكراماً لذكرى الراحل المبجل ، تكلم بعدها عسلي الشعر أخيراً بتفهم: صغيري .. أدرك كم هو ثمين بالنسبة لك ، وبأنك لن ترتدي حذاءاً بجماله مطلقاً ، لكنك تكبر ياعزيزي ، لن تستطيع ارتدائه العمر كله .

نكس الصبي رأسه دون أن ينبس ببنت شفة فأتبع الشاب وهو يضع يده على رأسه ويتأمله : ماذا لو احتفظنا به في مكان آمن ليرتديه جوزيف حين يكبر ، حينها ستكون قد أهديته شيئاً ثميناً يحمل ذكرى والده العزيز ، كم سيكون ممتناً .

تلاقت العيون الذهبية بسماء عينيه وكلٌ تهمس للأخرى بحديثٍ غير مسموع ، أومأ الصبي موافقاً أخيراً وودع حذائه العتيق مستقبلاً الجديد بغصة ، أجبر نفسه على الابتسام وهو ينظره ممتناً : إنه مريح جداً عم سيكيم .

ذلك الألم المدفون بأعماقه قد أبداه لأول مرة فتسلل لقلب الشاب وفي باطنه كم تمنى لو كان بإمكانه أن يعيد صديقه للحياة ويحل مكانه ، دفن الصبي عميقاً بأحضانه معتذراً أسِفاً والعيون الغائمة تتأملهما مرتحلة لذكرى حبيبها الراحل وهو يلبس صغيره الحذاء الجديد ببهجة، وضحكة الفتى السعيدة ملأت الأرجاء .

بتأثر تكلم ديريك وهو يحاول أن يبدو مرحاً كعادته : يارفاق دعونا نكمل التسوق الآن قبل حلول المساء .

نهض سيكيم يسبقهم وقد التمعت بعينيه دمعة ما أراد لأحدٍ أن يلحظها ، سارو من خلفه بعدما أرسلوا مااشتروه إلى شاحنة استأجروها لتحمل البضائع لهم .

_ وأخيراً انتهينا ، كانت رحلة تسوق متعبة بقدر ماهي ممتعة للغاية ،لقد اشترينا الكثير حقاً ، أرجو أنا لم ننس أي شخص .

أجابها رملي الشعر وهو يضع الأكياس التي تخصهم في السيارة : لا أظننا فعلنا لكن هل أنتم واثقون بأنكم اشتريتم كل شيء ؟

ردت مفكرة : معاطف ولعب وأحذية وأغطية ووسائد وأطعمة جافة ، هذا كل شيء صحيح ؟

_ أظن ذلك ، لقد تعب الصغار كثيراً في هذه الرحلة ، سي اصطحبهم للمنزل سأقود الشاحنة أنا لذلك قد أتأخر قليلاً.

أومأ إيجاباً وجلس خلف المقود بعدما وضع مااشتراه في حقيبة السيارة فتكلمت شقيقته حائرة : كنت صامتاً طوال الوقت ، هل من خطب أخي ؟ حتى أنك لم تريني مااشتريته ؟!

_ سأريكِ لاحقاً ، أشعر الآن بالدوار ، تعلمين كم أمقت التسوق، وهذه المرة طال كثيراً .

ضحكت ساخرة وهي تشير بعينيها لمن جلست في المقعد الخلفي تواً : ليس من شيم الرجال التذمر ، على الأقل لأجلهم كن لبقاً .

تأفف يائساً فابتعدت وهي تشير له مودعة : أراكم في القرية .

_ ماذا ! ألن ترافقينا ؟

أجابته وصوتها يبتعد وهي تركب الشاحنة مع رملي الشعر : لا .. سأرافق ديريك ، كي لايشعر بالوحدة.

_ يالكِ من فتاة جاحدة ، ديريك دائماً وأبداً من تفكرين به فقط !

..........................................

تسابقت الطيور عائدة للديار بعد ارتحال طال مداه ، تأملت تلك الأسراب بشغف وفي قلبها أمنية مستحيلة بأن تكون بينها يوماً ، لترتحل من هذا العالم الذي غدا كابوسها المميت ، فماعادت ترى من حولها سوى وحوشٍ تنتظر أن تفترسها بأية لحظة .

أطل ظله قريباً منها فارتعدت مرعوبة وقد تسللت لأنفها رائحة عطره مصحوبة برائحة سيجارته ما إن لامس معطفه كتفيها يدفئها به ، وقف أمامها مستنداً لسور الشرفة وقد عقد ذراعيه لصدره : مابكِ الآن ؟ إنكِ تتصرفين بغرابة منذ أيام ، مالذي فعلته مجدداً دون أن أدرك ؟!

لم تجب فأكمل وقد أطرقت براسها : الجميع بات ينبذني ، أنتِ .. إخوتي .. وحتى والدتي ، لا أحد منكم يقدر ما أفعله مطلقاً ، كلكم يفكر بنفسه وحسب .

هم أن يغادر فأمسكت كفه ولاتزال منكسة رأسها وشعرها انسدل يغطي قسماتها التعسة : إيفان .. أنا .. قررت الذهاب .. إلى طبيب نفسي ، لم أعد قادرة على تحمل الكوابيس كل مساء ، هذا يصيبني .. بالجنون !

_ كوابيس؟!

رفعت رأسها وقد اغرورقت عيناها بالدموع : أنت .. وآندريه .. وحتى نتاشا ، جميعكم تريدون الخلاص من جنيني .. ومني .

سكت يفكر في كلماتها ومالبث أن زفر عميقاً وأجاب باستسلام : حسناً إذاً .. ليكن لكِ هذا ، علكِ تعودين لرشدكِ قبل أن أصاب بالجنون أنا أيضاً ، سآخذ موعداً لكِ في الحال .

عاد للغرفة وهو يكمل بينما يكتب الرقم : ادخلي كي لاتصابي بالبرد .

نهضت مستندة على الكرسي بتعب وعيونها تتأمل الطيور مودعة ، وسرعان مااستجابت له لتعود للغرفة مغلقة باب شرفتها علها تحظى ببعض السكون والدفء .

...................................


نظر من المرآة لإيرينا التي كانت تهدهد رضيعها في حجرها ، بينما الآخر أسند رأسه لنافذة السيارة يتأمل الخارج بصمت ، حرك السيارة وقادها دون أن يتكلم هو الآخر ، مضى بعض الوقت قبل أن يوقف السيارة عند المحطة ويرتجل منها ، عاد بعد قليلٍ بأكياس حوت طعاماً وعصائر وماء أعطاها لها فأخذتها دون تعقيب .

عاد يكمل طريقه وقد مَلَّ الصمت فقطعه بتردد : إذاً سيدة إيرينا

تكلمت بفتور : خيراً؟!
_ماهو قراراكِ الأخير إذاً؟

_ بشأن ماذا؟

_ بشأن إبقاء نواه معي هذه الليلة .

_ إني لا أغير رأيي أيها السيد ، حتماً لست موافقة .

باحتجاج أجابها محاولاً أن لايعلو صوته : هل لي أن أعرف سبباً لهذا؟

بهدوء تكلمت وهي تسند رأسها للمقعد وتغمض عينيها : ببساطة لأنك لست أهلاً للثقة ، ألم أقلها قبلاً ؟

_ لم خمنتِ هذا ؟ مذ جئت للقرية هل آذيتكم قط ؟!

_ برأيك؟

تنفس بصبر وعاد ينطق بهدوء مبرراً : بالنسبة لذلك الأمر لقد اعتذرت حتى بح صوتي ومللت الاعتذار ، وأخبرتكِ مراراً أني لن أزعجكِ لتنسه وحسب.
_ ياله من أمر سهل .
_ لم قد يكون صعباً ؟ لا أسوغ لنفسي ولكني إنسان في نهاية المطاف ، لم لايمكن لأخطائي أن تغتفر، لم أتعامل قط مع امرأة مسلمة إن لم تلاحظي ؟

_ أوحسبتني واحدة مثل من عرفت من نساء .

_ ماذا ؟!

التفت ينظرها بدهشة مستنكراً : مالذي قلته تواً؟ ! ماذا حسبتني إيرينا ؟!

_ سيدة ..

قاطعها بحدة ساخطاً: هل أبدو لك زير نساء ؟

_ تحدث بتهذيب أمام الفتى .

_ إنك من بدأ بالتحدث بسوء عني ، ثم إن الصبي نائم .

_ مالم توقظه بصراخك .

_ إني رجل محترم ولست كما تحسبين .

_ عذراً .. من الصعب التصديق .

حاول السيطرة على غضبه وعاد ينظر للطريق وهو يهدأ نفسه ، تكلم بعدها بتريث وصبر : سيدة إيرينا .. إني أتوسلكِ أن تقبلي بقائه معي ، لقد وعدته بالكثير ولم أنفذ أياً من وعودي ، ليكن وداعنا لائقا رجاءاً ، وأيضاً .. دعيني أهديه ماهو بحاجة له الآن ، الفتى بات يبحث عن والده في كل ذكرى وتذكار قد يؤنسه ويخفف وحشته ، وكذلك أنا .. إني بأمس الحاجة له ، أحتاجه أكثر من احتياجه لي حتى .

صمت باختناق بينما لم تعقب وهي تتأمل الفتى النائم بعمق ساكن الحواس مشتعل الجوى ، أعادت طرفها للمرآة حيث انعكست صورة الشاب بتعابير تعسة وعقل ارتحل للبعيد ، ملأت رئتيها بالهواء علها تريحها من ضيق اجتاحها دون أن تدرك له سبباً .

في مكنونها تخالجها رغبة في مسامحته وتصديقه ، في إسعاد صغيرها بلحظاتٍ تدرك كم يحتاجها وهو تواق لها ، وفي الآن ذاته ترفض السماح لنفسها بالخضوع ولأسوارها المنيعة بالسقوط ، وقد آلت على نفسها أن لاتسمح لأحدٍ بأن يملك من الجرأة مايمكنه من تجاوز حصنها أو الاقتراب منها .

توقفت السيارة وقد انتبهت تواً أنهم قد وصلوا للقرية حيث وجهتهم المنشودة ، رفع زرقاويه للمرآة ينظر انعكاسها منتظراً أن تعلن عن قرارها الأخير ، بينما هي ظلت بصمتها الذي جعله يستسلم أخيراً والأسى قد غلف قسماته الهادئة .

ترجل من السيارة وفتح باب الصبي بحذر كي لايوقظه ، وما إن هم بحمله حتى نطقت دون أن تلتفت له : يجب أن يستحم قبل أن يخلد للنوم ، وأيضاً هو لم يعتد على تناول عشاءٍ ثقيل ، رغيف وكأسٌ من الحليب سيشبعانه حتماً .

أكملت وعيونه تتأملها ذاهلة : الجو بارد .. لذلك دفئه جيداً ، قد يجد صعوبة في النوم بما أنه ينام خارج منزله ، وكذلك .. اهتم به ..جيداً .

بدا صوتها متحشرجاً وهي تشيح بوجهها عنه بينما نطق غير مصدق : هل وافقتِ ؟ حقاً؟!

_ انتظرني ريثما أضع له بعض حاجياته في حقيبته .

خرجت من السيارة وهي تحتضن رضيعها بينما ارتسمت على شفتيه بسمة امتنان وبهجة : شكراً لكِ ، إني أعدكِ أني سأهتم به جيداً وسأسعده قدر ما أستطيع ، اطمئني لن يصاب بمكروه وهو معي .

غادرت دون أن تعقب وقد استفاق الصبي وهو يمسح عينه بكفه : هل وصلنا؟

أجابه بحبور وهو يضع يده على رأسه : أجل وصلنا ، ولكننا سننطلق من جديد وسيكون الطريق طويلاً هذه المرة ، هل أنت مستعد؟

بدهشة وتساؤل نطق : هل تعني .. أنني سأرافقك حقاً ؟ ماذا عن أمي؟

_ لقد منحتني الإذن تواً ، حتى وإن كان بشكل غير مباشر .

ظل يحملق فيه ذاهلاً غير مصدقٍ لما يقول ، وسرعان ما انطلق لمنزله يبحث عن والدته والتي كانت ترتب حاجياته في حقيبة ظهر صغيرة .

_ أمي !

التفتت تتأمله بابتسامتها العذبة الحانية وقد احمرت غائمتيها الساحرتين ، اقتربت منه تلبسه حقيبته وتعطيه شطيرة أعدتها تواً : انتبه لنفسك وتدثر جيداً ، سأشتاقك كثيراً ياصغيري ، عدني أن تكون بخير .

ارتسمت على شفتيه ابتسامة ممتنة وعانقها بمحبة : لاتقلقي أمي .. أعدكِ أني سأعود بسرعة ، وسأكون بخير كذلك، لذا أنتِ أيضاً كوني بخير رجاءاً .

أومأت له مجيبة ثم قبلت جبينه ، سار نحو شقيقه النائم في فراشه كملاك صغير ، همس له وهو يمسح على شعره بلطف :أراك غداً أخي العزيز ،اهتم بأمي جيداً من أجلي .

التفت لها وأخذ شطيرته وقد اتسعت بسمته : إلى اللقاء أمي ، سأودع جدي وجدتي وأذهب في الحال .

مسحت بأناملها النحيلة جبينه تبعد عنها غرته : ليحفظك إلهي ياصغيري الحبيب ، رافقتك السلامة يابني .

................................






 
 توقيع : آدِيت~Edith

مواضيع : آدِيت~Edith


التعديل الأخير تم بواسطة آدِيت~Edith ; 05-06-2023 الساعة 06:18 AM

رد مع اقتباس
قديم 05-05-2023, 01:48 AM   #98
آدِيت~Edith
https://www.anime-tooon.com/up/uploads/at165286508456371.png


الصورة الرمزية آدِيت~Edith
آدِيت~Edith غير متواجد حالياً








علا صوت الأغنية وكلاً منهما يشارك المطرب الغناء بصخب متأملاً الآخر بين حين وآخر كما لو كان يهدي شطر الأغنية له ، ضحك كليهما بسعادة ما إن انتهت الأغنية وقد علق الشاب ساخراً : لو كان شقيقكِ هنا لأفسد الأجواء بقوله " أصبتني بالصداع قم بتغييرها فوراً " .

ضحكت الفتاة قبل أن تؤيده : معك حقاً ، مؤسف حقاً أن لدي أخٌ لايفهم الفن مطلقاً .

_ ذوقكما مختلف في كل شيء ، غير أنكما تتشاركان العناد ذاته .

ظلت تبتسم دون تعقيب وهي تتأمله مما جعله يشعر بالارتباك : مابكِ ؟ سكوتكِ هذا مريب .

طبعت على خده قبلة سريعة جعلت أطرافه ترتعش فجأة وقلبه يضطرب بشدة ، بتوتر سألها : مالذي فعلته تيريزا ؟ إني أقود شاحنة لاتربكيني من فضلك .

_ لا أحد معنا لم تنفعل هكذا ؟ ثم إنها قبلة بريئة .

حاول إخفاء ابتسامته وهو ينظرها بطرف عينه ، بينما أخذت تقلب الأغنيات حتى توقفت تستمع لأغنية حزينة هادئة مما جعل الشاب ينظرها متسائلاً وقد تبدلت ملامحها لحزن وتعاسة .

_ هل تحولتِ لشقيقكِ على حين غرة ؟!

أجابته بنبرة هادئة بائسة : غداً .. سترافقهم حتماً صحيح ؟

_ بالطبع ياعزيزتي ، إنه واجبي لايمكنني التملص منه .

بأسى نطقت وكفها تلامس كفه : عدني أن تعود لي بسلام ديريك ، إن أصبت بمكروه ..

دمعت عينيها وباختناق أكملت : لا أستطيع تخيل هذا حتى !

_ على مهلك عزيزتي توقفي لاتبكي أرجوكِ ، أوقف الشاحنة على جانب الطريق وأسرع يعانقها وجلاً : مابكِ الآن .. لاتقلقي لن يصيبني أي مكروه ، أعدكِ أن أعود لكِ بسلام لا ينقصني أي عضو أو مفصل .

ضربته بقبضتها مستاءة : توقف عن قول هذا الكلام المخيف ، مالذي تعنيه هل ستقطع أعضائك ؟!

_ لا لا إنما أريد أن لاتقلقي ومع هذا فكلامي يزيد خوفكِ وحسب .

ابتسم وهو يتأملها بسعادة ومحبة : ظننتكِ تمقتينني يافتاة ، ماكنت أخالني مهماً لهذا الحد .

_ أحمق .. أنت تغضبني الآن .

دفعته وأخذت تمسح دموعها بخجل ، ظل يتأملها بابتسامة ممتنة ومالبث أن غير الأغنية لأخرى سعيدة مرحة : هل تشعرين بتحسنٍ الآن دميتي الجميلة .

_ كف عن هذا .. لست بدمية .

قبل جبينها طويلاً وعاد يتأملها وحمرة قد ارتسمت بخديها وهي منكسة طرفها بحياء ، عاد يقود الشاحنة وقلبه لايزال ينبض بعنف بينما هو يحاول جاهداً إخفاء نشوته وابتسامته .

..........................................

ببهجة كان كل منهما يطالع الآخر بين الفينة والأخرى والطريق نحو وجهتهما لازال طويلاً ، سأل سيكيم الفتى الذي عاد يراقب الشارع بابتسامة واسعة : لابد وأن البقاء طوال هذا الوقت في السيارة أتعبك ، هل نتوقف لتناول شيء في الطريق؟

التفت له بحماسة : لم لا ؟ غير أني لا أشعر بالتعب حقاً .

غير مساره نحو متجر الفطائر والحلويات حتى توقفا قريباً منه ، خرج مع الصبي ليدخلا المحل الصغير الدافيء بواجهة تملأها الحلويات الروسية الشهيرة ، كان نواه يتأملها بانبهارٍ مشدوهاً بتلك الحلويات المنوعة والملونة ، والفطائر الساخنة الشهية .

_ إذاً .. هل اخترت ماتريد ياصغيري؟

بحيرة أجابه وهو يشير لإحداها : هل طعمها جيد ؟ ماهي مكوناتها ؟

_ هذه تسمى البيروك ، إنها قطعة من العجين محشوة بالمربى إن أردتها حلوة ، وهذه مالحة .

فكر قليلاً قبل أن يتكلم بتردد : حسناً .. أريدها حلوة إذاً بنهكة التوت .

اشتراها له وبعض السكاكر والشوكلا الساخنة ، جلسا على المقاعد وكلاً يتناول فطيرته ويشرب شرابه والزرقاوتين كانتا تطوفان الوجه البريء السمح ، وطيف رفيقه ماثل أمامه تشاركهما روحه شفافة بدفء لامس حناياه واعتنقها .

صارا يتجولان بتلك الشوارع المضيئة وقد اصطفت المحال على مد البصر ، وعلى واجهتها تجلت أروع السلع من تحف غريية وتقليدية والملابس الجميلة، كعك وحلويات ودمى والكثير من الأمور المميزة ، وقد اشترى سيكيم بعض الخضار والفواكه والكثير من الحاجيات التي خبأها ليفاجأ بها الصغير ، غربت الشمس وبدأ المساء يعانق السماء ، رفع الصبي عيونه يتأمل الظلام والضيق خالط محياه فابتدر الأكبر يسأله: مابك ؟ لابد وأنك تعبت .

أومأ له بالنفي وأجابه بسؤالٍ آخر : هل من مسجدٍ قريب عمي ؟

_ مسجد!

سكت هنيهة يفكر بحيرة ، وسرعان ما فتح الخريطة بهاتفه يبحث بجد .

_ هاهو ! لحسن الحظ لايبعد كثيراً عنا ، لنعد للسيارة إذاً .

انطلقا لوجهتهما الجديدة وفي جعبة الصبي تزاحمت الذكريات الدافئة لوالده وإياه ، تأمل الطريق بمشاعر شتى لم يستطع أن يبد منها شيئاً ، حتى توقفا أخيراً فنطق بلهفة وهو ينزل دون انتظار : هيا عمي علنا ندرك الصلاة معهم .

أسرع للمدخل بينما تنهد الشاب وقد بدأ يشعر أنه قد تورط بتلك الوجهة حيث لم يقصدها مطلقاً من قبل ، سار خلفه وهو ينظر ذلك المبنى المهيب يقصده مجموعة من الرجال والصغار .

وقف أمام الصبي الذي قصد المغاسل الخارجية ، وقبل أن يبدأ التفت له بابتسامته البريئة العذبة : ألن تتوضأ عمي ؟

أومأ له بالنفي دون إيضاح مما جعله يتكلم مستنكراً متعجباً : لايمكنك الدخول دون وضوء ،يجب أن تكون طاهراً !

سكت من جديد يفكر وبصعوبة نطق يجيبه : لست .. مسلماً .. نواه .

رد بعد صمت قصير : وإذاً؟ ألن تجرب الدخول معي ، أريدك أن تكون معي .. رجاءاً .

زفر مستسلماً دون أن يستطيع رفض طلب لذلك الكيان النقي : ستعلمني كيف أفعل ذلك ، لكن لن تنتظر مني ماهو أكثر اتفقنا ؟

_ بكل تأكيد !

هتف بحماسة وبدأ يعلمه الوضوء ، وقبل أن يدخلا أشار له بمرح : فقط اخلع حذائك ، لايجوز الدخول به فهي بقعة طاهرة .

خلع حذائه وهو ينظره بطرف عينه : وهاقد فعلت ، هل هناك المزيد؟

أومأ له بالنفي بابتسامة سعيدة سرعان ماتبدلت لإحباط حينما دخلا : لقد تأخرنا لم أستطع اللحاق .

_ لابأس المهم أنك وصلت لذا لاتحزن ، عجباً! الأطفال في عمرك يلهون ويلعبون ، لكنك تهتم بالتفاصيل الصغيرة حتى !

_ وهل يعرف الحب عمراً.. عمي ؟

سكت يفكر في إجابته تلك وقد سارع يؤدي صلاته وحده ، جلس يتأمله وقد ارتسم طيف والده من جديد يقف بجواره يصلي معه ويتلو القرآن ، عيونه تعانق الكيان الصغير وتحتويه بدفء ومحبة ، والصبي مبتهج كما لو كان يستشعر ذلك الدفء والقرب ، وكأنه امتلك الكون بأسره واحتواه .

مضى الكثير من الوقت وعيونه ترقب الصغير تارة والمصلين تارة أخرى وقد فرغوا من صلاتهم وتحلقوا مجموعاتٍ للتعلم ، حتى سمع فجأة أصوات مجموعة منهم قد علت بالتكبير والتحميد ، التفت لهم متسائلاً بدهشة : مالذي يجري هناك ؟!

أغلق نواه المصحف قبل أن يجيبه وهو ينظرهم مستبشراً : يبدو أن ذلك الرجل قد أسلم لتوه ، إنه كما يقول والدي كعريس زف للجنة بأجمل حلة ، أرجو أن يحافظ على هذه النعمة العظمى .

التفت للشاب الذي كان يتأملهم بشرود دون أن ينبس ببنت شفة : هل نذهب الآن؟ آسف لأني أطلت هنا ، لكني اشتقت حقاً لهذا المكان ، إنه يجعلني أشعر بسعادة لاتوصف ، وبالراحة والطمئنينة ، أولست تشعر مثلي؟

_ أنا .. لا أعلم ..

أجابه ولا زال عقله مرتحلاً للبعيد دون أن يدرك سبباً للسلام الذي حل باعماقه فجأة ، نهض محاولاً العودة للضفاف وسار نحو الخارج يتبعه الصبي وقد تهلل وجهه فرحاً، عادا ليكملا طريقهما حتى وصلا المنزل أخيراً .

..............................................

انتهى من إفراغ كل شيء وترتيبه وإعطاء كل عائلة مالها من حاجيات ، والكل قابلهم بشكر وامتنان وسعادة ، ودع الفتاة وهو يسير خارج القرية بينما هي تتبعه : عودي الآن كي لاتبردي ،قد لا أجيء هذا المساء فكما تعلمين علي زيارة والديَّ.

_ هل ستكون بخير ؟

_ بالطبع ! ، إنه ليس ميدان حرب تيري .

_ أعلم .. لكني أعرف جيداً كم يسيء الجميع إليك هناك ، هل تحب أن أرافقك .

_ لاتقلقي بشأن هذا ، ديريك يجيد التعامل معهم وإحراجهم دوماً لذلك أريحي نفسك ولاتفكري بشيء مطلقاً .

أمسكت بكفه وعيونها تحتضنه وتحتويه : سأنتظرك .. اتصل بي عندما تعود لمنزلك ، لن تغفو عيناي حتى أسمع صوتك .

التفت يمنة ويسرى ليتأكد أن لا أحد يرقبهما ومالبث أن تكلم بهمس : أحبكِ أيتها الشقية ، هيا اذهبي قبل أن افقد صوابي .

ابتسمت خجلة وأومأت بيدها مودعة ، وسرعان ماعادت للقرية ترقبها عيناه بمحبة .

..........................


فتح الباب وأضاء الأنوار بينما الصبي يتأمل المكان بإعجاب ، أخرج سيكيم من الكيس حذاءاً منزلياً صغيراً وأعطاه له : ارتدي هذا وضع حذائك على رف الأحذية بجانب الباب

فعل ماطُلب منه وسار وراء الشاب الذي وضع الأكياس على طاولة المطبخ وبدأ يفرغها ويغسل مااشتراه من فواكه وخضر .

_ هل تسمح لي بمساعدتك ؟

_ فيما بعد .. خذ هاتفي الآن واتصل بوالدتك ، لابد أنها قلقة .

_ لكن أمي لاتملك هاتفاً .

جفف يده وأخذ الهاتف ليتصل بتيريزا ، أجابته الفتاة وقد اقتربت إيرينا منها قلقة : مرحباً أخي .. مالخطب ؟

_ أعطِ الهاتف للسيدة إيرينا ، نواه يريد أن يحدثها .

أعطته لها فتكلمت بلهفة : صغيري .. كيف أنت ؟

جلس على الكرسي وهو يجيب مبتهجاً : أنا بخير أمي ، إني سعيد للغاية ، وصلنا للمنزل تواً لقد تجولنا كثيراً في المدينة وحتى أننا ذهبنا للمسجد سوياً ، العم سيكيم يهتم بي جيداً لذا لاتقلقي كوني مطمئنة .

عاد سيكيم يكمل عمله وهو يستمع له مبتسماً وشعور حلو دافيء تسلل لأعماقه .

_ عزيزي .. أن تكون سعيداً هو كل مايهمني ، كن بخير بني ، سررت لأجلك حقاً ، سأشتاقك ياصغيري .

_ وأنا أيضاً أمي ، أحبك كثيراً .

أغلق الهاتف وأعاده لسيكيم والذي كان قد بدأ يقطع الخضار ويضع كل نوع في طبق صغير .

_ شكراً عم سيكيم ، أين أضع هاتفك؟

_ ضعه في جيبي من فضلك .

فعل ووقف بجانبه يتأمل مايفعل : هل أساعدك؟

_ أجل ستساعدني بصنع العشاء ، أعطني كيس عجينة البيتزا الجاهزة .

_ سنعد بيتزا؟!

_ أجل .. كل واحد سيطهو البيتزا الخاصة به .

هتف بحماسة : رائع ! أعجبتني الفكرة كثيراً .

أخرج عجينة البيتزا ووضع كل واحدة في قالبها الخاص ، بينما رصف سيكيم الأطباق بين القالبين : لنبدأ إذاً ، لدينا الفطر والطماطم والفليفل والبصل وكذلك الببروني والزيتون ، وهناك الجبن وكذلك الفلفل الحار ، لتبدأ بصنع خاصتك بما تشتهيه .

وقف حائراً ينظر المكونات دون أن يعرف بم يبدأ ، حتى تكلم مستسلماً : مارأيك أن تبدأ أولاً ؟ لأتعلم منك ماعلي فعله .

_ اممم لك هذا إذاً ، راقبني ياصغيري .

أخذ يدهن العجين بصلصة البيتزا الحمراء ويرش فوقها طبقة من الجبن المبشور ، ثم بدأ يضع بقية المكونات بترتيب .

_ وهكذا ترش المزيد من الموزاريلا لتصبح أشهى ، وبالنسبة لي أحب إضافة القليل من الأوريجانو المجفف على سطحها هكذا .

_ لقد أعجبني الأمر كثيراً ، إنه دوري إذاً .

بدأ عمله مستذكراً الخطوات محاولاً تنفيذها بحذر ودقة ، والشاب يراقبه وقد ارتسمت على شفتيه بسمة عكست مابأعماقه من راحة وحبور .

ذهبيتاه الواسعتان كانتا ترقبان_ من خلف زجاج الفرن المضاء _ البيتزا وهي تخبز وكل تلك الأمور الصغيرة كانت تبهره بشدة ، ناداه الشاب فالتفت له متسائلاً .

_ مارأيك أن تشاركني بعمل ألذ عصير ريثما تُخبز البيتزا ؟

_ أحب ذلك عمي ، بكل تأكيد!

أسرع يقف بجانبه تعلوه حماسة بريئة عذبة ، وهو يراقب سيكيم وقد بدأ بخلط الفواكه يصنع منها عصيراً بطبقات منسقة جميلة الألوان .

_ وأخيراً بعض الكريمة للتزين ، وقطع الفاكهة بالطبع .

_ عمي هذا يبدو احترافياً حقاً ، أنت مذهل !

وضع يده على رأسه وعيونه تتأمله بعطف ومحبة : واثق أنك ستكون أفضل مني بعد أن تجرب ، هيا إنه دورك ، واسمح لي أن أساعدك قليلاً .

............................

عاد لمنزله منهكاً وهو يرسل لصديقه " سيكيم لقد تكلمت مع طبيبتك بشأنك ، طالما لن تبدأ علاجاً جسدياً فهي ترى أن تبدأ بالنفسي على الأقل ، لذلك أخذت لك موعداً مع الطبيبة جيلينار ، كانت زميلتي في القسم وهي ماهرة جداً ومتعاونة ، لامجال للرفض وسيكون موعدك الأول بعد اسبوع لذا كن متأهباً دون حجج أو اعتراض" .

أعاد هاتفه لجيبه وأكمل طريقه نحو السلم الذي انتصف الردهة الواسعة ، صوتها الناعم ناداه ليجبره على التوقف والالتفات .

_ لقد عدت أخيراً .. كنت بانتظارك لنتناول العشاء معا ًً.


سار نحوها بابتسامة هادئة : مساء الخير أمي ، لم لم تتناولي عشائكِ بعد .

_ أخبرتك .. كنت بانتظارك .

_ ماذا لو تأخرت أكثر ، هل ستبقي جائعة ؟

_ أجل .. حتماً .

تأملها بيأس وقد غدا جسدها هزيلاً ووجها رغم حسنه كان ذابلاً ، شعرها البني الطويل قد أسدلته ليلامس منتصف ظهرها ، وملابسها اعتادتها داكنة كما لو أنها لاتزال في حداد .

أحاط ظهرها بذراعه وهو يسير معها نحو غرفة الطعام ، أجلسها على كرسيها وجلس مجاوراً لها وقد بدأت الخادمة بسكب الطعام في الأطباق .

_ هيا تناولي طعامكِ جيداً أمي ، لتتمكني من أخذ دوائكِ بعدها .

التقفت الملعقة وبدأت تتناول العشاء بابتسامة ذابلة ، فبدأ هو الآخر يتناول عشائه بصمت .

تكلمت بغصة وحزن : لم أرك اليوم عند قبر والدك .

_ كان العمل كثيفاً ، لم تتح لي فرصة لزيارته .

_ أجل .. كعادتك .

قالتها معاتبة فالتفت يتأملها دون تعقيب بينما أكملت بهدوئها المعتاد : شكوتك إليه !

بدت عليه دهشة طفيفة وهي تكمل بلوم : أخبرته كم تهملني ، وكم تفضل الهرب لمشفاك دائماً على الجلوس معي والاهتمام بي .

_ أمي ! إنه عملي ، يجب أن أساعد من يحتاجني .

رفعت زرقاويها الداكنتين تنظره بحدة : لقد منحك جدك المشفى لكي تبقى معي ، لست بحاجة للمال لتستمر بالعمل كأي طبيب عادي ، إنك مدير المشفى ورئيسه ستيف ، أراد جدك أن تلازمني وتهتم بي ، إنك وحيدي ولازلت تتركني دون اكتراث وتفضل البقاء مع مرضاك أكثر من بقائك معي ، ألا تدرك كم أحتاجك وكم أشعر بالوحدة من دونك ؟!

بأدبٍ أجابها رغم استيائه : أنا لا أهملكِ لكني أحاول مساعدة من هم بحاجة لي ، أردت دائماً أن أكون طبيباً لهذا السبب وليس لأجل المال .

_ وأنا ؟! ألست أحتاجك أيضاً .

_ لقد تعبت البقاء في المنزل أمي ، هذا يؤلمني .

أجابها بحرقة فسكتت تستمع بأسى : لم يعد المنزل سعيداً كما كان ، وأنتِ أصبحت تقيمين عزاءاً بكل يوم ، أما آن لهذا الألم أن يزول ، ألم تملي الحزن أمي ؟!

دمعت عيناها أجابته معاتبة : كيف أستطيع ذلك ؟ والدك لم يقتل وحسب ، لم نستطع الثأر له ، لقد أذللنا وذاع بين الناس أننا خونة ، كيف أصبر وأنسى بني ؟

_ لم قد نستمع لهم ونحن نثق بالقائد العظيم ميخائيل ، إن استسلمنا لهم فهذا يعني أننا نصدقهم !

احتضن كفها وهو ينظرها بثقة : أمي العزيزة ، لن يترك هذا الأمر مطلقاً وستظهر الحقيقة قريباً ، هناك من يسعى لأجل ذلك ويضحي لأجل أن تظهر الحقيقة بكل مايملك .

_ وأنت ؟! لم لاتفعل ؟ لم قد تنتظر أن يقوم غيرك بهذا بينما أنت أحق به .

سكت قليلاً ومالبث أن أجابها بابتسامة مريحة : سأفعل أمي ، كنت حقاً حائراً بإيجاد طريقة مناسبة لأبدأ بها الحديث معكِ ، غداً سأنطلق مع الرفاق لأجل هذه المهمة ، سيطول الأمر ، لكني أعدكِ أن النهاية ستكون سعيدة مرضية .

ارتعشت أطرافها فقبضت كفيها بين كفيه قلقة مذعورة : وهل ستكون بخير ؟

أومأ لها إيجاباً وهو يتأمل صورة والده التي تصدرت القاعة : أجل أمي .. لأول مرة سأحقق حلمه بأن اقتحم الخطر ، وأعيش مهمة حقيقية وأقاتل من أجل الحقيقة .

أعربت بندمٍ مستدركة : آسفة لما قلته ، أرجوك لاتذهب لم أعد أريد ذلك ، ماذا سيحدث لو فقدتك بعد والدك .

_ لاتقلقي أمي ، ثقي بي وحسب وأعدكِ أن أعود لكِ قريباً ، كوني مطمئنة .

عانقته باكية فأحاطها ولايزال يتأمل صورة والده مبتسماً فخوراً كما لو كان يحادثه ويسمعه .

....................................

على الأريكة جلسا يتناولان عشائهما والصبي مستمتع بعصيره الذي أعده بنفسه .

_ أصبت بالتخمة ، حمداً لله لقد شبعت .

_ في الواقع وأنا كذلك ، إنه أفضل عشاء تناولته على الإطلاق ، صدقاً أعجبتني البيتزا خاصتك أكثر ، أحسنت الاختيار .

اتسعت ابتسامته وهو يتأمله وعيونه نطقت بالكثير ، مما لم يستطع لسانه البوح به ، ظل كلاً منهما بصمته والشاب يطالع طيف صديقه الذي جلس بجوار ابنه وهو ينظره ممتناً شاكراً ، بينما الأصغر كان في أعماقه يبث حديثاً لوالده ظن أنه ماكان يسمعه .

" أبي .. شكراً لأنك لم تتركني ، لقد أدركت كم كنت قلقاً علي ولم تنسني ، آسف حقاً لأني ظننت أنك لم تفكر بي ، وكنت أنانياً برحيلك ، لكنك في الواقع حتى اللحظة الأخيرة كنتُ أنا وأخي وأمي مايشغل تفكيرك ، لا تحزن أكثر أبي .. إنني سعيد حقاً برفقة أصدقائك ، أحبك وشكراً لك .. شكراً أبي الحبيب "

قبل الطيف رأس ابنه واعتنقه وهو يهمس له : أحبك ياصغيري ، كن سعيداً دائماً .. كن بخير .. وكن بعين الله .

بحزنٍ رسم ابتسامته وهو يتأملهما وفي أعماقه أمنية تمنى أن تتحقق ، رغم أنه على يقين أنها مجرد حلم جميل لايمكن تحقيقه ، فلن يعود الراحل للحياة مطلقاً .

.........................

أُنيرت الشموع وكعكة الميلاد زينت الطاولة من حولها أشهى أنواع الطعام والحلويات ، وقفت وأصوات عائلتها ترنم أغنية عيد الميلاد وهي ترقبهم مبتسمة ببهجة ، حتى بدأ التصفيق فأطفئت الشموع بدلال ليعانقها أحبتها واحداً تلو الآخر .

أضيئت الأضواء من جديد لتتضح زينتها وقد ارتدت فستاناً قصيراً ارجواني اللون وشعرها القصير المموج بخصلاته المزدوجة بلون بني وذهبي معاً التمعت بمظهر جذاب .

أغنيات الاحتفال تصدح في الأرجاء بصخب ، بينما بدأت تفتح الهدايا بلهفة، وقف بينهم يشاركهم رغم شعوره أنه غير مرئي ، إلا أنه حاول بجهد إقحام نفسه بينهم كالمعتاد .

_ يالها من هدية مميزة أبي شكراً لك .

عانقته ممتنة والتقفت هدية أخرى لتفتحها بينما كانت عيون الشاب ترقب الصندوق المزخرف تحتويه بيوض ملونة مزخرفة فاخرة .

التقف منها واحدة ذهبية فصوب الجميع أنظارهم نحوه بدهشة منكرة ، تكلم بنبرته الساخرة وهو ينظر والده : إنها جميلة حقاً ، عجباً كيف استطعت شراء المجموعة كاملة .

التفت لشقيقته وهو يوضح : حين كنت طفلاً رأيت هذه وأعجبتني بشدة ، توسلت لأبي ليشتريها لي لكنه كان يستمر بقول أنها باهظة الثمن .

نطقت زوجة الأب محتجة باستنكار : هل يليق بك ماتقوله الآن ؟

_ وماذا قلت ؟ رأيتها فذكرتني بالموقف لذلك ذكرته وحسب ، أثار الأمر دهشتي حقاً!

وبخ الأب وهو ينظر ابنه بحزم : مالذي ترمي إليه ديريك ؟! ماهذه التصرفات الطفولية !

_ لا بأس أبي لم يقل أخي أي شيء .

التفتت له تخاطبه بغنج : بإمكانك الحصول عليها إن أردت ، فكما ترى لدي الكثير منها .

أجابها هازئاً : شكراً لكِ ، كانت تجذبني حين كنت طفلاً ، لكنها الآن لاتهمني صدقاً ، استمتعي بها عزيزتي .

أعادها للصندوق فأكملت الفتاة تفتح الهدايا وأخيراً التقفت هديته وعيونها ترقبه باستخفاف : هذه هديتك أخي صحيح ؟ أرجو أن لاتكون كالمعتاد .

_ وكيف تكون هداياي عادة ؟

تكلم الأخ الأوسط هازئاً : باختصار إنك تمنحنا هدايا لاقيمة لها .

_ اوه مؤسف ، لم لم تخبروني أنها كذلك من قبل ، كنت استعدتها ووفرت ثمنها ، على كل واثق أن الهدية هذه المرة ستروقكِ ، إنها تشبهكِ كثيراً .

فتحت العلبة وإذ بها دمية متوسطة الحجم بشعر بني وعيون واسعة خضراء ، ترتدي ثوب الساحرات وعلى عيونها كحل كثيف .

_ أقلت تشبهني ؟!

ألقتها على وجهه بغضب : أنتت وقح ياهذا ؟ كم مرة كررت أني لا أريده بيننا من الذي قام بدعوته أبي؟

_ تهذبي عزيزتي فأنا أخوكِ الأكبر .

تمتمت الأم هامسة لزوجها : ابنك هذا تجاوز الحدود كثيراً ، ألن تقول شيئاً .

تنفس بعمق وقبل أن ينطق بادر ابنه وهو ينظره معاتباً : أتمنى لكم حفلاً سعيداً ، حان وقت ذهابي فأمي بانتظاري ، ليلة سعيدة .

سار نحو الخارج والاخوة الثلاثة يرقبونه باستياء بينما والدتهم أخذت الدمية وألقتها في حاوية النفايات لتعقم يدها بعدها باشمئزاز .

تبعه والده وقبل أن يغادر أمسك ذراعه يوقفه وهو ينطق بضيق : مالذي فعلته ؟ لم لايمكنك التعامل معهم باحترام ديريك ، إنك شقيقهم الأكبر ورغم ذلك لازلت تتصرف بقلة تهذيب .

_ ماذا فعلت أبي؟! أوليسوا من يعاملونني باحتقار طوال الوقت ؟ لكنك لاترى إلا مايفعل ديريك ، عشت طفولتي خادماً لهؤلاء ، كالنكرة تماماً .. لم أكن اعني شيئاً لأي منكم ، ومع هذا أحاول تجاوز الأمر والتصرف بأريحية معكم ، غير أنكم تنتظرون أن أخطأ لأُ حاسب .

_ أنا لا أفعل .. هل هذا ماتعلمه والدتك لك ؟ هل هي تريد إفساد علاقتك بنا ؟

اكتفى بتنهيدة طويلة يائسة غادر بعدها محاولاً السيطرة على غضبه ، انطلق لوجهته التالية حيث منزل والدته ، والذي ما إن وصل عند بابه حتى تناهى لمسامعه صوت شجارٍ اعتاده .

طرق الباب ففتحه شقيقه ذو التسعة عشر عاماً بشعر ذهبي وعيون سوداء : مساء الخير ديريك ، تفضل .

دخل مغلقاً الباب من خلفه وهو يسأله : مالذي يجري مجدداً؟

أجاب بلا اهتمام : كالعادة ... لقد شاهدت زوجة طليقها ترتدي خاتم ألماس وتريد واحداً مثله .

تأفف ضجراً وهو يسير نحو المطبخ حيث أمه وزوجها : مساء الخير لكما ، هلا أخفضتما صوتكما رجاءاً .

التفتت له باكية : مساء الخير بني ، حمداً لله أنك أتيت.

_ جئت في الوقت المناسب ، تعال وحاول اقناع والدتك بالتخلي عن غيرتها المفرطة ، لقد أفلست بسبب طلباتها التي لاتنته .

_ وهل طلبت المستحيل ؟! طالما لست قادراً على إسعادي لم تزوجتني ؟

_ ولم انفصلت عن ذلك الرجل طالما هو يملك مايسعدكِ ؟ أنا لست مثله لا أملك مايملكه ، لاتعودي لمقارنتي به!

وقف بينهما مؤنباً : حسناً كفاك توبيخاً لها بعد إذنك ، وأنتِ أمي .. رجاءاً توقفي عن طلب هذه الأمور المستحيلة .

_ لم هي مستحيلة حين أطلبها بينما لاتكون مستحيلة على تلك المرأة .

_ أمي !

تنهد بيأس وعاد للرجل يصحبه لخارج المطبخ محاولاً تهدئته : هل ستفعلان هذا في كل مرة ؟!

_ سمعت بأذنيك ماتقوله والدتك ، طالما تعرف أني لست بذلك الثراء فلم وافقت على الزواج بي ، هل لتذلني بمقارنتها المسيئة كل يوم .

_ إني أفهمك .. لكنها اعتادت الرفاهية ولذلك غدا الأمر صعباً عليها .

_ أما آن لها أن تعتاد ؟ عشرون عاماً لم تكن كافية لإرضائها وإسكاتها .

أخرج محفظته والتقف منها إحدى بطاقاته ليعطيها له : اذهب واصحبها لتناول العشاء في مكان جميل وتصالحا رجاءاً ، اشتر لها ماتريد شريطة أن لاتفلسني .

_ لا تفعل ديريك ، ليس مجدداً .. إنك تخجلني .

_ يكفي أن لاتتشاجرا في كل مرة أجيء فيها لكم ، سأستعيد البطاقة منك لاحقاً.

عانقه بقوة وبابتسامة ممتنة أجابه : لن أفيك حقك مطلقاً ياعزيزي ، سأعيد نقودك يوماً ما حتماً .

عاد للمطبخ يهمس لها وقد ابتسمت بسعادة كما لو كانا يرسمان خطة ويحتفلان بنجاحها ، تأملهما بابتسامة ساخرة وقد أسرعت والدته لتستبدل ملابسها وتتجهز للخروج ، بينما اخوته الاربعة يجلسون على الأريكة وكل منشغل بنفسه .

وقف أمامهم يرقبهم بضجر : ألن يلقي التحية أحد منكم ؟

_ مساء الخير .

قالوها ببرود كما لو كانوا دمى آلية ، عاد يسألهم وهو يلتقط أجهزتهم الالكترونية : سأحضر لكم الباستا ، هل من اعتراض ؟

_ لا أخي افعل ماشئت ولكن أعد لي هاتفي .

_ وأنا كذلك .

نطق التوأمين ذوو الخمسة عشر عاماً : نريد هاتفنا رجاءاً .

أعاد هواتفهم باستياء وما إن التفت حتى لحظ والدته وزوجها يهمان بالخروج وهما بكامل أناقتهما .

_ ابني العزيز ممتنة لقدومك حقاً ، اهتم باخوتك ريثما نعود ، لن نتأخر ، أحبك كثيراً ياعزيزي .

أشار له زوجها بامتنان وخرجا متشابكي الأيدي وهو ينظرهما هازئاً : كالعادة .. مستغلان أنانيان .

عاد للمطبخ يطهو العشاء بضيق سرعان ماتجلى وهو يتذكر من سكنت عقله وقلبه ، اتصل لها فأجابته بلهفة : مرحباً ، كنت انتظرك .. هل عدت للمنزل؟

_ ليس بعد ، لازلت في منزل والدتي وأنا الآن أطهو العشاء .

بأسف ردت وانزعاج: ليتهم يقدرون ماتفعل لأجلهم .

_ لابأس ياعزيزتي إني مستمتع بطبخ الباستا ، لكني أردت اخذ بعض النصائح منكِ أولاً ، هل تعرفين بماذا ابدأ ؟

_ ها ! هل أنت جاد .. ألا تعرف كيف تطهو الباستا .

بمكر أجابها : لا .. لا أعرف أرشديني عزيزتي.

_ حسناً .. أولاً .. أولاً .. انتظر لحظة من فضلك .

ضحك ساخراً بملأ فمه وقد احمر وجهها باحراج : تباً لك ديريك تهزأ بي مجدداً صحيح ؟!

رد من بين ضحكاته : يا الهي أنتِ .. أسوأ طاهية بالفعل ! حمداً لله أنني أجيد الطبخ وإلا فإن أطفالنا سيموتون جوعاً .

استدرك ماقاله فتوقف عن الضحك محرجاً بارتباك بينما جمدت الفتاة مكانها تحاول استيعاب مانطق به ، سريعاً حاول تدارك مافاته وهو ينطق بعجل : وداعاً أراك قريباً .

أغلق الهاتف سريعاً وهو يضرب رأسه بقبضته بخفة : تباً لعقلك الصديء ديريك .
.........................

_ هذه هي مكتبتي الصغيرة ، لا أملك الكثير من الكتب المسلية ولذلك اشتريت تواً هذه السلسلة من الروايات والقصص ، أرجو أن تعجبك ، تخير منها ماتشاء .

كفه التقطت تلقائياً إحداها وغدا يقلب الصفحات بإعجاب وهو يتمتم متعجباً : الإخوة السود؟

أجلسه على الكرسي وهو يشرح بينما يجهز الملابس ويضعها على السرير : إنه اختيار جميل ، رغم أنها رواية حزينة قليلاً ، إنها تحكي قصة منظفي المداخن .

_ منظفي المداخن !

_ أجل .. إنهم يعملون تحت أصعب وأقسى الظروف في تنظيف المداخن ، لذلك تصبح وجوههم سوداء من رماد المدخنة .

ظل يحدق بالغلاف مفكراً وبأدب التفت للشاب يسأله : هل تسمح لي بقرائتها ؟

استدار يتأمله بابتسامة هادئة : بالطبع .. لقد اشتريتهم لأجلك ، اقرأ ماتشاء ياعزيزي ، سأدخل لأستحم ومن بعدها سيكون دورك اتفقنا ؟

أومأ إيجاباً بحماس وسرعان ما أثار دهشته ماوضعه الشاب تواً على الفراش : ماهذه ؟! هل واحدة لي وواحدة لك ؟

أومأ له إيجاباً بشيء من الخجل : لم أفعل هذا مطلقاً من قبل ، لكن حينما رأيتها في السوق .. لا أعلم لم .. أحببت تجربة الأمر معك .

بسعادة ابتسم وهو يتأمل البيجامتين المتطابقتين : كنت أحب ارتداء طقم الأب والابن مع والدي ، كان لدينا بدلة مميزة متطابقة .

سكت قليلاً ومالبث أن عانق الشاب ببهجة : شكراً لك عم سيكيم إنها جميلة ، منحتني الكثير من الهدايا هذا المساء ، هذا كثير حقاً ، إني لا أملك ما أستطيع تقديمه لك وهذا مخجل.

بادله العناق وهو يجيبه بمحبة : كل ما أقدمه هو مجرد أشياء مادية وحسب ، لكن أنت .. لقد منحتني الكثير من الهدايا القيمة ، هذه الساعات التي أمضيها معك ، لم أعش مثلها مطلقاً منذ زمن بعيد ، إنها الأجمل والأكثر دفئاً .

أتبع وهو يسير نحو الأكياس ويخرج المنشفة الجديدة وحاجيات الاستحمام الخاصة بالأطفال : دعني أحممك أولاً لتقرأ الرواية بارتياح إذاً ، مارأيك؟!

أومأ موافقاً وسار أمامه للحمام وقد تصاعد البخار من الحوض الممتليء : يبدو الماء ساخناً ، هذا يشعرني بالدفء ، الماء بارد في القرية لذلك تضطر والدتي لتسخينه لنا دائماً وهذا عمل مرهق .

_ ستتغير الأمور قريباً ، ولن تعود والدتك لتحمل هذا العبء مجدداً ، في القرية التي ستذهب إليها الأمور أفضل بكثير .

نكس الصبي رأسه بأسى وقد انخفض سيكيم لمستواه يفتح أزرار قميصه .

_ عم سيكيم .. أنا .. لا أريد الرحيل .

تأمله مفكراً دون أن يجيب ومالبث أن نطق بنبرة هادئة مريحة : سأبذل كل جهدي ليتحقق ماتريده أنت فقط ، كن متفائلاً سعيداً فالحزن لايليق بك .

تلاقت عيونهما كما لو كان كلاً يستقرأ ماتحكيه نظرات الآخر له وتبثه ، أمسك يده وسار معه نحو الحوض ليجلسه وسط المياه الدافئة ، ويساعده على الاستحمام باستمتاع .

_ انظر إليك إنك تبدو كسانتا " نواه " .

ضحك فتطايرت الفقاعات والصابون قد غطى فمه مما جعل ضحكاتهما تتعالى بسعادة وحبور ، أخيراً ألبسه البرنس خاصته وأخرجه ليوقفه أمام المرآة يجفف شعره بالمجفف الهوائي والصبي مستمتع بكل ذلك الدفء .

_ هيا سأتركك الآن لترتدي ملابسك ، هل تحتاج مساعدة؟

_ لا عمي يكفيني دلالاً ، في المنزل أقوم بكل هذا بمفردي ، أمي تحب أن اعتمد على نفسي بكل شيء وأنت تفسدني .

_ يالك من شقي ، هل انا أفسدك؟

بعثر شعره واعتنقه والفتى يضحك بمرح : إن لم أدللك أنا فمن سيفعل ها .

تركه وأشار له مودعاً وهو يخرج من الغرفة نواه يشيعه بابتسامة ممتنة ، عاد له بعد هنيهة ومعه طبق من الفواكه المقطعة وكوباً من الحليب بينما كان نواه يغلق آخر أزراره .

_ اهتم بنفسك ريثما استحم واستمتع بقراءة الرواية على مهل .

_ حسناً عمي ، شكراً لك .

أجابه ببسمته التي لاتغادر محياه وعاد يقرأ الرواية حالما دخل الشاب للاستحمام ، مضى القليل من الوقت وإذ بصوت الجرس يعلن عن قدوم ضيف غير منتظر ، نهض الصبي متسائلاً وطرق باب الحمام مرات عدة حتى سمعه : عم سيكيم ، الباب يطرق .

رد وصوت الماء يعلو على صوته : لابد وأنه ديريك جاء ليأخذ سيارته ، أدخله وأخبره أن ينتظرني ، شارفت على الانتهاء .

خرج من الغرفة يسير نحو الباب ليفتحه بابتسامة سرعان ما تلاشت، حين وقعت عيناه على الكيان الغريب الذي صادفه مراتٍ قليلة ولازال يبث الاضطراب بقلبه لسبب يجهله .

..........................

دلف لغرفته وفي أعماقه تعصف الذكرى التي ماهجرته يوماً ، رغم تظاهره بنسيانها وتجاهلها ، أدار قرص الموسيقى لأغنيتهما المفضلة وجلس أمام مكتبه يستذكر صور ماضٍ حوتهما معاً وصوته يتردد يزيد من أوجاعه واحتراقه ..

حينما أموت وأرحل عن هذه الدنيا
سأكون الشمس التي تشرق كل صباح لتوقظك
سأكون زهر الربيع الذي يزهر لأجلك
ودموعي ستختلط بالغيوم لتمطر بقلبك
حينما أموت ..
سأختلط بالتراب لتنمو شجرة تستظل بظلها
وسأعزف الريح أغنية تَذْكُرُنِي بها
سأكون وسادتك التي تبكي عليها
إذا مت أنا ..


اختنق بغصته ودموعه أبت إلا أن تؤنس وحشته محتضناً صورة والده تلامسها كفه باشتياق .


" ها أنت إذاً ستيفانز ، تدرس كعادتك ، ألا تعلم كم اشتقت إليك يافتى ؟!

اقترب منه يعانقه ويتأمل مايفعله ببسمة حانية وفي يده صندوق يحمله ، بينما الابن بصوته الهاديء أجابه : معذرة أبي ، الامتحانات على الأبواب ولا أريد أن أفشل .

_ اممم .. مصر أن تكون طبيباً إذاً؟

_ قلت أني أملك حرية اتخاذ قراري بنفسي ، لاتضغط علي أبي .

جلس على السرير قبالته وأعطاه الصندوق الخشبي ذو النقوش الفاخرة: أردت اهدائك هذا ، حتى وإن لم يعنِ لك الكثير ، لكنه كذلك بالنسبة لي .

حمل الصندوق بين كفيه يتأمله بحيرة ومالبث أن فتحه ليجد في داخله سلاح ماجنوم صغير .

_ ماهذا أبي؟!

ابتسم بحنين وهو يتأمله : إنه أول سلاح حظيت به ، كان رفيقي بأولى مهماتي ، أردت دائماً منحه لك حين تحل مكاني ، فأنت ابني الوحيد .. ستيفانز .

_ لكن .. أبي ..

_ أعلم ! أدرك أنك لاتهتم به ولربما يبقى دون أن تستخدمه ، لكني أريده أن يبقى معك للذكرى ، هل تعدني أن تحتفظ به بني .

نظر إليه ملياً وأوما إيجاباً بتردد : سأفعل .. أعدك .

ربت على رأسه بابتسامته العطوفة الحانية : قريباً سأغيب عنك لمدة عامٍ كامل ، اهتم بنفسك وبأمك جيداً حتى عودتي .

_ حتماً أبي .. وأنت كذلك ، عد لنا سالماً "

أخرج السلاح من صندقه وتأمله بحرقة موجعة ، مسح دموعه وجلس ينظفه بحرص ولاتزال الذكرى محلقة دافئة بقدر ماهي مؤلمة ، تبعث الحياة بقدر ماهي مميتة موجعة .

...................................


تزاحم الضباب بعينيها كما لو أن عاصفة هبت بهما ، تأملته مستنكرة كارهة ، وبنبرة أعلنت سخطها سألته موبخة : ماذا تفعل هنا أيها الطفل ؟


أجاب بتلعثم مذعوراً : العم سيكيم أراد أن نمضي اليوم معاً .

قطبت حاجبيها بضيق ودخلت مغلقة الباب خلفها وهي تجوب المكان بعينيها : وأين هو ؟

_ يستحم .. سيخرج بعد قليل .

استدارت تنظره وقد عقدت ذراعيها لصدرها : أخبرني بصدق أيها البغيض ، هل أمك من أرسلتك لترافقه ، ماالذي ترمي إليه بالضبط ؟

أومأ بالنفي ورغم استيائه أجاب بأدب : لا علاقة لأمي بالأمر ، نحن لانخطط لأي شيء ، لسنا خبثاء لنفعل !

_ هه .. واضح للغاية .

أخفضت جسدها متكئة بكفيها غلى ركبتيها وهمست له بمكر : ترى .. هل تتمنى أن يكون أباً لك ؟ كانت والدتك تتظاهر بالكبرياء والعفة ، ولكنها في الواقع لاتزال تقترب من رجل أعزب وتحاول تملكه بخباثة .

_ كفى أرجوكِ ، لاتتحدثي بهذه الطريقة السيئة عن أمي !

_ كريستينا!

التفتت لمصدر الصوت لتراه وقد خرج من غرفته تواً وهو ينظرها بدهشة مستنكراً: مالذي تفعلينه هنا في هذا الوقت ؟!

تأملت ملابسه بازدراء وبنبرة ساخرة ردت : ماهذا؟! ملابس متشابهة أيضاً ؟ منذ متى وأنت تفعل هذه الأمور الطفولية ؟!

_ لاشأن لكِ بما أفعل ، مالذي جاء بك دون موعد ؟

_ لامواعيد بيننا سي ، كنا هكذا دوماً .

_ صحيح .. لامواعيد بيننا ، لأني لاأرغب حقاً بأي لقاء يجمعنا ، اخرجي كريستينا .

صكت على أسنانها بغيظ وأجابته بهدوء حاولت الحفاظ عليه قدر المستطاع: هلا تحدثنا بمفردنا سي ؟

سكت قليلاً يفكر ومالبث أن التفت للصبي يخاطبه بنبرة حانية : عزيزي نواه ، عد للغرفة لتكمل القراءة وسآتيك بعد قليل .

سار نحو الغرفة مستجيباً دون أن يعقب ، وما إن سمعت صوت الباب من خلفه حتى سارت لتقف قبالة الشاب تلتقف المنشفة التي أحاطت عنقه وبدأت تجفف بها شعره : لازلت مبللاً .. أخشى أن تصاب بنزلة برد .

أبعد ذراعيها ممتعضاً وبحدة التمعت بعينيه ودوت بصوته أجابها : مالذي أردته أيتها الفتاة ؟ إن لم يكن أمراً مهماً فغادري في الحال !

برقة ردت وقد أمسكت بكفه وهي تتأمله : بهذه السرعة ؟ ، أتخالني أصدق ماتنطق به لتخفي ما بأعماقك لي من اشتياق .

_ هه .. أحقاً ؟! كنت أدرك أن عقلك الفارغ لايحمل سوى ترهات .

سار نحو باب شقته ليفتحه على مصراعيه مشيراً لها بالخروج : من فضلك غادري برقي ، لا أريد إفساد مزاجي هذا المساء .

تجهمت بضيق مستسلمة وسارت نحوه تغلق الباب وهي تنظره بجدية : رغم كل ماتفعله لازلت أحاول مساعدتك ، حتى وإن كنت لاتستحق .

_ أجل هكذا ، أظهري وجهك الحقيقي فذلك الدور لم يلق بكِ مطلقاً .

أطلقت تنهيدة مثقلة بقهرٍ وغيظ : إذاً ستقتحم المقر وتحرر السجناء غداً ؟

قطب حاجبيه مستنكراً وقد تلاشت ابتسامته الساخرة لتحل مكانها ملامح الدهشة والحيرة ، ابتدرت قبل أن يسأل : هناك جاسوس قد ُدسَّ بينكم .

_ تكذبين حتماً !

_ وكيف سأكذب ؟! من أين علمت بخطتكم إذاً ؟!

_ من هو ؟

_ لن يفيد هذا بشيء مطلقاً الآن ، لحسن الحظ أنني هنا ، وقد امتلكت ذلك الشخص حيث لم يكن يستطيع البوح بشيء لهم قبل أخذ الإذن مني ، لا أحد منهم يعلم بشيء طالما لم أرد هذا .

ظل بصمته وعيونه تنظرها باحتقار وغضب ، بينما أكملت : إني أسعى مااستطعت لأنقذك بينما أنت لاتزال تحاول الخلاص مني ، تعلم جيداً أن ليس من صالحك أن تكون عدوي سي .

_ أنتِ أخطر حقاً مما ظننت ! ، في كل يومٍ أتسائل من أي حفرة ستخرجين بعد ، و بأي قذارة جديدة تلطختِ ! من كنتِ حين لم أعرفكِ ، ومن تكونين الآن حين تعرفت إليكِ من جديد فأدركت كم أنني أعمى القلب والعينين .

محتجة نطقت بنبرة حادة : ألا تفهم حقاً أنني لم أفعل كل هذا إلا لأني أحبك بصدق ، ولازلت تقابلني بالإهانة والاحتقار !

_ لا .. أنتِ لم تحبني مطلقاً ، مجرد مهووسة معتدة بنفسها تريد أن تثبت أن بامكانها امتلاك كل شيء .

_ كفى سيكيم ! لقد تماديت كثيراً ! ، إن لم تستمع لي فغداً سيكون مصيركم الموت وتقديم الأضاحي فقط .

حاول السيطرة على غضبه متنفساً بعمق ، سار نحو المنضدة وصب له بعض الماء شربه على عجل ، ودون أن يلتفت سألها باحتراق : مالذي تريدينه إذاً ؟

اقتربت منه لتصبح أمامه وقد أسندت كفها للمنضدة وهي تتأمله : أريد أن أكون معك فقط ، لأتأكد أنك ستكون بخير ، سأساعدك لترسلهم بعيداً ، أريد الخلاص منهم بأسرع مايمكن علَّ ذلك يرجعك لصوابك ، سأكون هناك لأتأكد أن يتم كل شيء بسلام ، يكفيني بعدها أن أستعيدك سي .

رفعت كفها تلامس عنقه وهي تهمس له : لقد اشتقت لسيكيم الذي أعرف ، صدقاً إني بحاجة لك ، كل مايجري .. ينهكني .

أسندت جبينها لجبينه وأغمضت عينيها وإذ بكفه تدفعها وهو يصر على أسنانه : لاتقتربي مجدداً ، إنه تحذيري الأخير كريستينا ، لن تلمسيني مجدداً ، هل فهمتِ ؟! حافظي على ماتبقى من كبريائك واتركي دوماً مسافة بيننا .

أشار للباب مجدداً وبرود مخيف غلف قسماته الناقمة : إن كنتِ قد أفرغتِ مالديكِ فغادري ، افعلي مابدا لكِ ، مساعدتكِ آخر ماننتظر ، لست مهتماً البتة إن علموا أو لم يعلموا ، إن كان هناك خائن أو لا ليكن ! لم أنتظر أن يكون الأمر سهلاً على الإطلاق ، إني متعجرف وواثق بنفسي وبفريقي فوق حدود الثقة ، لذا نحن جميعاً بغنى عن خدماتكِ العظيمة أيتها الموقرة ، ليلة سعيدة كريستينا .

قبضت كفها بغضب أخفته ملامحها الهادئة ، سارت مغادرة وقبل أن تخرج همست له : أخشى أن تندم كثيراً على هذا القرار سي .

بابتسامة ساخرة أجابها : لا أظن أن هناك ندم أكبر من سماحي لكِ باقتحام حياتي .

_ مغفل وأحمق .

خرجت فأغلق الباب من خلفها على الفور وزفر عميقاً محاولاً استعادة هدوء أنفاسه بعدما أخرجته من سلامه وسكونه ، عاد للغرفة معتذراً بنبرته الهادئة اللطيفة : آسف لتأخري ولما حدث ياعزيزي .

استدرك أن الصبي ارتدى ملابسه السابقة وحمل حقيبته ليجلس منكساً رأسه وقد غشاه حزن جلي ، اقترب منه قلقاً واحتضن وجهه بين كفيه : مالخطب ؟! مابك نواه لم تجلس هكذا؟

حاول أن ينطق وبصعوبة أخرج كلماته يحتجز دموعه باختناق: عم سيكيم .. أريد العودة لأمي .

_ لم ؟ هل أزعجتك بشيء ياصغيري؟ أم أن هذا بسبب كريستينا ؟

أومأ بالنفي بتردد فعاد يسأله بغضب : إذاً أزعجتك سليطة اللسان تلك ؟ مالذي قالته لك ؟

_ لاشيء .. أرجوك لاتغضب ، أريد الذهاب لأمي وحسب ، لقد اشتقت لها .

تنهد بعمق واحتضنه بحنان : لاتحزن ياصغيري ، مهما يكن ماقالته أو فعلته تجاهله تماماً ، ليست بالشخص المهم صدقني .

ابتعد يتأمله بابتسامة : ألا تريد رؤية الصور التي وعدتك بها ؟

رفع رأسه وقد تبدل اكتئابه لحماسة وفضول : بلا أريد .

_ إذاً .. اترك حقيبتك وعد لارتداء بيجامتك لنتسلى قليلاً قبل أن نخلد للنوم .

أومأ موافقاً وأسرع ينفذ ماطلبه وقد ارتسمت البسمة على شفتيه من جديد محاولاً تجاهل كلماتها المهينة.

..............................

_ يالها من صورة جميلة وزي رائع ، هذا هو والدي .. يبدو صغيراً ولطيفاً .

_ التقطت هذه الصورة لنا في أول يومٍ من المعسكر ، حينها حُلقت رؤوسنا للمرة الأولى هناك ، كان شعوراً مختلفاً ، أظن أن الشعر الخفيف كان يناسب والدك كثيراً ، في الواقع كل شيء يليق به .

_ إنك محق .. وأنت كنت وسيماً أيضاً عمي .

أجابه بابتسامة لطيفة وقلب الصفحات يتأمل معه الصور الأخرى : كما أخبرتك من قبل ، ليست صوراً كثيرة ، لكنها تعني لي الكثير ، بإمكانك الاحتفاظ بواحدة منها إن شئت .

_ هل حقاً أستطيع ؟!

_ بكل تأكيد ، تخير ماشئت .

اتسعت ابتسامته وعاد يتأمل الصور بلهفة : حسناً سآخذ هذه لأنظر لكم دائماً وأتذكركم ، أنت وأبي والعم ديريك .

أزالها من الألبوم وأعطاها له : إنها لك إذاً ياعزيزي .

نهض من السرير وأخذ تحفة على شكل حصان من رف المكتبة : وهذا صنعه والدك لي ، لقد كان يحب أن يصنع المنحوتات الخشبية ، لذلك أهدانا أنا وديريك واحداً كهذا للذكرى .

عاد يجلس بجواره والفتى يتأمل بمحبة وحنين التمثال الخشبي : لقد صنع ليي الكثير من اللعب الخشبية ، أبي ماهر للغاية في كل شيء .

ارتحل بعينيه للبعيد وبصوت سكنه الاشتياق أجابه: تماماً كما قال وهو يصف والده ..

" على الأرض جلس ينحت من الخشب شيئاً ورفيقاه يتسامران وقد استلقى عسلي الشعر على الفراش بينما الآخر جلس أمام المكتب الخشبي .

_ هي آدم .. لم لاتنضم إلينا؟

_ بقي القليل فقط ياصديقي ، انتظر .

اقترب منه متسائلاً ينظر مايفعل بفضول : ماهذا ؟ حصان خشبي؟ !

_ أجل .. صنعت لكل واحدٍ منكما حصاناً خشبياً نحتت اسمي عليه للذكرى .

_ يالمهارتك ، التفاصيل مذهلة يارجل !

_ هذا لطف منك ديريك .

بحماسة انضم لهما الثالث وهو يتأمل ماصنعه بإعجاب : فعلاً إنه جميل للغاية آدم ، من أين تعلمت هذا ؟

لاحت على ثغره بسمة وقد انعكس بريق الذكرى وحنينها في ذهبيتيه : تعلمت ذلك من والدي ، كان ماهراً في كل شيء ."

تنهد عميقاً وكفه تداعب شعر الصبي الذي أسند رأسه لحجره ، تأمله ملياً بعيونٍ أخفت في أعماقها الكثير : عندما أفكر بالأمر أجدك ووالدك قد عشتما القدر ذاته ، كلاكما فقدتما والدكما بسن مبكرة ، ولكنكما امتلكتما إيماناً وقوة وصبراً لامثيل لهم .

عانقت الذهبيتين ضياء البدر المتسلل من نافذة الغرفة وبريقهما المتعاكس امتزج ليشكل لوحة ساحرة عذبة : لقد آلمني حقاً رحيله باكراً ، لكني مدرك تماماً أنه معي في كل لحظة ، تماماً كهذا الضياء الفضي ، يعانقني ويحتويني ، لابد وأنه يعيش عالماً يخلو من الالم والحرمان ، العالم الذي أسعى للوصول إليه دوماً ، لقد حدثني والدي كثيراً عنه .

ظل بصمته يستمع لكلمات ابن صديقه مبحراً في أعماق تلك البراءة الطاهرة : لقد كنت محظوظاً دائماً ، لدي أب مميز وقد علمني قبل رحيله الكثير ، وأم عظيمة تكمل ماابتداه أبي معي لتقودني للنعيم الذي أحلم به ، وأخ سيكون حينما يكبر عوناً وكتفاً أتكأ عليه كما سأمنحه قلبي ليحتضنه دوماً ، لدي أيضاً جدي وجدتي ، أهل القرية هم جميعاً عائلتي ، وأنت والعم ديريك أيضاً ، لقد منحني الله الكثير من العطايا لأكون شاكراً ، حينما أنظر لما مُنحت وماخسرت ، فلا يمكنني المقارنة حتى صحيح !

_ لم أفكر.. بالأمر بإيجابية هكذا .

_ يجب أن تفعل لتكون قادراً على أن تعيش مطمئناً عم سيكيم .

حل الصمت لفترة حتى قطعه الأكبر مستطرداً : هيا لتنم ياصغيري ، سآخذك في جولة ممتعة بالغد ، للكرملين حيث أشهر القصور التاريخية، ولحديقة الحيوان والمتحف التاريخي ولحديقة غوركي إن استطعنا .

_ ياه كل هذا ! لابد وأننا سنستمتع كثيراً .

_ حتماً ، سأحرص على أن يكون يوماً لاينسى .

أتبع بنبرة خالطها أسى : في مساء الغد .. يجب أن تكون في المحطة قبل الحادية عشر مساءاً ، لذا عليك أن تنام جيداً الآن .

لم يجبه واكتفى بأن تدثر مغمضاً عينيه وقد غاليه النعاس ، قبل جبينه وتركه لينام بينما هو يرتب الحقيبة ويضع بها مااشتراه له من حاجيات .

.............................

رتب المائدة دون مساعدة ووضع لكل واحد منهم طبقاً ، ناداهم ضجراً بنفاذ صبر : هيا ألن تتناولو عشائكم ، أم علي حملكم للمائدة أيضاً ؟

ساروا بتأفف وتململ وجلس كل واحد في مكانه والتوأمان لازالا يضحكان كعادتهما بلا سبب واضح .

_ هلا توقفتما عن سخفكما وتناولتما الطعام رجاءاً ؟

تجاهلوه ولايزال الأكبر بينهم يعبث بهاتفه متحدٍ شقيقته في نزال الكتروني ، اختطف الهاتف من يديهما مؤنباً : كفى .. قلت تناولوا عشائكم .

بدا كلاً منهم يقلب طعامه دون شهية وقد نطقت الفتاة باشمئزاز : لم تبدو لزجة هكذا ؟

أيدها شقيقها ساخراً : وباردة .. هلا سخنتها أخي الأكبر .

ضحك التوأمان من جديد وإذ به يضرب كفه على الطاولة وقد نفذ صبره : كفا عن الضحك أيها السخفاء ، وأنتما وإن لم يعجبكما الطعام ستأكلاه رغماً عنكما وأنتما شاكرين ياناكريّ الجميل .

صوت جرس الباب جعلهم يتهافتون نحوه بحماس وهو ينظرهم حائراً ، وما إن فتحوه حتى ناداه أكبرهم بدهاء : أخي العزيز هلا جئت قليلاً بعد إذنك .

اقترب متسائلاً يتأمل الصبي الواقف منتظراً وفي يده فاتورة العشاء : من بعد إذنك سيدي ، وقع لاستلام الطلب وادفع المبلغ .

نظر للفاتورة مذهولاً وقد أسرع اخوته بأخذ الأكياس والدخول بها دون انتظار ، شهق فزعاً وهو يصرخ : ثلاثة آلاف وخمسمئة روبل ! ماذا اشترى هؤلاء ؟!

_ من بعد إذنك سيدي هلا دفعت المبلغ المطلوب ؟

تمتم بشتائم ولعنات وهو يدفع المال بغضب ، عاد للداخل ماإن غادر الشاب وإذ بهم يتناولون ماطلبوه من طعام بشهية .

_ تعال وانضم لنا أخي .

_ إنه عشاء بحري فاخر لايمكنك تناوله دائماً .

أطلق التوأمان ضحكاتهما من جديد وهما ينطقان معاً : أشهى من الباستا التقليدية .

_ أنتم ! لقد تماديتم حقاً !

حمل معطفه وسار نحو باب المنزل يهمس لنفسه : علي اللعنة إن جئت إليكم مجدداً .

صفق الباب من خلفه دون أن يهتم أحدهم ، ضيق اعتراه وألم لم يقدر على مشاركته لأي كان ، أصابعه تخيرت تلقائياً رقم شقيقه والشوق قد أشعل قلبه منتظراً أن يطفيء صوته اللهيب ، أعاد الاتصال مرة وأخرى دون ان يجيب أحد ، أغلق هاتفه ورفع رأسه للسماء بضياع " لويس .. أنا افتقدك يا أخي الوحيد " .

.............................

استدار وقد أبصر ذلك الضياء الملازم لطيفه الحبيب ، وإذ به جالس بجوار ابنه يمسح على شعره ويحنو عليه بعطف ، رفع ذهبيتيه ينظره بامتنان : صديقي .. شكراً لكل شيء ، أتعلم كم حلمت بيومٍ نجتمع فيه سوياً ، بأن أراك وابني معاً .

ارتسمت على شفتيه بسمة صغيرة : أنا من يجب أن يكون ممتناً ، لك ولابنك .. لقد علمني هذا الصبي المذهل الكثير ، إنه يشبهك حقاً ، في الداخل والخارج أنتما سيَّان ، يذكرني بك دائماً .

_ أتعلم ما أتخيله الآن ؟

همهم متسائلاً وهو يكمل عمله بينما رفيقه أتبع : أتخيل ابنك الذي يشبهك أيضاً وأنت معه تدلله وتهتم به ، يليق بك أن تكون أباً ياصديقي .

_ هل تظن ذلك ؟! أنا !

تهللت أساريره وهو يتخيل ذلك باسم الثغر تعتريه بهجة أراحت أنفاسه المثقلة ، هم بأن يتحدث بيد أن ضيقاً وقلقاً ارتسم على وجه صديقه مما جعله ينظره حائراً .

_ سيكيم .. أنفك !

بتلقائية رفع كفه يمسح الدم مستدركاً وسرعان مالتقط منديلاً محاولاً إيقافه وفي داخله عصفت رياح الهمِّ توقظه من حلمه الجميل ، تمتم والحزن غشى قسماته رغم ابتسامة أجبر نفسه على رسمها : الإجابة كانت سريعة على مايبدو ، لامكان للحلم في عالمي .

_ لاتيأس .. لا زال الأمل يعيش بيننا .

أومأ بالنفي وأغلق الحقيبة تاركاً إياها على الأريكة ليعود للفراش : لست تواقاً للتعلق بالمستحيل .

أطفأ النور وهو يكمل بينما يستلقي : ليلة سعيدة .. آدم .

..................................

وسط العتمة كان الضوء المنبثق من الدراجة النارية هو كل مايبصر ، أمام مدخل القرية وجدها تجلس بانتظاره .

وقفت تتأمله بلهفة ما إن أبصرت قربه ، وهو .. توقف مترجلاً يسير نحوها بخطواتٍ ثابتة .

_ كيف عرفتِ أنني سأعود للقرية ؟

سكتت وهي تتأمله موجعة كما لو كانت تتشارك معه مايخفيه في حناياه ، اقترب منها وهو يخلع معطفه ويدثرها به : لقد تجمدت أطرافكِ ، تعالي لتعودي للمنزل علكِ تحظين ببعض الدفء .

_ هل أنت بخير ؟

بدهشة كان يطالعها دون أن يقدر على الإجابة ، وبلحظة استشعر فيها محبة صادقة حُرم منها .. وجدها تحتويه ودموعها قد تحادرت على وجنتيها : لا أريد أن تعيش هذا الألم وحدك ، أريد أن أشاركك ديريك ، بكل تفاصيله .. بكل جزء مما تخفيه بأعماقك .

وضع يديه على ظهرها مغمضاً عينيه متدفئاً بلهيب مشاعرها الولهى ، همس لها وهو يمسح شعرها برفق : شكراً لأجل كل شيء تيريزا .. شكراً لكِ ياصديقتي .

......................................

أمام النافذة وقفت ترقب المدينة وأنوارها وهي تمسك هاتفها تنتظر من الطرف الآخر الإجابة .

_ مالخطب كريستينا ؟ ألم اخبركِ أني لست متفرغاً لترهاتك مجدداً ؟

_ الأمر جاد هذه المرة أبي ..

_ تكلمي وأرجو أنه امر مهم حقاً .

مرت لحظة صمت قصيرة قبضت فيها كفها بغضب متذكرة الطفل الصغير ووالدته ، ومالبثت أن نطقت بكراهية : سيكيم ومن معه .. سيقتحمون المقر غداً!.




 
 توقيع : آدِيت~Edith

مواضيع : آدِيت~Edith


التعديل الأخير تم بواسطة آدِيت~Edith ; 05-06-2023 الساعة 08:20 PM

رد مع اقتباس
الإعجاب / الشكر
الاعجاب zenobya الاعجاب للمنشور
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بين الحرية والمعارضة DoLoR حوارات و نقاشات جاده 20 06-25-2022 08:29 PM
الطريق طويل لاتهتم | Sugar's Galaxy سكر مدونات الأعضاء 22 05-27-2022 01:26 AM
اتبعني إن كُنت لا تعرف الطريق، دعنا نضيع معًا ! ELIOT مدونات الأعضاء 44 06-19-2020 05:19 AM

شرح حديث

علف


الساعة الآن 07:35 PM