طاعة الوالدين والمدرسين وأساتذة الجامعات ورؤساء العمل، بالطبع هي معايير أخلاقية يتربى عليها الإنسان
لكن تتفاوت الأوامر من يُمكن تنفيذها إلى مستحيلة وصعبة التنفيذ! فماذا لو أمرتك
بقتل شخص لا تعرفه؟
حتمًا ستكون إجابتك هي الرفض، لكن ماذا لو أصبحت أحد المتطوعين في تجربة نفسيّة وطُلب منك نفس الطلب السابق؟
في أغلب الأحيان وحسب ما أثبتته التجربة أنك ستقوم بذلك، ليس لأنك
مجرم بل لمجرد أنه
تم إصدار الأوامر إليك بالقتل
ميلغرام هو عالم نفس إجتماعي امريكي ولد عام 1933 وأشتهر بتجربته النفسية عن إطاعة الأوامر،
أجريت التجربة في ستينات القرن الماضي خلال فترة عمله في جامعة يال، ويعتبر من أهم الشخصيات في
تاريخ علم النفس.
تجربة ميلغرام هي سلسلة من التجارب التي تم اجراؤها
لقياس مدى رغبة واستعداد الاشخاص
لإطاعة الأوامر التي تكلفهم بتنفيذ أعمال تتعارض مع ضمائرهم الشخصية، والتركيز بشكل أساسي
على الصراع بين
الطاعة والضمير ومدى التأثير على الأشخاص للتصرف بشكل غير أخلاقي وضد
رغباتهم.
بعد بدء المحاكمات التي تلت الحرب العالمية الثانية ادعى العديد من مجرمي الحرب أنهم كانوا
يتبعون
الأوامر فقط ولا يمكن تحميلهم المسؤولية على أفعالهم، بدأت تجربة ميلغرام بعد فترة وجيزة من
محاكمة الكولونيل
ادولف آيخمان بتهمة إرتكاب جرائم ضد الإنسانية، وطوال المحاكمة حوال آيخمان
الدفاع عن نفسه متذرعًا أنه لم يكن مسؤولاً عن الجرائم التي أرتكبها في الحرب، وأنه كان يتبع الأوامر فقط
وأكّد مرارًا أنه عندما كان يشحن الناس إلى معسكرات الإعتقال النازية فأنما كان
يقوم بواجبه، لكن
كل تلك الذرائع لم تنفع وأدين بكل التهم الموجهة إليه وصدر عليه حكم بالإعدام.
استحوذت قضية آيخمان على إهتمام ميلغرام الذي أراد أن يعرف كيف يمكن بسهولة تحريض الناس
العاديون على
إرتكاب جرائم بموجب أوامر تصدر إليهم وإلى أي مدى يمكن أن يذهب الناس في إطاعتهم
للأوامر إذا كان ذلك
ينطوي على إيذاء شخص آخر.
لغرض إجراء التجربة احتاج ميلغرام إلى
متطوعين لإجراء الاختبارات عليهم عن طريق نشر إعلان في
إحدى الصحف يطلب متطوعين
ذكور تتراوح أعمارهم بين
20-50 عامًا ومن مختلف الطبقات والمهن
مقابل
4.50 دولار لمدة ساعة واحدة، لم يذكر ميلغرام طبيعة التجربة الحقيقية في الإعلان بل ذكر أنها
تجربة علمية حول الذاكرة وتأثير العقاب على التعلم، توافد العديد من المتطوعين الذين يمثلون
مجموعات متنوعة من المهن ومن مستويات تعليمية مختلفة، اجريت التجربة في يوليو عام 1961 في
الطابق السفلي من إحدى قاعات جامعة يال.
تتألف التجربة من عدة جلسات كل جلسة تتكون من
ثلاثة أشخاص وهم:
1- The Experimenter
المجرب (القائم بالتجربة)
وهو شخص من فريق عمل ميلغرام يقوم بإصدار الأوامر إلى المتطوع.
2- The Learner
المتعلم
وهو أيضًا شخص من فريق عمل ميلغرام وهو بالحقيقة
ممثل ويتظاهر بأنه أحد المتطوعين.
3- The Teacher
المدرس
وهو المتطوع الذي تجري عليه التجربة ودراسة ردود أفعاله عند إصدار أوامر إليه بإيذاء شخص آخر.
ومن الجدير بالذكر أن المتطوع
ليست لديه فكرة عن الهدف من التجربة بل يظن أنه يساهم في تجربة
عن التعلم كما قرأ في الإعلان.
صورة توضح كيفية اجراء التجربة
بداية التجربة يأتون بشخصين، الأول متطوع، والثاني ممثل (يتظاهر بأنه متطوع)، ويتم إجراء
قرعة وهمية
لإختيار أيهما يأخذ دور المدرس والمتعلم، وذلك عن طريق سحب إحدى قصاصتين من ورق كُتب على
كلاهما (
المدرس) لضمان حصول المتطوع على دور المدرس أما الممثل فيتظاهر أنه سحب ورقة
مكتوب عليها (
المتعلم).
بعد ذلك يؤخذ المتعلم (الممثل) إلى غرفة صغيرة ويتم
تقييده إلى كرسي كهربائي أمام أنظار المتطوع، بينما
يؤخذ المتطوع إلى غرفة مجاورة ويجلس أمام
مولد صدمة كهربائية أبتكره ميلغرام يحتوي على عدة
مفاتيح من 15 فولت إلى 450 فولت وتتراوح مستويات الصدمة من خفيفة وتتدرج إلى أن تصل إلى
صدمة حادة (قاتلة)، مولد الصدمات زائف في الحقيقة وينتج صوتًا فقط عند الضغط على المفاتيح، لكن
المتطوع لا يعلم ذلك. وإلى جوار المتطوع يجلس المجرب لإصدار الأوامر إليه أثناء التجربة.
يتم إعطاء المتطوع قائمة بأسماء عشوائية ليقرؤها على مسامع المتعلم (الممثل) في الغرفة
المجاورة
من خلال ميكروفون بدون أن يرى أحدهما الآخر، ويطرح المتطوع أسئلة على الممثل ليختبره
إذا كان يتذكر أي من الأسماء، فإذا كانت الإجابة صحيحة ينتقل إلى قائمة الأسماء التالية، وإذا كانت
الإجابة خاطئة
يأمر المجرب المتطوع
بتسليط صدمة كهربائية للمتعلم عن طريق الجهاز، وهكذا يستمر بطرح
الأسماء عليه وتزداد وتيرة الصدمة الكهربائية بالتدريج عند كل إجابة خاطئة، ولأن المتطوع يعتقد أن
الصدمات حقيقية فأنه
يتردد في الضغط على المفاتيح، وكما هو متفق عليه سابقًا يقوم الممثل بالرد
على الاسئلة بإجابات خاطئة (عن عمد)، ويقوم بإستخدام جهاز تسجيل كان قد سُجل عليه شريط صوتي
يصدر صوت الممثل وهو يصرخ ويتألم من أثر الصدمة الكهربائية المزيفة، و
يتوسل له للتوقف عن
تسليطها عليه لأنه
مصاب بمرض في قلبه، ويصل الصوت إلى مسامع المتطوع ليتفاعل معها، لكن
هل سيتوقف عن تسليط الصدمات الكهربائية ويراعي الحالة الصحية للمتعلم أم
يتجاهل نداءاته ويستمر
بإيذائه؟
احد المتطوعين اثناء خضوعه للتجربة
عندما يلاحظ المجرب أن المتطوع بدأ يتأثر بتوسلات الممثل
يحثه على الإستمرار ويخبره أنه من الضروري
جدًا أن يُكمل التجربة وأن المجرب بنفسه سوف
يتحمل كافة المسؤولية، هذه الأوامر كلها للتأثير
على المتطوع فهو
بإستطاعته التوقف في أي وقت يريده وينهي التجربة.
دون ميلغرام ملاحظاته وهو
يراقب ردة فعل المتطوعين طوال مدة التجربة من خلال غرفة مجاورة ذات
زجاج عازل، وسجل جميع الإفعال التي قام بها المتطوعين والتي تتفاوت مابين
عدم الارتياح بتسليط
الصدمات الكهربائية
والتوتر والإجهاد وحفر الجلد بالأظافر والارتعاش والتلعثم والتعرق، كانت
النتائج التي توصل إليها ميلغرام صادمة للغاية حيث أن جميع المتطوعين الذين بلغ عددهم
40
رجل وصلو جميعًا إلى تسليط
300 فولت 14 منهم توقفوا عند هذا الحد، أما الباقين والذي بلغ عددهم
26
شخص واصلوا حتى النهاية وتمكنوا من تسليط الـ
450 فولت القاتلة، أي
65% من مجموع المتطوعين
أطاعو
أوامر المجرب في زيادة مستوى الصدمة حتى الموت، لدرجة أن هؤلاء المتطوعين
لم يكلفوا أنفسهم
عناء الذهاب إلى الغرفة المجاورة للإطمئنان على صحة الضحية (الممثل).
تفسير ميلغرام للتجربة
أن الأشخاص لديهم
حالتين من السلوك عندما يكونون في مواقف اجتماعية وهما:
1-
الحالة المستقلة: حيث يقوم الأشخاص بأفعالهم الخاصة ويتحملون مسؤولية نتائج هذه
الأفعال.
2-
الحالة بالوكالة: حيث يعمل الأشخاص كوكلاء لإرادة شخص آخر.
أن الشخص الذي لا يملك القدرة على اتخاذ قرارات خاصة في الأزمات سيوكل عملية إتخاذ القرار إلى غيره،
وأن
جوهر الطاعة يتكون في حقيقة أن الشخص
يعتبر نفسه أداة لتنفيذ أوامر شخص آخر لذلك
لا يعتبر
نفسه مسؤولاً وبمجرد إعفائه من المسؤولية
تصبح الطاعة واجبة عليه. على سبيل المثال: عندما تم
تذكير المتطوعين أن المسؤولية لا تقع على عاقتهم
استمروا في إطاعة الأوامر بعدما علموا أن المجرب
يتحمل كافة التبعات المترتبة عن التجربة.
وكان
لهيئة الشخص الذي يصدر الأوامر
دور مهم في التجربة، فالمجرب كان يرتدي معطف يشبه
معاطف الأطباء وخلال إجراء التجربة تم إستدعاء المجرب (عن عمد) للرد على مكالمة هاتفية في الخارج ثم
يدخل
رجل آخر عادي لا يرتدي المعطف ويقوم بإصدار أوامره للمتطوع، كانت النتيجة
إنخفاض مستوى الطاعة بنسبة 20%
وهذا يدل على مدى التأثير القوي الذي يتركه المجرب لإطاعة أوامره.
تم
إعادة التجربة عدة مرات حول العالم مع
متطوعات إناث وكانت النتائج
متطابقة إلى حد كبير.
وصف ميلغرام بحثه لأول مرة في مقال نشر عام 1963 في مجلة (علم النفس غير الطبيعي) بعد ذلك قام
بمناقشة النتائج والإكتشافات التي توصل إليها بمزيد من العمق عام 1974 في كتابه (طاعة السلطة:
وجهة نظر تجريبية) وأصدر
فيلمًا وثائقيًا عن التجربة وأنتج سلسلة من خمسة أفلام عن علم النفس
الإجتماعي التي تتعلق بتجاربه، وتم إنتاج فيلم عن تجربة ميلغرام عام 2015 بعنوان
Experimental
(المجرب) بطولة بيتر سارسجارد ووينونا رايدر.
تجربة ميلغرام أجريت تحت ظروف المختبر، وذلك يقودنا حتمًا إلى الإستنتاج بأن
طاعة الناس للأوامر
ستكون أكبر في المجال العسكري.
1- رأيك بشكل عام حول هذه التجربة ؟
2- هل تعتقد وجود مُقابل مالي أثر على عدم إنسحاب المتطوعين ؟
3- هل أثّر عدم رؤية المتطوع للمتعلم على إستمراره بهذه التجربة ؟
4- ماذا تعتقد أنك ستفعل إن كنت أنت المتطوع في هذه التجربة ؟
5- هل نتائج التجربة صحيحة برأيك ومُنصفة ؟