Y a g i m a
قَلم مُتفجر
كريس
.ـــــــ
" أربع جيلاتو من فضلك! "
وجهت حديثها بلكنة مرحة بينما تراقب البائع وهو يحضر لها المثلجات ،كانت جميعها بنكهة الشوكلا وبلون القهوة.
أمسكت كل قرنين معاً بعد أن أخرجت من جيب سترتها الحليبية بعض القطع النقدية، وأكملت طريقها بين الحركة العجولة للبشر، وكأنه مهرجان ما.
أحاط أطراف الطريق الكثير من الأكشاك البسيطة، كانت تمر بقربها ويسيل لعابها مع الوان الماكرون الزاهية إلا أنها تستيقظ من جديد متنبه على مثلجاتها وقد بدأت بالذوبان . لم تفلح خطة لعقها، فبهذه الوتيرة ستأكلها قبل الوصول إلى المنزل، يبدو أمراً لا بأس به لها.
ولكنها سرعان ما غيّرت رأيها وقد جاء في مخيلتها أخيها قائلا بتهديد خفي :
" أندرينا تعلمين ماذا يحدث عندما لا يوجد آيسكريم في ليلة الآيسكريم? "
لم يسبق أن فكّرت بالجواب، لأنه لن يكون شيء جيّد بلا مثلجات .
سرت قشعريرة في جسدها وهي تحاول تخيّل مزاج عائلتها ، توجب عليها التفكير بسرعة لإنقاذ ليلة الآيسكريم .تفحصت المحيط بقرمذيتاها، المنزل لا يبعد سوى عشر دقائق إن تابعت السير للأمام مع عكس حركة الحشد ، إلا أنها قد إنتبهت لممر على يسار الطريق، سيقودها لبعض المباني الشاهقة التي لن تتطلب الكثير لإجتيازها ، خطت ناحية المرر بحذائها طويل العنق، كانت مسترخية للغاية..تدندن بلحن الحياة ، دون أن يشوبها الزحام الذي بدى يتبدد منذ ولوجها للداخل.
ـــــــ
كم هو صغير العالم، ضيّق ويثير الحنق، حدق بهدوء لتقاسيم الطريق الذي يبعد عنه بضع أمتار، زفر تنهيدة صغيرة ثم التفت ناحية اليمين حيث لمح الاكشاك بعيدة للغاية ومتوهجة كاليراعات في الليل، يتخللها زخات من البشر.
إلتقط فتاة بشعر منسوج من خيوط الشمس، بسترة حليبية وبقرون آيسكريم تقطر الذائب منه على أناملها ،كانت تتجه نحو طريقه حيث هو على سطح مبني إسمنتي مكون من ثلاث طوابق.
كان مرتجلاً على السياج الأسطواني دون رعشة من فكرة أن تنفخه الرياح فيسقط،خصلاته الليلكية قد غطت عينه اليسرى بينما بؤبؤه ينعكس عليه صورة الفتاة وهي تقترب، كان يحاول أن يمنح يداه بعض الدفء بينما تغوصان في جيوب معطفه الثقيل.
...
إنها المرة السادسة في هذا الشهر، يقِف عازماً على فعل شيء . . ثم يتراجع.
يدقق النظر نحوها، ثم ينتبه أنه ليس من اللائق أن يفعل ذلك ، ولذلك تراجع للوراء منسحباً، إلا أنه في لحظة.. مجرد لحظة التقطت أذناه صوت إحتكاك المعدن بحواف حذائه.
كانت لحظة خادعة، لحظة إنزلاق قدمه للأمام، حيث أصبح جزء من الهواء. راح يهوى وقد إتسع بؤبؤه للغاية، كمن شعر بتوقف الزمن للحظة ، لم يكن خوف، لم يكن فزع، كان غدر.
وكأن جزيئات الهواء تعترض على إصطدامه بها، إرتفعت خصلاته كالطفو في الفضاء.
ثبت بصره على السماء، حيث بها عقد نجمِي متشابك . تذكرها فمال على جانبه، التقت عيناهما وقد إرتعب.
لقد كانت أسفله تماماً، عاجزة عن الحراك في دائرة ظله حيث يحجب عنها السماء ، تراقبه يهوى عليها !
صرخ بصوت متحشرج.
" كلا ! "
بينما هي لم تدرك ما حصل حتى تكسر عنقها... شعرت بدفء دمائها على الرغم من إمتزاجها بالمثلجات، وقد كانت آخر مرة تشعر بالدفء.
ـــــ
" إستيقظ! "
التقطت اذناه صوت مرتجف يستره الغضب.
" لقد قلت ..إستيقظ! "
لم يمهله الصوت كثيراً، سرعان ما شعر بأحشائه منقبضة.
فتح جفناه بقوة بينما هو متكور على نفسه كطفل.مغزولة الشمس أمامه، دموعها تنساب على وجنتيها وانفها محمر، تصرخ وتركل دون أن يفهم شيء.
بحلق في المكان حوله، كان فراغ سديمي وموت.
هل ماتاآ؟
هدأت أخيراً عندما رأته يفيق، ولكنها سرعان ما أعادت تعبئة ذخيرتها .
" ماذا فعلت بي! "
كان ما زال على حاله يحتضن نفسه وخصلاته الجانبية تغطي عينه اليسرى.
لم يقوى على النظر إليها او التحدث.
زمجرت غاضبة
" إذا كنتَ تريد الموت لهذا الدرجة لماذا أخذتني معك.. لماذا أعاني أنا! "
جفل لوهلة وقد إستحضر ذاكرته وهو يسقط فوقها، أمسكَ معدته بتوعك ليتمتم
" ليكن حلم.. حلم ..حلم "
راقبته يتمتم وقد شعرت أنه مع كل لحظة في وجودها هنا تصبح بعيدة للغاية عن منزلها، كان صوتها مرتعش.
" لقد كانت حياتي على ما يرام حتى اتيت وسلختني منها! "
جثت على ركبتيها وراحت تبكي بصمت، وقف وراح يزحف بركبتيه حتى إقترب منها
مطأطأ الرأس.
كان قد لمح أبخرة بمتحررة من أنفاسها، أولبس الجو دافئاً?!
قال بهدوء
" لم أفعَل ذلك متعمداً، كان حادثاً "
.
" لا أهتم بذلك!
لا يمكنكَ السقوط على الأخرين وتهشيم أجسادهم لتقل أنه مجرد حادث! "
راحت تصرخ مستاءة بينما هو لم ينبس بحرف بعدها.
وبحركة جريئة أمسكت بخديه بكلتا يديها، أجبرت ليلكتاه على النظر لعيناها.
لتقول عاقدة حاجباها الكثيفين
" لديّ عائلة مكونة من جدة حنونة ووالدان لطيفان وأخ مزعج، وأنت سترجعني إليهم. "
شعر وكأن مكعبا ثلج على خديه، كيف يمكن أن تكون بهذه البرودة.
أزاح عيناه عنها، فهمت المغزى لترخي يداها وتصمت.
" أصغِ، أنا حقاً لا أعلم كيف أساعدك.
أنني معكِ على نفس الحفرة، ولكِن إن كانت هناك طريقة لإعادتك فسأفعل.
غير ذلِك أنا بنفس ورطتك وعجزك "
حدجت به لتقول
" ما دمتَ بهذه الحكمة لماذا أنهيت حياتك كالجبناء?! "
نظر له ببرود ليقول
" لقد قُلت لكِ أنــ... "
أطلق صرخة دون إرادة منه، لتجفل الأخرى
شعر بجسده يتمزق فحاول لملمته بينما يصك على أسنانه، راقبته متقرمذة العينين مرتعبة.ولكنه أضاء، وأصبح جسده شفاف. وكأنه ينتقل لمكان آخر..
ينتقل؟!
لن تسمح له بتركها وحدها، وبما أنه يتألم فهو يشعر لربما هذه الحياة.
ولكن لماذا لا تشعر هي بشيء، لماذا هو دافيء وهي باردة.
أرتمت بركبتيها بقرب جسده المتكور، لا تعلم ماذا تفعل، ترددت قليلا ولكنها سرعان ما وضعت رأسها على خصره، تشبثت بمعطفه القهوائي قائلة.
" أنا لا أفهم شيئا، كل ما أعرفه أنكَ ستعيدني لحياتي، ستعيد إلي الشعور، إنها مسؤليتك!
لن ترحل بدونِي. "
ـــــ
" إيفان! "
وقفت ليلكية الشعر وقد إتسعت أحداقها عندما عادت الحياة لجسده، عانقته برفق شاكرة له.
إستذكر ملامحها منسدلة الشعر، ذات عينان مكتحلتان، وملامح جريئة.
إستجمع حروف إسمها ليهمس
" رين "
إبتسمت الأخيرة بإمتنان، تركته ولكنها سرعان ما عانقته مجدداً قبيل أن تخرج لتنادي طبيب.
ولأنه لم يفهم شيء راح يتجول بناظره في كل شيء، بدأً من جدران السماء، وحتى فراشه الأبيض.
خمن بثلاث او أربعة أضلاع مكسورة، على ساقه جبيرة، وهناك دعامة على رقبته.
أطلق تنهيدة ثقيلة، تسآءل لوهلة إن كان ما حدث قبل قليل حلم.
ضجيج قد تعالى بالقرب من غرفته، إستطاع تميز صوت أخته.. والصوت الأخر رجولي.
" قلتُ لكَ دع أخِي وشأنه! "
صرخت مهددة إلا أن ذلكَ الكيان لم يكترث، اذ سرعان ما أقتحم الغرفة.
ريفان لم يفلح في استذكار ذلك الوجه، إلا أنه بخصلاته الفوضوية وعيناه الحادة إستذكر صورتها، الفتاة مغزولة الشمس.
" وضيع غر، أنا لن أسامحكَ أبداً على إنتزاع حياة أختي ! "
كان يصرخ وصوته يرتعش، متألم هو.
بالنسبة إلى رجل بالغ قد بدى كطفل نٌزع منه دميته المحشوة.
ولكن أدرينا كانت أكثر من مجرد دمية محشوة، إنه لمن الظلم أن تنتهي حياة من أحب الحياة بسبب إنتحار من يكرهها.
بل إنه لمن الظلم أن تختاره الحياة هو وتتركها هي.
لم ينبس ريفان بحرف، إلا أنه قد شعر مجدداً بتوعك.
ألم تعد معهآ؟
لم يجرؤ على التحديق بأخيها، ولم تلتقط أذناه كلماته المسمومة، دخل طبيب وخلفه ممرضان ليسيطرا على الجو المضطرب.
وخلفهما قد لمح..
لمح مغزولة الشمس معطية ظهرها بينما تغادر..
" إ..إنتظري! "