••
العودة   منتدى وندر لاند > القصص والروايات > روايات الانمي_ روايات طويلة

روايات الانمي_ روايات طويلة لجميع أنواع الروايات " الحصرية، العالمية، المنقولة والمقتبسة"


الطريق نحو الحرية | السجين |

روايات الانمي_ روايات طويلة


إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-06-2023, 10:01 AM   #91
آدِيت~Edith
https://www.anime-tooon.com/up/uploads/at165286508456371.png


الصورة الرمزية آدِيت~Edith
آدِيت~Edith غير متواجد حالياً











أمام مرآه لاحت صورتها برداءٍ أبيض لطالما أبداها كملاكٍ لانظير له ، تأملتها عيونه بعشق وهُيام ، راغباً في تملكها واحتوائها ، اقترب خطواتٍ حتى أصبح قبالتها تفصله عنها مسافة قصيرة ، كبعد ذراع لا أكثر .

همساتها داعبت أسماعه رغم رفضها الصريح :ابق بعيداً .. لاتقترب !

كلماتها جعلته يزداد تعلقاً فنطق بتودد: لكني أحبك .. أعشقك ، بت متيماً لحدٍ تجاوز صمتي ، ضعي يدك بيدي ، أمسكيني دون إفلات ، سأكون لكِ كيفما أحببتِ.

بكبريائها وعنادها أجابته لتزيد صورتها البهية إشراقاً وجمال: لست ملكك ولن أكون ، فحتى لو غيبت روحه عن هذا الكون فإنه الوحيد الذي يسكنني ويأسرني برضاً تام ، أحبه وأهيم به عشقاً، لست تستطيع انتزاعه لتحل مكانه مطلقاً ، إنك أدنى من أن تصل له .

ابتسم دون أن يشعر بالمهانة ، وحدها من يحق لها إذلاله ، هو يعلم تماماً أنه وخليله لن يجتمعا بمكانة واحدة ، هو ملائكي ذو هالة نَيٌّرة ، أما ذاته لاتزال ظلامية معتمة ، لكنه لايستطيع منع قلبه من أن يثور ويضطرب ويموت ويحيا حين يراها .. هو ببساطة وقع حيث لايستطيع أن يجد مفراً ، فاختصر بجملة قصيرة : ولأجل هذا .. أحبكِ.

.............
فتح عينيه وصوتٌ محبب كان يوقظه من لذيذ حلمٍ تمنى أن يطول : استفق أيها الكسول ، إنها الساعة العاشرة ، إلى متى ستظل متدثراً؟.

انقلب على ظهره وبظاهر كفه مسح عينيه الناعستين : أيقظتني من أجمل حلم أبي ، حلم يتيم عذب أتاني فحرمتني الاستمتاع به.

_ انهض وكفاك أحلاماً ، لقد حلت الظهيرة ولم أعد قادراً على التحمل أكثر، أريد الاطمئنان على طفلتي .

_ تقصد عصفورتك ، حسناً هاقد نهضت لاتوبخ أكثر أيها السيد الموقر .

نهض نحو المغاسل وهو يمدد أطرافه ، بينما خرج آرون ولاتزال تعصف به رياح الغضب والثأر رغم مظهره الهاديء .

انضم له بعد وقتٍ قصير ابنه يشاركه إفطاراً تأخر موعده ، وهو يرقبه بين الفينة والأخرى حائراً قلقاً: أبي .. ماخطبك؟ تبدو شارداً.

توقف عن تحريك الملعقة عشوائياً بالطبق ، وحاول أن تبدو نبرة صوته طبيعية ممازحة : أفكر بك .

_ يالسعادتي إذاً .

أردف بحنكة : لاتستخف بي سيد آرون ، هناك مايشغل ذهنك بشدة ويغضبك .

صمت قليلاً وسرعان مانفس عن شيء من غضبه بنبرة جافة : أردتك أن تنهي إفطارك أولاً ، فمن الواضح أن ماسأقوله لن يعجبك أبداً ، ولكنك تعجلت الأمر .

_ يخيفني توبيخك أبي! ليتني لم أسأل .

نهض نحو صندوق مغلق وضع أمام الثلاجة ففتحه وهو يسأله بحدة : أجبني سيكيم ،ماهذا؟!

وقف ينظر حائراً ما أشار له : لم أخرجتها أبي؟

_ وتسألني لم؟ كيف تتناول هذه السموم ، الطعام المعلب واللحوم المطبوخة المجمدة كلها تضر بصحتك ، أهذا ماتتناوله وحسب؟

_ لاوقت لدي لفعل شيء كما تعلم ، لذا أختار الأكثر سرعة وسهولة ، وأحياناً أشتري شيئاً من المطعم ، إني لاأهمل نفسي .

صفق له وهو ينظره بغضب : مذهل .. تعيش حياة صحية للغاية ، هكذا تكون وأنت لاتهمل نفسك .

بحدة وجدية أردف : رغم كل مشاغلي كنت أعود للمنزل وأطهو الطعام لكم بنفسي ، لم تتناولوا شيئاً كهذا من قبل ، كان كل شيء أحضره طازجاً وصحياً ، أهكذا تكافئني؟ .

تأفف ضجراً بملل : لاأفهم حقاً مالمزعج بالأمر ، لم كل هذا الغضب الآن ؟! إن كان لأجل تيريزا فلن أتركك تحرق نفسك أكثر .

توجه نحو الغرفة وفتح خزينته السرية ليخرج منها هاتف المهات الخاصة ، عاد إلى حيث والده بينما يتصل بأحدهم ، وآرون يرقبه بصمت مقطب الحاجبين .

في الجانب الآخر كان ديريك أمام حاسوبه في مركز الشرطة يبحث دونما كلل عما يمكن إيجاده من خلال نظام المراقبة في الشوارع ، وماإن سمع صوت هاتفه حتى رفعه يتأمل الرقم لثوانٍ دونما تصديق ، بحذر أجاب دون أن ينبس ببنت شفة .

_ ديريك ، هذا أنا.. سيكيم ، لقد عدت .

اتسعت عيناه وابتسامة ارتياح وطمأنينة شقت طريقها لشفتيه : وأخيراً .. لست أصدق .. كدت أفقد الأمل أيها الأحمق .

ابتسم الآخر وهو يجيبه بنبرة حانية : لاتقلق ، ابن آرون لايموت بسهولة .

قالها وهو يتأمل والده الذي رقت ملامحه وعيونه ترقبه بحزن خفي .

_ أين كنت ؟! بحثنا طويلاً عنك بالكاد استطعنا النوم والراحة خلال غيابك .

_ لم أكن أدرك أني مهم لهذه الدرجة بالنسبة لك ، يسرني سماع هذا ، انتظر لأسجل اعترافك قبل أن تغير رأيك .

ابتسم ضاحكاً وبتذمر أجاب : لاحدود لغرورك أيها المتبجح ، أين أنت دعني آتي إليك في الحال .

_ إني في منزلي ، ولكن قبل ذلك أريد أن أطلب منك مهمة صغيرة.

_ اسأله عن تيريزا مالذي تنتظره .

همس والده فاستجاب سريعاً : هل تيريزا معك الآن؟

_ كلا .. تركتها في القرية فإيرينا تُعنى بها ، لاتقلق هي تهتم بها جيداً .

تسارعت دقات قلبه ماإن ذكر اسمها وابتسامة هادئة ارتسمت على شفتيه ، أيقظه من شروده صوت رفيقه : إذاً مالذي تريده؟

دلك جبينه بأصابعه بتوتر وهو ينظر والده الذي كان يتأمله بريبة : أريد أن تقوم بالتسوق لأجلي وسأرسل المال لك حالاً على حسابك ، أحضر بعض الملابس الأنيقة وحذائين وقبعة ونظارات ، آه وعدسات لاصقة ملونة ، سأرسل التفاصيل الآن .

بتعجب أجابه وهو يرتدي معطفه ويهم بالخروج : ماكل هذا ؟!

_ ستفهم حينما تأتي ، إني بانتظارك .

أغلق هاتفه وانشغل لدقيقة بمراسلة رفيقه حتى إذا مافرغ التفت لوالده الذي كان يرقبه بحيرة : اطمئن أبي ، كما أخبرتك هي بين أيد أمينة ، لاتقلق .. حين يجيء ديريك سنذهب لرؤيتها لتتأكد من ذلك بنفسك .

_ ماذا عن هذه الأمور الغريبة التي طلبت من صديقك إحضارها؟

أخذ يرفع الأطباق عن المائدة وهو يجيبه : لن تخرج هكذا حتماً فلابد أنهم يجدِّون البحث عنك .

أخذ يغسل الأطباق فاقترب آرون منه يشاركه ، وضع الشاب آخر طبق على الرف وخاطب والده دون التفات : قهوة ؟

_ من فضلك .
سارع بتجهيز فنجانين وبدأ بغلي القهوة والصمت سيد مهيمن ، وضعها قبالته وجلس يرتشف خاصته وهو يتأمله بحيرة .
_ لم لاتزال صامتاً؟ مالذي يدور بأعماقك أبي .

أومأ له نفياً وبصوته الهاديء أجاب : لاشيء خاص ، مجرد أفكار تختطفني بين الحين والآخر .

نهض سيكيم وأدار قرص أغنية كلاسيكية هادئة ، وعاد يجلس مبتسماً : هكذا تصبح الأجواء لائقة أكثر بكوب قهوة ساخنة .

بادله الآخر ابتسامة اختزلت الكثير ، عاد يحتسي قهوته وذكرياته مع صوت الموسيقى تنساب عذبة رقيقة ، شريط حياته مر سريعاً أمامه ، بطفولة شقية وأب صارم ولكنه محب ومعطاء ، وأم مكافحة حانية .

طافت ذكرى رحيلهما أمامه كزهرة وحيدة عصفت بها رياح برد قاسية فحطمتها ، لتمسك كفه كف ذلك الصديق ينهض معه من تحت الركام ، يكسر الثلوج ويصارع الحياة معه بحلوها ومرها .

إكليل الزهور ذاته الذي جمعهما في زفافهما ، كان شاهداً على وداعهما حين تركه يرقد في تابوته وحيداً، ليثلم قلبه ويصدعه دون أن يجد ترياقاً لذلك الألم الصامت .

زهور العشق التي نمت في أعماقه ذبلت سريعاً ، خيبة .. خذلان ، لكن الكراهية لم تجد مكاناً في قلبه نحوها ، فلا زالت تلك القطعة النابضة بجوفه تنقبض ألماً وحرقة لفراقها .

تأمل ابنه الجالس أمامه يرتشف قهوته بسكون شارد الذهن تماماً مثله ، وكم كان متأكداً أنه الآخر يدير شريط حياته، يعيش الغربة في ماضٍ احتجزه رهينة الحاضر والمستقبل .

بصعوبة أخرج كلماته محاولاً أن يدفن هشيم روحه بأعماقه : هل أنت بخير ؟

أومأ له مجيباً وقد استفاق تواً من عالمه الذي غرق فيه دون أن يدرك : إني كذلك ، كما تعلم .. ألم الجسد ومهما عظُم يزول ، ليت للروح شفاء أيضاً .

_ هل هناك ماتريد إخباري به ؟

تلاقت عيونهما والسماء كانت متكدرة حائرة ، اختزلت بأعماقها كل ضياعٍ وألم ، لكم تمنى إفراغ جوفه مما يثقله ، لكنه أبى وأطلق كذبة اعتادها ليوهم نفسه ومن معه أنها الحقيقة : لاشيء أبي .. ماذا عنك ؟ أتود قول شيء لي لست أعلمه؟

صمت هنيهة ومالبث أن نطق بنظرة متعبة : لا .. لاشيء .

نهض الإبن يحمل فنجانه نحو المغسلة مستطرداً: لنبدأ العمل قبل مجيء ديريك إذاً.

_ وأي عمل؟

ابتسم بحماس وهو يتأمله بجدية : تحويل السيد آرون للسيد ديمتري كومنز .

ببراءة سأل بينما ابنه يجهز المعدات التي يحتاجها : من يكون هذا ؟

وضع أمامه حقيبة فتحها وإذ بها تحوي العديد من الهويات المزورة دون صورة ، جواز سفر وأوراق كثيرة رسمية الطابع خادعة المضمون .

_ ماكل هذا ؟ هل حقاً أنت شرطي؟

ابتسم بمكر مجيباً : أنت تقصد عميل سري ، إني بحاجة لها طالما أنا كذلك ، هذه هي هويتك وأوراقك الجديدة ، يلزمنا صورة حديثة لك بمظهرك الجديد فقط ، ولن يستغرق ذلك الكثير.

_ منذ متى أنت كذلك ؟ ومتى خططت لكل هذا ؟

_ لم أخطط لشيء مسبقاً ، خطر لي ذلك للحظة ونحن نتناول الإفطار ، أصبحت عميلاً سرياً لصالح الرئيس منذ عامين تقريباً ، حتى ديريك لايعرف بهذا الأمر ، يعرف فقط أني قائد الفريق دون تفاصيل أخرى، إني بحاجة لهذه الأشياء للقيام بأعمالي السرية ، لذلك هي جاهزة دائماً هذا كل مافي الأمر .

_ عظيم .. تفوقت على والدك ، هل سأهرب خارج البلاد إذاً ؟ أهذه خطتك ؟

أغلق الحقيبة بعد أن أخذ مايحتاجه ووضعه في أخرى صغيرة : لم أخطط بعد لأكثر من هذا ، ولكني أظن أنه الخيار الأفضل .

أردف وهو يبحث بأحد الأدراج : الرئيس منحني مهمة حمايته ، تخيل من هو عدوه الذي يطارده؟

أشار له بالجلوس على الكرسي ففعل وهو يسأله : من يكون ؟

وضع أمامه على طاولة صغيرة حقيبة حوت أدوات الحلاقة بينما يجيب : عدوك ذاته! ، إنه يخطط للاستيلاء على كل شيء ، ليكون مركز الشرطة والرئاسة تحت إمرته ، تخلص من القائد ميخائيل ثم من غابرييل وأوقع بك ولازال يطاردك ليتخلص منك ، والآن يريد الخلاص من الرئيس ليفرض هيمنته المجنونة .

بسخرية ابتسم آرون ورد بثقة : ظل يحاول لأعوام دون فائدة ، فكلما تخلص من أحدهم ظهر أمامه عدو آخر يخيفه ،مجرد جبان لاقيمة له .

وقف ابنه خلفه مؤيداً وقد وضع قطعة قماش طويلة على عنق والده وشرع بتشغيل آلة الحلاقة وسط فزع الأخير : ماذا ستفعل أيها المجنون؟

_ اهدأ لاتتحرك ، سأغير مظهرك كما أخبرتك مسبقاً ، لابد وأنهم يبحثون عنك دونما يأس ، لنصبهم بالجنون ، لن يستطيعوا معرفتك أبداً .

استرخى على المقعد مستسلماً وقد بدأ ابنه بعمله في هدوء تام ، حتى إذا ماانتهى ابتسم بإعجاب : لقد أصبحت شاباً وسيماً أيها القائد العظيم آرون .

أجابه الآخر ساخراً : تقصد ديمتري كومنز .

_ آه أجل .. المعذرة .

ابتسم ضاحكاً بينما توجه آرون نحو المرآة يتأمل نفسه وقد أصبح حليق اللحية والشارب ، وحتى تسريحة شعره قد تغيرت تماماً ، فأصبحت شبابية أكثر .

_ ياللهول ماذا فعلت بي ! هذا ليس أنا .

_ وهو المطلوب ... إنه صوت الباب ، لابد وأن ديريك قد جاء .


تركه فشرع على الفور بتنظيف الفوضى بينما فتح سيكيم الباب بحذر ، وعلى الفور استقبله ديريك بلكمة ترحيبية : وغد ،غبي .. أحمق .

عانقه بعدها وهو يتنفس الصعداء أخيراً والآخر يبتسم ضاحكاً لفعلته : تباً لك ألف مرة ، كدت أصاب بالجنون بسببك ، ستدفع ثمن كل لحظة لم أنم فيها أو أتناول طعامي بسلام .

_ ديريك التقليدي ، لاشيء يتغير ،دائماً وأبداً مشاعرك معاقة .

ضربه على رأسه ودفعه معاقباً: لاتستحق أي لحظة أضعتها بالتفكير بك .

أدخل الأكياس بينما الآخر يغلق الباب من خلفه وهو يبتسم ضاحكاً : صدقني اشتقت لمشاكستك كثيراً أيها العفريت .

_ إن كنت عفريتاً فأنت الشيطان بأم عينه ، والشيطان سيد ...

بذعر أكمل وقد وقف آرون أمامه فجأة يتأمله بابتسامة باردة : العفاريت .. أعني .. أنت أفضل من عرفت على الاطلاق ، إنك ملاك وأنا الشيطان الأكبر ، عم آرون مظهرك الجديد مذهل ، وكأنك قد صغرت قليلاً، حقاً سررت لأنك أيضاً بخير .

ابتسم ضاحكاً وهو يقترب منه : مرحباً بك أيها الفتى الفظ .

أكمل بامتنان : شكراً لاهتمامك بابنتي ، أنا حقاً ممتن لك للغاية .

_ هذا واجبي سيدي القائد ، هيا لنذهب لرؤيتها فقد ذبلت الفتاة وهي ترقب عودتكما .

أجاب سيكيم وهو يتفحص مااشتراه صديقه : لنكمل ما بدأناه أولاً ، هيا أبي لتلبس هذه الثياب .

أخذها من يده متذمراً : مضى زمن طويل مذ ارتديت بدلة كهذه ، لا أظنها تناسبني الآن .

_ وهذا هو الأفضل ،يجب أن تلبس مالم يعتد أحد رؤيتك ترتديه ، لتكون مختلفاً فيصعب تمييزك .

_ أرجو أن تنجح خطتك المملة هذه .

دلف للغرفة يستبدل ملابسه وقد بدأ الشابين بتجهيز بقية الحاجيات ، حتى إذا ماخرج أعانه ابنه على ارتداء العدسات اللاصقة عسلية اللون .

_ ماذا لو قمت بصبغ شعرك ؟

_ لا.. حتماً لا ، هذا يكفي .. أصبتني بالصداع يافتى .

نهض يتأمل صورته في المرآة مستاءاً : أشعر بالسوء حقاً وعيناي تؤلمانني .

أخذ ابنه يوضب الحاجيات مبتسماً: ستعتاد مع مرور الوقت ، والآن أحتاج لصورة أنيقة لك .

أخرج الكاميرا وقد وضع الكرسي أمام الجدار الأبيض ، جلس آرون بعد أن رتب شعره فالتقط الشاب له العديد من الصور ، وبارتياح نطق أخيراً: المهمة أنجزت ،ديريك ستصحبه معك بحذر ،فلابد أن يقوموا بمراقبتي ، سأسلك طريقاً آخر للقرية ، كن حذراً.

_ حتماً .. لاتقلق بشأن شيء ، هيا سيدي القائد ، من فضلك اتبعني .

أردف مستدركاً: آه قبل أن أنسى! .

أخرج من جيبه قرص ذاكرة صغير : لقد استلمت هذا الطرد بالنيابة عنك بأمر من الرئيس، قال أنه مهم للغاية .

_ أجل أذكر أنه أخبرني بشأنه يوم الجنازة ، إنه ما أرادت كريستينا أن أراه ، أرجو أن يكون ذا قيمة .

التفت لوالده يسأله برجاء: أتمهلني قليلاً أبي ؟ أتستطيع الانتظار لوقت قصير .

مستسلماً أجاب وقد اعتراه الفضول هو الآخر : لنرى ماتخفيه فتاتك الحمراء .

أسرع نحو مكتبه وشرع بتشغيل حاسوبه مستعرضاً محتويات القرص ، تمتم بتعجب وقد ظهرت أيقونة لملف مرئي على الفور : من الغريب أن يكون دخوله سهلاً .

أيده ديريك بحيرة : توقعت أن نعاني لفك شيفرة وماشابه .

ضغط لتشغيل الفيديو فاقترب آرون يشاهد وملامحه قد تبدلت لدهشة وألم وغصة بينما ابنه نطق مستنكراً: أمي!

حينما ارتحلت بدأت ذكرياتها تتجلى في كوابيسه ،وصورتها مُسحت حتى أنه أوشك أن ينسى تفاصيلها ،والتي لم يتأملها منذ زمن ، حين كان يبعد ناظريه عنها ، ويتعمد أن لا يتأمل عيونها الجارحة الموجعة .

الآن هي أمامه مباشرة كما لو كانت قد عادت للحياة ، انتفض قلبه من جديد بمشاعر مبهمة ، لم يدر أغضباً كان أم شوقاً، أخذلان كان أم وجعاً لرحيلها الأناني ذاك دون تعويض .

نطقت وعلامات البكاء قد صبغت حمرة بوجهها ، توقظ حواس كليهما وقد اجتاحتهما صدمة ألجمتهما لثوانٍ ثقيلة : في هذا المساء .. لقد قررت أن أنهي كل شيء ، أن أفعل مايجب أن يكون صحيحاً وإن لم تغفروا لي، تيريزا ... سيكيم ، لم أكن يوماً أماً صالحة ، لم أستطع إنقاذ نفسي أو إنقاذكم رغم كل شيء ، لكني أريد حقاً أن أنقذ آرون مما تسببت له به ، أحتقر نفسي كلما تذكرت كم أسأت إليه ، لست أنتظر أن تسامحوني .. أعلم كم هذا مستحيل .

غرقت بعدها بنوبة بكاءٍ قطعتها بشهقاتٍ صامتة وهي تنطق بصوتها المبحوح : أريد أن أعتذر وإن لم يقبل اعتذاري ، وأتمنى بصدق .. أن يكون ماسأسجله هذا المساء دليلاً كافياً لتخليص والدكما من سجنه وعذابه ، إن حدث ، فأرجو أن تعيشو سوياً تلك الحياة الدافئة التي لم أستطع ادراكها .

صمتت لثوانٍ حتى نطقت بصعوبة : سيكيم .. إن استطعت إنقاذ والدك فأخبره أني نادمة بحق ، وآسفة لكل مافعلت .. لم أكن أستحقه أبداً .. ليته لم ينقذني يوماً ، فمثلي لاحق لها بالحياة التي منحني إياها .. كنت جاحدة حتى النخاع .

صوت الباب يطرق جعلها تمسح دموعها على عجل وقد بدا أنها تغطي جوانب آلة التصوير ، همست بجدية قبل أن تنطق لفتح الباب : لقد جاء أخيراً ، وأرجو أنها النهاية .

نهضت خارجة لبعض الوقت وما لبثت أن عادت ومعها ذلك الرجل المألوف بصوته الأجش وملابسه الفاخرة ، يخاطبها بكلماته المنمقة وهي تشير له بالجلوس : ماخطبكِ عزيزتي لم استدعيتني في هذه الساعة ؟ ولم أنتِ بهذه الحال ؟ أقلقتني .

نطق آرون وقد كز على أسنانه وقبض كفه بشدة : ليونيد أيها اللعين ..

ضغط سيكيم على الزر يغلق الفيديو فصرخ به والده بغضب : مالذي تفعله ؟! أعد تشغيله حالاً.

_ أبي .. مالذي تريد رؤيته بعد ؟!

_ قلت لك أعد تشغيله لأرى ماكان يفعله هذا النكرة الخائن .

_ اهدأ أبي ... سنتابع أنا وديريك ، رجاءاً قد ترى مايؤلمك .

أبعده وقد لاح على محياه_ الهاديء عادة_ غضب جلي ، أعاد تشغيله حيثما كان وقد تنهد الشاب بيأس قلقاً ، وصاحبه يتأمل الرجل المحترق بألم الخيانة القاتلة .

كانت قد نطقت حينها بمرارة : لم أعد أريد المواصلة ليونيد ، لقد خدعتني .. سيعدم آرون بسببي ، أخبرتني أنه سيسجن لفترة قصيرة لكنك كذبت .. لقد كنت تستغلني لتحقيق انتقامك فقط ، وكالغبية ساعدتك في اتهامه ووضع أدلة كاذبة في منزله ، لقد شهدت زوراً بحقه حتى .

أجابها بعد صمت قصير وهو يشعل سيجارته : عزيزتي .. لم أرد استغلالك أبداً ، لقد كنتِ سعيدة قبلاً فمالذي جعلكِ الآن غير راضية ؟ ألم تكن النقود تكفيكِ ؟

نهضت وفتحت أحد الأدراج بغضب وسرعان ماوضعت الحقيبة أمامه : خذ مالك إذاً ، إن لم تجد له مخرجاً مما أقحمته فيه فسأذهب وأعترف بكل شيء .

ضحك ساخراً ونهض يقف قبالتها ينطق بثقة ومكر : ومن سيصدقكِ؟ ، سيقولون أنكِ تهذين بسبب الشراب ، لاتملكين دليلاً واحداً عزيزتي ، بقائكِ معي سيكون آمناً أكثر ، ثقي بي .

أومأت بالنفي وهي تبكي بحرقة : لم أرد موته ، لم أرد ذلك أبداً ، سأجد طريقة ليعرفوا الحقيقة ، لن أسمح لك باستخدامي لتحقيق انتقامك .

_ يبدو أنك لم تفهمي بعد مكانتكِ ، كنت سأجعلكِ ملكة .. لكن يبدو أنكِ تعجلتِ اللحاق بذلك الحقير ، ظننته سيكون مساءاً هادئاً وجميلاً لكنكِ حقاً أفسدتِ كل شيء بجدارة .

خرج بعدها وقد رمقها بنظرة ساخطة مهددة ، بينما مسحت دموعها وقد تجلت بعينيها نظرة حاقدة منتقمة ، وسرعان ماتوجهت نحو آلة التصوير تطفئها لتعلن نهاية ذلك الكابوس الذي شهده الثلاثة وكلٌ حمل في أحشائه لهيباً وعواصف قاتلة .

اعتدل ديريك واقفاً ولازالت الصدمة تعتريه دون أن يعرف ماعليه قوله لمواساة الاثنين ، نطق بتردد بنبرة هادئة : ماذا الآن؟ مالعمل؟

سحب الآخر نفساً عميقاً قبل أن يجيب : يجب أن أسلمه للقضاء لتتم تبرئة أبي ..

_ إياك !

زجره آرون بحدة وأكمل بحرقة :هل تريد إهانة والدتك ؟!

مستنكراً رد باستياء وهو يقف قبالته : هل أنا من سأفعل أبي؟ لازلت تحميها بعد كل شيء ؟ لقد قامت بخيانتك مرات ومرات ولازلت تدافع عنها ؟ لقد رحلت ومصائبها لم ترحل وتنقضي بعد ولازلت تهتم بأمرها ..

أخرسه بصفعة غاضبة جعلته ينظره مذهولاً : أسفي عليك أيها الفتى ، لم تدرك بعد من يكون عدوك الحقيقي ، ولازلت تنفث سمك وحقدك على والدتك دون اكتفاء .

أخرج القرص وخبأه في جيبه ثم ارتدى معطفه وخرج يخاطب ديريك بحزم : خذني لتيريزا في الحال .

استجاب له وعيونه ترقب الشاب الذي بقي جاثماً مكانه وهدوء غريب اجتاح كيانه .
وما إن خرجا حتى تنفس أزرق العينين الصعداء بتعبٍ وضيق ، جلس على الكرسي يفكر وفي أعماقه تمنى أن يحطم ويكسر ويفرغ مااختزلت أحشائه الثائرة ، لكنه آثر احتجازها لتبقى غصة عالقة بجوفه ، نهض بعدها وقد ركب دراجته النارية ليسلك طريقاً معاكساً كما اتفقوا من قبل، محاولاً أن لايتظر للخلف أبداً .
...................

انعكست على المرآة صورتها جالسة؛ مسدلة شعرها الكستنائي تسرحه وعيونها ترمق الشاب بين الحين والآخر وقد كان يجلس في الشرفة يدخن سيجارته كالمعتاد .

عاد للغرفة يغلق من خلفه الباب وقد بدأت أطرافه بالارتعاش : الجو بارد للغاية ، رغم أنها نهاية الشتاء .

_ لابد من ذلك ، من الغريب أنك لم تذهب حتى الآن لمكتبك الفاخر .

وقف خلفها وأخذ يعبث بشعرها وهو يتأمل صورتها في المرآة : لن أذهب اليوم ، قررت بما أني أصبحت أملك بعض المال فلم لا نخرج للتسوق سوياً؟

رفعت رأسها تنظره بدهشة : هل حقاً ماتقول ؟.

نظر لساعة يده وهو يقول بمكر : أمامك ثلاث دقائق تماماً قبل أن أغير رأيي .

نهضت مسرعة وارتدت حذائها ومعطفها : انظر إني مستعدة.

بابتسامة ساخرة أجابها : يالشغفكن المخيف ، تعشقون التسوق كالمجانين .

أمسكت ذراعه وهي تبتسم بحماس : كف عن التذمر الآن ، أريد شراء الكثير لأجل طفلتنا .

_ أكرر لكِ .. إننا لانعرف بعد إن كانت صبياً أم فتاة ، كما أن الوقت باكر لأجل شراء الملابس .

سارا معاً وقد بدت محبطة حتى دخلا السيارة فانطلقت بهما إلى أن وصلا لمركز التسوق الكبير ، خلف الزجاج لاحت لها مجموعة من الفساتين الصغيرة جداً ، وقفت تتأملها بابتسامة جميلة : انظر إيفان ، كم هي ظريفة للغاية .

أمسك يدها وأدخلها ببرود : كفي عن الحماقة وإلا أعدتك المنزل دون شراء شيء .

ضجرة سارت خلفه وكانت كلما أعجبتها قطعة ما حتى خالفها الرأي وجعلها تتراجع عن شرائها ، وتارة كان ينظر لسعرها فيعارض فوراً بحجة غلائها ،وهكذا انتهت رحلة التسوق بفشل ذريع دون أن تشتري أي شيء .

_ مابكِ ؟ لم تبدين مستاءة الآن ، حقاً لاشيء يرضيكِ .

نظرت له ذاهلة وسرعان ماتأففت بضجر ، فأكمل وهو يضع بعض الذرة في فمها : على الأقل اشترينا ذرة شهية ، قولي شكراً لزوجك الرائع .

أبعدت يده مستاءة وسرعان مااجتذبتها لوحة ضخمة حوت إعلاناً عن الفيلم الجديد الذي سيعرض للمرة الأولى في قاعة السينما ، التفتت له ببراءة محاولة اقناعه : ألا ترغب بمشاهدته ؟ يبدو مسلياً .

_ تؤ .. لا أحب هذا النمط الممل من الأفلام التافهة .

زفرت بضيق وتقدمته حتى ركبت السيارة مغلقة الباب خلفها بغضب ، تبعها ببروده المعتاد وهو يأكل الذرة بلا مبالاة ، وما إن أغلق باب السيارة حتى انطلق السائق عائداً للمنزل .

...........................

عيونه كانت ترقب الجالس بجواره بين الحين والآخر ، وقد كان يرقب الطريق بصمتٍ يحتجز ضجيج روحه الموجعة ، نطق بعد حينٍ بنبرة هادئة خالطها ندم : اتصل به .

سكت قليلاً ريثما يجد مكاناً آمناً ليركن السيارة فيه ، وماإن فعل حتى شرع بالاتصال برفيقه وانتظار اجابته دون جدوى : لايجيب .. لربما لايمكنه ذلك ، إن كان يقود دراجته النارية فلن يسمع صوت الهاتف حتماً .

بقلق وتردد أجابه : لنعد .. لربما لازال هناك ، لابد وأنه ...

_ لاتقلق بشأنه ، لابد وأنه أدرك خطأه وسبقنا إلى القرية ، دعنا نكمل طريقنا وسترى أنني على حق .

أومأ له إيجاباً بصمت فعاود الانطلاق نحو وجهتهما ، ومالبث أن سأل : ديريك .. أخبرني بصدق ،أهناك ماتخفونه عني ؟

بحيرة أجابه : لم أفهم ماترمي إليه ، بالنسبة لي لانية لدي لإخفاء أي شيء .

_ ماذا عن سيكيم ؟

_ لاأعلم حقاً ، إنه ابنك وأنت تعرف تماماً كيف يجيد الاحتفاظ بأسراره لنفسه دون أن يبوح بشيء منها لي حتى .

تنهد بضيق وهو يدرك تلك الحقيقة تماماً : بدا لي مختلفاً ، شاحباً ومتعباً .. لكنه لم يبح بشيء البتة .

رد مستدركاً مايرمي إليه : أجل إني أوافقك الرأي ، منذ بضعة أشهر وبعد أن فقدنا صديقنا تغيرت حاله تماماً ، لقد آلمني رحيله .. لكن وقع ذلك على ابنك كان أشد تأثيراً ، تبدلت أحواله منذ ذلك الحين ، بات هادئاً وجاداً أكثر من ذي قبل ، كما أنه أصبح كثير النسيان ويصاب بالصداع دائماً .

التفت إليه بحيرة وجلاً : هذا ما أثار ريبتي ، لم يكن ينسى من قبل حتى أصغر الأمور ، والآن ..

_ لقد نسي أنه شهد رحيل والدته حتى ، وتصرف في اليوم التالي كأن شيئاً لم يكن .. ولاأظن ذلك تجاهلاً أو انعداماً للمسؤولية ، الأمر مريب بحق ، لكنه استمر بقول أن هذا مجرد صداعٍ وسيزول !

عاد الرجل يتأمل الطريق بشرود قلقاً والخوف قد تسلل لأعماقه من مجهول يحيط بهم بظلامه المميت ، وهو يتمنى أن لاتتحقق مخاوفه تلك .

......................

جلست الفتاة تتأمل الصبية يلعبون الكرة في ساحة القرية وعقلها قد ارتحل للبعيد ، رُكلت الكرة بقوة فطارت بعيداً لتصطدم بقدميها ، نظرت لها ملياً ثم رفعت عينيها للصبية وقد صوبت أنظارهم نحوها منتظرين أن تعيدها لهم .

استقامت واقفة وعلى وجهها ابتسامة حانية : تريدونها إذاً ، لنرى من سيلتقطها منكم .

ركلتها بقوة فطارت عالياً وقد أسرع الفتية يتسابقون لالتقاطها بمرح ، تلاشت ابتسامتها وهي ترقبهم مستذكرة ذات الموقف بينها وبين شقيقها ووالدها حين كانوا يلعبون الكرة سوياً بساحة منزلهم الواسعة .


أخرجت هاتفها وتأملته ملياً منتظرة اتصالاً تأخر من صاحبه الذي اعتاد محادثتها كل صباح إن تأخر في القدوم ، ولكنه هذا اليوم لم يفعل ولم يأتِ مما جعل الخوف يتسلل لقلبها .

" ديريك .. أين أنت وماذا تفعل ياترى " .

همت بالاتصال لكنها تراجعت مجدداً وهي تفكر " لربما هو يخلد للراحة فلم ينم جيداً هذه الفترة ، أرجو أن يكون بخير " .

عادت تجلس وهي تتأملهم بشرود ، وإذ بالسيدة تقترب منها وفي يدها كأسين من شراب عشبي ساخن : تفضلي عزيزتي ، سيشعركِ هذا بالدفء والتحسن.

أخذته بابتسامة وقد أفسحت لها مكاناً لتجلس بجوارها : شكراً لكِ .

حل الصمت لبعض الوقت قبل أن تنطق الشابة بهدوئها الجميل : تبدين قلقة ومستاءة .. هل حدث أمر أزعجكِ؟

أومأت بالنفي وهي تتأمل الكأس بين يديها : أشعر بالضيق فقط .

_ لقد تأخر ديريك هذا اليوم ولذلك تبدين قلقة صحيح ؟

تورد خديها دون أن تعرف بم تجيب بينما الأخرى ابتسمت وهي تضع كفها على كف الفتاة بحنان: لربما هو في الطريق الآن ولربما لديه عمل طاريء ليس بالضرورة أن يكون سوءاً ، لاتتشائمي على الفور ، لكل غائب عذره .

أومأت إيجاباً بخجل وهي تتمتم : أرجو أن يكون كذلك ، لا أظنني سأحتمل المزيد .

صوت الدراجة النارية القريبة أجفلها للحظة وقد اتسعت عيناها بذهول ، وقفت تتأملها تقترب والفتية قد هتفوا بحماس : دراجة نارية !

توقف أخيراً قريباً منهم وترجل منها وهو يخلع الخوذة ، وماإن لاح لها وجهه مبتسماً_ وهو يرتب شعره الذي تناثر بفوضوية _ حتى دمعت عيناها وبصوتٍ مرتعش نطقت باسمه غير مصدقة : سيكيم .. أخي !

اقترب منها بشوقٍ فأسرعت تعانقه باكية تفرغ حنينها وخوفها : شكراً لله .. لقد عدت لي أخيراً ، أنا آسفة لكل مافعلت، آسفة لكل كلمة سيئة نطقت بها ، لكل ألم سببته لك ، لكل سوء اقترفته نحوك .

ابتعد عنها قليلاً وقد أحاط وجهها بكفيه : كفاكِ اعتذاراً .. أنتِ لم تذنبي أبداً ، أنا من عليه الاعتذار ، لقد تألمتِ وعانيتِ كثيراً، لأني لم أستطع حمايتكِ ورعايتكِ كما يجب ، لامزيد من الدموع صغيرتي ، يجب أن تكوني سعيدة دائماً، هذا مايليق بكِ.

ابتسمت بغصة وعادت تعانقه وهو يمسح رأسها بعطف ، وماإن لمح فؤاده ابتسامة أخرى ملائكية قريبة ، حتى أدار طرفه نحوها مأسوراً ، صوتها العذب داعب أسماعه كما لو أن الزمن قد توقف وماعاد يسمع سوى صوتها ممتزجاً بدقات قلبه اللاهثة : حمداً لله على سلامتك .

ورغم أن كلماتها كانت رسمية محافظة إلا أنه لم يستطع أن يمنع فؤاده المبتهج من الاضطراب : شكراً لكِ ، ممتن حقاً لكل مافعلتِ من أجلنا .

_ لم أفعل مايذكر ، كان بقاء تيريزا معي ممتعاً بحق ، بالطبع لا أتمنى السوء لكم ، لتبقى سعيدة بأحضان عائلتها .

كانت الفتاة تتأملها مبتسمة وقد ترقرقت الدموع بعينيها وسرعان ماعانقتها بمحبة ، اقترب الصبية منهم بمرح وسرور فقفز الفتى نحوه معانقاً: عم سيكيم سعيد حقاً لعودتك سالماً .

بادله العناق بسعادة كما لو أنه امتلك الدنيا بين يديه : وأنا سعيد لرؤيتك مجدداّ ياصديقي ، ولرؤيتكم جميعاً ياصغار.


بدأ الجميع يرحبون به بسعادة يقدمهم دونالد بمهابته ورصانته : حمداً لله على سلامتك بني ،لقد أسعدتنا عودتك .

عانقه الشاب بسرور : سعيد لعودتك سالماً أنت أيضاً سيدي ، هناك الكثير لنتحدث عنه

_ تفضل للداخل إذاً وأخبرني بما حدث خلال هذه الأيام الثلاثة .

شكر الجميع مستأذناً ودخل المنزل مع دونالد تتبعهما كلاً من إيرينا وتيريزا .

قدمت لهما الكبرى الشاي بينما الأخرى جلست بجوار شقيقها تسأله بلهفة : إذاً هل تعرف مكان والدي؟ هل هو بخير أيضاً؟ مالذي حدث وأين كنت طوال هذه الفترة ؟

_ رويدك عزيزتي .. سأخبركم بكل شيء الآن .

أومأت إيجاباً وصمتت تستمع بقلق ، بينما تحدث بهدوء يحمل البشرى : حدث الكثير حقاً ، لقد التقيت والدي هناك ، وهو الآن مع ديريك في طريقهما للقرية .

شهقت الفتاة بسعادة غير مصدقة : هل حقاً ماتقول !

ربت على كفها بابتسامة : يجب أن يكون ذلك سراً بيننا فقط.. اتفقنا ؟

اكتفت بإيمائة وعيونها تذرف الدموع بسعادة ، بينما أكمل الشاب وهو يلتفت للكهل : من بعد إذنك ، فكرنا بإخفائه هنا ، أردت أن أطلب إذنك بهذا ، وحتماً إن كنت ترى أن الأمر سيكون خطراً فبإمكاني البحث عن مكان آخر حتماً .

_ لاتقل هذا بني ، إنك الآن واحد منا وعائلتك هي عائلتي ، فعلت الكثير لأجلنا وهذا أقل مايمكننا فعله لأجلك ، لدينا الكثير من الأماكن السرية في القرية بإمكانه الاختباء بأحدها .

بامتنان أجابه مبتهجاً: شكراً لك سيدي ، لن يطول بقائه على كل حال إني أفكر بجدية بجعله يغادر المدينة بأسرع مايكون حتى نجد حلاً جذرياً يخلصه .

تلاشت ابتسامة الفتاة وقد دب القلق بقلبها بينما أكمل سيكيم بحماسٍ هاديء: وأيضاً هناك أمر مهم للغاية حصل معي هناك .

ضيق العجوز عينيه متسائلاً ينتظر أن يكمل فأتبع بابتسامة : لقد التقيت رجال القرية المفقودين ، هناك في السجن كانوا معي .

بذهول سبقت الشابة والدها : أحقاً وجدتهم ! إنهم على قيد الحياة إذاً!

أومأ إيجاباً بابتسام وقد أطربت قلبه بهجتها : إنهم على قيد الحياة ، وسيتحسن حالهم عندما ننقذهم من بين أيديهم ، لذا علينا الاستعجال ، لقد وعدتهم بذلك .

أكمل وهو ينظر لكبيرهم بجدية : يجب أن تعقد الاجتماع بشكل عاجل ، خلال هذا الأسبوع يجب أن نخلصهم ونبدأ بإخراجكم فوراً من القرية .

_ أنت على حق ، لابد أن نبدأ التحرك قبلهم .

_ لم تخبرني عن سبب اجتماعهم بك ذلك المساء!.

تنهد بعمق قبل أن ينطق : يريد أن يفتح صفحة جديدة كما يدعي ، سيقوم بتحسين القرية ومبانيها وبناء مشفى جيد ومدرسة وكل مانحتاجه .

مستنكراً رد سيكيم بريبة : والمقابل ؟

_ تخيل ! يريدون العيش بيننا !

_ هه ياللسخرية ! هل الأمر هكذا بهذه البساطة ؟! ماكان جوابك ؟

_ بالطبع رفضت ، لذلك قام بتهديدي بوضوح ، ومنحني مهلة للتفكير مجدداً .

_ يالكرمه ، يدعي أنه يهتم برأيك بينما في الواقع هو يجبرك ويقوم بتهديدك ، لابد وأن نتحرك سريعاً ونخطو الخطوة الأولى .

_ هذا هو الحل الأفضل ، أرجو أن لايعارض أهل القرية هذا القرار .

فُتح الباب وقد أطل منه ابن السابعة بابتسامة واسعة : مفاجئة !

دخل من خلفه ديريك يتبعه آرون فنهضت الفتاة بشوق ولهفة ومالبثت أن توقفت تنظره بغرابة : أبي؟!

فهمها ديريك فأجاب ممازحاً : أقدم لكم السيد ديمتري ، قدموا له التحية رجاءاً .

سار الرجل نحو ابنته بابتسامة حانية : لاتكترثي له ، لقد أُجبرت على تغيير مظهري وحسب لكني لا أزال والدكِ آرون ياعزيزتي .

دمعت عيناها ماإن سمعت صوته وكلماته وأسرعت تعانقه بحرارة : أبي الحبيب حمداً لله على سلامتك ، شكراً لله .. إني سعيدة بحق .

أخذ يربت على ظهرها بمحبة : آسف لاخافتك صغيرتي الحبيبة .

أبعدها بلطف ومسح دموعها وهو يتأملها بعطف ، ومالبث أن ألقى التحية على رونالد مصافحاً والذي بادره بالحديث مرحباً: أهلاً بك بيننا وحمداً لله على سلامتك ، قلقنا كثيراً عليكما ، إنها هدية من الله أن أعادكما سالمين .

_ شكراً جزيلاً لك إني ممتن حقاً لرعايتكم ابنتي ، لن أنسى معروفكم هذا ماحييت .

_ لاتقل هذا ، أي معروف بيننا .

أشار ديريك لصديقه أن يتبعه ففعل وقد خرجا من المنزل نحو السيارة المركونة خارج القرية : ساعدني بحمل هذه الأكياس رجاءاً .

_ واو ماكل هذا ؟!

_ اشتريت بعض الأشياء من أجل المساء ، أنوي القيام بحفل شواءٍ ينسينا عناء الأيام الماضية .

_ أنت حقاً فريد من نوعك ، إننا بحاجة لاستراحة بعد كل هذه الفوضى .

_ لحسن الحظ ديريك موجود لحل الأزمات دوماً .

ابتسم رفيقه ضاحكاً وقد تبعه عائدين للمنزل ، ومالبث كلاً منهما أن وضع الأكياس في المطبخ .

_ زوجة أخي العزيز ، هلا جئتِ لمساعدتنا ؟!

ناداها ديريك فسارت نحو متعجبة : ماكل هذا ؟

_ لحم ودجاج وسمك وهذه خضار وبعض العصائر والمشروبات الغازية ولاتقلقي بشأن شيء ، كلها حسب الأصول ، قمت بشرائها من متجر محافظ لذا بإمكانك الاطمئنان فكلها مضمونة .

ابتسمت ولاتزال تنظره بدهشة : إنك شخص لبق حقاً ، هذا كرم بالغ منك .

بغرور أجابها : ولو .. أعجبك .

ابتسمت ضاحكة وهي ترتب الحاجيات معه بينما الآخر ينظرهما بغيرة خفية .

_ سنحتاج لأيدٍ كثيرة للمساعدة ، لن تقصر نساء القرية حتماً .

_ وأنا سأساعدكم أيضاً ، مارأيكِ هل سيكون كافياً للجميع ؟

_ أجل حتماً ، هذا كثير للغاية ، لم يعتد القرويين تناول الكثير ، لذلك ستكون وليمة مشبعة هذا المساء .

ظل كلاهما يتجاذبان أطراف الحديث وهو يتأملهم بغصة ، لم يكن يقدر على أن يتحدث بطلاقة كصديقه ، أن يجتذب الآخرين ببساطة دون أن يبذل أدنى مجهود ، منذ الطفولة كان يشعر أنه بعيد عن العالم أجمع ، مهما حاول إقحام نفسه بينهم ، يجد نفسه بعيداً كل البعد عنهم .

كف لامست كتفه أيقظته من شروده فالتفت يتأمل صاحبها بابتسامته الحانية الدافئة ، وكأنما كان يقرأ مايدور بخلده ، وقبل أن ينطق الأب بادر الابن باعتذاره ليداري كبرياء والده : أنا آسف .. كنت وقحاً وفظاً ، أعتذر لإزعاجك أبي .

سكت قليلاً والندم قد أشعل لهيبه بصدره ، وبتردد نطق : آلمتك ؟

لاح شبح ابتسامة على شفتيه وهو يجيبه : لقد كنت أستحقها ، مهما غضبت وفعلت .. لك الحق بذلك حتماً ، ولا أجروء على الاعتراض والتذمر .. يكفي أن تكون بخير ، وأن تبقى بجانبي .

ربت الأب على ظهر ابنه وهو يتأمله وفي أعماقه يتمنى قول الكثير مما لايستطيع النطق به ، لذلك آثر الصمت وعاد يجلس بجوار الصغيرة التي لم تكتف من أحضانه الدافئة .

نطق ديريك فجأة مستذكراً: لقد نسيت إحضار الخبز يالغبائي .

أجابته إيرينا مطمئنة : لاتقلق بشأن ذلك ، النساء هنا بارعات بالخَبْز ، إن الرغيف الذي يخبز هنا هو الأفضل .

_ إنها فكرة رائعة رغم أن الأمر سيكون مرهقاً فالكثير من العمل بانتظارهن إذاً.

_ العمل ممتع معاً ، إننا نحبه كثيراً لذا لاتقلق .

_إن كنتِ تقولين ذلك فلا تعقيب لدي ، سأحضر بقية الحاجيات إذاً ، هل تساعدني سي؟

أومأ الشاب إيجاباً بصمت أخفى الكثير ، بينما السيدة نطقت بابتسامة : اطلب من نوا وبقية الصبية مساعدتك سيسرهم ذلك حتماً .

_ سأفعل فلدي الكثير من الحاجيات بعد .
...........................................

على فراشها كانت تجلس وقد ربطت شعرها الأحمر بعشوائية وخصلات منه تمردت على وجهها ، بين كفيها احتضنت قلادة تدلى منها قلب فضي توسطته زهرة لامعة ، بألم تأملتها وقد طاف قلبها بماضٍ كانت السعادة فيه منزلها الذي لاتهجره .

" أغمضت عيناه بكفيها وسارت من خلفه بحذر : الآن بامكانك أن تنظر .

أبعدت كفيها ففتح عينيه يتأمل الزينة في تلك الغرفة الواسعة ، تتوسطها طاولة عليها قالب كعك مزين باحترافية .

_ عيد ميلاد سعيد سي .

ابتسم بسعادة والتفت يعانقها بامتنان : أنت لطيفة بالفعل كريستي ، أولم تنس هذا التاريخ أبداً؟

_ اطلاقاً كيف أنسى ؟

وقف أمام قالب الكعك وهي تتأمله بابتسامة محبة : هيا .. تمن أمنية وأطفأ الشموع .

أغمض عينيه لثوانٍ ومالبث أن أطفأها ثم ابتسم بحماس : ماهي هديتي إذاً .

_ ياه أهذا مايهمك وحسب ، لابأس هذا اليوم يومك ، لايمكنني التذمر.

قالتها متظاهرة بالاستياء ومالبثت أن قدمت له علبة متوسطة الحجم ، أخذها وفتحها ليجدها تحفة مصنوعة بمهارة له وهو يقف بزي مدرسي عن يمينه تيريزا وعن شماله هي ، تحيطهم ذراعي آرون بابتسمة جميلة .

_ لديك ذوق مميز كالعادة ، إنها حقاً مذهلة ، شكراً جزيلاً لك ِ .

أخرج من جيبه علبة صغيرة فاقتربت منه بفضول : ماهذه .

_ مفاجئة صغيرة لكِ ، أردت اعطائها لكِ البارحة لكنكِ غادرتِ بسرعة ، كعربون اعتذار ، لم أقصد تجاهلكِ .. كنت مشغولاً بحق .

أخرج القلادة وألبسها إياها وقد ابتسمت بسعادة : إنها جميلة للغاية .

ضحكت بخفة فسألها مستنكراً : مالذي يضحكك .

_ سأخبرك بسر ولكن عدني أنك لن تغضب .

أومأ موافقاً فنطقت وضحكاتها تسبقها : لم أكن غاضبة منك ، كنت قد تعجلت لأحضر لك المفاجئة ، صدقاً لم أعتقد أن تعوضني بهدية .

عادت تضحك وقد بدا عليه استياء طفيف : يالك من فتاة ، وأنا ظللت ألوم نفسي طوال المساء لأني أغضبتكِ.

شدت خده بمرح : هذا لأنك ألطف رجل عرفته في حياتي ، أحبك أيها القط اللطيف.

عانقته وهو يشاكسها مدعٍ الاستياء ، وضحكاتهما قد ترددت أصدائها في مسامعها وهي تتنهد بتحسر ، لم يعد أي شيء كما كان ، تلك السعادة انطفئت كشموع حبهما القديم .

عادت تلبس القلادة ثم نهضت تقف أمام النافذة تتأمل الخارج بغصة وألم ، فتح الباب يطل منه والدها بخيلائه المعهود ، نطقت دون أن تلتفت : ماذا هناك أبي ؟

جلس على الأريكة وأشار لها بالجلوس بجانبه : لدي أخبار قد تسركِ وتخرجك من حالة العزلة هذه.

ضيقت عينيها متسائلة فعاد يحثها لتجلس بجواره ، ففعلت دونما رغبة وقد عقدت ذراعيها لصدرها : إذاً؟ مالخطب سيد ليو .

استدار نحوها يسألها بدهاء : تشتاقين لعزيزك كثيراً أليس كذلك ؟

نظرت إليه بطرف عينها دون أن تجيب ، فأكمل بمكر : ماذا لو أذنت لكِ بلقائه؟

بفطنة ردت : مالمقابل ؟ ليس لأجلي أو لأجله حتماً .

بابتسامة جانبية أجابها : الأمر بسيط للغاية ،يصب في صالح كلينا ، ستكونين معه من جديد ، وستحاولي كسب ثقته ، بالطبع ليس عن طريق خيانتي ، سأعطيكِ معلوماتٍ مذهلة سيحبها وستقدرين على كسب ثقته بها سريعاً.

_ وبالمقابل علي أن أعرف أين يختبأ والده ،ألست محقة ؟

_ أنت ذكية بالفعل كوالدك .

_ هه .. ماذا لو لم يكن يعرف مكانه ؟ كما ترى لقد كان سجيناً هنا وقد هرب آرون بمفرده .

_ صدقيني .. إن كنت أعرف محبوبكِ ولو بقدر ضئيل فإني واثق بأنه لن يترك والده مطلقاً ، وأن كليهما خططا جيداً لكل ماجرى .

أومأت بالنفي بثقة : آرون الذي نعرفه لن يختبأ أبداً في أحضان ابنه ، بل سيفضل المواجهة ومحاربتنا دون خوف ، وإن اختبأ فحتماً لأنه يخطط لأمر كبير حتماً ، صدقني هو أذكى من أن يفكر بسذاجة .

_ يبدو أنكِ لست معجبة بالإبن وحسب ، بل حتى بوالده .

باستخفاف أجابته : بل إني لاأطيقه حقاً ، منذ طفولتي وأنا أمقته ، لكن الحق يقال .

نهض وهو يرتب بدلته الفاخرة : يبدو أنكِ ترفضين عرضي إذاً ، مؤسف .

بكبرياء أجابته وقد هم بالخروج : حسناً ، سأفعل .. لكن إن لم يكن يعرف مكانه ولم يلتق به فقد وقع الذنب عني .

_ لكِ ذلك .

خرج بابتسامة شيطانية وقد حقق مأربه ، بينما اجتاحها قلق من تكرار الماضي والخيانة من جديد ،هي واثقة أنه وبعد كل شيء لن يعود لمسامحتها ومحبتها مطلقاً ، لكنها ببساطة لايمكنها الاستسلام بسهولة ، وهي تدرك أن قلبه بات ينقاد نحو طريق آخر .

......................

تجمعت النسوة للعمل وتجهيز السلطة وتتبيل اللحوم وتجهيزها للشواء ، وأحاديثهن الجميلة السعيدة قد رسمت أجمل لوحة ، بينهن كانت تيريزا تعيش ذلك الشعور الدافيء لأول مرة .

وقف أمام الباب ديريك يناديها فأسرعت نحوه بسعادة تحمل الطبق الأول : تفضل ، والخبز سيكون جاهزاً بعد وقتٍ قصير .

أخذه منها بابتسامة لطيفة : شكراً عزيزتي ، أي واحدٍ منها أنجزته بنفسك .

أشارت لبعض الأسياخ مبتسمة : هذه الثلاثة أنا قمت بوضعها ، لست جيدة تماماً بالأمر لكني أحاول .

_ إنها جيدة بالنسبة للمرة الأولى ، لن أسمح لأحد بأخذها هي لي .

احمر خديها خجلاً وهي تنظره بدهشة ، بينما أخذ الطبق وابتعد ممازحاً : كي لايصاب أحدهم بألمٍ في بطنه ، سأكون الضحية لابأس .

تمتمت بخجل وضيق: يالك من سيء .

رائحة الشواء ملأت أرجاء القرية الصغيرة وقد اجتمع سكانها في الساحة ، ليلقوا بأحزانهم وآلامهم بعيداً ، وينعموا بدفء ذلك المساء الجميل .

وقف عسلي الشعر بجوار رفيقه بابتسامة هادئة : اذهب وتناول شيئاً من الطعام ، سأهتم بالشواء أثناء ذلك .

_ شكراً لك ياصديقي ، إني جائع حقاً ورائحة الشواء تزيد عذابي .

أسرع ينضم لهم وعيون رفيقه تشيعه وقد أبحرت للبعيد ، أخذ يقلب اللحم وضحكاتهم تتسلل لمسامعه فتزيد شعوره بالنقص ، رغم أنه يشعر بالسعادة معهم ، لكن شيئاً ما كان يجعل فؤاده منقبضاً موجعاً ، شعور غريب يتسلل لأعماقه لم يكن هو ذاته يفهمه .

جال بناظريه نحوهم حتى وقعت عيناه على الشابة الحسناء وهي تطعم صغيرها ببسمة عذبة ساحرة ، وبين الحين والآخر كانت تضحك برقة كلما تحدث ديريك بمزحاته المعتادة ، بينما اقترب رجلٌ ضخم البنية بشعر رمادي أشعث والتقط قطعة لحم كبيرة وهو يهتف بها : إيرينا أين هي صلصتي الحارة الخاصة ؟

_ هنا بالطبع.. من قد ينساها ، تفضل .

أخذها شاكراً بينما نطق ديريك بثقة : حتماً أنت العم فرانكلين إذاً .

أجابه بفخر رغم دهشته : رأيتم كم أنا مشهور بفطنتي وذكائي ، في خارج القرية وداخلها إني الأفضل .

ضحكوا جميعاً فابتسم سيكيم تلقائياً محاولاً طرد أفكاره ومشاعره المعتمة بعيداً .


..............

ألقت حقيبتها بغضب على السرير وأسرعت تستبدل ملابسها لبيجامة فضفاضة مريحة ، استلقت على الفراش وتدثرت كأنما لم تعد راغبة برؤيته ، وبكل بساطة دخل الغرفة وهو يقول : طلبت من الطاهي أن يطبخ لنا شيئاً فاخراً للعشاء ، ولا أعرف حقاً مالذي سيختاره ، تعلمين لم أتذوق طعام الأثرياء من قبل ، لذا حين سألني لم أعرف ماعلي قوله فتركت الخيار له .

ظلت صامتة فاقترب منها متفحصاً : ماخطبكِ ياذات المزاج السيء ؟

غطت وجهها بضجر دون أن تجيب ، لم يكترث واستلقى على الفراش دون خلع حذائه وبدأ يعبث في هاتفه الذي علا صوته .

أبعدت الغطاء واعتدلت جالسة بغضب جلي : ماذا بعد ؟ لم قمت بمرافقتي للطبيب إذاً ؟ لم سألته عمايؤذيني وما أحتاجه إن كنت لاتهتم ؟! إنك منعدم المشاعر حقاً ولاقلب تملكه ، كيف كنت غبية ولم أدرك حقيقتك بل ووقعت بحبك كالبلهاء أنا حقاً بلهاء .

كان يتأملها باستمتاع كما لو أنه نال مأربه : أنتِ مسلية .

تنهدت بيأس ونهضت تحمل وسادتها : منذ الليلة لن تراني أغفو بجانبك مطلقاً ، سأختار غرفة أخرى بعيداً عنك أيها الشيطان .

خرجت وهو يضحك من خلفها ساخراً : لنرى كيف ستستطيعين النوم وحيدة دون أحضاني الدافئة زوجتي الحبيبة .

أسند رأسه لذراعه بلا اهتمام بابتسامة نصر ، بينما أغلقت على نفسها باب الغرفة المجاورة بغضب لاحدود له .





 
 توقيع : آدِيت~Edith

مواضيع : آدِيت~Edith


التعديل الأخير تم بواسطة آدِيت~Edith ; 01-07-2023 الساعة 05:30 PM

رد مع اقتباس
قديم 01-06-2023, 10:02 AM   #92
آدِيت~Edith
https://www.anime-tooon.com/up/uploads/at165286508456371.png


الصورة الرمزية آدِيت~Edith
آدِيت~Edith غير متواجد حالياً








بعد العشاء اجتمع الرجال في المخبأ السري الذي أنشأه أهل القرية لاجتماعاتهم الخاصة ، طرق الباب فنهض سيكيم _وقد جلس تواً _ ليفتحه ، كانت تقف خلف الباب بعينيها الغائمتين اللتان لطالما أسرتا قلبه واقتحمتاه دون إذن ، أعطته صينية حوت كؤوس الشاي وفناجين قهوة ، أخذها وهو يرقبها باضطراب جلي ، وماإن همت بالمغادرة حتى ناداها بتردد ، التفتت له بتساؤل ولم يكن يملك مايمكن قوله حقاً ، سأل دونما هدف : أين نواه ؟

_ لقد استسلم للنوم منذ نصف ساعة تقريباً ، أهناك ماتريده ؟

سألت بحيرة ولم يعد يعرف مايجيب ، وسريعاً نطق بأول فكرة اقتحمت عقله : المعذرة .. أردت سؤالك .. إن كنتِ تملكين بعض الوقت غداً .

مرتابة أجابت بتحفظ : لم تسأل؟ أهناك خطب ما ؟

_ لا .. لا .. أعني .. حسناً إنها تيريزا ، تريد التسوق لشراء ماينقصها و.. فكرت لو أننا نخرج معاً ، أعني أن يرافقنا نواه.. إن سمحتِ طبعاً ، و.. لكي لاتقلقي بشأنه .. ماذا لو رافقتنا ؟!

أحس أن جبينه قد تعرق وقد احمر وجهه والحرارة سرت في عروقه أجمع ، بالكاد استطاع النطق بتلك الكلمات وهو يأمل أن توافق دون أن تلحظ مايواجه في أعماقه .

سكتت تفكر وهي تنظره دونما ارتياح وأخيراً نطقت : سأفكر بالأمر ، لاأعدك بذلك .. على كل سأتحدث مع تيريزا بهذا الشأن ، ليلة سعيدة .

ابتلع ريقه بارتباك وقلق ، وسرعان ماوضع الصينية أمامهم على الطاولة وأخرج هاتفه يرسل لشقيقته ماعليها قوله .

_ ماخطبك سي؟ تبدو شاحباً !

التفت لوالده بتوترٍ واضح : أنا ؟! لا .. لاشيء ، الجو يبدو دافئاً للغاية .

خلع معطفه وعلقه والأب ينظره مستنكراً :كلا ، ليس كذلك ، بل هو شديد البرودة .

عاد يجلس بمقعده وهو يتأمل الهاتف منتظراً رد شقيقته دون فائدة ، بينما بدأ الرجال بالتكلم حول أمور القرية والخطط الجديدة .

_ إذاً .. أنت تأمرنا أن نترك القرية لهم سيدي ؟!

أجاب رونالد برصانة : لفترة قصيرة فقط ، إننا مجبرون على ذلك وأعلم كم هو صعب بالنسبة لكم ، لكن الأكثر صعوبة أن نعيش مع هؤلاء في مكان واحد ، وأن يستمروا بإيذائنا دون أن نقدر على حماية من نحب .

_ ماذا عن أصدقائنا وأحبتنا الذين احتجزوا في سجونهم .

_ لن يطول بقائهم هناك حتماً ، سننقذهم قبل رحيلنا ، حدثنا عن خطتك لهذا بني .

كان لايزال شارد الذهن وهو ينظر هاتفه بترقب حين سأله رونالد عن ذلك فوكزه ديريك بمرفقه فالتفت متسائلاً ، همس له بسرعة : يسألونك عن السجناء ماخطتك ياذكي ؟!

_ آه .. المعذرة ، كنت .. لابأس ، أعني ...

لحظ آرون توتر ابنه فبادر بالكلام نيابة عنه : أنا أعرف الطريق إلى هناك كوني هربت من مقرهم ، بينما هو لايعلم الطريق حتماً ، بناءاً على المسافة التي يجب قطعها من مقرهم وحتى المكان المقرر اجتماعكم به ، على أساس ذلك بإمكاننا وضع خطة مناسبة .

استعاد الشاب بعضاً من هدوئه فأكمل وقد اعاد هاتفه لجيبه : فكرت أولاً في نقل النساء والأطفال بسرية بعد منتصف الليل ، أعلم هي فكرة جنونية ، ولكن هذا أكثر أماناً لهم ، حين يلحظ أولئك الحركة الغريبة في القرية إضافة لاقتحام مقرهم وإطلاق سراح المساجين ، هذا سيثير جنونهم وستكون هناك معركة حتماً .. لايجب أن نخاطر بالأطفال والنساء بهذه الحالة .

أومأ رونالد مؤيداً ، فأكمل ديريك نيابة عن رفيقه : يجب أن تبدأوا حزم أشيائكم بحذر شديد ، خلال أسبوع واحد يجب أن نخطو الخطوة الأولى، وسأتولى مهمة تزويدكم بالأسلحة وتدريبكم على استخدامها هذه الفترة ، بالطبع بمساعدة من هو أكثرنا خبرة السيد آرون ، وسيكيم لن يقصر بذلك أيضاً ، سنحتاج للكثير من الرجال والعتاد .

_ حسناً بالنسبة لي أرى هذا منطقياً للغاية ، وأرجو أن تكون هذه الفترة القصيرة كافية لكل هذا ، شكراً لكم من أجل كل شيء ، ولوقوفكم معنا ، أرجو أن يمضي الأمر بسلام .

وقف يخاطب الجميع وقد اتكأ على عكازه : أيها الرجال ، لنبذل قصارى جهدنا للدفاع عن أحبتنا ، حتى لو اضطر الأمر بنا للرحيل عن أرضنا الحبيبة ، سنقدم لأجلها كل مانستطيع لنعيش ماتبقى من عمرنا بسلام ، عودوا لمنازلكم واخلدوا للراحة فأمامكم عمل كثير غداً ، شكراً لحضوركم وأدعو الله أن تكونوا بخير دائماً.

......................................

طرق باب غرفتها ولازال يتلذذ بإزعاجها ومضايقتها : يافتاة .. هي أنتِ ، أيتها المتجهمة .. إنه وقت العشاء .

كانت تجلس على الفراش ببؤسٍ دون أن تجيبه ، لكم كانت ترسم آمالاً كبيرة ، وتصرفاته الأخيرة أوهمتها أن شيئاً بداخل تلك الصخرة الساكنة بجوفه قد تحرك أخيراً ، لكنها أدركت من جديد أنه لازال يتلاعب بها ، وكل مايسعى له الإنتقام منها في كل فرصة .

سكت أخيراً ففهمت أنه قد استسلم وغادر ، لذلك فتحت الباب بهدوء وحذر ، وماإن خرجت حتى ظهر أمامها بغتة. مما جعلها تنتفض ذعراً .

_ أخيراً ها أنتِ خرجتِ أيتها المشاكسة .

_ اللعنة هل تريد قتلي ؟ ماذا لو أسقطت جنيني .

_ كنت حينها سأعاقبكِ بشدة ، ثقي بذلك .

أجابها ببرود مستفز فدفعته بقوة : بجد بت أكرهك ، لاتقدني للجنون إيفان !

بثقة همس في أذنها : لا أظن ذلك ، لايمكنكِ كراهيتي ، أنتِ متيمة ومجنونة بإيفان اللئيم ياعزيزتي .

أدارت وجهها له ودقات قلبها اللعينة باتت تتسارع حالما التقت عيونها بعينيه الحادتين بمهابة وثقة ، أشاحت وجهها عنه بصمتٍ فأمسك كفها يسير معها نحو غرفة الطعام ، أجلسها على الكرسي وقد احمر خديها فقد كانت ترتدي بيجامة النوم البسيطة وشعرها مسدل دونما ترتيب .

_ تناولي عشائكِ وأطعمي صغيري كي لايصاب بمكروه .

تنهدت بصبر وظلت بصمتها تتناول طعامها وهو يتأملها بنظرة غامضة ، صوت هاتفه أجبره على الالتفات ينظر اسم المتصل مستنكراً : شقيقكِ الحبيب يتصل في هذا الوقت ! ياللبقاته .

أجاب وقد زفرت الشابة بضجر : مرحباً قريبي العزيز ، لاتعلم مدى شوقي لك .

رد الآخر بابتسامة ساخرة : وأنا اشتقت لكم كثيراً عزيزي إيفان ، أعتذر لازعاجكما ، أردت الاطمئنان عليكما وحسب .

_ لاتهتم .. إننا نتناول العشاء لتونا ، لاتقلق ليس في قوانينا إغلاق الهاتف وقت العشاء .

_ هنيئاً مريئاً لكما ، أردت اخبارك أني قد عدت ، وفي طريقي أحببت زيارة عائلتك إن لم تمانع بذلك .

صمت وقد تلاشت ابتسامته الساخرة وبدت ملامحه جادة ناقمة ، وكفه انقبضت بقوة مما جعل الفتاة تتأمله بقلق حائرة .

_ إيفان .. هل تسمعني؟

_ أجل أسمعك.. لم لم تخبرني قبل ذهابك ، كنا ذهبنا سوياً .

_ كان منزلهم في طريقي ، أحببت أن لا أضيع فرصة زيارتهم وشكرهم لاهتمامهم بشقيقتي ، لاحقاً سنقوم بزيارتهم معاً دائماً ، أحب أن تكون علاقتي بهم قوية .

باستياء وغضب واضحٍ أجاب : جيد .. أراك قريباً .

أغلق هاتفه ونهض وسط دهشتها ليرتدي معطفه ويخرج دون أن ينبس ببنت شفة ، بينما اتسعت ابتسامة الآخر بشيطنة وخبث ، وهو ينظر المنزل الخشبي أمامه وضالته هناك تجمع الملابس من حبل الغسيل وتضعها في السلة القريبة .

سار نحوها بخطواتٍ هادئة يتبعه خادمان حمل كل واحد منهما أكياساً كثيرة ، التفتت إليهم بريبة وتعجب ، وقبل أن تنطق بادرها بالتحية بدماثة : مساء الخير آنسة فيكتوريا ، كيف حالكِ ؟

حائرة نطقت ونظراته كانت تثير شعوراً غريباً ومخيفاً بقلبها : ماذا تفعل هنا ؟ في هذا الوقت ؟

_ أعتذر لزيارتي المفاجئة ، كنت أنوي القدوم باكراً لكن الازدحام قد تسبب بتأخيري ، ولم أستطع المضي دون إلقاء التحية .

أعادت شعرها خلف أذنها وقد هبت رياح المساء القوية تبعثره وتحرك الأغطية بشدة ، أسرعت تمسك الغطاء قبل أن تختطفه الرياح وإذ بكف رمادي الشعر تمسكه مما جعله يقترب تلقائياً منها حتى أصبح قبالتها ، سحبت كفها بسرعة مبتعدة ، بينما وضع الغطاء في السلة وهو يتأملها بابتسامة غامضة .

خلع معطفه الفاخر وشمر عن ذراعيه ليحمل السلة بعد أن أخذ خادمه معطفه وحمله بالنيابة عنه .

_ مالذي تفعله ؟ سأفعل ذلك بنفسي لاتهتم .

_ دعيني أساعدك قليلاً رجاءاً ، فالحياة في الريف تعجبني.

صمتت تتأمله دون أن تستطيع فهم مايدور بخلده ، بينما أخذ السلة نحو المنزل فتبعته ومن خلفهما الخادمين يسيران بتمهل .

فتحت الباب له فدخل ووضع السلة الثقيلة حيث أشارت ، والعيون كلها صوبت نحوهم بدهشة ، نهضت سيدة المنزل بارتباك تنفض ملابسها ويديها عن الطحين العالق بهم : دعها عنك بني ، ماذا تفعل ؟

نظرت لابنتها متسائلة فأشارت لها بأن لاتعلم بينما رتب هندامه وتقدم للسيدة يحييها بلباقة : مساء الخير سيدتي العزيزة ، أعتذر لقدومي المفاجيء.

_ كلا لاتقل هذا ، مرحب بك في أي وقت تفضل .

أشارت لابنتها أن ترتب المكان فاستجابت بسرعة بينما نهض أشقائها ليلقوا التحية باحترام ، بادلهم التحية بابتسامة مودة ، ومالبث أن جلس معهم يتبادلون أطراف الحديث وقد قدموا له القهوة وبعض الكعك .

_ في الواقع .. كنت دائماً أتمنى حضور زفاف أختي ، ولم أحظى بهذه الفرصة مع كلتيهما ، لذلك أردت التعويض بالقليل ، ولهذا أحضرت هذه الهدايا البسيطة من أجلكم ، وأرجو أن تقبلوها كما تقتضي العادات لدينا سيدتي العزيزة .

أشار للخادمين أن يقتربا ففعلا وأخرجا من الأكياس علباً كثيرة بعددهم ، همست ليديا للوسيان ببهجة : هدايا لنا انظر لكل هذا .

وكزها بمرفقه مؤنباً: لاتتصرفي ببلاهة ، كوني راقية .

_ تقول ذلك وأنت تتمنى أن تمزق علبتك بأسرع مايمكن لتعرف ماتكون هديتك .

_ يالسخفك إنها أمنيتك أنتِ .

نطقت السيدة بحيرة وحياء : لايمكنني قبولها هذا كثير حقاً .

برجاء نطق وقد وضع يده على كفها : أتوسل إليكِ اقبليها ، إني أريد حقاً أن نعيش سوياً عائلة واحدة دون حواجز ، هل تحققين لي رغبتي هذه رجاءاً.

استسلمت للصمت بعجز، والشابة تنظر إليها مؤنبة تحثها على الرفض دون أن يكون بمقدورها فعل شيء ، أشار للبقية وقد بدا الفضول جلياً على وجوههم : لم لم يفتح أحدكم هديته ، أرجوكم خذوها ولاتخجلوني ، وأرجو من كل قلبي أن تعجبكم.

التفتوا جمعاً لوالدتهم ينتظرون الاذن فما كان منها إلا أن أومأت موافقة بقلة حيلة ، أسرعوا بأخذها بسعادة وكل يفتح خاصته ويتأملها بإعجاب .

_ انظر لوسيان إنه فستان جميل للغاية .

_ لا أصدق إنها هارمونيكا حقيقية انظري .

انضمت مارجريت لهما وهي تريهما معطفها الأحمر الفاخر : إنظرا لهذا كم هو دافيء وأنيق .

نيكولاي تأمل عدة الرسم الثمينة بإعجاب ودهشة وقد همس لشقيقه : روسيل .. كيف علم هذا أني أعشق الرسم؟

_ لاأعلم .. بل كيف علم أني كنت أحلم بشراء هذه المجموعة من الكتب .

_ يبدو كما لو أنه يعرف كل شيء عنا.

تأملا الرجل بحيرة وشيء من الخوف تسلل لقلبيهما ، كونهما أكبر من البقية كانا قد أدركا أن خلف تلك الهديا أمراً مريباً.

التفت رمادي الشعر للحسناء فيروزة العينين وكانت تتأمل أشقائها بشرود وقلبها يعتصر ألماً، بنبرة هادئة خاطبها وهو يضع هديتها أمامها : لم لاتفتحيها ،إني مهتم حقاً برأيك .

أخذتها بتردد وبلا اهتمام بدأت تمزق الغلاف الورقي الفضي ، فتحت العلبة فتلألئت عيونها ذاهلة وهي تتذكر عدد المرات التي زارت المتجر فيها تتأمل البلورة الثلجية التي احتضنت حضاناً أبيض كفرسها التي تعشق، وتستمع لموسيقاها العذبة .

كانت عيونه تفترسها وقد انعكس الضوء الملون على عيونها ليمنحها بريقاً ساحراً مميز ، اقترب أكثر منها ووضع بطاقة أمامها وهو يهمس : في الواقع .. أردت كذلك دعوتكِ لسباق الفروسية المقبل ، فكرت أنك قد تحبين هذا الأمر .

أمسكت البطاقة بدهشة عقدت لسانها ، بينما فتح هاتفه يعرض لها صور خيلٍ أسود فاحم بعلامة مميزة على جبينه ، وضع ذراعه خلف مسند كرسيها وقد قرب رأسه من رأسها وهو يعرض الصور أمامها: هذا هو حصاني الذي سيشارك في السباق ، إنه من أصول عربية قوية ، وغالباً هو من يفوز ، لديه الكثير من الإنجازات الكبيرة .

_ مذهل حقاً .. هل تستطيع كلوديا أيضاً المشاركة في السباق ؟

فكر قليلاً قبل أن يجيب : بإمكاني التوسط لها ، ولكن .. هل جربتِ المضمار من قبل ؟

أومأت بالنفي بضيق: كلا .. لكني أجوب الوديان والسهول والتلال في هذا الريف الواسع .

_ هذا لايكفي ، يجب أن تكون الفرس خبيرة بالأماكن المغلقة كما هي في الأماكن الواسعة ، بإمكاني المساعدة إن أحببتِ .

التفتت له بحماس وسرعان مااستدركت قربه الشديد منها فابتعدت مستاءة وقد لاح الاضطراب على محياها ، وببرود نطقت كمن استفاق تواً من رقدته : شكراً .. لا رغبة لي بذلك ، ولا أخالني سأرافقك لمشاهدة السباق .

_ ومع ذلك أبقِ هذه رجاءاً معكِ ، في حال غيرتِ رأيكِ .

ابتسم بثقة وهو يضع البطاقة في يدها وهي تتأمله بحيرة وقلق ، لسبب ما هي تريد أن تكسر قيودها وتنطلق بحرية لتحقق أحلامها ، ولكن .. هل هو الرجل الذي يمكنها الثقة به ؟

استدار يلتفت للسيدة بابتسامته الغامضة : سيدتي العزيزة ... اسمحي لي بتقديم هديتكِ لكِ بنفسي .

أخذ علبة متوسطة من الخادم ووضعها بين يديه ، بينما بدأت تشعر بعدم الارتياح دون أن تدرك سبباً لذلك ، توجهت أنظارهم جمعاً لها وهو يفتح العلبة ويضعها أمامها مما جعل عيونها تتسع بذهول ، كان في العلبة أربعة أساور ذهبية تحمل ذكرى قديمة وخاصة لها ، وسريعاً تذكرت يوم زفافها وكيف ألبسها إياها زوجها بابتسامته الحانية المحبة ، تذكرت بكائها المرير حين اضطرت لبيعها منذ مايقارب الأسبوع لما تمر به وعائلتها الكبيرة من ضيق دون أن يعلم أبنائها بأي شيء مما تصارعه وحيدة .

تمتمت حائرة ويديها ترتعشان بشدة : كيف استطعت إعادتها ؟ كيف علمت ..

ألبسهم إياها وهو يجيب مبتسماً : لاتخلعيها مجدداً مهما كان السبب ،لتعتبري أني ابنكِ رجاءاً ، لستِ بحاجة للتخلص من ذكرياتك بعد الآن .

دمعت عيونها بغصة فحتى ابنها لم يكن يدرك ماتعيشه من ألم وصعوبة ، والجميع كان يستمد قوته منها بينما لاأحد كان يمنحها القوة حين تضعف ، لذا كان على تلك المرأة _منذ أيام شبابها ورحيل زوجها الذي خلف ورائه سبعة أطفال صغار _ أن تقوم بكل شيء بنفسها دون أن تجد من يمسك بيدها أو يسند ظهرها .

لذا كان لكلماته وفعلته تلك وقعاً خاصاً مؤثراً ، ابتسمت له شاكرة لاتجد للجواب مخرجاً ، بينما في أعماقه كان يحفل بنصره العظيم وقد تمكن من التسلل لقلوبهم البسيطة أسرع مما كان يعتقد .

...................................

كانت الفتاة تحتضن الصغير بين ذراعيها وهي تغني له تهويدة النوم الهادئة بصوتٍ جميل ، ابتسمت الشابة وهي تتأملها وقد أغلقت الباب بهدوء وحذر كي لاتوقظه ،وبعد وقت قصير مددته على فراشه ودثرته بحرص .

_ أتعبتكِ معي ، شكراً لكِ عزيزتي تيريزا .

_ على العكس ، إني أستمتع حقاً ببقائي مع نوا وجوزيف ، إنهما طفلين رائعين بحق ، تعلقت بهما بشدة ولا أعرف كيف سأقدر على تركهما حين أعود لمنزلي .

_ سنشتاقكِ كثيراً نحن كذلك ، لا أريد حرمانكِ من منزلكِ وعائلتك ، ولكن إن كان ممكناً لأردت بقائك هنا معنا ، لقد أصبحتِ واحدة منا ، لذا لاتتردي في القدوم وقتما أحببتِ.

عانقتها بحرارة ممتنة وسرعان مانطقت بحماس : طالما والدي سيبقى هنا فسأقترح على سيكيم البقاء أيضاً ، وهكذا سأظل لفترة أطول ، أرجو أن يوافق على هذا .

_ فكرة عظيمة ، سأسر حقاً ببقائكِ ، على ذكر شقيقك ، أخبرني بشأن الغد ، سأحاول إيجاد طريقة لمرافقتكم فقد كنت أخطط للذهاب للمشفى ، لم أذهب منذ فترة طويلة وعلي التعويض ، لذا رجاءاً اعذريني إن لم أقدر على مرافقتك عزيزتي .

بحيرة سألتها دون أن تفهم ماتتحدث عنه : ومابه يوم الغد؟
ضيقت عينيها وقد بدأت تشعر بالريبة : بشأن ذهابكِ للتسوق ، أخبرني أنكِ أردتِ أن نقوم بالتسوق سوياً .

فكرت قليلاً ومعالم الصدمة والتساؤل ارتسمت بوجهها ، وبعد التفكير لبرهة استدركت ماأوقعها الشاب فيه فنطقت بتلعثم : آه نعم تذكرت ذلك ، كنت قد أخبرته بهذا حقاً ، بعد هذا العشاء الدسم أصبح عقلي مشوشاً .

همهمت بشك ورغم ذلك آثرت تصديقها بينما نطقت الفتاة بمرح : ليلة سعيدة إذاً .

خرجت مسرعة وإيرينا تنظرها بحيرة ، ومالبثت أن دخلت الغرفة تغلق الباب خلفها بسرعة " سيكيم أيها الأحمق أنت كارثة بحق" .

فتحت هاتفها لتحادثه وعلى الفور وصلتها رسائله السابقة فابتسمت وهي تتخيل مامر به بعد تأخرها بالرد ، ودون أن تضيع الفرصة أرسلت له ممازحة : المعذرة ، لم أستطع رؤية الرسائل قبل الآن ، أظنني أخطأت الحديث ، لذلك كانت تتصرف بغرابة ، لابد أنها غاضبة منك للغاية .

بسرعة أرسل مذعوراً: ماذا قالت وبم أجبتها ، ألا أستطيع الاعتماد عليكِ بأي شيء !

ابتسمت ضاحكة وقد تمكنت من إرعابه فكتبت سريعاً : حسناً كانت مجرد مزحة ، أخشى أن تصاب بنوبة قلبية ، لحسن الحظ أن لك أختاً ذكية ، فهمت ذلك وإن كان متأخراً بعض الشيء ولكني تداركت الأمر لاتقلق .

أفرغ كل مااجتاحه من توتر وضيق بتنهيدة طويلة ، مما جعل والده يلتفت نحوه متسائلاً ، بينما عاد يكتب بابتسامة هادئة : لم يكن ذلك ظريفاً البتة ، ورغم هذا أشكركِ أختي الذكية الرائعة .

أجابته وقد اتسعت ابتسامتها : على الرحب ، لكنك مدين لي بشرح مفصل لما يجري .

لم يجب واكتفى بجملة " تصبحين على خير " كتعبير عن رفضه .

أغلقت هاتفها بابتسامة ضاحكة واستلقت على فراشها تستعد للنوم ، بينما نطق آرون بفضول : من هذا الذي تحدثه؟

أجابه وهو يعيد هاتفه لجيبه : إنها تيريزا .

_ موضوع خاص بينكما؟

بدهاء أجابه وهو ينهض : شيء من هذا القبيل ، تصبح على خير أبي ، ليلة سعيدة .

تنهد بعمق وأجاب وهو يتأمل بضيق الغرفة الصغيرة : أخرج من سجن إلى سجن ، ياله من أمر .

ربت على كتفه مواسياً : لابأس تحمل لفترة قصيرة فقط ، أعدك بأنني سأجد حلاً يرضيك ، ثم إنك أنت من رفض استخدام الدليل الوحيد الذي نملك .

استلقى على الفراش وقد عقد ذراعيه خلف رأسه : ماذا لو فعلت ؟ هل سيتركني هؤلاء ببساطة برأيك ؟

مستسلماً أجابه : أنت محق ، لايمكنني قول شيء آخر ، ليلة سعيدة أبي .

_ ليلة سعيدة .

خرج إلى حيث الساحة التي غدت هادئة بعد أن عاد الجميع إلى منازلهم ، وحتى ديريك تركه ليمضي ليلته تلك في منزل فرانكلين الذي أصبح رفيقه الجديد ، دخل للمشفى القروي الصغير حيث اختار المبيت ، وما إن أغلق الباب حتى لاح له بصيص ضياء في آخر الغرفة .

سار متردداً حتى وقف قبالة الجدار الذي من خلفه اختبأ ذات مرة ، حركه ليفتحه ودخل إلى حيث أصبح قريباً من مصدر النور وقد أضيئت بعض المصابيح في زوايا الغرفة الصغيرة ، هناك حيث السلالم تقود للمخبأ السري الخاص بصديقه الراحل .

خطوة تلو أخرى ، نحو الأسفل قادته خطاه ودقات قلبه باتت متلاحقة ، حتى توقف أخيراً يتبع الظل الذي انتهى بكيانها جالسة على الكرسي الخشبي أمام الطاولة تقرأ وعلى وجهها لاحت بسمة حزينة ذابلة .

ظل يتأملها بصمتٍ مأخوذاً بسحر تلكما العينين الدافئتين ، وقد انعكس نور شمعة أشعلتها أمامها ، وحالما أحست بوجود كيانٍ غريب حتى التفتت فزعة مرعوبة .

_ هذا أنت ؟! ماذا تفعل هنا ؟

برر بارتباك وهو يحاول أن يبدو هادئاً : كنت أوشك على النوم حين لمحت الضوء الصادر من الغرفة ، أعتذر لاخافتكِ.

أعادت الرسائل للصندوق الخشبي ثم وضعتها على الرف القريب ، التفتت له بعدها معتذرة بلباقة : خلتك ستبقى برفقة والدك ، أعتذر حقاً لازعاجك ، اعتدت القدوم هنا عندما يخلد الصغيران للنوم .

_ أنا من عليه الاعتذار ، لاتكترثي لوجودي رجاءاً ، سأعود للغرفة وأخلد للنوم لذا..

_ كلا .. سأعود للمنزل ، طابت ليلتك .

همت بالخروج فسألها حالما أصبحت قريبة منه : هل أستطيع البقاء هنا قليلاً ؟ أعلم أن هذا ليس من حقي .. لكن ..

_ كلا لايمكنك ذلك .

أجابته بحزم وأشارت له بالخروج ففعل دونما اعتراض رغم رغبته العارمة في استكشاف تلك الغرفة السرية وماتحتويه ، ومالبثت أن أغلقت الباب خلفها وأقفلته ، أعادت القلادة لعنقها وخرجت دون أن تنبس ببنت شفة .

توجه للفراش وهو يفكر وقد جافاه النوم ، والمساء الطويل قد ابتدأت ساعاته تواً...


.........................

خرج يودعهم بعد أن أمضى معهم وقتاً مسلياً والجميع قد بدأ يحاول الاعتياد عدا فيكتوريا التي ظلت تحاول رسم حدود بينها وبينه رغم كل محاولاته لكسر تلك الحواجز .

نطقت السيدة وهي تعطيه كيساً ورقياً متوسط الحجم : إنها لاشيء ولكني أتمنى أن تقبلها ، خبزتها بنفسي تذوقها رجاءاً .

_ تمنيت دائماً أن أتناول فطائر مخبوزة في المنزل ، أمي لم تُجد خبزها يوماً فهي سيدة مدللة للأسف ، شكراً جزيلاً لكِ سيدتي العزيزة ، أود كثيراً أن تلتقي بأمي وهي كذلك تبلغكم تحياتها الحارة .

_ سيكون هذا من دواعي سروري ، إنه منزلك وفي أي وقت مرحب بكما ، بلغ تحياتي لساشا ، وأخبرهما أن يجيئا لزيارتي فقد اشتقت لهما .

ربت على كفها مطمئنناً : لاتقلقي لقد أوصيتهم بذلك حقاً قبل أن تطلبي ذلك مني ، سنقوم نحن الثلاثة بزيارتك بأقرب بفرصة .

لوح لها مودعاً وهو يبتعد مع خادميه فتنهدت الفتاة بثقل : لنعد للداخل أمي .. كي لاتصابي بالبرد .

دخلت وإياها وقد أسرعت الفتاتان للغرفة لتجربة ثيابهما الجديدة ، بينما بدأ لوسيان بالعزف على الهارمونيكا مما أثار استياء روسيل : ليس الآن أيها المزعج ماذا لو سمعك الرجل ، لم يبتعد بعد .

تجاهله فالتفت لشقيقته متسائلاً : أليس مافعله مبالغ به ؟

أيده نيكولاي بضيق : إن علم إيفان بذلك فستكون كارثة .

_ لاحاجة لأن تخبراه بكل شيء ، وكأنه يهتم بنا ، انظر لهذا رجلٌ غريب استطاع أن يداوي جرح والدتك ويطفيء ألمها بين ابنها لايهتم سوى بنفسه ولايجلب معه سوى الشقاء .

أنبتها والدتها بلطف : عزيزتي لايجوز قول هذا عن أخيكِ ، له عذره فما يمر به ليس هيناً.

تنهدت الفتاة بنفاذ صبرٍ وأخذت تجمع أغلفة الهدايا الممزقة هنا وهناك ، وفجأة فتح الباب يطل من خلفه إيفان بوجه غاضب وهو يدير ناظريه في المنزل كمن يبحث عن أحدهم.

_ ذكرت الشيطان فجاء على عجل .

نطقت بذلك فيكتوريا بسخرية فصرخ بها دون تروٍّ : أين ذهب ذلك الوضيع ؟

نطق نيكولاي بتردد : أتقصد السيد آندريه ؟ غادر منذ وقت قصير .

هم بالمغادرة فأمسكت الأم ذراعه بسرعة : ماذا ستفعل بني ؟ ثم لم أنت غاضب هكذا ؟ وكيف علمت بمجيئه .

_ اتركيني لأحاسبه أمي ، يالجرأته ووقاحته لقد أخبرني بذلك ببساطة حتى ، هه لبق جداً حسب ظنه ، لن أتركه دون حساب .

_ توقف عن هذا ، الرجل لم يرتكب أي خطأ ، لقد كان محترماً ومهذباً أكثر منك حتى .

نطقت بذلك بغضب مما جعل الجميع ينظر لها بدهشة ، فنادراً ماكانت تصرخ السيدة على ابنها الأكبر المدلل .

أبعد يدها عن ذراعه بنظرة متوعدة : هل بتِ تفضليه الآن على ابنك ؟ لم ؟ مالذي فعله لأجلكم ، هل وضع مالاً بين أيديكم ؟

وقعت عيناه على الطاولة وعلب الهدايا فوقها فأكمل وقد فهم شيئاً مما حدث : أم أمطركم بالهدايا أيها الفقراء البائسون .

صمتت الأم تكظم غيظها وقد كسرتها كلماته الجارحة ،بينما سار نحو فيكتوريا وهو ينظر للبلورة الثلجية مستنكراً : ماهذا أختي العزيزة ، ياذات الكبرياء اللعين ؟ أنتِ بارعة باحتقاري وإذلالي ، لكنكِ قطة أليفة مع آندريه العزيز ، لم لا وهو يغريكِ بتوافه لاقيمة لها .. مثلكِ تماماِ .

صفعته بقوة ثم دفعته غاضبة : اخرج من منزلنا الذي لاتنمتي إليه أيها الوغد ، اخرج ولاتعد مرة أخرى .

بغضب أخذ البلورة ورماها على الأرض لتتناثر ذراتها ممتزجة بالحبات البيضاء الصغيرة بأحشائها ، مما جعل الفتاة تتأمل ذلك الموقف بفزع ، وكذلك كان حال البقية وقد خرجت الفتاتين متسائلتين بذعر .

_ ستنالين جزاء صفعتك اللعينة تلك ، يبدو أنكم بحاجة لمن يربيكم فدلال والدتكم أفسد أرواحكم المتعفنة تماماً .

دفعته بكل ماتملكها من غضب ودموعها اجتمعت في مقلتيها تأبى الاستسلام : اخرج قبل أن أقتلك ... اخرج أيها الحقير أنا أكرهك كلنا نمقتك ونتمنى لو أنك لم تكن واحداً منا اللعنة عليك أينما ذهبت ، لتطاردك المصائب في نومك ويقظتك ارحل .

جالت عيناه الغاضبتين بعيونهم التي تمردت أخيراً تتأمله بذات الكراهية الكامنة بالفيروزيتين الدامعتين ، تلك الكراهية نحوه جعلته يدرك أن لم يعد له مكاناً بينهم ، تراجعت خطواته ليخرج بعدها وقد صفق الباب من خلفه بغضب فاستسلمت الفتاة لنوبة بكاءٍ صامتٍ محرق ، وقد أحاطها اخوتها يواسونها بألم وحزن ، والسيدة تراقب حطام منزلها بقلب جريح ، تتمنى لو أن تلك الروح الصلبة تعود لتعيش بينهم ، فتعيد الأمان والسكينة لهم .

بعيداً على التل كان يرقب العاصفة التي أثارها بمنظار صغير ، وابتسامة خبيثة شقت طريقها لشفتيه ، أعاده لجيبه ودخل سيارته بفخر وانتصار ، لازلت أطهوك ببطء شديد عزيزي إيفان ، استمتع بهذه الاحتفالات الصغيرة فالقادم أجمل .
..............

حل الصباح ولم يدرك متى وكيف أطبق جفنيه مستسلماً ، دخلت الصبية الصغيرة وهي تتمتم محتجة : لم دائماً أنا من عليها خدمة العجائز ، لقد تعبت حقاً ، باتريشيا تفعل كل شيء مزعج وتتحمل العجائز المزعجين دوماً ولا يوجد مقابل لأي من أعمالها الصالحة .

فتح عينيه بذبولٍ ناعس ولازال صوت الفتاة الصاخب يرهق مسامعه ، أخرجت علب الدواء التي تحتاجها ووضعتها في صندوقٍ متوسط الحجم ، وماإن همت بالخروج حتى انتبهت لحركة على السرير فصرخت فزعة وقد سقط الصندوق من يدها مما جعل الشاب ينتفض ويستفيق مذعوراً : ماذا هناك مالذي حدث؟

وضعت يدها على قلبها وتنهدت بعمق ماإن رأته : هذا أنت ! لقد أخفتني أيها الأحمق خلتك وحشاً أو لصاً .

بتعبٍ أجابها وقد تنفس الصعداء : من الذي كاد يقتلني تواً ، صراخكِ مرعب بحق .

رفعت الصندوق عن الأرض باستياء : لقد تحطمت جميعها يالحظي العاثر ، يجب أن أستبدلها بأخرى وأنظف المكان ، عمل جديد أضيف لجدولي المزدحم وكل ذلك بسببك أيها اللعين .

_ سليطة اللسان حقاً أيتها الطفلة المزعجة .

_ أخبرتك أني لست بطفلة ، عمري خمسة عشر عاماً هل تفهم ؟!

عادت تكمل عملها بينما تمتم بحنق : فظة بالفعل .

توجه للحمام وأنهى أموره ثم خرج وكانت قد غادرت الغرفة ، خرج هو الآخر يتأمل الحياة تدب من جديد في القرية الهادئة بصخب محبب ، كان ديريك يحتسي الشاي مع فرانكلين ورجلين آخرين وماإن لحظه حتى أشار له يدعوه للانضمام لهم .

جلس معهم يحتسي الشاي ويستمع لأحاديثهم الممتعة دون أن يستطيع المشاركة بها ، نطق رفيقه فجأة يخاطبه : آه كدت أنسى ، لقد أرسلت لستيفانز بأنك عدت ، لقد كان قلقاً عليك للغاية وجد كثيراً بالبحث عنك ، يريد رؤيتك بأقرب فرصة ، عليك الذهاب للقائه فهو طبيب لايمكنه ترك مشفاه وقتما أراد .

همهم بتفهم وقد عاد القلق يساوره والخوف من معرفة المجهول : لا أعلم إن كان علي الذهاب .. هو مشغول حتماً ، سأراه لاحقاً .. لكني كنت أنوي الذهاب للمدينة على كل حال ، من أجل زيارة الرئيس أيضاً .

خطواتٍ خلفهما أجبرتهما على الالتفات وكان آرون يقترب منهما بابتسامة لطيفة : صباح جميل .

_ أبي ! ألم نتفق على أن تبقى في مخبئك خلال النهار ؟ ماذا لو جاء أحد أولئك الأوغاد فجأة .

جلس وهو يشير لديريك أن يصب له بعض الشاي ففعل على الفور : لا أحب أن أبقى سجيناً ، ثم لم تنكرت إذاً بهذه الصورة طالما أني سأظل مختبئاً؟

نطق فرانكلين بصوته العالي الخشن : لاتقلق ياصبي ، والدك بأمان بيننا دعه يتنفس ، إن حدث وجائوا فسنحميه حتماً أم أنك لاتثق بنا .

_ لم أقصد هذا ، لكن ...

أتبع الآخر بابتسامة : كن مطمئناً إننا جميعنا معه ، لايمكن لأحد إيذائه .

كان والده يرمقه بغرور زائف : انظر .. الجميع يؤيد ماأقول ، لذا لاتبالغ أيها الصبي المتشائم .

تنهد بيأس دون أن يجد مايقول ، وفي ذلك الوقت خرجت الشقراء تسير معها إيرينا وهي ترتب حقيبتها الصغيرة ، وسرعان مااستدارت تودع الفتاة وهي تضع يدها على ذراعها : سامحيني عزيزتي تيريزا ، سأحاول العودة باكراً لنتسوق سوياً ، باتريشيا ستساعدك في الاهتمام بالطفلين ريثما أعود ، اعذريني إني أرهقكِ كثيراً .

_ لاتقلقي بشأن شيء إني مستمتعة معه بحق ، ومع نواه بالطبع ، لست في عجلة من أمري ، نذهب للتسوق وقتما تجدين الفرصة المناسبة .

التفتت لشقيقها الذي كان ينظر إليها متسائلاً فاختصرت بعينيها الجواب وقد فهم فشل خطته ، اقتربت كلتيهما من الطاولة حيث جلس الرجال فابتدرت الفتاة وهي تحتضن والدها : صباح الخير أبي الحبيب ، صباح الخير جميعاً .

أجابوا تحيتها وقد بادلها والدها العناق : وأجمل صباح أتنفسه بعطر عصفورتي الحلوة .

ابتسمت بدلال بينما استأذنتهم السيدة بلباقة فأسرعت الشابة تنطق مستدركة وهي تنظر لشقيقها : ماذا لو أوصلتها للمشفى أخي .

بارتباك نهض مستجيباً محاولاً أن تبدو نبرته طبيعية هادئة : بالطبع سأفعل إن لم تمانعي ، إني ذاهب إلى هناك أيضاً .

بريبة نطق ديريك وهو يتأمل الموقف بنظرة باردة : منذ قليل كنت تقول أنك لن تذهب ، لم غيرت رأيك ؟

ود حينها أن يلكمه ويخرسه لكنه آثر أن يجيب محاولاً اقناعهم : تذكرت أن لدي موعد معه ، حتى أني تأخرت كثيراً .

بتردد نطقت الشابة حائرة : لا أعلم ماعلي قوله ، لم أرد إزعاجكم ... لكن إن كان طريقنا واحداً .. فشكراً لك على كل حال .

مد يده نحو ديريك يداري خجله وارتباكه ، وكالعادة كان ينظر نحوه ببلاهة كمن لم يفهم : ماذا تريد ؟ ألا تملك مالاً .

" أحمق " .

تمتم باستياء وحاول جاهداً السيطرة على غضبه وتحدث بابتسامة زائفة : مفتاح سيارتك عزيزي تعلم أني جئت بدراجتي .

_ ماكان عليك أن تفعل إذاً ، لن أضحي بسيارتي مجدداً بالكاد وجدتها في المرة الماضية .

زفر بنفاذ صبر وهو ينظره بحدة : ديريك لاتغضبني رجاءاً ، أقسم أني سأعيدها لك سالمة بلا أي خدش ، وإن حدث لها مايريب سأدفع لك ماتريد .

أخرج المفتاح من جيبه ووضعه في كف صديقه بابتسامة ساخرة : خذ أشفقت عليك ، لم أرد اذلالك أكثر كن شاكراً ، عليك الاعتراف أنك دونما ديريك لاتنفع بشيء .

" بالطبع لم تقم بإذلالي أبداً ، شكراً لك أيها العظيم ، سأردها لك لاحقاً سترى "


همس بذلك فاتسعت ابتسامة رفيقه بنصر ، بينما سأل والده باهتمام : هل أرافقكما سي ؟

_ كلا أبي بالطبع لا ، ماذا لو عرفك أحدهم ؟! لاتقلق بشأن شيء رجاءاً واهتم بنفسك ، ديريك إنهما أمانة عندك .

_ بالطبع اعتمد عليي .

سار نحوها معتذراً لتأخره وسرعان مافتح لها باب السيارة فدخلت بصمت ، تنفس الصعداء قبل أن يدخل محاولاً السيطرة على أنفاسه المضطربة ودقات قلبه اللاهثة .

قاد السيارة أخيراً وعيونه ترمقها بين الحين والآخر ، بطريقة أو بأخرى تمكن من البقاء معها وحدهما ، لكنه لازال لايستطيع الاقتراب أكثر ، لايزال لايجد كلماتٍ ليقولها لها ، وبعد تفكير وصمتٍ ثقيل قرر أن يتكلم أخيراً : هل تناولتِ إفطاركِ .

أومأت إيجاباً بصمت ، بلل شفتيه بلسانه وقد شعر بمدى صعوبة المبادرة بالحديث معها ، ولكم كان يحسد ديريك لكونه قادراً على ذلك ببساطة .

_ سأشتري لي فطيرة ساخنة وكوب قهوة ، هل أنت راغبة ب..

_ لا شكراً لك .

بعد جهد مضنٍ بذله لتكوين تلك الجملة قاطعته ببساطة لتبعثره من جديد ، أوقف السيارة أمام المقهى وتردد قبل أن يسأل : قد يعجبكِ ، أعني .. إنها شهية .. لا أحب تناول الطعام بمفردي .

_ إذاً لاتفعل ..

ببساطة نطقت بتلك الكلمات مما ألجمه تماماً وقد تعرق جبينه ، ورغم ذلك أصر ونزل من السيارة حتى يعود بعد حين بكوبي قهوة وفطيرتا زبدة ساخنتين .

بتهكم نطقت وقد قطبت حاجبيها : أخبرتك أني لا أريد .

وضعها أمامها وهو يبتسم بتوتر : ستعجبكِ تذوقيها رجاءاً.

صمتت وشعور بالغرابة قد اجتاحها ، تذوقت القليل دونما رضاً وهو يتأملها منتظراً أن تبدي ردة فعل مرضية ، بعد قليل تكلمت بهدوء مستاءة : ليست سيئة .

لاحت على شفتيه ابتسامة سعيدة وعاد يكمل طريقه وهو يتناول خاصته ، وما إن وصلا للمشفى حتى أدرك أن الوقت الجميل معها قد مضى سريعاً ، رغم أنه لم يتمكن من قول شيء في الواقع ، سوى بضع كلمات غبية وأسئلة لافائدة منها .

شتم نفسه في أعماقه مراراً لتضييعه تلك الفرصة القيمة ، وأسرع يفتح الباب لها وسط استنكارها : كنت سأفعل ذلك لنفسي ، لاتبالغ باهتمامك رجاءاً .

اعتراه الخجل وكم تمنى أن تبتلعه الثلوج مراتٍ ومرات ، فكلما حاول التصرف بأريحية وجد أنه يزعجها وحسب ، كما لو كانت في الأصل لاتطيق رؤيته ومجبرة على مرافقته .

سار خلفها ليجتازا بوابة المشفى حيث ابتدرت الحديث أخيراً : أنا سأذهب لأبدأ عملي إذاً ، شكراً لك .

أومأ لها إيجاباً رغم أنه أراد أن يطول الوقت برفقتها ، حتى لو لم ينطقا بما هو مفيد ،حتى وإن لم تفهم مايصارع بأعماقه ، كان يكفي أن يتأملها بين الحين والآخر ، وأن يشعر بدفيء قربها منه .

كانت تبتعد دون أن يقدر على إيقافها فما كان منه إلا أن أفرغ ضيقه وألمه بتنهيدة مثقلة ، فكر بالتراجع حينما تذكر ماينتظره ، ليس مستعداً بعد لمعرفة حقيقة مايعايشه ، لكن الوقت قد تأخر كثيراً على التراجع والعودة .

_ وأخيراً .. ها أنت هنا سيكيم !

سار نحوه وقد ارتدى معطفه الأبيض مما منح مظهره الوسيم مهابة أكثر ، وقف أمامه ونظرة القلق قد لاحت على محياه : حمداً لله أنك عدت بسلام أقلقتنا للغاية ، مذ أخبرني ديريك وأنا أحاول جاهداً إيجاد فرصة للقدوم ، لكن جدولي كان مزدحماً.

_ لاتهتم .. ها أنا قد جئت ، شكراً لك لأجل كل شيء .

باهتمام سأله وقد أخفض صوته : كيف تشعر الآن ، هل انتابك التعب مجدداً ؟ أخبرني إن لاحظت حدوث شيء جديد .

_ لاتقلق بشأني ، على العكس مذ التقيت والدي أشعر بتحسن كبير ، ربما حدث ماحدث بسبب ماأعانيه من ضغوط ومشاكل هذه الفترة .

صمت رفيقه بتعاطف دون أن يعرف بم يجيب ، ومالبث أن نطق بهدوء محاولاً التخفيف من ثقل ماسيقول : مهما كان ماتواجهه سنجد حلاً له حتماً ، رافقني رجاءاً .

تبعه حتى ركبا المصعد سوياً وأبنوسي الشعر يتأمل رفيقه الذي بدا الاضطراب جلياً عليه ، وضع يده على كتفه يحاول تهدئته : لاتقلق .. اهدأ قليلاً .

بإنكار رد وهو يحاول السيطرة على ملامحه المبعثرة : إني هاديء تماماً .

_ لم تخبرني .. ماكان سبب ماحدث ؟ أعني لم اختفيتما فجأة أنت والعم آرون ؟

رد بهدوء وهو يخلع معطفه ويسنده لظهره ممسكاً الياقة بأصابعه : لقد كانوا يريدون التخلص من أبي، ولكن شائت الأقدار أن حماقة إحداهن قادتني لذات المكان ، وكانت ذات منفعة على كل حال ، فلولم تفعل ذلك ماكنت علمت بأمر والدي ولربما كانت الأمور أسوأ .

سار معه نحو الغرفة ماإن فتح باب المصعد وعلى وجهه معالم الحيرة لاحت : لم أفهم شيئاً مما قلته ، عن أي حماقة تتحدث ومن تكون ؟

ابتسم ساخراً وهو يجيبه : أحقاً لا تعلم .. من سواها ؟ كريستينا التي لم تنس يوم مولدي وأمرت باختطافي لتحتفل معي به ، تخيل !

_ لاتقلها ! هل حقاً فعلت ذلك ؟!

أومأ إيجاباً بلا مبالاة فرد الآخر بابتسامة ضاحكة : هذه الفتاة مجنونة حقاً ، من الجيد أنك نجوت بأقل الأضرار .

_ معك حق .

جلس على المقعد أمام مكتب صديقه بينما الآخر أبعد الستار عن السرير وأشار له أن يستلقي ، فأشار لنفسه بتعجب : ماذا ؟ ستبدأ بفحصي فوراً؟

_ أجل .. كنت أنتظر قدومك منذ فترة ، استلق رجاءاً سأعطيك دوائك الذي تأخرت بأخذه كثيراً .

_ هكذا ؟! قبل أن أعرف التفاصيل ؟

_ ستعرفها بعد أخذه ، رجاءاً لاتكن عنيداً .

استسلم وتوجه نحو السرير ليستلق بهدوء بينما دخلت الممرضة وقد اقتربت تغرز الإبرة بظاهر كفه ، سحبت عينة من الدم قبل أن توصل المحلول وتغرز الإبرة فيه ليتدفق الدواء ممتزجاً معه .

تسائل بريبة : ماهذا ؟ ألن تشرح أي شيء حقاً .

بهدوئه المعتاد نطق دون أن يقدر الآخر أن يفهم مايخفيه : لاتقلق بشأن شيء ، ثق بي فقط وسأخبرك بكل شيء حالما تخلد للراحة ، لدي عمل لن يستغرق الكثير من الوقت ، عندما أعود سأشرح كل شيء .

ابتسم بلطف وقد ربت على كفه مطمئنناً ، ثم غادر تاركاً إياه يغرق في بحر الحيرة ومخاوفه عادت تهاجمه بعنف حتى أوشك أن يستسلم لها فيدفع بالإبرة بعيداً ويهرب .. وما إن هم بفعل ذلك حتى استدرك وقوف الممرضة بجانبه وقد نطقت محذرة : لن يطول الأمر ، تحلى بالصبر رجاءاً .

تنهد بعمق واستسلم لانتظار حمل في طياته ثقلاً لايُحتمل ، وهو يتمنى أن أحاسيسه المعتمة تلك مجرد كوابيس لاأكثر.

............................

فتح الباب بعد فترة ليدخل أبنوسي الشعر تتبعه امرأة بدت في نهاية عقدها الثالث ، بشعرٍ بنيٍ قصير وعيون خضراء مشرقة .

كان مظهرها رغم جديته يبعث على الراحة ، خلصته الممرضة من الإبرة أخيراً لتحرره من بعض قيوده ، وساعدته لينهض ولايزال بصمته يتأملهما حائراً .

_ كيف تشعر الآن ؟

بنبرة مبهمة أجابه : بأفضل حال .

أشار للسيدة بابتسامة صغيرة : أحب أن أعرفك على الطبيبة آليسون ، إنها المسؤولة عن ...

_ لم يكن هذا اتفاقنا ستيف ! .

بتفهم أجابه موضحاً : إنها أفضل مني بمراحل كثيرة ، كما أنها متخصصة بعلم الأورام وأنا لست كذلك .

مستنكراً علق دونما تصديق : ماذا قلت تواً.

أشار على الأريكة وقد جلست الطبيبة بصمت تتأمل الشاب الذي بدأت ملامحه في الشحوب : من فضلك اجلس لنتحدث بهدوء كما اتفقنا .

جلس وقد شعر بأقدامه ترتعش حتى لم يعد قادراً على الوقوف رغم محاولته الثبات والبقاء هادئاً قدر الإمكان .

_ حسناً إذاً ، هذه تقاريرك السابقة وهذه نتائج الفحوصات التي أجريت ، لديك في الواقع كتلة في هذا الجانب من الدماغ ، إنها تتحكم بمركز الذاكرة لديك ، لذلك تفقد بعض الذكريات بين الحين والآخر ، الأمر ليس مقتصراً على ذلك فقط فهناك الأعراض الأخرى الأكثر سوءاً .

أشار للمرأة أن تكمل فتحدثت أخيراً بهدوء وتفهم : لم أستطع أن ألقِ التحية أو أن نتعارف بشكل لائق لكني أتفهمك جيداً ، من الطبيعي أن تشعر بالذعر والقلق ، لكن صدقني الأمر ليس بذلك السوء ، عندما تبدأ بالعلاج فوراً فستضمن فرصة نجاتك حتماً ، كما أن العلاج النفسي له الدور الأكبر بالنجاح .

صمت يحاول استيعاب مايجري ومالبث أن نطق بتجلد : ماهي الخطة لعلاجي إذاً؟

أجابته وهي تضع أمامه بعض الأوراق : في البداية سنجري خزعة وثم سأعطيك دواءاً لتقليل النوبات والحد من انتشار الورم بعد تحديد نوعه ، ثم ستجرى عملية لاستئصاله ، إن استطعنا إزالته بأكمله سيكون ذلك كافياً وإلا فستبدأ العلاج السريري وهو الأصعب بهذه الرحلة ولكن نهايته غالباً مرضية .

أخذ يقرأ الأوراق والدوار قد بدأ يجتاحه ، تكلم بنبرة جافة : وإن أجريتها هناك احتمال بأن أفقد ذاكرتي كلياً؟ ياله من حل .

_ إننا نطلعك على أسوأ الاحتمالات التي قد تحدث .

_ ماذا إن حدث؟

رد ستيفانز بحزم : وإن لم تُجرِها ستفقد الذاكرة أيضاً ، لكن الفرق أنك لن تنجو حينها ، لذا لاتفكر أبداً بأن تهرب منها .

_ وماذا سيحدث لو لم أفعل؟

عقد حاجبيه وبهدوء غاضب أجابه : خذ الأمر بجدية سيكيم ، أتريد الموت ؟! كف عن الحماقة رجاءاً ولاتفكر بالتراجع .

أتبعت آليسون بجدية : الورم لايزال في بدايته ولذلك علاجه الآن مضمون ، لكنك كلما تأخرت فسينتشر بسرعة لايمكن تداركها وستقود نفسك للهلكة حتماً .

بغصة سألها متجاهلاً تحذيرها : كم من الوقت أملك حتى تسوء الأمور ؟

بدا الضيق جلياً على رفيقه غير مصدق لما يقول ،بينما أجابته المرأة بهدوء تام : عامٌ واحد فقط .

غشته غمامة سوداء وقد لاح شبح ابتسامة على شفتيه : جيد ..إنها فترة كافية إذاً.

_ لست تدرك مدى جدية الأمر سيكيم ، حسبتك وثقت بي لذلك جئتني ؟! أخبرتك أني سأكون معك مهما حدث وسأساعدك لتجاوز ماتمر به مهما يكن ، لاأريد أن أكون مسؤولاً عن قرارك المجنون هذا .

_ أجل .. وثقت بك ، ولازلت كذلك ، لكني لست مستعداً لترك كل شيء خلفي ، صدقني .. لو كانت الظروف مختلفة لتقبلت وضعي بكل شجاعة ، ولواجهت كل مخاوفي ، لكن الآن .. لايمكنني الإنهيار قبل أن أحقق وعدي ، لايمكن أن أترك كل شيء .

_ سيكيم .. أرجوك .

نهض بهدوء محتجزاً بأعماقه بركاناً يوشك أن يثور : شكراً لكما .. وأعتذر لكوني مريضاً وقحاً وفظاً ، إنما لايمكنني الاستسلام للمرض الآن .

هم بالخروج فأمسك ستيف ذراعه بنفاذ صبر : كف عن العناد رجاءاً ، لندع والدك يقرر إذاً طالما أنت لاتفكر بنفسك كما ينبغي أو حتى بعائلتك .

أبعد يده بقوة وقد تملكه الغضب : لقد وعدتني ستيف ، لن يعلم أبي أو تيريزا أو حتى ديريك بأي شيء ، وإلا فأقسم أنك سترى شخصاً مجنوناً لايعرف معنى الرحمة .

ابتعد خارجاً فأسرع أبنوسي الشعر خلفه حتى استوقفته الممرضة على عجل : سيدي الطبيب، سائت حالة مريضك وتم نقله لغرفة العمليات على عجل ، والطبيب بروس يطلبك حالاً لمساعدته .

تنهد بيأس وهو ينظر إلى حيث غادر رفيقه مبتعداً ثم أجابها بهدوء متعب : حسناً .. أنا قادم .

...................................

قاد السيارة مسرعاً حيث لاوجهة له ، لايعلم كيف استطاع ضبط نفسه كي لايتسبب بالوقوع بحادث فتصيبه كارثة جديدة ، ودون تخطيط وجد نفسه أمام منزله القديم ..

أوقف السيارة وتأمل المنزل المهجور منذ أن سُجن أبيه ، وسريعاً مرت الذكريات أمامه كما لو كانت الأمس.

" أبي .. لاتعش معها لأجلنا ، لما لاتتركها "

" منذ اليوم سيعيش كل واحد منا بعيداً عن الآخر، لكننا لن نفترق أبداً ، أعدكم أحبتي "

" لماذا حدث هذا أخي ؟ أما كنت قد وعدتني بأن تظل بقربي ، كيف تهجرني هكذا "

" أختك تألمت كثيراً لذلك القرار ، ولقد اختارت أن لاتترك أمها وحيدة ، لكنك تركتني ولست ألومك لذلك "

صم أذنيه عن سماع المزيد وقد وقف أمام الباب يخير نفسه بين المضي أو العودة ، أخرج مفاتيحه يتأمل ذلك المفتاح الفضي المميز بينهم والذي لم يستخدمه منذ فترة طويلة ، أدار القفل ليفتحه وصوت صرير الباب قد قطع السكون المميت بتلك البقعة المعتمة رغم النور المتسلل من نوافذٍ غطت الستائر معظم جوانبها .

تقدم خطوة .. فأخرى ، ذرات الغبار انتفضت ممتزجة ببصيص النور المتسلل لأركان المنزل ، تعيد معها شبح الذكريات في كل زواياه .

" ألا تجيد حتى قول كلمة واحدة أيها الطفل الأحمق الغبي ، ليتك لم تولد ، إنك لعنتي حتماً" .

أزاح الستار مما جعل بقعة الضياء تكبر أكثر ، ومعها شريط الذكرى ينساب بصور مشوشة .

" أنت ولد سيء ، منبوذ وحسب ، حتى والدك ضجر من مشاكلك التي لاتنتهي ، يوماً ما هو الآخر سيتخلى عنك "

" مالذي فعلته! ألا عقل لك ؟! هذه الزجاجات أثمن منك أيها الولد الغبي عديم الفائدة "

" هذا مايستحقه ولد سيء مثلك ، بذرة عفنة ، هذا هو عقابك "

" لست تستطيع فعل شيء سوى أن تلعن نفسك ومن حولك ، لذلك لاتستحق أن يحبك أحد"

" انظر لنفسك ، إنك تشبهني كثيراً ، في الشكل وفي الطباع وفي ذات الغضب ، يوماً ما ستفهم جيداً كم أردت أن تنتمي لي ، وكم أخطئت بكراهيتي ، لأنك ستغدو منبوذاً أكثر مني حتى "

أمسك الصورة على المنضدة ، كانت صورة عائلية كاذبة ، فوجودها بينهم فيها لم يغير من حقيقة كراهيتها ، نطق يخاطبها بألم : أجل ..إني مجرد شخص فاشل في كل شيء ، لم أستطع أن أكون ابناً .. لم أكن أخاً جيداً حتى ، ولم أستطع أن أحب أو أعيش الحب الصادق ، بل .. حتى لم أستطع أن أفي بوعدي لصديقي ، العهد الذي أعيش هذه الأيام الصعبة لأجله .

عاد الصوت يتردد في أذنه دون توقف
" خائن

ولد منبوذ

غبي
أنت سيء

إنك مجرد لعنة حلت بنا "

ألقى بالصورة فتحطمت وراح يكسر كل ما أمامه ويبعثر صارخاً بحرقة :

اصمتي ، توقفي اخرسي كل شيء حدث بسببكِ ، لقد رحلت ولازلت أعاني بسببك اتركيني هذا يكفي ،لن تأخذيني معكِ لسجن آخر ، أطلقيني ..كفى .


استند على الجدار وجلس يغلق أذنيه كي لايسمع المزيد ، ولكن الصوت تكرر مراراً دون توقف ، بإهاناتٍ وشتائم لاتنته، تمتم بصوتٍ ضعيف متعب : أنا أستحق هذا ، هذا جزاء مااقترفت ، هل هذا هو عقابي ، هل لهذا تركتني رغم حاجتي إليك آدم !، لأني تجرأت وقمت بخيانتك هجرتني ، أنا .. هل أصبحت أشبهها لهذا الحد ..

بدأ الصداع يجتاحه أكثر والظلال السوداء غشت عينيه ، وصور الماضي أنهكته حتى أذن لنفسه أخيراً بالابتعاد عله يسكتها ، فاستلقى على الأرض متجاهلاً كل شيء ، وأغمض عينيه محتضناً جسده البارد باحثاً عن السكون .

.......





 
 توقيع : آدِيت~Edith

مواضيع : آدِيت~Edith


التعديل الأخير تم بواسطة آدِيت~Edith ; 01-08-2023 الساعة 06:21 AM

رد مع اقتباس
قديم 02-06-2023, 12:01 PM   #93
آدِيت~Edith
https://www.anime-tooon.com/up/uploads/at165286508456371.png


الصورة الرمزية آدِيت~Edith
آدِيت~Edith غير متواجد حالياً












السماء قد تلبدت بالغيوم دون إمطار ، ضباب كان قد أخفى ضياء الشمس التي كانت تجيء كزائرة لاتطيل البقاء ، ورغم اعتيادهم شتاء روسيا الطويل ، إلا أنه بدا مزعجاً ذلك اليوم فقد بدأوا الاستمتاع تواً بلعب الكرة سوياً .

_ نواه التقطها بسرعة وسجل الهدف !

مررها للصبي الذي بدأ المناورة ببراعة ليجتاز الفتاة وفريقها ويحرز هدفه الثاني بنجاح ،مما جعل فريقه يهتفون بحماس والخيبة رسمت طريقها على أفراد الفريق الخصم من بينهم الشابة التي بدت ضجرة : ليس عدلاً هناك تفاوت في القدرات .

قلدها ديريك ساخراً : هناك تفاوت في القدرات ، عزيزتي من سجل الهدف هو نواه ليس أنا ، أي أن من غلبك صبي صغير استسلمي لحقيقة فشلك .

تمتمت بغيظ : تباً لك ألف مرة .

ضرب كفه بكف الصبي مشجعاً : أنت بطل ياهذا ، أحسنت .

بابتسامة سعيدة أجابه : أنت أيضاً كنت مذهلاً عم ديريك ، لو أنك لعبت ضد والدي لكانت مباراة قوية ومذهلة .

لاح حزن طفيف على وجه الشاب دون أن يبد منه شيئاً ، وسريعاً بعثر شعر الصغير مستطرداً : تيريزا تريدك في فريقها لكسب بعض الحظ ، لنستبدل أعضاء الفريق .

أومأ ايجاباً وهتف بهم : تبديل اللاعبين يارفاق .

أسرعوا لتيريزا لتعيد تنظيمهم بينما رفع ديريك هاتفه بعدما سمع صوته ينبأ عن وصول رسالة جديدة .

" جد سيكيم في الحال وأبقه قريباً منك " .

كانت الرسالة المبهمة من ستيفانز ، لم يفهم شيئاً فاتصل سريعاً لتجيب مساعدته بأنه قد دخل لإجراء عملية عاجلة ولايمكنه الإجابه ، ازدادت حيرته فتخير اسم رفيقه للاتصال به ، انتظر وانتظر دون أن يجيب مما جعله يوجس خيفه .

اقتربت الفتاة منه متسائلة : مابك؟ ناديتك مراتٍ ولم تجب .

لم يرد إخافتها فأجاب بتحفظ : لاشيء .. شغلني أمر ما ، تابعوا اللعب فلدي بعض الأعمال لأنجزها .

هم بالمغادرة فأمسكت يده على الفور ، استدركت مافعلت وقد التفت ينظرها بتساؤل مما جعلها تبعد يدها خجلة محمرة الخدين : كنت سأسألك .. إن كنت بحاجة لشيء ما .

أومأ بالنفي وقد أجبر نفسه على رسم ابتسامة زائفة : شكراً لكِ أيتها الدمية الجميلة ، أراكِ في الجوار .

أسرع يكمل طريقه تشيعه عيونها المحبة بابتسامة رقيقة ، ومالبث أن أسرع نحو آرون قلقاً وقد كان الأخير مستلقٍ على الأريكة بارتياح : عم آرون .. هل تحدثت مع ابنك ؟

اعتدل الرجل جالساً وقد أثار سؤال الآخر ريبته : كلا ليس بعد ، لم ؟

جلس بجواره مصارحاً : لقد أرسل لي ستيف رسالة أقلقتني ، انظر !

قرأها بحيرة وسرعان مااعتراه القلق هو الآخر : لم أكن مرتاحاً لذهابه بمفرده ، انتظر لقد كانت تلك السيدة برفقته ، ألا يمكنك الاتصال بها وسؤالها ؟

_ أنت محق ، إنها فكرة صائبة .

بسرعة بادر بالاتصال بها فأجابت بعد حين : معذرة لتأخري ، مالخطب ديريك .

_ لاتهتمي بشأن ذلك .. هل لازال سيكيم معك ؟

_ كلا .. افترقنا منذ وقت طويل .

_ خرج من المشفى إذاً؟

_ لا أعلم ، كان برفقة السيد ستيف في آخر مرة رأيته فيها .

تنهد حائراً وأشار لآرون بأنها لاتعلم فاعترى الآخر ضيق شديد : حسناً إذاً .. أعتذر لازعاجكِ ، نلتقي حين عودتك .

_ أقلقتني ديريك .. هل من خطب ما ؟

_ كلا لاتهتمي ، إلى اللقاء .

أغلقت الهاتف حائرة بينما التفت ديريك للرجل وقد نهض يرتدي معطفه على عجل : إلى أين تذهب ؟

_ مارأيك؟

_ لاتكن مجنوناً أرجوك ، لازلت مطارداً ، ثم إنه لم يمض على اختفائه الكثير ، لننتظر ربما هو في طريقه إلى القرية .

_ ستيف لاينطق عبثاً ، لو أن شيئاً سيئاً لم يحدث لما طلب منك التدخل .

تنهد الشاب بضيق وهو يعلم أن مايقوله منطقي : ومع ذلك دعنا ننتظر لبعض الوقت .

زفر بضيق وجلس مستسلماً يفكر باضطراب : إن لم تجده قريباً فلا أعدك بالصبر .
عاد الآخر يحاول الاتصال به من جديد والغضب تغلب على قلقه وهو يهمس لنفسه ساخطاً " ألا تعي ماتوقعنا فيه كل مرة أيها اللئيم ،يوم واحد هاديء هو كل ما أرجوه ولكن هيهات معك ".

.........................

كان صدره في طلوع ونزول ، باختناق وغصة كادتا تقودانه لحتفه ، بيد أن تلك اليد الدافئة مسحت على صدره وصاحبها يتلو بصوته العذب الذي اخترق قلبه قبل مسامعه.

” وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”.

كررها ذلك الصوت مراراً حتى بدأ يشعر أن أنفاسه المتلاطمة أمست في سكون وسلام ، ليس يعلم ماهو ذلك السحر الكامن بما يتلو ، كيف يمكنه أن يكون شافياً ومريحاً بهذا القدر .

فتح عينيه المتعبتين ليجد كيانه الذي اشتاقه جالس عنده ، وقد احتضن رأسه في حجره ، ويمناه تربت على صدره بينما يسراه على جبينه تمسده بحنان .

مضى زمن طويل .. طويل جداً ، مذ شعر بدفء تلكما اليدين وتلك الأحضان الحانية ، بقدر ماتمنى أن يظل بين يديه كان شعوره بالذنب يلتهمه ، كيف لايزال عطوفاً بهذا القدر معه وهو يدرك أن قلب صديقه الجاحد خائن .

حاول أن يرفع جسده المثقل فربت الآخر على صدره بحنو : لاترهق نفسك ، لازلت بحاجة للراحة ياصديقي .

ابتلع الغصة مع كلماته وقد لامست كفه عنقه باختناق ، تكلم خليله من جديد كما لو كان يبصر مابأعماقه يصارع .

_ أطلق لنفسك العنان .. لاتكبت أوجاعك أكثر ، من قال أن الرجال لاتبكي ، إن لم يبكِ الإنسان فهذا يعني أنه لايملك بجوفه قلباً .

انهمرت دموعه التي احتجزها طويلاً مستسلمة ، لم يعلم منذ متى كان يجعلها حبيسة مقلتيه حتى شعر بذلك الاختناق المميت ، تمتم وقد استطاع أن ينطق أخيراً بصوتٍ مرتعش ضعيف : أتسامحني ؟ إني لاأستحق، رحمتك هذه تقتلني.

بصوته الهاديء الحاني أجابه : وأي ذنبٍ ارتكبته ؟ ، لاتثقل كاهلك أكثر ، سيكيم .. عش حياتك ياصديقي ، حاول أن لاتنظر للخلف ، لديك حياة كاملة بانتظارك .

_ لماذا ؟

بدت الحيرة على محياه الحسن فعاد يسأله باختناق : لم أنت من رحلت ؟ ليتك لم ترمي بنفسك لتحميني ، انظر .. إنني ميت لامحالة ، هل كان يستحق .. أن تضحي بنفسك من أجل شخص هالك .

_ ماهذا اليأس؟

مؤنباً نطق بغير رضاً فأجابه رفيقه بانتحاب : كلما نظرت لهم .. أشعر بالذنب لأني .. كنت السبب برحيلك ، ولازلت أذنب بحقك كثيراً ، إن لم أستطع بالوفاء بوعدي لك ، فكم سأمقت نفسي بعد ؟ كل ماأريده هو أن أحقق ثأري وأن أحمي من ينتمي إليك، وليأخذني الموت الذي أستحقه بعدها .

_ اهدأ ياصديقي ، أنا أسقط عنك هذا العهد ، لست ملزماً به ، سيكيم .. كن بخير ياصديقي ، تذكر .. حين وُهِبت حياة جديدة فذلك لأن الله قد منحك فرصة أخرى ، ولربما أنت توشك أن تضيعها فابتلاك بما أنت فيه لتعود ، لتدرك فرصتك وتستغلها بحكمة ، أخي .. إن تأملت جيداً ستفهم كم هو رحيم ومحب إلهنا ، وستعشقه وترنو إليه حتماً ، استغل فرصتك جيداً ولاتضيعها عزيزي
، فلربما تكون الأخيرة .

ابتسم بهدوء وهو يعيد رأسه للأرض بعطف : لاتيأس ، وتذكر بأن العدالة الإلهية لاتغيب مطلقاً ، وسيكون لكل آلامك ثمناً يجعلها تبدو هينة ، لتشملك رحمة إلهي يا أخي العزيز ..

اختفى تدريجياً فاتسعت العيون الزرقاء بذعر : لا .. لاترحل .. لاتتركني من جديد .. آدم .

صرخ باسمه وهو يمد يده ليمسكه فوجد أنه قد فتح عينيه تواً وهو ملقى على الأرض الباردة ، وجهه قد اغتسل بالدموع مما زاد ارتعاشه وشعوره بالضعف ، نظر لكل الأنحاء المظلمة فلم يجد سوى نور القمر يضيء بقعة صغيرة من تلك الغرفة المغبرة ، حل المساء دون أن يدرك شيئاً ، والبرد قد سكن أطرافه أجمع .

حاول جاهداً لينهض ململماً شتات روحه المبعثرة ، لازال يشعر بأنفاسه حبيسة صدره ، والكلمات مختنقة دون أن يجد لإخراجها سبيلاً ، سار خطوة ثم أخرى وسرعان ماتعثر فوقع على ركام وحطام كان قد تسبب به قبل ساعات .

رفع يده المدماة الجريحة وضغط على الجرح بقوة عله يوقف الدماء النازفة ، نهض متثاقلاً بجسدٍ خاوٍ متعب ، حتى أصبح قبالة المغسلة ، ففتح الصنبور على عجل لكن قطرة منه لم تسقط ، بدأ يبحث عن مناديل ورقية وبصعوبة وجد بعضها وكانت مغبرة بنت العنكبوت عليها بيوتها .

عاد يبحث عن منديل نظيف بينها فلم يجد ، حتى شعر باليأس فألقى بالعلب بغضب ، أفرغ محتويات ذلك الدرج بحرقة يصب بقايا مااختزله في جوفه من قهر ، صوت هاتفه تردد على مسامعه فتجاهله وهو يمسد رأسه بكلتا يديه وقد استند على الخزانة القريبة .

سائل أحمر تساقطت قطراته على شفتيه ، مسح تلكم القطرات و تأملها لبرهة بذهول وذعر وسرعان ما مسح أنفه ليدرك مصدرها ، مسحه مرات ومرات دون أن يتوقف الدم وصوت رنين هاتفه بات يرهق حواسه أجمع فأجاب صارخاً بنفاذ صبر بعدما نظر الاسم : ماذا هناك مالذي أردته لم لاتفهم أني لاأريد الإجابة دعوني أتنفس أطلقوا سراحي كفاكم تطويقاً لي لقد اختنقت بما فيه الكفاية !

ألقى بهاتفه بعيداً وعاد يحيط رأسه بكفيه متألماً منهاراً ، بينما كان ديريك يتأمل هاتفه بذهول غير مصدق ، سأله الرجل بقلق بالغ : ماذا ؟! لم لاتتكلم ديريك ؟ هل حدث له مكروه .

رفع كتفيه بأن لا أعلم والحيرة قد تسللت لقلبه : صرخ ووبخ دون أن يعطني فرصة لقول أي شيء وقطع المكالمة !

_ و.. ماذا قال لك؟ أخبرني بصدق هل تشاجرتما؟

_ على الاطلاق ، لقد صرخ بدعوني أتنفس و .. شيء من هذا القبيل ، لم أستطع حقاً استيعاب أي شيء .

زفر بضيقٍ ونهض مستسلماً : لاصبر بعد هذا سأذهب لأجده أينما كان .

_ لاتفعل ! نحن نعلم على الأقل أنه على قيد الحياة ، لربما حدث أمر بينه وبين ستيف أزعجه ، هه هاقد جاء من لديه كل الإجابات .

أشار لستيفانز وقد سار نحوهم تتبعه إيرينا ، حتى إذا ما أصبح قبالتهم سأل بقلق : هل عاد ؟

أجابه ديريك بغيظ : ليس بعد ، ولم أخرج للبحث عنه لأنك وعدتنا بإيجاده لكنك الآن تعود بمفردك دون أن تفي بوعدك ، ودون أن نعلم مالجحيم الذي يجري .

بتفهم أجابه : لقد كان العمل كثيفاً هذا اليوم ، وماإن أنهيته حتى بحثت عنه في شقته ومقر عمله ولم يكن هناك ، فحسبت أنه عاد إلى القرية .

أشاح ديريك بوجهه دون تصديق فتدخل آرون برصانة : أفهمنا ماجرى بينكما إذاً بني .

لم يعرف بم يجيبه وبتردد نطق معتذراً : آسف .. لربما من الأفضل أن يجيبكم هو إن أراد ذلك .

أمسكه ديريك من ياقته بغضب : ماذا تعني بهذا ؟ ألا تدرك مامررنا به حتى الآن ؟ أحقاً ترى أننا لانستحق تفسيراً لهذا ؟!

_ هل تعلم تيريزا بالأمر ؟

قاطعتهما السيدة وجلة فأجابها آرون بصوت متعب : كلا .. لم نخبرها بشيء ، قلنا أنه سيأتي مع ستيف لاحقاً ، رجاءاً هل ..

أجابته بتفهم قبل أن يكمل : لاتقلق سأهتم بها ، رجاءاً أوقفوا الأفكار السوداوية ، ربما أراد أن يخلو بنفسه لبعض الوقت .

أومأ لها بالإيجاب ممتناً فغادرت وقد أفلت ديريك صاحبه وابتعد يحاول السيطرة على غضبه ، وماهي إلا هنيهة حتى وصلته رسالة ، نطق بفتور وهو يقرأها : هه لم يكلف نفسه عناء الاتصال بي حتى ، اطمئنوا لقد أرسل يعتذر لتصرفه الفظ ، إنه في طريقه إلى هنا .

زفر ستيف وشيء من الارتياح تسلل لقلبه بينما جلس أرون حائراً وجلاً والكثير من التساؤولات تحوم في عقله .

مر الوقت ثقيلاً وقد اجتمع الرجال الأربعة في منزل أكبرهم ، حتى فتح الباب أخيراً ليدخل من هم بانتظاره ، وقف الأب يستقبله وعيونه تتفحصه بقلق : وأخيراً عدت ، هل أنت بخير ؟

أومأ إيجاباً ونطق معتذراً : آسف لتأخري ، مررت على منزلي لأستحم وأحضر بعض الحاجيات لي ولتيريزا ، وأيضاً اشتريت تذكرة السفر لأجلك .

أعطاها لوالده الذي أخذها ينظر التاريخ مستنكراً : غداً؟ لم لم تطلب رأيي في الأمر ؟ كنت قد قررت أن لا أسافر قبل أسبوع على الأقل ، ريثما تستقر الأمور هنا .

بضيق أجابه متململاً : لارغبة لي في الجدال أبي .. من فضلك دعنا نؤجل النقاش بهذا الأمر لوقت لاحق .

صمت وعيونه ترقبه تستقرأ ملامحه ومايخفيه في جوفه ، بينما حاول ابنه الهرب كي لايكشف مايجول بأعماقه : أستميحكم عذراً ، سأخلد للنوم .. ليلة سعيدة .

باحتجاج نطق ديريك وقد قطب حاجبيه : هل الأمر بهذه البساطة حقاً ؟ أتعلم كم أمضيناً يوماً صعباً بفضلك ؟دعك مني هل يستحق والدك هذا التصرف الأناني منك؟.

تنهد متعباً وبلا رغبة رد محاولاً الاختصار : ديريك .. أفهمك جيداً وإنك محق بكل ماتقول ، غداً سأمنحك الفرصة الكافية لتوبيخي ، أما الآن فلاطاقة لدي صدقاً.

_ غداً ؟! غرورك هذا بات مزعجاً ولايطاق ، إنك ترمي بالجميع عرض الحائط ولاتكترث إلا لذاتك وحسب .

أمسك ستيفانز ذراعه وهمس له يحاول تهدئته : يكفي ديريك ، لقد أخبرك أنه متعب الآن ، قدر ذلك رجاءاً .

أبعد ذراعه بعنف صارخاً به : ماشأنك ها ، لا تدخل بيننا هل فهمت ، اوه انتظر .. بالفعل أنت أصبحت الآن كاتم أسراره والمقرب منه ، ربما يجدر بي أنا المغادرة ، إنني المتطفل هنا على مايبدو .

صوب عيونه الغاضبة بعتاب لتلكما الزرقاوتين المتعبتين ، وغادر بينما رفيقه لايزال بصمته وعيونه تنظر أبنوسي الشعر مستنكرة _ وقد انتبه لوجوده تواً _ سؤال حار في عينيه فهمه الآخر فرمى إليه بنظرة مطمئنة يجيبه أنه لازال عند عهده ولم يبح بالسر ، تنهد الآخر بارتياح بينما تدخل رونالد أخيراً بنبرته المريحة : لاتقلق بشأنه بني وامنح جسدك وعقلك الراحة التي تحتاجها ، صديقك طيب القلب وسيتفهمك حتماً .

_ اعتذر حقاً لكل ماسببته لكم ، ربما لم أعتد بعد على أن ماافتقدته منذ سنين طويلة ، أعني .. أني كنت أعيش بمفردي لذا ..

قاطعه آرون متفهماً : سنتحدث غداً بهذا الشأن ، تصبح على خير .

تأمله بعيونٍ ذابلة تعسة ، وسرعان ما أبعد ناظريه واستدار يغادر الغرفة بصمت ، تبعه ستيف مستأذناً الرجلين الآخرين وقد دخل لمشفى القرية البارد ثم جلس على الفراش يخلع حذائه وجواربه ، رفع رأسه ينظر الواقف أمامه وعيونه تحمل الكثير مما لم يأذن له بشرحه ، بفتور سأله : لم جئت ستيف ؟ ظننت أننا تحدثنا بما فيه الكفاية .

جلس بجواره ووضع حقيبته الطبية على الفراش بجانبه ، أمسك كف صديقه وفتحها ليكشف عن جرحه وسرعان مابدأ مداواته بصمت والآخر يتأمله بسكون .

_ شكراً لأنك لم تخبرهم .

صمت منشغلاً بمداواته وبعد هنيهة نطق بجدية بصوته الهاديء : لن يطول ذلك ، إنها مسؤولية عظمى لايمكنني تحمل نتائجها ، إن أصابك مكروه وإن أصبح وضعك خطراً وعلاجك صعباً ، سأكون الملام الأول كوني أعرف بذلك ولم أحرك ساكناً.

_ عندما تتحدث بهذه الطريقة .. إنك تتعبني .

صمت أبنوسي الشعر حائراً يرقب إنهيار صاحبه المتجلد عادة ، بينما نظر إليه الآخر بعيونٍ محمرة وقلبه المنصدع يحاول الإلتحام بصلابة : هل تحسبني لن أصبر ؟

_ سيكيم .. الأمر لايقتصر على ذكرياتٍ ستفقدها ، الألم الذي يصاحبه لايطاق ، لن تستطيع احتماله .

ابتسم ساخراً بذبول وسرعان مافتح أزرار قميصه فكشف عن كتفه وصدره لتبدو آثاراً عتيقة وحديثة : أترى هذه .. هنا وفي كل ناحية وفي ظهري حتى .. لقد كانت تستعملني لإطفاء سجائرها اللعينة ، كم أشبعتني ذلاً وصفعاتٍ منذ طفولتي .. خارج المنزل أو بداخله هي ومن سواها ، لم أكن أدرك أيهما كان أقسى ، المزيد والمزيد من الضرب تلقاه هذا الجسد حتى لم أعد أتخيل إن كان هناك ماهو أقسى .. مالن أقدر على تحمله .

كان يتأمله بألم وغصة دون أن يجيب بينما أكمل بحرقة ودمعة هاربة تركت عيونه المحترقة : جرب واضربني بما شئت ، لم أعد أشعر .. لقد مات الإحساس تماماً ، هل تتوقع أن يهزمني طفيلي صغير اقتحم جسدي ؟.. هل حقاً تخالني سأنهار هكذا ببساطة ؟ كن مطمئناً .. لم يعد هناك مايمكنه إسقاطي بسهولة ، شهر أو اثنين أو أكثر حتى ، لن يغير ذلك أي شيء .

_ سيكيم .. هذا مختلف عن كل مامررت به .

ضحك بمرارة وعاد يتأمله بجدية : انظر ما أقول وماتقوله أنت ، أتريد إضعافي قسراً ، هل تريد أن تشعرني بالعجز ؟ مالذي تصبو إليه ؟

بصبر أجابه وهو يربت على كفه : أنت صديقي .. لايمكنني تركك للمجهول ، أضف إلى أني طبيب لايمكنه التضحية بحياة مريضه ، كلما سائت الأمور سيظل الشعور بالذنب والخزي بأعماقي ، لايمكنني التضحية بك افهمني رجاءاً.

_ لاتقلق .. أردت مهلة قصيرة ، أعدك ماإن أفرغ من مهمتي الأخيرة فسآتيك بنفسي ، و سأترك حياتي بين يديك .

بعجز صمت ولم يعد يقوى على قول المزيد ، فتح الباب لتدخل تيريزا بابتسامة جميلة عذبة : مساء الخير ، وأخيراً جئت أخي ،لم أستطع النوم حتى أراك .

حاول جاهداً رسم ابتسامة وهو يجيبها بحنان بينما يغلق أزرار قميصه : تعالي ياصغيرتي ، أحضرت لكِ ماطلبت تلك حقيبتكِ .

نهض ستيفانز مستئذناً بلباقة وقد وضع حقيبة الدواء الصغيرة بجوار رفيقه بينما الفتاة اقتربت من شقيقها قلقة : مابها يدك ؟

_ جرح صغير ، لاتقلقي ليس مهماً .

أشار لها أن تجلس بجواره ففعلت وهي تسأله حائرة : هل تشاجرت مع ديريك ؟ كان منزعجاً جداً لدرجة أنه لم يجب حينما ناديته .

زفر بضيق وأجاب بينما يستلقي على الفراش : لاتهتمي .. سأتحدث معه غداً ، تعلمين كم يغضب بلاتفكير وسرعان ماينسى كل شيء ليبدأ صباحه كأن شيئاً لم يكن .

بتذمر ردت وهي ترقبه : أي أنك من أخطأ بحقه وتنتظر منه أن يتغاضى عن ذلك بدلاً من الاعتذار .

_ سأعتذر غداً .

_ إنك تعامله بوقاحة سي .

تنهد بتعب وهو ينظرها بصمت فهمته فنهضت محتجة : حسناً ..قبل أن تطردني سأتركك بنفسي حفاظاً على كرامتي ، ليلة سعيدة .

أجابها بفتور : ليلة سعيدة .. أطفئي النور .

فعلت وقبل أن تغلق الباب نطقت بجدية : إن لم تعتذر الليلة قد يفوت الأوان بالنسبة لك فتخسر صديقك .

_ أغلقي الباب من فضلك .

حدجته ساخطة وصفقت الباب من خلفها بينما انقلب على ظهره يتأمل السقف بشرود وعقله للبعيد قد ارتحل ، حائراً تائهاً يحاول أن يجد للخلاص باباً لايستحيل فتحه ، أخيراً اعتدل جالساً وأخرج من حقيبته دفتراً وقلماً وشرع يكتب مالايجب أن ينساه أبداً ، هو يدرك أنه وفي أي صباح سيستفيق دون أن يفهم حتى أي جزء من ذكرياته قد فقد ، ولذلك كرر في أعماقه ماخطته يداه : لن تنسى آدم أبداً ، حتى لو أنه أصبح الذكرى الوحيدة المتبقية لديك ..

..............................................

ظلام دامس لم يسمع فيه سوى نعيق البوم، والسكون غطاء تلكم الأجساد النائمة ، عيونه وسط الظلمة أطلت حاقدة ناقمة ، تعد الساعات الطوال، ولطلوع الفجر مترقبة .

لم يدر كيف استطاع أن يصبر ويقيد روحه الثائرة كما جوارحه المنتفضة غضباً ، وآثر أن يبقى وحيداً في غرفته يحاور عقله مفكراً بكلمات حليلته التي حاولت إقناعه مراراً بأن مايقدم عليه قد يسبب له ولمن حوله الهلكة .

بات يدرك في قرارة نفسه أن ذلك الرجل ليس بالسهل ، ثعبان بهيئة بشري ، لكنه قادر بطريقة ما على أن يظهر ملائكياً لاتشوبه شائبة ، يجد مبرراً وحجة دائماً ، يقرر أنه على صواب حتى ليقنعك أنك المخطيء دون أن تملك لنفسك قرار .

بين الحين والآخر كانت تقف الشابة ترقبه من خلف الباب حائرة قلقة، تتجنب القرب منه لعلمها أن ذلك سيجعله يحرقها بنيران غضبه ، لازالت تجهل سبب ثورته تلك ، غير أنها كانت واثقة أن شقيقها الظلامي كان سببها .

أطلت خيوط الشمس دون أن يغمض لأحدهما جفن ، وسريعاً ارتدى معطفه وخرج من غرفته عازماً على الثأر لكرامته التي كُسرت ببساطة ، استقبلته زوجته وعيونها تتأمله وجلة خائفة : إلى أين تذهب منذ الصباح الباكر ؟ لم تتناول إفطارك حتى !

بنبرة جافة باردة أجابها : إني لا أعلم حتى كيف استطعت الصبر طوال المساء .

_ لاتتهور أرجوك إيفان !

_ أتهور ! ذلك الوغد قيد عائلتي بشباكه وتريدين مني الصمت ؟!

وقفت قبالته تتأمله بتفهم متألمة : أخبرتك مسبقاً لكنك لم تصدقني ، لم يعد بإمكانك الآن فعل أي شيء ، لقد أوقعنا جميعاً بشباكه ، ليت الزمن يعود للوراء ، ليتني لم أورطك وعائلتك معي .

_ حدث وانتهى ولافائدة من التمني ، كنتِ دائماً وللأبد مصدر الشؤم في حياتي ، تماماً عكس ماكانت عليه شقيقتكِ .

تأملته بانكسارٍ وهو يغادر تاركاً إياها دون أن يكترث للحظة لمشاعرها المتهالكة ، قبضت كفها بقوة وسرعان ماعادت لغرفتها تلتقف هاتفها من على المنضدة وتضغط رقمه ناقمة ، أجاب غريمها بعد هنيهة بنبرته الباردة الشيطانية : صباح حلو لكِ ياعزيزتي ، كيف حال زوجكِ الحبيب .

_ مالذي فعلته به ؟ بالكاد تمكن من السيطرة على نفسه مساءاً ، لكنه لم يهدأ وقد خرج منذ قليل ولا أظنه يقصد سواك .

_ هذا عظيم .. إني بانتظاره بفارغ الصبر.

_ إياك وأن تؤذيه ، انظر إني أتوسل إليك حتى ، خذ ماتريد من مال وممتلكات لست أهتم حقاً بها ، سأنساك كما لو لم أرك مطلقاً ، لن أطالبك حتى بثأر والدتي ، يكفي أن تخلصني من جحيمك .. أريد أن أعيش بسلام أرجوك .

_ كم هو تفكير أناني ، إني حررتك حقاً والآن أتصرف بكل لباقة ومحبة ، أحميكِ وأدافع عنكِ وأعيد كرامتكِ المهدورة ، سأقف خلفك ألا يعجبكِ هذا ؟ سأنتقم من كل من يؤذيكِ ويحزنكِ.

مستنكرة مشمئزة أجابته : لاحاجة لارتداء قناعك الزائف أمامي ، فأنا أكثر من يعرف حقيقتك المقرفة ، لست بحاجة لشفقتك المزعومة أو حمايتك الكاذبة ، إن كنت تريد فاحمني منك أنت ، واترك تلك العائلة وشأنها فلا طاقة لها بك ، واجه من هو في مستواك واترك أولئك البسطاء وشأنهم .

ابتسم بخبث وهو يقف قبالة النافذة يتأمل السماء التي لاتزال غائمة : أتعلمين ماقدر امتناني ومحبتي لكِ ، كنت أمر بفترة مملة للغاية ورتيبة ، لكنكِ منحتني التسلية والمتعة التي أنستني ضجري ، تلك العائلة لديها ماقد أصبح ملكي .. أو سيكون ، قريباً ستتوالى الأخبار السارة ياعزيزتي ، وثقي أنكِ لن تكوني محط اهتمامي ماإن أحظى على ما أصبو إليه .

انقبض قلبها ورعشة الخوف دبت بأوصالها موقنة أن ذلك الوحش ماإن يضع أمراً ما نصب عينيه حتى يتملكه ، دون أن تعرف من منهم أصبح غايته باتت تعلم جيداً أن الحياة الصعبة المعتمة غدت بانتظارهم .

. . .................................

وضعت الأطباق على الطاولة وغلفت بعضها مما جعل الرجل الأكبر سناً يسألها بحيرة وقد أوقف كرسي زوجته أمام المائدة : لمن هذا ياابنتي ؟

أجابت بعينين ذابلتين ماذاقتا طعم النوم : تيريزا أرادت تناول الإفطار مع عائلتها اليوم ، وهذه الأطباق تركتها لهم .

_ جيد مافعلتِ ، ولكن.. مابكِ ؟ تبدين على غير عادتكِ .

رفعت رأسها تنظره وفي أعماقها اختزلت حديثاً مااستطاعت البوح به ، وبتكتم وتجلد نطقت : لاشيء .. أبي .

وضعت الطعام أمام والدتها الصامتة كعادتها المبحرة في عالمها المغيب عن عالمهم ، وبدأت تطعمها بينما نواه يطعم الصغير بمحبة .

_ إيرينا .. ياابنتي ، أخبريني رجاءاً إن كان هناك مايزعجكِ ، تعلمين أني لن أرفض لكِ طلباً مادمت أستطيع .

صمتت لبرهة مسبلة طرفها بوجع وغصة ، وبصعوبة أخرجت كلماتها باستحياء دون أن تنظر له : أبي .. إن كان ممكناً .. دعنا .. نبقى هنا .

تأملها وانكسارها تجلى في ملامحها المتعبة ، يفهم ماتعنيه القرية لها ومالذكرى التي تحملها لكنه لايقدر أن يرمي بها في الخطر ، لذا أجاب برصانة ومحبة : ياعزيزتي ، ارفعي كفيكِ بالدعاء لينجلي هذا البلاء عنا ونعود لها بأسرع مايكون ، لكننا الآن ولابد سنتركها لنحميها ونحمي من نحب ، لامقام لنا هنا والأمور لم تصلح وتسير نحو الأسوأ ، كوني على ثقة أن عودتنا غير مستحيلة ، وأنها ستجلو كل آلامنا لنستعيد ذكرى حياتنا الآمنة فيها ، فنصنع مستقبلاً يليق بأمجاد من سبقونا .

_ أبي .. ماتقوله صحيح ، لكنني غير قادرة على تركها وكل زواياها تحمل من ذكراه قصة وصورة ، أنى لي أن أهجره؟!

ابتلعت كلماتها مع ألمها الخانق وهي ترقب عيون صغيرها تنظرها كسيرة حزينة تستقرأ الضياع والوحشة في عيونها ، غطت فمها بكفها تمنع انتحابها وغادرت نحو غرفتها تفرغ لهيبها وحيدة .

...............................

كان بحتسي قهوته أمام النافذة منتظراً يحفل بانتصاره ، وشعوره باقتراب خصمه يزيده نشوة ، طرق الباب فدخل الخادم ماإن أُذن له : سيدي .. إن ..

اقتحم الوافد الغرفة دون انتظار فالتفت يتأمله ضاحكاً في أعماقه ساكناً في ظاهره ، أشار لخادمه بالخروج ففعل طائعاً بينما وقف تاركاً فنجانه على الطاولة مرتباً بدلته الفاخرة الرسمية : صباح الخير ياقريبي العزيز ، ماهذا ؟! مداهمة صباحية لم أر مثلها طوال حياتي .

_ هه كما هو المعتاد منك ، أولست مضيافاً ولبقاً دائماً ، لم أتخيل منك استقبالاً خلاف هذا .

_ مالخطأ الذي ارتكبته فأزعجك ؟ ربما عليك التكلم بوضوح كي أفهمك .

اقترب منه وعشبيتاه تنظره بحدة قاتلة كمن يود خنقه متماسكاً ضاغطاً على أوتاره الحانقة المتفجرة : حذرتك من قبل ولاأظنك تملك ذاكرة سمكة لتنسى ذلك سريعاً .

وضع إيفان اصبعه على صدغ خصمه وضربه بخفة بينما يكمل بنبرة مرعبة : أخبرتك أن لا مزيد من العطايا ياعزيزي ، حذرتك من أن تقتحم حياتي دون أن آذن لك .

عاد يضغط بقوة أكبر أفرغ بها كل غضبه حتى سقطت نظارات الآخر أرضاً : وماذا فعلت أنت ها ؟!

دفع يده بقوة والرماديتان تنظرانه بصلافة وثقة لامحدودة : عزيزي إيفان ، أتفهمك جيداً أو لنقل .. حقاً أريد أن أتفهمك ، لكنك تتمادى أولا تلحظ ذلك ؟ ، الفرق بيننا واضح فأنت نشأت بقوانين الريف بينما نشأت أنا في المدينة بقوانين متحضرة لاتفهم غرابة وتحجر قوانينكم ، لا أفهم حقاً مالخطأ بزيارة عائلة أختي والتواصل معها ، مالخطأ في ارسال الهدايا والتي كان يجب إرسالها منذ يوم الزفاف ، كما تقتضي العادات والتقاليد لدينا .

ضحك إيفان بملأ فمه وسرعان ماصرخ به محترقاً : أجل ككل مرة تجد فيها مخرجاً لأفعالك ؟! أنت تثير جنوني ! تتعمد إيذائي وإحراقي ثم تبرر ذلك وتظهرني أني المخطأ ؟! حسناً أنا ذو عقل متحجر وتقاليد بالية لاأريد أن تقترب من عائلتي مجدداً هل فهمت ؟ ليكن تحذيري الأخير ياهذا وإلا ..

قاطعه محذراً بحزم : حتى الآن إني أعاملك باحترام إيفان ، أتمنى أن لا تجبرني على ألا أكون أنا ، لن يكون ردي هادئاً كل مرة ، توخ الحذر .

_ هه ياللهول أرعبتني ، أريد حقاً أن أرى كيف يبدو جانبك المظلم ياعزيزي ، ثق أني تواق لذلك بشدة .

قبض بعدها يده محاولاً السيطرة على نفسه كي لايودعه بلكمة تفسد معالم وجهه ، وغادر بكبرياء دون أن تهدأ ثورته.

التقف رمادي الشعر نظارته وعاود ارتدائها بابتسامة شيطانية واسعة : تؤ تؤ .. يالك من مثير للشفقة ، كم أحب رؤيتك تحترق كمداً عزيزي إيفان ، واثق أن الأيام القادمة ستغدو أجمل بالنسبة لكلينا .

عاد يجلس على مقعده المريح وهو يهتف بخادمه : كوب آخر من القهوة ، مؤسف.. لقد أصبحت باردة .

............................

على جذع شجرة ملقى كان يجلس وبجانبه الصبي الصغير، يرقبه بحماس وهو يقلب مكعب روبيك بمهارة حتى فك عقدتها وأصبحت أوجهها موحدة اللون .

_ وهكذا ببساطة تستطيع حلها في دقيقتين ، مارأيك ؟

بإعجاب وذهول اتسعت عسليتاه المشرقتان : أنت بارع حقاً ، هل أستطيع التجربة ؟

_ بكل تأكيد إنه لك .

أمسكه بسعادة وبدأ يجرب ماتعلمه في حين اقتربت منهما تيريزا بابتسامة عذبة : صباح الخير لكما " نواه" ،"ديريك" .

أجابها كليهما بالتحية فجلست بجوار الشاب وهي ترقب مايفعله الصبي : هل تعشق الأحاجي أنت أيضاً ؟

أومأ لها بالإيجاب ولازال يحاول حلها بانسجام فابتسمت لمنظره ضاحكة : جيد عرفت ماتحب أخيراً.

أتبعت وهي تلتفت لديريك : هل تتناول الإفطار معنا دي ؟

_ كلا .. سبقتكم وتناولته مع فرانك .

ضجرة أجابته مستاءة : بت مقرباً من فرانك هذا حتى نسيتنا .

بطرف عينه تأملها وابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتيه : على الأقل هو شخص جيد على عكس شقيقك المتعجرف الناكر للجميل ، ويعد طعاماً شهياً على عكس إحداهن من لاتجيد حتى سلق بيضة .

ضربته بقبضتها على كتفه مستاءة : بغيض حقاً .. لقد كان هذا في الماضي أنا الآن طاهية ماهرة .

_ واضح .

_ صدقني لقد علمتني إيرينا الكثير ، إنها بحق امرأة مذهلة ، لاعجب أنه متيم بها .

ضيق عينيه مستنكراً متسائلاً : من ؟

صمتت وقد أدركت أنها نطقت بما لايجب البوح به ، فبررت بكذبة ماعادت منجية : لا أحد .. أعني زوجها .. أجل زوجها .

نظر إليها وقد فهم بعينيها مالم ينطق به لسانها، وغضب خفي قد تسلل لأعماقه محاولاً أن لايصدق أن من يفكر به قد يجروء على ذلك : سيكيم ؟!

نهضت مسرعة بوجل تشتم ذاتها في أعماقها لبوحها بسره : لقد تأخرت ، علي إيقاظه في الحال ، عن إذنكما .

غادرت مسرعة وقد بات موقناً أن شكوكه السابقة كانت حقيقة ، مما جعل غضبه منه مضاعفاً والذنب لايغتفر .

..................................


أصوات كثيرة تزاحمت في عقله، وصور مشوشة المعالم لأشخاص وقفوا تبللهم زخات المطر الكثيفة ، يوجهون أسلحتهم نحو كيانٍ مجهول الهوية ، اقترب حائراً يتأمله وقلبه يعتصر ألماً دون أن يعرف سبباً لذلك ، وشيئاً فشيئاً بدأت الظلال تبتعد والأضواء تنعكس لتبدي شخصه المهيب ، جاعلاً من حواسه أجمع تنتفض مذعورة مستميتة ، حاول إيقافهم ولكن صوت الرصاصات كان الأسبق ليصرخ بملأ فمه يائساً: أبي!

استفاق والقطرات الباردة بللت جبينه وأنفاسه متسارعة لاهثة ، امتدت كفه إلى حيث الزجاجة القريبة فحملها بيد مرتعشة يصب لنفسه بعض الماء شربه على عجل .

أعاده وتنفس الصعداء وقد استلقى من جديد يحاول الخلاص من بقايا ذلك الكابوس المرعب ، والذي لايقوى حتى على التفكير به .

قطع أفكاره صوت الباب يفتح من ورائه أطلت شقيقته باسمة ، اعتدل جالساً وهو يبادلها الابتسام بمحبة : ماهذا الصباح الجميل .

اقتربت تجلس على السرير وهي تتأمله قلقة : لقد تأخرت لذلك طلب مني أبي الاطمئنان عليك .

_ لاأعلم ماجرى لي في الآونة الأخيرة ، أصبحت محباً للنوم .

_ يقال أن المرأ حين يلجأ للنوم فهو بمر بحالة عشق أو اكتئاب ، وأرى أنك للأولى أقرب .

ابتسم بخيبة دون أن يجيب بينما أعقبت بحماسة : مالذي جرى بينكما بالأمس ،استطعت الحديث معها ؟

بصعوبة نطق وثقل حط بقلبه : بالنسبة لهذا الأمر .. رجاءاً لنغلقه كأن لم يكن ، في الواقع .. فهمته خطأً ، لا شيء خاص يربطنا .

مستنكرة أجابته بلا تصديق : أجل ربما هي لم تربطها بك علاقة بعد ، لكني أفهمك جيداً وأدرك ماتخفيه بقلبك نحوها .

أومأ لها بالنفي بإصرار : ليس كذلك ، لنغلق الموضوع رجاءاً إنه يزعجني .

_ تهرب ببراعة دائماً .

مستطرداً نطق بتردد : تيريزا .. مؤخراً .. أهملتكِ كثيراً ، إني آسف لذلك ، وأود التعويض عن تقصيري ، أخبريني مالذي يمكنني فعله لأجلك .

حائرة تأملت عيونه التي أخفت الكثير : لاتهتم بشأن ذلك أخي ، يكفي أننا هنا معاً .. جميعاً ، كل ماأرجوه أن تكونا بخير وبقربي.

احتضن يديها بين كفيه وهو يتأملها بنظرة حانية : سنكون بجانبكِ طالما استطعنا ، ولكن عليكِ أن تعديني أنك لن تضعفي مهما حدث ، لاأحد منا يعلم ماتخفيه الأقدار لنا ، كوني قوية دائماً فهذا سيمنحنا القدرة على مجابهة كل شيء أياً كان .

صمتت هنيهة ترقبه وخوف قد تسلل لقلبها ومالبثت أن نطقت بألم : لم تتحدث بهذه الطريقة ، إنك تخيفني .

_ ليس ذا مقصدي، تدركين مانحن مقبلين عليه ، مهما كانت النتائج عديني أن تكوني ابنة آرون الصلبة ، ستثبتي بعزيمة وقوة ولن تضعفي أبداً ، كوني أنتِ مصدر قوتنا لا عكس ذلك .

ترقرقت الدموع بعينيها وهي تجيبه بصوت مرتعش : لقد اعتدت غيابكما قبلاً ، والآن عدتما لتجعلاني أعتاد دفء وجودكما قربي ، هل تريد إماتتي مجدداً؟

_ تيريزا ..

_ لاتقلق .. لو لم أكن قوية وصلبة لما تشبثت بحياة لعينة كهذه ، عدني أنت أيضاً ، أنك ستبذل ماتستطيع لتكونا بخير .

_ إني أعدك ، إن كنت لاأسمح لأي كان بأن يحزنكِ فكيف لي أن أفعل .

مسح دموعها واحتضنها فبادلته العناق محاولة دفن مخاوفها وآلامها ، بينما أتبع وهو يداعب شعرها برفق كما لو كانت طفلته : أتعلمين .. فكرة التسوق معكِ راقتني حقاً ، غداً حينما ننجز مهامنا سآخذكِ للتسوق ، كما أنني أريد مساعدتكِ ، سنشتري بعض الحاجيات لنسعد بها الصغار ، مارأيكِ؟

تأملته بابتسامة ممتنة رغم ذبولها : هذا مذهل كنت أفكر حقاً بذات الأمر ، متلهفة لذلك .

ابتعدت بعد هنيهة ونهضت تمسك يده : هيا انهض لنتناول الإفطار معاً ، أنا وأبي لازلنا بانتظارك لم نأمل شيئاً بعد .

أومأ إيجاباً ونهض وهو يبادلها بابتسامة هادئة : انتظريني قليلاً فقط لأجهز نفسي وسألحق بك بأسرع مايمكنني .

_ حسناً إذاً .

خرجت تسبقه وكلماته لاتزال تقلقها وتخيفها من مستقبل تجهله ، عادت لوالدها وكان يضع الطعام على الطاولة : تأخرتما ! أين هو ؟

_ إنه آتٍ .. استيقظ منذ وقت قصير فقط .

_ هل من خطب ما ؟ أراك هادئة بشكل مريب .

أومأت بالنفي وجلست على الكرسي دون أن تعقب ، فما كان منه إلا أن تكلم بشك : أسرار جديدة ؟ هل غدوت مثل شقيقك الآن وأصبحت أنت الأخرى تخفين أسراراً عني ؟

_ كلا أبي الأمر ليس كذلك .. إني أقلق وحسب ، تراودني مخاوف كثيرة وكوابيس منذ سُجنت ، والآن وبعد أن شعرت بالراحة قليلاً .. قلبي لايهدأ أبداً وعاد منقبضاً كما كان .

_ صغيرتي ..

أسند رأسها لصدره بعطف : لاتخشي شيئاً ، طالما أننا نتنفس الهواء ذاته فلن أسمح لمكروه أن يصيبكما ، سأبقى لحمايتكما دائماً ياابنتي .

_ أرجو ذلك من كل قلبي ، أنتما عائلتي الوحيدة ومسكني ، كونا بخير رجاءاً .

_ صباح الخير لكما .

التفت الاثنان له وقد اقترب فأجاباه بالتحية معاً ، جلس يتأملهما مستنكراً وقد بدءا تناول الطعام بصمت : مابكما ؟ لم لاتتما حديثكما ؟ أم أن وجودي يزعجكما ؟

بسخرية أجابه آرون : حديثنا لايهمك ، كما لايجب أن نهتم بتفاصيل حياتك .

فهم مايرمي إليه فالتزم الصمت دون تعقيب مما جعل الآخر يقطب حاجبيه مستاءاً : على كلٍ دعونا لانتأخر ، هناك الكثير لنفعله اليوم ، بالطبع إن كان يهمك ، بالأمس لم تكن موجوداً لذلك أعلمك بآخر الأحداث ، ديريك جاء بما نحتاجه من عتاد وبالطبع لن نتدرب هاهنا بل وجدنا ساحة بعيدة محصنة ، وتخيرنا المجموعة التي ستشاركنا وتساعدنا ، بقي أن نجد طريقة للخروج والدخول دون أن يلحظنا أحد .

_ هذا الأمر لدي ، وجدته بين أوراق آدم .. صديقي الراحل ، كان قد تحدث عن نقطة عمياء في القرية لايمكنهم مراقبتنا منها ، فالدخول والخروج سيكون أسهل مالم يلحظنا أحد آخر ، لنكن حذرين فلانعلم متى وماستكون خطوتهم القادمة .

_ هذا جيد جداً ، لنبدأ باكراً فلامزيد من الوقت نضيعه .

أومأ إيجاباً والفتاة تتأملهما والألم يعتصرها ، هي لاترغب بخذلانهما أو إضعافهما ، وفي الوقت ذاته كان الخوف مما هو آتٍ يرعبها وينهكها .

.......... ............................


وأخيراً تجمعوا في الساحة السرية حيث اتفقوا ، وقد هُيئت للتدريب فاصطفت المجموعة بحماسة يقدمهم آرون وهو يرشدهم ويعلمهم .

وقف أمام أحد الشبان يعينه على حمل السلاح بحذر : انظر .. من هنا ستملأ الذخيرة بهذه الطريقة ، عليك بإمساكه بقوة ، والتصويب بحذر شديد ، بالطبع لن تطلق بسلاح حقيقي حتى تتمكن من هذا ، هو يشبهه لحد كبير لكنه ليس خطراً ، صوب الآن أمام لوح التصويب ولنرى قدراتك .

فعل ماطلبه منه وأطلق الرصاصة الزائفة وقد ابتعدت عن الهدف كثيراً مما جعله يشعر بالإحباط : آسف سيدي لقد أخفقت .

_ لابأس بإمكانك المحاولة حتى تتقن ذلك فهو ليس أمراً سهلاً بالنسبة لشخص لم يحمل السلاح مطلقاً ، مرة تلو أخرى ستقترب من هدفك .

عاد يعلمه وسيكيم يرقبهم بابتسامة حنين وهو يتذكر تلك الأيام الجميلة حين علمه والده بذات الكيفية والكلمات التي لايمكنه نسيانها ، ذلك الرجل الذي جعله يواجه المصاعب بكل قوة وعزم وأوصله لماهو عليه الآن ، لكم كان يفخر دائماً بكونه ابناً له .

" لكن .. هل أستحق أنا أن تفخر بي أبي ؟ "

همس بذلك لنفسه وروحه باتت تخذله ، يراها صغيرة حقيرة يمقتها بشدة ،التفت بعدها لديريك والذي كان بدوره يتحدث مع أحد الرجال ويساعده.

اقترب منه خطواتٍ وقبل أن ينطق رماه الآخر بنظرة باردة وعاد يتجاهله وهو يكمل حديثه مع الرجل .

_ هل يمكنك منحي بعض الوقت ديريك .

ربت ديريك على كتف الرجل مشجعاً محاولاً تجاهل صديقه : أحسنت ستتقن ذلك بسرعة ، تبدو مهاراتك جيدة .

_ ديريك .. من فضلك .

زفر عميقاً بضيق ثم استأذن القروي بلباقة وتركه ليقف قبالة صاحبه : ماذا تريد ؟

_ لازلت غاضباً مني ؟

_ برأيك ؟!

رد بتفهم : أدرك كم كنت فظاً ، لكني أمر بأوقات صعبة ، حدث ماحدث بالأمس رغماً عني ، صدقاً لم أدرك أن الوقت قد مضى وكيف مضى ، كنت مستاءاً من نفسي لأقصى الحدود ، لم يكن لك ذنب بأي شيء ورغم ذلك أفرغت غضبي بك دون أن أدرك .

نظر لعينيه وأكمل باعتذار صادق : سامحني ديريك .. أنت وحدك من احتمل لحظات طيشي وغضبي وجنوني ، إني آسف لكل سوء اقترفته بحقك ياصديقي .

بخلاف كل مرة كانا يختصمان فيها ، تلك المرة كانت عيون صديقه تنظره بجدية وحزم دون أن ترق أو تلين ، وبنبرة جافة تكلم أخيراً : ماذا بعد؟ ألا ترى أنك تأخرت قليلاً ؟

_ ديريك .. صدقاً لم أكن بالأمس قادراً على الحديث مع أبي حتى ، أو شرح أي شيء .

_ لكنك استطعت التحدث مطولاً مع ستيف ، ربما هو الأجدر بثقتك .

ابتسم مستنكراً : هل ماأفهمه صحيح ؟ أنت تشعر بالغيرة منه ؟

بنبرته الجادة ذاتها أكمل دون اكتراث : ماذا أكون بالنسبة لك سيكيم ؟

هدأت ملامحه وهو ينظره بحيرة وكأن من أمامه قد تحول لشخص آخر : مالذي يجري لك ديريك ؟ ماهذا الآن؟!

_ أجبني .

_ إنك صديقي المقرب وأخي ، كف عن الهذيان ، أنت أكثر من يعرفني ديريك .

_ ماذا لو لم أعد ؟

قطب حاجبيه متسائلاً حائراً بينما أكمل الآخر : لم أعد أفهمك حقاً ، حتى بت أدرك تماماً إني لم أعد بالنسبة لك سوى أداة لتلبية متطلباتك ومصالحك ، سيكيم الذي عرفته مذ كان طفلاً ماكان وغداً ولئيماً كمثل من أراه الآن .

أكمل بغيظ ونقمة : وما كان لينصب عينيه على زوجة صديقه الراحل .

تركه بعدها وقد دفع كتفه يبعده عن طريقه ،بينما كان الآخر يقف مذهولاً مكانه قد ابتلع كلماته كمن صُبَّ على رأسه ماء بارد في جو ثلجي عاصف .

بصعوبة استعاد هدوء أنفاسه وسار حيث أبيه ليهمس له ولم يعد بمقدوره الثبات أكثر : أبي .. سأعود للمدينة فلدي عمل كثير يجب أن أتمه ، قد أتأخر لذا لاتقلقوا .. وقد لا أعود هذا المساء .

التفت يستمع له باهتمام : هل أنت بخير ؟

أومأ له إيجاباً : حان الوقت للعمل على خطة لاقتحام المقر وتحرير السجناء ، سأحاول العمل عليها وإنهائها هذه الليلة ، هذا كل مافي الأمر .

_ حسناً ، سنتولى أنا وديريك العمل هنا إذاً ، وكذا أخبر الرئيس سيمونز أن يساعدك في دخول غرفة الملفات السرية ، نحتاجها بشدة .

_ سأفعل ، أراك مساءاً إن استطعت العودة ، انتظر ! كدت أنسى .. ستقلع الطائرة في العاشرة مساءاً سآتي لاصطحابك قبل ذلك بثلاث ساعات لذا كن جاهزاً .

_ قلت لك أني لن أسافر ، ليس الآن حتماً لم تقرر بالنيابة عني لست أفهم .

_ أبي أرجوك .. أي يوم آخر لك هنا سيزيد الأمر خطورة ، سنتولى أمرنا هنا جيداً لذا لاتقلق .

_ تماماً كما توليت الأمر قبلاً صحيح ؟ والنتيجة أن خسرنا والدتك بسبب إهمالك وكراهيتك .

أجابه بنفاذ صبر مستنكراً : بسببي ؟

استدرك آرون مانطق به فتنهد محاولاً تهدئة نفسه : حسناً سيكيم لنتحدث لاحقاً ، ليس ذا الوقت والمكان المناسبين .

نطق بصوت مرتعش محاولاً السيطرة على غضبه دون أن يقدر على ذلك وقد علا صوته تدريجياً بقهر : قلت أنها ماتت بسببي ؟ ألن تعتذر ؟ حقاً ! .

_ تكلم معي بتهذيب سيكيم .

_ ماذا لو لم أفعل ؟! ، لم علي الصمت دائماً ؟ أتعلم ما عشت وما أعيش حتى بسببها ؟ ، ومع هذا وقفت بجنازتها وأخلفت عهدي لنفسي ،مهما فعلت لايرضيكم ولا أروق لكم بأي شكل من الأشكال تنبشون أخطائي فتحاسبوني عليها واحدة تلو الأخرى دون أن يفكر أحد بما يمكن أن يخلفه ذلك بي ، بل حتى ما أبقيه لنفسي وما أخفيه عن الجميع أصبح جريمة لاتغتفر ويجب محاسبتي عليه ، حتى مشاعري لاحق لي بامتلاكها ، خاطيء دائماً وأبداً .

_ توقف عن الصراخ سيكيم الجميع ينظر لك ، تمالك نفسك ياولد .

أتبع وزرقاوتيه احمرتا بقهر : لست مثالياً ، لست من تفخرون به ، صدقني حتى أنا أمقت نفسي وأتمنى أن أختفي من هذا العالم لأريحكم وأرتاح أيضاً ، تحلوا بالصبر .. بقي القليل فقط .

ابتعد وعيون صديقه تشيعه بنظراتٍ غامضة ، ومالبث أن أشاح بوجهه عنه وعاد يتم عمله محاولاً تجاهل ذلك الشعور المزعج الذي تسلل لقلبه على حين غرة ، بينما والده كان يتأمله مذهولاً مستنكراً يمسك زمام نفسه بصعوبة .


.............................

أمام الموقد جلست تشعله وعقلها قد ارتحل للبعيد ، أخرجت البطاقة من جيبها وتأملتها وأحلامها طافت بها إلى ذلك المكان ، تتخيل نفسها تقف على المدرجات مشجعة والخيول تتسابق في منظر ساحر يأسر القلوب ويخطفها ، بل أكثر من ذلك .. تخيلت أن تمتطي فرسها وهي تلبس البدلة الخضراء الأنيقة وتسابق الريح فتجتاز الحواجز وتكسر الأرقام .

استفاقت من خيالاتها بعدما خاطبها شقيقها بتفهم : لقد كنت دوماً تحلمين بفرصة كهذه ، كان الأمر مستحيلاً بالنسبة لكِ ، والآن وقد تحقق لم لا تستجيبي وحسب لقلبك .

أجابته قلقة : نيكولاس .. أنا لست راغبة بالانصياع لأي كان .. ماذا لو كان يملك نوايا أخرى سيئة ؟

_ لن يكون أسوأ من إيفان حتماً ، إن كنتِ قلقة للغاية فسأرافقكِ كذلك ، لكن .. لاتتركي حلمكِ ، كنتِ دائماً تسعديننا وحان الوقت لتفكري بنفسكِ قليلاً ، مهما كانت النتائج .. ألا تري أن الأمر يستحق ؟

_ لا أعلم .. صدقاً لم أعد أعلم شيئاً يا أخي .

...................................

تأملت خزانتها طويلاً ، في كل مرة كان من السهل انتقاء ماتريد منها ، أما الآن فهي حائرة مضطربة لاتدري أيها تختار ، وبعدما بعثرت وجعلت من السرير خزانة أخرى فوضوية للغاية وجدت مايرضيها .

كانت ترتدي فستاناً قرمزي اللون بحزامٍ عريض أسود تناسب ومعطفها الذي كان باللون ذاته ، همت برفع شعرها لكنها تراجعت وأسدلته على كتفيها وهي تتذكر كم كان يعجبه ذلك .

أخرجت علبة المساحيق وتأملتها ملياً قبل أن تقرر أن تضع القليل ، تدرك أنه يفضلها ببساطتها ، لكنها هذه المرة رغبت أن تتمرد قليلاً وأن تضفي لنفسها لمسة مميزة .

رسمت عيونها بالسواد لتبرز لونهما الضبابي الممتزج بالزرقة الداكنة ، وعلى شفتيها تورد ماجعلته متكلفاً ، أغلقت الحقيبة باكتفاء وحملت حقيبتها وقد أفرغت ثقل قلبها بتنهيدة طويلة .

" سيكيم .. لن أسمح لك مطلقاً بأن تهجرني ، حين تفعل ذلك سيكون عليك أن تخسر الكثير ، فلا حق لأي كان تدمير كبريائي دون أن يدفع ثمناً لفعلته".

...............................................

على الأريكة جلس يفكر وكلمات صديقه لاتزال تداهمه بعنف ، شتم نفسه في أعماقه مراراً ، كيف سمح لنفسه بهكذا خيانة ، ورغم شعوره بالخزي والعار فقلبه يأبى أن ينساها ، ولايزال يضطرب بعنف كلما تذكرها ، والآن وقد أصبحت مشاعره مفتضحة كيف سيجد الجرأة على مواجهة الجميع ، كلماتهم بقدر ما آلمته وجدها حقيقة استحقها ، الجميع يلومه باستمرار وبالرغم من ذلك هو كذا لايتوقف عن لوم نفسه وكراهيتها .

دفن رأسه بين كفيه والصداع قد تملكه من جديد وكم تمنى أن ينسى كل مايرهقه ، أن يعود لنقطة البداية دونما أخطاء .

_ وإن نسيت أنا .. لن ينسى ديريك ذلك ، لن يثق بي مجدداً .. كم كان ينظرني باحتقار ، آدم .

تأمله الجالس قبالته بعطف : الصديق لن يترك صديقه حائراً متألماً ، سيسامح ويعفو ، ديريك صديق مخلص ، سيتجاوز كليكما ذلك قريباً .

رفع ناظريه نحو متألماً : آدم .. لم يحدث هذا معي ؟ مذ توفيت أمي والحياة قد تقمصت دورها في إذلالي ، كل شيء بات يشعرني بأني لاشيء .. أرتكب الأخطاء باستمرار وأبقيهم بعيداً عني ، أرى كم بت منبوذاً أكثر من ذي قبل ، ولا أنكر أني أستحق ذلك ، تماماً كما أرادته أمي دوماً .

ابتسم بهدوء وثقة وهو يجيبه بصوته الدافيء الحاني : هذا لأنك اعتدت أن تشعر بذلك ، لقد سمعت تلك الكلمات دائماً حتى بت تصدقها ، لست منبوذاً ، لاأحد يمقتك .. كل غضبهم سيزول حين تكون صادقاً معهم ، يقلقون عليك ويخشون أن تصاب بأذى ، صمتك بات ينهكهم ، ربما من الأفضل أن تخرج من قوقعتك بعد الآن ، أن تعود إليهم وتحرر روحك السجينة ياصديقي .

_ أتحرر .. هل أستطيع ؟

تلاشى طيفه من جديد وذهبيتاه أجابته بنظرة واثقة ، بينما شعور بالراحة قد تسلل لأعماقه يمنحه شيئاً من عزيمة وقوة كان بحاجة لها ، نهض وجلس أمام حاسوبه يبدأ عمله محاولاً الثبات طارداً كل تلك الوساوس التي أضعفته وأعيته .

" لديك الكثير لتفعله .. لاوقت لأن تغرق في اكتئابك وانهزامك .

شحذ عزيمته ووضع القائمة لما عليه أن ينجز وهو يتمتم : علي مقابلة الرئيس سيمونز بأقرب فرصة ، ويجب أن أجد القطار الذي سيقلهم ولابد أن نتخير الطريق الأفضل الذي لايمكنهم فيه إيقافنا ، بل قطارين فهما رحلتين ، خطة الاقتحام لابد وأن تكون محكمة سنحتاج فيها الكثير ، وماذا أيضاً .. طاقم طبي ، لابد أن نحتاجه في حال أصيب أحدنا ، ستيف !

اتصل به دون تردد ومالبث أن أجابه رغم انشغاله : سيكيم مالخطب ؟ هل كل شيء على مايرام ؟

_ أجل لاتقلق ، لكني أردت لقائك اليوم إن أمكنك .

نظر لساعته ولجدوله قبل أن يجيب : بعد ساعة سيكون موعد الغذاء ، بإمكاني ترك مكاني لبعض الوقت إن لم يحدث أمر طاريء ، هل ستجيئني هاهنا أم أذهب إليك أنا .

_ بل نلتقي في مكان آخر ، إذاً .. أراك بعد ساعة ، سأكون بانتظارك ، وسأرسل لك العنوان حالاً .

أغلق الهاتف وأعاده لجيبه بينما ينهض ويغلق حاسوبه ، وسرعان ماخرج نحو مكتب الشرطة ،ليلتقي بسيمونز بعيداً عن مكتبه الخاص .

_ غرفة الملفات السرية ؟ كيف أستطيع إدخالك وهي محظورة علي حتى ، إنها تخص ليونيد ولابد أن مستوى الحراسة هناك عالٍ ، أعتذر لايمكنني تلبية طلبك هذا .

صمت يفكر لبرهة قبل أن يسأله : ألا تعرف أحداً يمكنه الولوج إليها؟

_ بلا .. وهي قريبة منك للغاية ، ربما بإمكانها مساعدتك، ومع ذلك كن حذراً ولاتأمن كثيراً لها .

ضيق عينيه بحيرة متسائلاً : من تقصد ؟

_ كريستينا .. ابنته .

......................

سار في الممر الأبيض الطويل عائداً لغرفته وإذ بالسيدة تقف أمام النافذة بشرود كما لو كانت غارقة في عالمها الخاص وغائمتيها ذابلتين محمرتين .

_ إيرينا ؟! هل أنتِ بخير ؟

التفتت له وسرعان مامسحت دموعها محاولة أن تكتم ما ألم بها : المعذرة سيد ستيف ، لم أنتبه لوجودك .

_ هل أنتِ بخير ؟

أومأت إيجاباً بتردد : كنت سأخرج لاستنشاق الهواء لكني لم أدرك كيف شردت هاهنا .

اقترب منها ينظرها بتفهم : هل عادوا لإثارة المشاكل في القرية ؟

صمتت قليلاً تحاول احتجاز دموعها ونطقت بغصة : لقد .. سائت الأمور قليلاً وقد قرر الجميع أن علينا ترك القرية .

_ هذا ماكان يجب أن يحدث منذ زمن طويل ، أعني .. أوليس هذا ما أراده آدم أيضاً ؟ صدقيني إنه الخيار الأفضل ليعيش نواه وجوزيف بسلام ، وكذلك بقية الأطفال في القرية .

أعلم .. أعلم هذا جيداً .. ومع ذلك .. الألم بداخلي لاينجلي ، داخلي يحترق .

انهمرت دموعها دون أن تقدر على التماسك .

تأملها بأسف دون أن يستطيع مواساتها فما كان منه إلا أن نطق متألماً لحالها : برأيي عليكِ العودة للمنزل اليوم ، لاترهقي نفسكِ رجاءاً وفكري بالأفضل، كم أتمنى لو كان بمقدوري إيجاد حل مالإبقائكِ دون أن تتعرضو للأذى .

أومأت له بالنفي : شكراً لك .. كنت دائماً بجانبنا أنا وعائلتي ، في السراء والضراء ، مهما فعلت لاأوفيك حقك ، ربما تكون هذه الأيام هي الأخيرة لي في المشفى ، سأفتقد ذلك حقاً ، أنت حققت لي حلمي وساعدتني وأهل القرية كثيراً ، كن بخير دائماً ، سنتفتقدك .

أجبر نفسه على رسم ابتسامة رغم شعوره بالحزن والألم لأجلها : سأفتقدكم كذلك .. على كل لازال الوقت باكراً لنودع بعضنا ، سآتي لزيارتكم حتماً ، لقد أصبحتم عائلتي ورفاق دربي ، أخبريني رجاءاً إن احتجتم لأي شيء .


بادلته الابتسام ممتنة : سأغادر الآن إذاً وسأبدأ بحزم أمتعتنا ، أراك قريباً .

أومأ لها إيجاباً فودعته تشيعها عيونه مستذكراً كلمات زوجها الأخيرة .

" ستيف .. إن تركنا القرية سنعيش بكرامة حتى ولو أماتنا الاشتياق ، كل ما أحلم به هو مستقبل آمن لعائلتي ومن أحب ، لكي لايذوقوا ما اجترعنا من آلام وغصص ، عندما أعود من هذه المهمة سأبدأ التجهز لرحيلنا من القرية ، لكن إن لم أعد .. هل لك أن توصل لهم رسالتي ياصديقي "

تنهد بعمق ورفع رأسه يتأمل السماء من النافذة الكبيرة : لو أنك تعلم كم باتت حياتها معتمة بدونك ، فحتى لو رحلت لن تعيش أماناً لايحتويك .

................................


من خلف النافذة كان العالم يبدو معتماً كئيباً رغم أنهم لازالوا في وضح النهار ، لكن الغيوم التي تزاحمت في السماء حجبت الضياء الذهبي فما عادت القلوب تنعم بدفئه ، كم احتاج لبصيص نور يجلو ظلمة غلفت أعماقه .

صوت خطوات قريبة اقتطع سكونه ليلتفت نحو أبنوسي الشعر ، والذي كان ينتظره في المقهى وهو يحتسي قهوته الداكنة .

_ أعتذر لتأخري .. كما تعلم المشفى مكتظ على الدوام .

_ لست هنا منذ وقت طويل لذا لاتهتم .

جلس قبالته يتأمله قلقاً : كيف حالك اليوم ؟ لاتزال شاحباً .

مستطرداً أجابه : لست هنا للحديث عني ، إني بخير حقاً .. على الأقل في الوقت الراهن ، على كل حال أردت أمراً لاأستطيع طلبه من سواك .

أشار له يستحثه على أن يكمل فأتبع بجدية : أريد طاقماً طبياً مسعفاً ، يجب أن يكون قادراً على تحمل المخاطر ، وأن يكون جاهزاً للمشاركة بعملية سرية للغاية ، والموعد بعد خمسة أيام فقط .

مستنكراً أجابه : خمسة أيام ؟! ، كم عددهم ؟

_ ليس مهماً بقدر كفائتهم ، ولكن أظن أن من الأفضل أن يكونوا أربعة أو ستة ، أظنه عدد كافٍ لقطارين.

فكر قليلاً قبل أن ينطق : أمهلني قليلاً لأتخير لك الأفضل .

أومأ له إيجاباً بامتنان : شكراً لك ستيف ، إني أثق وأعتز بك كثيراً تعلم ذلك جيداً.

_ وأنا أقدر هذا ، شكراً لك .

أتبع بحيرة : هل الأمر يخص القرية ؟

ضيق عينيه مستنكراً: ما أدراك ؟

_ بدت إيرينا اليوم على غير عادتها شاردة الذهن ، حين سألتها عن السبب أخبرتني أنها ستترك العمل في المشفى قريباً ، وأنها ستترك القرية .

صمت بضيق بينما أكمل صاحبه : لاتقلق .. إني مُطَّلِعٌ على ماتواجهه القرية من مشاكل في الآونة الأخيرة ، وقد كنت وآدم على تواصل دائم ، كان يخبرني بما يجري من أمور سيئة ، وهو كذلك كان قد فكر بترك القرية .

بدت معالم الدهشة ترتسم على وجهه بينما الآخر يكمل : كان يقول أن على المرأ أن يهجر موطنه إن عم الفساد فيه ولم يستطع أن يصلحه ، ولكن حتماً لن يتقبل هذا ويصمت ، لقد حاول والرجال كثيراً لإنقاذ القرية من المفسدين ، لكنهم كانوا أضعف من أن يواجهوا سلطة عظمى كتلك .

_ كنت على صلة بآدم ؟ حقاً؟

قالها وكأنه الأمر الوحيد الذي فهمه من حديثه ، وبعتاب أكمل غير مصدق : كنت تعلم بمكانه وتلتقي به ورغم ذلك لم تخبرني ؟

حاول أن يبرر رغم أنه يعلم أن ذلك العنيد ماكان ليستمع له والصدمة لاتزال في أوائلها : لقد طلب مني إخفاء ذلك عنك ، كنت مجبراً .

_ هل تماديت بثقتي بك ، هل كنت أحمق لهذا الحد حيث لم أفهم أبداً أنكم جميعاً تعاونتم لإخفاء ذلك عني ؟

_ سيكيم.. أخبرتك أنه رفض ذلك لأجل حماية عائلته ، لقد منعوه من الالتقاء بكم ، كان يشعر بالذنب لأجل ماحدث مع والدي وحمَّل نفسه مسؤولية ذلك لذا لم يتركني قط ، التقيتما مراراً دون أن تدرك ذلك ، شعرت حقاً بالألم لأجلكما فأنت كنت تبحث عنه بلا كلل وهو كان يتألم لرؤيتك وديريك دون أن يكون قادراً على الإقتراب ، أفهم كم كان هذا قاسياً لكن ....

_ كفى ! ، لقد رحل .. لم يعد بإمكاني محاسبتكم على ذلك ، لقد خذلتموني حقاً لأن أحداً منكم لم يثق بي ولم ينصفني ، ذلك اللهيب بداخلي لن ينطفأ ماحييت لكنكم لن تدركوا أنكم السبب ، كم كان بإمكاننا تغيير كل شيء ، كم كانت الأمور لتصبح مختلفة لو أنكم منحتموني شيئاً ضئيلاً من الإيمان بي، فقط" لو " ومؤسف أنها لم تعد تجدي .

صمت محتجزاً بقايا كلماته وغادر تحرقه الذكرى بلهيبها والحاضر بجحيمه ، بينما عيون صديقه تشيعه بأسف واعتذار صامت .

....................

ولج لشقته المعتمة وقد أطبق المساء جفنيه بعد نهار طويل مرهق أنجز فيه جُلَّ ما خطط لإنجازه ، ألقى بمفاتيحه على الطاولة و أضاء الغرفة ثم توجه نحو القائمة يتأملها من جديد و دون في مذكرته اسماً ورقماً كتب بجانبه " كابتن القطار الأول _ موعد الرحلة ١١:٠٠ مساءاً ، موعد الرحلة الثانية ..:٤ فجراً "

_ المهمة أنجزت .. بقي القليل فقط ، ولكن الجزء الأصعب هو كيف سنخرج كل أولئك السجناء دون خسائر .

فتح حاسوبه وبدأ يبحث عن خريطة المنطقة والمبنى دون جدوى، فذلك الجزء من المعلومات ماكان من السهل الوصول إليها ، تأفف ضجراً وجلس حائراً متعباً ، وأخيراً قرر أن يملأ معدته الخاوية عله يتمكن من التفكير بعدها بشكل أفضل .

نهض يبحث في مطبخه حتى تخير ماهو الأكثر سهولة ولايستغرق كثيراً من الوقت ، وسريعاً سخن الماء وجهز مغلف المعكرونة سريعة التحضير وبعض الفطر والصلصة ، بدأ بخلط المكونات ورائحة الطعام الشهية ملأت أرجاء مطبخه الصغير .

صوت جرس الباب أجفله للحظة وهو يفكر حائراً بالوافد المجهول غير المنتظر ، سار نحوه بحذر ينظر ماورائه من العين الزجاجية ليرى ما أثار دهشته وحيرته ، فتح الباب ينظرها متعجباً مستنكراً بينما نطقت عيونها قبل شفتيها باشتياق ولهفة : سيكيم .. مساء الخير .

_ كريستينا ؟! مالذي جاء بكِ ؟ كيف سمح لكِ والدكِ بالمجيء لي .

بابتسامة محبة أجابته : أحقاً سنتحدث هنا ؟ ألن تدخلني ؟

أومأ لها بالنفي بملامح هادئة جادة : المعذرة .. أظنني أخبرتكِ أن كل شيء بيننا انتهى ، لقد ودعتك هناك وأعربت عن أني لست تواقاً لرؤيتك مرة أخرى .

_ وإذاً .. لنبدأ مجدداً ، كما لو كنا التقينا تواً ، صدقني ليس سهلاً أن تمحو خمسة عشر عاماً ياصديقي .

لم يبدو مقتنعاً فأكملت بعزم : يجب أن نضع النقاط على الحروف ، إن كنت مصراً فلا بد من توضيح الأمور قبل أن ننفصل تماماً ، يجب أن تستمع لي لتفهم أني لست مذنبة بما جرى ، أجل تصرفت بحماقة وجهل ، لكني لم أتعمد إيذاء من تحب .

_ مالثمن الذي أراده والدكِ ، ليأذن لكِ برؤيتي ببساطة ، ودون حارسكِ الودود أيضاً ، أليس مريباً أن يترككِ هكذا وهو يعلم أني سأبحث عن الإجابات لديك وقد أطالبك بما هو أكثر .

_ لايهمني مايريد .. لابد أنه لم يدرك بعد أني لم أعد دميته الحمقاء ذاتها ، لم أعد أرغب بإرضائه أو أبحث عن ذاتي التي خسرتها بسببه ، لقد فهمت جيداً ماتعنيه الخسارة حين فقدتك ، لذلك لايمكنني المجازفة من جديد مهما كان الثمن .

ظل بصمته يستمع لها حتى نطق بعد برهة وقد قطب حاجبيه : العشاء !

أسرع للداخل ورائحة الطعام المحترق سرعان ماعمت الأرجاء ، نظر محبطاً لجهده الضائع وقد ذهب سدى ، وبجانبه وقفت الشابة ضاحكة : لازلت مهملاً سي ، انظر لهذا .. من الجيد أني هنا لأطهو لك عشاءاً لايقاوم .

هم أن يعترض لكنه آثر الصمت مستجيباً لصوت أحشائه الفارغة الجائعة ، جلس على الكرسي وهي تتأمله بابتسامة سعيدة : أرح نفسك وراقبني فقط.

خلعت معطفها وعلقته وسرعان مابدأت تطهو الطعام وهي تتنقل بين الثلاجة والأدراج بخفة ، بينما كان يتأملها وذكرياتهما الكثيرة معاً تطوف في ذاكرته .

" _ كلا ليس هكذا ، عليك أن تضع العجين هكذا وتشكلها برقة ، لاتضغط كثيراً كي تتمكن من صنع الشكل المطلوب .

_ هكذا ؟

_ ميؤوس منك أيها الشاب الكسول ، خذ هذا .

وضعت بعض الطحين على وجهه فشهق فزعاً : لئيمة أنتِ ، تريدين اللعب إذاً خذي هذا .

مسح الطحين بشعرها فصرخت به بذعر : لا مالذي فعلته ليس هكذا ! العجين لايزال بيدك كيف سأزيله من شعري باذكي .

_ آه آسف.. أنتِ من بدأتِ ، حسناً لاتبكِ دعيني أساعدكِ .

أخذ يحاول إزالته من شعرها وهي تصرخ به باكية : توقف إنك تؤلمني ، آي شعري تباً لك سي لن أساعدك مجدداً بأي شيء "

_ مالذي يجعلك تبتسم ؟ هلا شاركتني ؟!

التفت إليها وقد عاد من ذكرياته تواً فنطق بحنين : هل تصنعين لي بعض البسكويت .

ببهجة أجابته رغم تعجبها : حالاً .. أتحب مشاركتي ؟ نستعيد معاً بعض الذكريات .

أومأ لها إيجاباً فبدأت تحضر الحاجيات وهو يساعدها ، وهي تتنقل بين البسكويت الذي بدأت بتحضيره وبين العشاء .

_ هلا رفعت شعري ، يدي متسخة .

_ أتملكين مشبك شعر ؟

_ أجل في حقيبتي في المحفظة الصغيرة .

فتح حقيبتها وسرعان ماأخذ المشبك ووقف خلفها يرفع شعرها محاولاً جمعه وترتيبه قدر الإمكان ، وقلبها كان يرف بسعادة غامرة .

_ شكراً لك .. لم يعد يضايقني .

ابتعد يعاود تشكيل العجين بقدر ماتعلمه ، وما إن أنهيا ذلك حتى وضعت الأطباق على المائدة و تنهدت بارتياح : وأخيراً بإمكانك تناول العشاء براحة ، الباستا المفضلة لديك والبسكويت وسلطة الدجاج الشهية .

_ والعصير أصبح جاهزاً أيضاً.

جلست على الكرسي قبالته وبدأ كلاً منهما يتناول الطعام بصمت ، فهي تتأمله كما لو كانت في حلم جميل لاترغب أن تستفيق منه ، وهو في صمته وشروده الدائم كمن كان يخوض حرباً بين الماضي والحاضر .

نطقت بعد حين من الصمت : هل أعجبك الطعام .

نظر لعينيها لبرهة قبل أن يجيب : تعلمين رأيي .

_ أريد أن أسمعه .

بتردد نطق وهو ينظر لطبقه : إنه جيد ، أحببته .. شكراً لكِ.

ابتسمت برضاً وعادت تتناول طعامها دون أن تعقب ، عاد ينظر إليها وهو يقلب كلمات رئيسه وماطلب والده منه ، وبعد هنيهة تكلم : أريد أن أطلب منك شيئاً ما ، شريطة أن لايعلم بذلك أياً كان ، وأعني بذلك بالأخص والدكِ والمقربون منكِ .

نظرت إليه حائرة تجيب : لا شخص أقرب إلي منك ، ثق أني لن أبوح لأحد بذلك ، سل ماشئت .

قطب حاجبيه متكلماً بجدية : لتكن هذه فرصتك الأخيرة كريستينا ، إن خنتني بعدها ...

_ لن أفعل لقد عاهدتك وإني أقسم لك بذلك لم لاتصدقني ؟

تنهد بعمق محاولاً أن يستعيد بعضاً من ثقة خسرها وصار استرجاعها صعباً : أريد أن تدخليني لغرفة الملفات السرية بشكل عاجل .

_ ماذا؟! حسناً لقد وعدتك ولن أخلف وعدي ، لكن الأمر خطر للغاية هل تدرك ذلك ؟

_ أجل .. يكفي أن أتمكن من دخولها .

أومأت إيجاباً بتفهم : لك ذلك ، سأحاول تدبر الأمر غداً حتماً وسأعلمكم بالموعد .

_ جيد .. سأكون ممتناً .

.....................................

دخل مكتبه بينما كانت تغسل الصحون واتصل وهو يتأكد أنها لاتسمعه : مساء الخير ستيف ، ماذا فعلت بشأن ماطلبته منك .

أجابه الآخر وهو يركب سيارته : مساء الخير سي ، كنت للتو سآتيك لأتحدث معك بهذا الشأن ، أين أنت الآن ؟

_ كلا .. لا تأتي ، ليس الوقت مناسباً .

_ حسناً إذاً .. لتطمئن لقد استطعت تجهيز قائمة مناسبة ، بينهم سيكون ثلاثة تعرفهم .

_ من؟

_ أنا وإيرينا وكذا باتريشيا .

مستنكراً أجابه باحتجاج : بالطبع لن أوافق على هذا ، قلت لك أن الأمر خطر ،كيف تكون مستهتراً هكذا ؟

_ لقد أصرت على ذلك ، كما أنني أراها الأجدر بهذه المهمة ، هي وباتريشيا ثنائي مذهل .

صك على أسنانه بغيظ وهو يجيبه : لم يجب أن تخبرها بكل شيء يدور بيننا ؟ هل أنتما هكذا دائماً ؟ تتبادلان الهموم والأسرار ؟

بحيرة أجابه مستاءاً: مالذي ترمي له سيكيم ، كن واضحاً فأسلوبك هذا لايعجبني ، لاتسمح لغضبك مني أن يجعلك تتمادى وتخطأ .

تنفس بعمق محاولاً أن يهدأ قبل أن يجيب ولهيب الغيرة قد اشتعل بجوفه : لتفعلا مايحلو لكما ، طالما قررتما ذلك فلا حاجة للعودة لي ، نلتقي في الغد إذاً .

_ كن بخير سيكيم .

أغلق دون أن يجيبه وألقى بهاتفه على الأريكة بغضب عارم ، وضع يديه على رأسه وقد عاوده الصداع كما لو أنه أصبح خليله ، صوتها من خلفه أجبره على الاستدارة يخفي وجهه عنها متجلداً : هل أنت بخير سي؟ مالذي حدث ؟

بصعوبة أخرج كلماته محاولاً السيطرة على ذاته الهائجة : لاشيء أبداً ، بإمكانكِ المغادرة كريستينا ، عودي لمنزلكِ .

_ لم أفهم ! هل هذا كل شيء ؟

بإنكسار نطقت فأجابها بحدة : أردت أن نودع بعضنا بشكل لائق وهاقد فعلنا ، ليكن هذا عشائنا الأخير وذكرانا الأخيرة معاً ، بعد هذا لنلتق من أجل العمل وحسب ، أراكِ غداً.

_ سيكيم .. أنت تجرحني هل تعي ماتفعل ؟!

صمت فأكملت محاولة الثبات : لم أكن أعلم أنه صديقك ، قيل أنه مجرد متمرد يربد الخلاص من والدي والزعماء الآخرين ، هو وبعض الرجال اتحدوا ليخططوا للخلاص منا ، حسناً علمت بكل ذلك وبخطة إبادتهم ، حاولت منعك من الذهاب كثيراً كي لاتصاب بأذى ، لكني أقسم أني لم أعرف صلتك بآدم سوى حين وجدت صورته بين ذكرياتك .

تنهد بتجلد يحاول ألا يثور بينما أكملت وهي تضع كفها على ذراعه : لقد أجبرت أن أكون واحدة منهم ، ماكان والدي ليتقبلني بشكل آخر ، إني وحيدة في هذا العالم ليس لي أحد سواك ووالدي ، وأنت ابتعدت كثيراً مذ تم تجنيدك ، مثلك كنت أبحث عمن يحتويني ويحبني ، أن تكون منبوذاً لهو شعور قاتل أنت أكثر من يفهمه .. لذا رجاءاً لاتقسو علي ، لقد تعبت حقاً .

دلك جبينه بكفه اليمنى بينما أسند الأخرى على مكتبه : حسناً كريستينا ، لنتحدث لاحقاً لست في مزاج جيد الآن .

وقفت قبالته تتأمله بقلق : لاتبدو بخير ، هل أستطيع المساعدة .

_ كريستينا رجاءاً اتركيني بمفردي .

أومأت إيجاباً مستسلمة : اهتم بنفسك جيداً ، إن احتجتني بشيء فسأكون بالقرب دائماً، سأستعيد ثقتك حتماً ، وسنرجع كما كنا .. واثقة من هذا .

تجاهلها فتركته وفي داخلها عصفت رياح الغضب والإنكسار ، وماإن غادرت حتى أفرغ غضبه ملقياً كل ما أمامه على الأرض وكلمات الجميع تحرقه أكثر فأكثر ، تنفس الصعداء وقد أفرغ شيئاً من غضبه بعدما جعل من المكان ساحة حربٍ .

لملم شتات نفسه يصارع جاهداً جنونه اللامبرر ، الأصوات بداخله باتت متزاحمة ، يدرك أن لاحق له بالغيرة والغضب ، أن صاحبه محق بكل مانطق به ، وكذلك ديريك ووالده .. لقد أدرك أن روحهه باتت تسلك الطريق الخاطيء قبل أن يدرك هو ذلك ، ورغم كل شيء لازال لايستطيع التراجع ، وسرعان ماوجد نفسه في ظلمة المساء يسلك الطريق نحو القرية دونما تفكير .

............................

نزلت السلالم الصغيرة ودقات قلبها تتسارع كما لو كانت ذكراهما الأولى معاً ، صورته على الكرسي امتثلت امام مرآها يعمل بجد دونما كلل ، وهي ..طيفها من خلفه يقترب لتعانقه تسند خدها لخده : إنها الساعة الواحدة ، هل ستتركني لأرقد ثم تهجرني ككل ليلة ؟

قبل كفها ثم استدار يتأملها بمحبة : آسف حقاً لتقصيري ، من يجروء أن يهجركِ ، إنما يجب أن أخلو بنفسي أحياناً .

_ أسرار تخفيها عن زوجتك ؟

ابتسم ضاحكاً وأعطاها مذكرته : لا أسرار بيننا ، بامكانكِ أن تقرأي .

همت بأخذها فتراجع يكتب جملة أخيره وهو يتمتم : وفي النهاية قررت أن أنهي هذا المساء أتأمل القمر مع أجمل ملاك في العالم ، زوجتي الحبيبة .

ابتسمت ضاحكة وهي تتأمل ماكتبه : أنت مخادع .. تفعل ذلك لتخادعني .

_ لا أفعل صدقاً سنتأمل القمر سوياً ثم سنعود للغرفة لنغفو ونحن نحتضن نواه العزيز ، لايجب أن نتركه بمفرده أكثر .

أمسكت بيديه بابتسامة عذبة : ليتنا نكون هكذا كل مساء ، أحب أن أمضي كل عمري وأنا أتأمل القمر والحياة بعينيك .

وقف وأحاطها بذراعه يتأملها بمحبة : وأنا كذلك ، إيرينا .. أحبك كثيراً وسأظل كذلك للأبد "

عادت من الذكرى ودموعها تغسل خديها رغم الابتسامة الذابلة ، سارت خطواتٍ تلامس ذكرياتها بشغف وحنين ، وكل شيء يحكي لها سطوراً عن حبيبها الراحل ، فتحت الصندوق وبدأت تجمع حاجياته بألم وغصة ونحيب امتزج وصوت الرياح الباردة التي عصفت بالقلوب تدمرها دونما رحمة .

..................

كانت الساعة الثانية والنصف حين حطت قدميه بتلك البقعة الساكنة يسودها الصمت ولاشيء سواه ، البيوت العتيقة أطفئت قناديلها لتنعم برقدة هنيئة بعد يوم ثقيل منهِك ، سار نحو منزلها يقوده قلبه اللاهث مضطرباً ، هم أن يطرق بابه لكنه تراجع مستفيقاً أخيراً من إغمائة عقله الطائشة .

ولج إلى حيث أصبح مسكنه في تلك القرية الصغيرة ، هم أن يستلقي على الفراش ليرقد منهزماً لكن صوتاً خافتاً أعاد الفوضى لأعماقه التي لاتهدأ ، خطواته تسابقت إلى حيث الغرفة السفلية وهو يدرك أن مامن سواها قد يكون هناك .

نزل السلالم بخفة وتأمل كيانها بأنفاسٍ تتسابق وقلب لاينضب لهيبه ، كانت تفرغ المخبأ من كل تلك الذكريات الحبيبة ودموعها غسلت خديها محترقة الفؤاد ، رفعت رأسها فزعة تنظره ذاهلة ، حيرة اعترتها لم تتمالكها فسألت مستنكرة وجوده : أما كنت ستبقى في منزلك ؟ مالذي جاء بك ؟! وفي مثل هذا الوقت ؟!

لم يجب بل سأل وهو يتأمل دموعها الممتزجة بنشيجها المكتوم : مالذي يحزنكِ بهذا القدر ؟

مسحتها على عجلٍ تداري كبريائها وأسرعت تغلق الصندوق الذي حوى أثمن كنوزها : كنت أجمع ذكريات زوجي لآخذها لمكانٍ آمن طالما لن أستطيع حملها معي ، سأكمل غداً .. عن إذنك .

_ لاتريدين ترك القرية ؟

نظرت إليه متجلدة وقد أصاب جرحها بينما أكمل بتردد : أراغبة بالبقاء أنتِ؟ رغم أن آدم قبلي ود الرحيل أيضاً ، هل كنت غير راضية آنذاك كذلك؟

نفت معترضة وبألم أجابت : كنت سأمسك يده وأرافقه أينما ارتحل ، لكن الآن .. هذا المكان هو الوحيد في العالم الذي احتوى أنفاسه ، ذكراه وإيايي ، طيفه الذي لايهجرني .

عادت تذرف الدموع بتحسرٍ وهي تشيح بوجهها عنه تحاول أن تخلو بقلبها المكلوم ، تمنى لو كان بإمكانه مواساتها والتخفيف عنها ، أن يمسح دموعها ويحتضنها ، قلبه أنطق لسانه كاسراً كل الحواجز : وإذاً .. لاتذهبي .

صوبت غائمتيها المتعبتين نحوه حائرة وفي خلجاتها صوتٌ يأمرها بالابتعاد : لاسبيل لذلك ..لن أبقى وحدي بقرية ستغدو مهجورة .

_ لن تكوني وحدكِ .. سأكون معكِ .

انتفض قلبها مرتاباً خائفاً ورغم ذلك نطقت بتعفف : بم تهذي ؟ الزم حدودك أيها الغريب .

اقترب خطوة قصيرة ورغم ذلك أرعبتها فتراجعت للخلف متكئة على الطاولة ذاهلة : إيرينا .. كوني زوجتي .

اتسعت عينيها غير مصدقة كلماته تلك ، الغضب في أحشائها بات يستعر كنار أحرق لهيبها كل شيء وقد غدت تراه كالشيطان ، مذ التقته وصوت بداخله يأمرها بالتحفظ وترك مسافة فاصلة بينهما ، عيونه كانت تحمل نحوها دوماً مايريبها ، كيف ألقت دفاعاتها هذه الليلة فسمحت له أن يتمادى ، عاتبت نفسها كثيراً قبل أن تخرج بصعوبة كلماتها المرتعشة : أنت .. وقح حقاً ! كيف استطعت ؟!

بترت كلماتها ولم تعد تقدر على البقاء أكثر فأسرعت تخرج محاولة الابتعاد عنه قدر الإمكان ، هم أن يمسك يدها ليوفقها فابتعدت مذعورة وهي تنظره بحدة قاتلة :خسئت ! إياك أن تقترب من عائلتي مجدداً ، أدمرك وأحيلك رماداً .

تركت الغرفة مبتعدة تاركة إياه جسداً خاوٍ بلا حياة ، لم يدرك كيف ومتى استطاع النطق بها ، كم أودى بنفسه للهلكة بطيش دون أن يقدر على التراجع لمنح نفسه فرصة أخرى ، همس لنفسه ساخراً : النهاية المُثلى ليومك السعيد أيها الذكي .

....................




 
 توقيع : آدِيت~Edith

مواضيع : آدِيت~Edith


التعديل الأخير تم بواسطة آدِيت~Edith ; 02-07-2023 الساعة 10:23 PM

رد مع اقتباس
الإعجاب / الشكر
الاعجاب zenobya الاعجاب للمنشور
قديم 03-20-2023, 07:47 PM   #94
آدِيت~Edith
https://www.anime-tooon.com/up/uploads/at165286508456371.png


الصورة الرمزية آدِيت~Edith
آدِيت~Edith غير متواجد حالياً












تمطر السماء
فنغتسل ببرد غيثها ليمحو ذنوبنا وخطايانا
يُعَرِّي أرواحنا من كل كِبَرٍ قد يجتاحها
من كل إثم وزلة
تحته تسقط الأقنعة ، وتنتهي الفروقات
تحته تختبأ الدموع وتتراقص الضحكات
فلا ترجو منه الرحيل
عله يحتضنك ويخفيك بين ذراته
حيث لا أحد يمكنه أن يراك .






 
 توقيع : آدِيت~Edith

مواضيع : آدِيت~Edith



رد مع اقتباس
قديم 03-20-2023, 07:53 PM   #95
آدِيت~Edith
https://www.anime-tooon.com/up/uploads/at165286508456371.png


الصورة الرمزية آدِيت~Edith
آدِيت~Edith غير متواجد حالياً








سقوط الأقنعة




انطفئت الشمعة الوحيدة لتبقيه في الظلمة صامتاً يتأمل الفراغ كما لو أنه يرجوه أن يبتلعه في أحشائه ، طيفه أعاده للواقع يسأله : هل أنت جاد بما قلت ؟ تتزوجها ؟!

صوب نحوه ناظريه مترقباً : غاضبٌ مني ؟

أومأ له بالنفي وبحلمه المعتاد أجاب : لا .. بل يجدر بي القول أن لاحق لي بالغضب ، إني حيث لايمكنني محاسبتك أو التدخل بما تفعل ، أحاول أن أرشدك وحسب .

_ بم تنصحني إذاً ؟ أرشدني آدم .

صمت هنيهة ومالبث أن نطق وعيونه تنطق محذرة : فقط .. لاتؤذها ، لا تجرحها ، لاتكن من يبكها ، تركتهم أمانة لديك فإن لم تكن قادراً على حمايتهم فإني أهجرك ، ولن تراني ماحييت .

أومأ له بالنفي مذعوراً : لن أفعل ياصديقي ، إني أحاول جاهداً أن أفي بوعدي لذا لاتهجرني أرجوك .

بابتسامة مريحة رد وهو يتأمله بعيونه الحانية : أخبرني سيكيم .. مالذي تسعى إليه ، لم هي ؟

بدا شارداً وهو يجيبه بنبرة عميقة : مذ رأيتها لأول مرة .. اجتذبتني ، ليس لأنها امرأة جميلة وملفتة ، بل لأنها كانت تملك هالة نيِّرة ، كتلك التي كانت تحيط بك .

تأمله وهو يتبع كأنما فهم خفايا ماكان يدركها : كما لو كانت القدر الذي خط لي ، مثلك تماماً .. تملك سراً خفياً يقودني نحوها بقدر ما يبعدني ، إنه أمر محير صحيح ؟ لكني واثق تماماً أني لا أعشقها فقط لكونها امرأة .

_ سيكيم .. إنك تقترب ، قريباً ستفهم جيداً ماتعنيه الحياة بيننا ولنا ، ستفهم أن ماتتلقاه من صفعات ليس إلا يداً رحيمة توقظك ، ستعرف كيف يكون العشق ولمن يكون ، وستدرك لم كنا نحن قدرك ، واثق أن لبوتي القوية ستعلمك ذلك ، وستقودك نحو آخر النفق ، نحو النور الأزلي .

تأمله حائراً وقد هدأت حواسه وانطفأ لهيبه ، ككل مرة يلتقيه فيها ، كانت روحه تنعم بالطمئنينة والسلام ، وكأن كل الأعاصير قد سكنت وارتحلت .

استقام وأعاد الكرسي لمكانه وألقى نظرة أخيرة لتلك الغرفة الدافئة رغم الصقيع ، وبهدوء تركها تقوده خطاه نحو الخارج وقد بدت أوائل الصباح بسحرها ممتزجة خيوطها بالغيوم المحيطة بها بمنظر أخاذ .

جلس على الكرسي الخشبي قبالة المشفى العتيق يتأمل السماء والنسيم البارد يحيط حواسه وكل خلاياه ، حتى بدأت أجفانه المثقلة تنطبق شيئاً فشيئاً.



........................

بين الضباب وقفت ساكنة بعيون جاحظة مخيفة ، نظرت إليها مذعورة وجسدها ينتفض خوفاً ، وتكلمت بصوتها الذي رغم رقته كان شيطانياً مرعباً:هل تعيشين بهناء أختي؟ لقد حققتِ كل أحلامكِ ، سرقتي زوجي .. طفلي .. حياتي ، كل شيء بات ملكاً لكِ فهل أنتِ سعيدة للغاية الآن ؟

أومأت لها بالنفي باكية : لا أستطيع أن أكون كذلك ، لم أرد خسارتكِ نتاشا صدقيني ، لا أعلم كيف سيمضي هذا الألم ، لايمكن أن تكتمل حياتي إلا بكِ .

_ كاذبة !

لاحت على شفتيها ابتسامة حمراء مفزعة ، وبلمح البصر وجدتها أمام وجهها مباشرة تطعنها مراتٍ ومرات والدماء تغرقها بلا رحمة .

صرخت وقد انتفضت من فراشها ككل مساء مما جعله يستيقظ فزعاً هو الآخر : ماذا حدث ؟! مالخطب ؟!

كانت تمسك أحشائها بألم وسرعان ماسارت نحو الحمام بثقل ، سمع صوتها تتقيأ فبدا عليه الاشمئزاز لوهلة ومالبث أن نهض متأففاً بضيق .

_ ألا يمكن للإنسان أن يرقد بهناء ، قلتِ أنكِ ستباتين في الغرفة الأخرى لم عدتِ إذاً أيتها المزعجة ؟!

حمل المنشفة وانحنى يربت على ظهرها ويعينها ، أخفت وجهها عنه وهي تهمس بضيق : لا أحب أن تراني .. هكذا .

أجابها متهكماً : حتى في وضعكِ هذا تفكرين بمظهرك ، أنتِ حقاً غريبة الأطوار .

عادت وإياه للغرفة وهو يسندها حتى أجلسها على الفراش وسقاها بعض الماء : انتظري سأحضر لكِ شراباً ساخناً ليشعركِ بالتحسن .

تأملته حائرة غير مصدقة بينما خرج من الغرفة لبعض الوقت حتى عاد وهو يحمل كأساً حوى شراباً عشبياً أصفر اللون ويأخذه لها : كانت أمي تعد هذا حين نشعر بتوعك وهو ذاته الذي شربته منها ذلك اليوم ، إنه مزيج من الأعشاب المفيدة .

بابتسامة غير مصدقة أجابته: هل أنت جاد ؟ ألست تضع السم فيه لتتخلص مني .

مستنكراً تأملها بصمت ومالبث أن شرب القليل منه : ماذا الآن ؟ هل ستشربيه أم ماذا ؟!

أخذته منه وشربته بهدوء وهي تنظره ممتنة ، تأملها وقد طافت الذكريات أمامه وصورة مثيلتها تجلس أمامه وهو يسقيها الشراب بابتسامة محبة : أحسنتِ عزيزتي ، ستصبحين أفضل حالاً .

قبلت خده برقة وأسندت رأسها على كتفه بابتسامة سعيدة : إنك الزوج الأفضل إيفان ، شكراً لك .

وضع الكأس على المنضدة وأخذ يمسح شعرها وهو يتأملها مأخوذاً ببرائتها التي سلبت لبه : لست كذلك ، لكني حين أكون معكِ .. أشعر كما لو أن نوركِ الدافيء قد تسلل لي .

وضعت يدها على كفه تحتضنها وهي تغمض عينيها : أنت تراني لك النور وأنا أراك شمسي التي تضيء عتمتي ، إيفان .. كن بقربي دائماً ولاتتركني .

عاد من ذكراه وقد أنهت الشابة شرابها فأخذ الكأس منها وهو ينظر للنافذة وقد تسلل بعض النور منها .

_ لقد أشرقت الشمس .. عودي للنوم ولا تفكري كثيراً بكوابيسك ، لا أريد أن تصابي بالجنون كتلك الليلة .

عيونها تأملت خضراويه الهادئتين على غير عادتهما لتوقن أنه كان يفكر بتلك التي كانت تسكن كوابيسها ، في حين أنها تزوره بمحبة وطمئنينة لم تكن لها كذلك ، سألته وهي تدرك أن جوابه سيقتل دفء تلكم اللحظات : ماذا عنك؟ ألن تغفو بجانبي ؟

لم تبدو نبرته ساخرة كعادتها ، بل نطق بنبرة مريحة خالفت توقعاتها : لا .. لدي عمل لأنجزه ولا أظنني سأطيل ، لذلك اخلدي للراحة رجاءاً .

أومأت إيجاباً وهي تبتسم لذلك الشعور الحلو الذي تسلل لأعماقها ، لأول مرة تحدثا معاً كزوجين دون إهانة واحتقار ، لذلك فضلت البقاء بصمتها محتفظة بابتسامة جميلة ممتنة دون إفساد تلك اللحظات التي لن تتكرر.



شرعت الحياة تدب رويداً في القرية الصغيرة وقد استقبل القرويين صباحهم بالعمل الدؤوب المعتاد ، برفق لامسته كف صغيرة توقظه : عم سيكيم لم تنام هنا ؟

فتح عينيه بذبول ناعسٍ وعيون الطفلة الصغيرة تطالعه ببراءة ، ورعشة البرد قد سرت بأطرافه ، أجابها وهو يمسح عينه بباطن كفه : لاأعلم كيف غفوت ، شكراً لكِ لإيقاظي صغيرتي .

أتبع وقد حملها وأجلسها بجواره : أنتِ تعرفينني بينما أنا لا.

بحماس نطقت وهي تتأمله بإعجاب: بالطبع سأعرفك ، أولست بطل القرية ومن سينقذنا من الأشرار ؟

بخيبة أجابها وقد رسم على شفتيه ابتسامة صغيرة : ليتني أكون كذلك حقاً ، في الواقع أرى أنكم أنتم الأبطال ، لقد صمدتم أمام وحوش مثلهم ، لذا أنتم الأقوى .

اتسعت ابتسامتها بسعادة غامرة : أنا بطلة أيضاً ؟

رد بثقة مشجعاً: بكل تأكيد ، انظري لهاتين اليدين الجميلتين ، إنهما تحملان قوة عظيمة حتماً ، وقلبك .. إنه نقي وصلب وقادر على هزم أعتى الرجال .

نظرت ليديها بتعجب بريء وسرعان ما نطقت بحماس : سأخبر ماما أني بطلة لذا لن أختبأ حينما يقتحمون القرية مجدداً .

_ آه في الواقع .. أظن أن هناك استثنائات .

_ ماذا يعني هذا ؟

بدا عليه الارتباك دون أن يعرف بم يجيبها وإذ بصوتِ والده ينطق ساخراً : يبدو أنك وقعت في ورطة صغيرة أيها الفتى ،إنك بحاجة لدروس مكثفة لتتعلم كيفية التواصل مع الآخرين بسهولة ودون تعقيد .

التفت إليه بدهشة وسرعان ما نكس طرفه خجلاً من نفسه وهو يتذكر ماجرى بينهما بالأمس ، بينما خاطب آرون الطفلة وهو يضع يده على رأسها : أيتها البطلة الجميلة ، أريد التحدث مع هذا الشاب قليلاً بعد إذنكِ ، وأعدك أني سأخبرك بتلك الاستثناءات لاحقاً اتفقنا؟

أومأت إيجاباً بابتسامة حلوة : حتماً عمي العزيز ، أراكما لاحقاً .

تركتهما وسارت مغادرة ومالبثت أن استدارت وقد استدركت أمراً : اسمي لورا لاتنس ذلك .

أجابها بابتسامة صغيرة فأسرعت تلعب مع الصغار بمرح بينما تلاشت ابتسامته وقد جلس والده بجواره ، لحظات صمت ثقيلة قطعها كليهما وقد نطقا معاً .

_ آسف ..

سكتا لثوانٍ وسرعان مابادر الإبن يسبق والده : كنت وقحاً .. أعتذر لتصرفي السخيف ، ارتكبت الكثير من الحماقات بالأمس .

ابتسم آرون ضاحكاً وربت على ظهره بلطف : إنك ولد صالح ، أنا من أساء إليك وإن كان دون قصد مني ، أعتذر حقاً لما قلته ، لقد بذلت قصارى جهدك وأنا ممتن لذلك بني ، لكني لاأزال غاضباً منك .

نظر إليه حائراً فأكمل بجدية : لايمكنك حل المشاكل أجمع بمفردك ، أن نكون عائلة واحدة فهذا يعني أن نقتسم الحياة معاً بكل أفراحها وأتراحها ، لقد سئمت صمتك وبعدك .. ألا تراني جديراً بالثقة ؟

_ لا أبي .. لم أقصد قول هذا مطلقاً ، لكن .. لا أريد أن أثقل كاهلك أكثر ، بدلاً من أن أكون عوناً لك أرى أني أرهقك بمشاكلي .. لا أريد هذا حقاً.

بعتاب تأملته العيون البندقية وقد نطق صاحبها : أولست والدك ؟ إن لم تجعل لي الحق بهذا فلا أستحق أن أكون أباً إذاً !

_ أبي ..

سكت ولم يعد يعرف بم يجيبه والحيرة قد تسللت لأعماقه ، خطوات قريبة منهما أجبرته على الالتفات وإذ به ديريك وعيونه لاتزال تنظره ببرود وحدة : صباح الخير سيدي القائد ، أرسلت في طلبي ؟

_ صباح الخير ديريك ، أجل .. تعال واجلس بجانبي .

جلس وهو يشيح بوجهه كي لاتتلاقى عيناه بعينا صديقه مما جعل آرون يتكلم بهدوء ورصانة : اسمعاني جيداً ، إننا مقدمون على مهمة التعاون فيها أساس ثابت ، إن مال ولو قليلاً أخفقنا وخسرنا ، لقد احترمت بكما شجاعتكما وقوتكما وعزمكما على إنقاذ هذه القرية المضطهدة ، كنت فخوراً بكما للغاية لذا لاتهدما مابنيتما وتبنيان ، تصرفا كما ينبغي كراشدين ، جدا طريقة ما وتصالحا وإلا فلن ينفع أبداً ماتقوما به ، ولن تتمكنا مطلقاً من اجتياز بوابة القرية حتى ، مهما كانت المشكلة بينكما ، ابحثا عن حل لها الآن .

نهض يتركهما وقد أطبق الصمت بينهما ورملي الشعر لايزال يبعد ناظريه عن صاحبه ، بينما الآخر يتأمله بعجز دون أن يستطيع التبرير أو الشرح ، مضى بعض الوقت قبل أن ينطق بتردد : ديريك .. لا أعلم حقاً .. من أين أبدأ .

ساخراً أجابه دون أن ينظر إليه : بالطبع .. لابد أن تكون خجلاً من نفسك ، هذا ماهو حري بأي انسان طبيعي أن يكون عليه ، إن كنت طبيعياً حتماً ولا أحسبك كذلك.

تنفس الصعداء وصمت قليلاً قبل أن يتكلم : ديريك .. اعتذرت منك بالأمس لأني كنت فظاً ، ولابأس لدي بالاعتذار ألف مرة ، أما بالنسبة لذلك الأمر ، اعذرني .. هو لايعنيك ، إنه يخصني وحدي .

التفت ينظره باستحقار : لاأصدق كم أصبحت وقحاً؟ ألا علاقة لي حقاً؟ ، أتذكر ماقلت لي حين التقيناها لأول مرة ؟ ، قلت لاتجروء على النظر إليها فهي زوجة صديقنا ؟ أولست من قال ذلك؟ كيف تجرأت إذاً أنت وفعلت لست أعي ذلك صدقاً؟!

نكس رأسه دون أن يجد جواباً بينما واصل صاحبه موبخاً : من بين كل النساء لم اخترتها هي؟ كانت لديك كريستينا ، وقد أحبتك بجنون ، هل تركتها كذلك لأجل خيانة ذكرى صديقك ؟ تحدث لم تصمت ؟

بلل شفتيه بلسانه وازدرد ريقه قبل أن ينطق بصعوبة : أنت محق .. بكل ماتقول ، عدا عن أني لم أترك كريستينا لأجل ذلك ، ديريك .. أنا .. دون أن أدرك وجدتني قد .. تعلقت بها ، أحاول جاهداً نسيانها ، تجاهل ذلك الصوت بداخلي لكني لا أقدر ، مهما فعلت أراني ضعيفاً للغاية ، لطالما أجدت ترك كل شيء خلفي وقتما أردت ، أن أتخلص من مشاعري التي تؤذيني وتؤذي من حولي ، لكني الآن .. أجد صعوبة عظمى بالتخلص منها .

نظر إليه برجاء وضياع : افهمني أرجوك ، ساعدني لأتخلص من شعوري بالخزي ، لاتثقلني أكثر بعتابك ، صدقني هذا الأمر يجعلني أمقت نفسي بشدة ، لست وحدك من تحتقرني .. بل أنا كذلك أفعل !

_ ومالذي تخطط لفعله إذاً ؟ هل ستبقى تحبها؟ هل ستطاردها؟

أومأ بالنفي بحيرة : لاأعلم .. لاتسلني مالا أملك له جواب ، ماأعرفه أني لن أفعل مايؤذيها حتماً ،ولن أطاردها ، لقد تعلمت درسي جيداً ، ثق بذلك .

أطبق الصمت من جديد وكلاً يبحر عميقاً محاولاً إيجاد ضفاف تحتويه ، تكلم ديريك بعد حينٍ وعيونه ترقب ملامح صديقه الشاحبة المتعبة : ماذا عنك .. مالسر الذي لايعلمه سوى ستيفانز ولاترغب أن تشاركنا إياه؟

أطرق برأسه ينظر كفيه المتشابكتين وقد ارتعشت أصابعه بضعف : ليس بالأمر الكبير .

عاد ينظر صاحبه محاولاً أن تبدو كلماته صادقة التعبير : أنا .. أفقد ذاكرتي ، شيئاً .. فشيئاً .

مستنكراً سأله : تفقد ذاكرتك؟! ولكن .. مالسبب ؟ كيف حدث هذا؟

_ يحدث هذا بين الحين والآخر ، دون أن أدرك مافقدت من ذاكرتي ، فهو جزء عشوائي صغير ، لذا ليس سيئاً لذلك الحد .

_ ليس سيئاً؟ لازلت أذكر جيداً كيف نسيت أن والدتك قد توفيت .

بضيق أجابه وهو ينظره متعباً : ربما لم أرد في قرارة نفسي تذكر ذلك ، لأني أكرهها وتمنيت موتها دائماً ، لذلك تخلصت منها سريعاً ، هذا ما أنا عليه صحيح ، مجرد حاقد يتمنى موت والدته اللئيمة .

رقت ملامحه وهدأ صوته : لست أحملك مسؤولية ذلك سي ، على العكس .. لقد كنت مستاءاً حقاً حين نطق والدك بذلك الكلام الجارح ، إني قلق وحسب بشأنك ، إن كنت نسيت أمراً كهذا فماذا لو استيقظت يوماً وأنت لاتعرف من تكون ، أو من نكون نحن ، هذا .. مخيف بالفعل ، ألا علاج لذلك ؟

صمت يفكر في البعيد ومخاوفه التي لم يعلن عنها كانت تعصف بأعماقه وقد ترجمها صديقه قبل أن ينطق هو بها ، تكلم محاولاً إقناع صديقه بما لاقناعة له به : لن يحدث .. إني أشعر بتحسن كبير ، وسأكون أفضل .. سأبذل جهدي لكي لا أفقدها مجدداً ، لذا لاتقلق ، ورجائي لك أن لايعلم أبي بشيء ، تعلم كم سيقلقه ذلك ، هو ليس بالأمر الجلل لذا لاأريد اخافته لأجل لاشيء .

أومأ له ديريك إيجاباً بلا اقتناع : أرجو ذلك حقاً ، على كل حال ، دعنا نعود للعمل ، أمامنا أربعة أيام وحسب ، ولازال لدينا عمل كثير .

_ أجل .. إنك محق .

نهض ديريك فاستوقفه رفيقه وقد وقف يتأمله بامتنان : ديريك .. إنك تعني لي الكثير ، شكراً لأنك استمعت لي وتفهمتني ، إني أحتاج وجودك دائماً بقربي ياصديقي.

ابتسم ساخراً محاولاً إخفاء تأثره : أجل أنت بحاجة لي أيها الأحمق ، من الجيد أن تفهم ذلك قبل فوات الأوان فخسارة ديريك العظيم تعني خسارة الكون بأسره .

_ لاتضيع الفرصة أبداً .

أحاط رفيقه بذراعه وسارا معاً وعيون الرجل تشيعهما برضاً وارتياح ، تقدم نواه منهما ببسمة سعيدة : صباح سعيد لكما ، كيف حالكما .

أجابه كليهما بالتحية وقد احتضنه سيكيم أولاً بينما تكلم ديريك وقد وضع كفه على رأس الفتى : يجدر بك أن تشاركنا المباراة القادمة سي ، ستبهرك مهارات هذا الصبي الهداف .

_ لاعجب أن يكون كذلك وهو ابن أبيه ، لقد كان هو كذلك لاعباً مذهلاً ، تتذكر كم كان يهزمنا دائماً .

بلهفة نطق نواه : هل حقاً لعبتما الكرة مع أبي ؟

أجابه رملي الشعر بحماس: كلما كنا نحظى على وقت خاص لنا كنا نلعب الكرة نحن والفريق ، أعني فرقتنا ..كان ذلك مسلياً .

_ ياه كم كنت أتمنى رؤية هذا ، أبي وهو يهزمكم جميعاً .

ضيق سيكيم عينيه مستذكراً : أظنني أمتلك صورة في منزلي ونحن نحمل الكرة معاً وثيابنا ملطخة بالطين فقد كان يوماً ماطراً .

اتسعت ابتسامة الصبي بسعادة : هل يمكنني رؤيتها ؟رجاءاً !

بادله الابتسام بمحبة : حتماً .. سأصحبك لمنزلي وأريك كل ما أملك من ذكريات احتوت والدك ، حتى وإن لم تكن كثيرة .

قفز يحتضنه بحماس : شكراً لك عم سي .

وإذ بصوتها الهاديء عادة ينطق بغضب جلي : نواه ! تعال إلى هنا .

التفت الصبي لوالدته حائراً وكذا الشابين كانا ينظرانها بدهشة وعيونها كانت ترمق عسلي الشعر بحنق متوعدة ، استأذنهما الصبي معتذراً وسارع نحوها وقد همست له بكلام مااستطاع ديريك فهمه بينما تمكن الآخر من تخمينه .

_ مابها ؟ لاتقل أنك جننت واعترفت لها بمشاعرك؟

_ لا لم أفعل .. لكني .. قمت بما هو أسوأ .. ربما .

نظر إليه بريبة حائراً مترقباً فنطق بتردد وجلاً : لقد .. طلبت الزواج منها .

باستنكار واستياء نطق : لقد جننت بالفعل ! لذلك كانت غاضبة وتنظرك بازدراء ، تستحق هذا حقاً ، أظن أن علي التظاهر بعدم معرفتك كي لا أكون مشمولاً معك بقائمة المغضوب عليهم ذاتها ، لقدأنهيت مسيرة حياتك بلسانك أيها الغبي .

كان يتأمله بفتور وما إن فرغ حتى نطق : هل أنهيت توبيخك وسخريتك ، بدلاً من مواساتي أيها الصديق العظيم .

_ بصدق سي لم أعد أعرفك ، منذ متى وعقلك يعمل بحماقة هكذا ؟

أجابه بنبرة هادئة وهو يتأملها وقد وقفت تتحدث مع باتريشيا أمام منزلها : لست أدري .. لكنني حقاً بت لا أدرك مايجري لي ، أنا .. لم أعد أنا بالفعل لكنني لم أكن أحمق حتماً بالقرار الأخير .

التفت لصاحبه مستطرداً : على كل حال .. سأعود للمدينة اليوم كذلك لاتنس أن تأتي أنت أيضاً ، سيقام حفل التكريم في مركز الشرطة ، كما سيتم تجنيد الفوج الجديد .

_ لا أحب هذا الأمر ولكني سآتي حتماً .

استأذنه وسار نحو والده هامساً : وجدت طريقة لدخول الغرفة ، مالذي أردته تحديداً .

أجابه وهو يحتسي قهوته : أريد دخولها بنفسي .

جلس قبالته ينظره مستنكراً : لايمكنني السماح لك بهذا ، إنها مخاطرة جنونية تدرك ذلك حتماً .

_ سأستغل انشغالهم بالحفل لذا لن يدرك أحد وجودي حتى .

_ مستحيل أبي ! لن أخاطر بك وهذا نهائي ، قل ماتريده وإلا فسيلغى الأمر برمته .

تأفف الرجل ضجراً وهو يرمقه بنظرة ساخطة متذمرة : إني مجبر الآن على الإنصياع لك لكن ذلك لن يدوم طويلاً ، إن كان ولابد فستدخلني معك ، لايجدر بالأمر أن يكون جسدياً ، هل فهمتني ؟

ابتسم برضاً وقد أعجبته الفكرة : حسناً ليست بالفكرة السيئة ، سأعطيك سماعات الأذن اللاسلكية إذاً لنتواصل من خلالها ، وسأصور لك مااستطعت .

نهض وأحضرها سريعاً مع هاتفه : سأتأكد من موعد دخولي إليها وأوافيك بكل المستجدات ، كن متيقظاً رجاءاً .

_ حسناً إذاً ، وأنت كن حذراً .

أومأ له إيجاباً وسرعان ماغادر تشيعه عيون والده بقلق وقلبه يأبى الارتياح والسكون متنبئاً بخطر قريب .
.................................

أمام مكتبه جلست وعيونها قد تعلقت بالجدار أمامها وفي باطنها قد ارتحلت للبعيد ، تتأمل تفاصيل لم تكن تدركها ، غموض أثار في خلدها تساؤلات كثيرة ، قاطعها صوته الأجش موبخاً : كم مرة ناديتكِ ، هي إلى أين سافرتِ يافتاة .

التفتت له مستدركة بضيق : ماذا أردت ؟

تنهد بضجر وعاد يسألها مالم تسمعه : ماذا حدث بينكما ؟ هل عرفتِ أي شيء؟

_ ليس بعد .. لازال الوقت مبكراً ، أوليس علي كسب ثقته أولاً ؟

_ لا أريد للأمر أن يطول ، تذكري إني أراقبكِ جيداً ، إن أخفقت ..

_ لاتقم بتهديدي وإلا أفسدت الأمر برمته .

قالتها بغضب فحاول السيطرة سريعاً : كريستينا عزيزتي ، إني لا أريد له أن يستغلكِ أو يذلكِ ، أريد أن أكون من يحميكِ ياابنتي .

بخيبة أجابته: أريد حقاً تصديق ذلك أبي .. ليت هذا ممكناً لما احتجت للبحث عن آخر متحملة إذلاله وسطوته .

_ تعترفين إذاً أنه يؤذيكِ ؟!

أخفضت طرفها تتأمل قلادتها وأناملها تقلبها : لم يكن يفعل .. لكنه الآن .. أصبح شخصاً آخر ، لم يعد محباً وعطوفاً كما كان في الماضي ، الشعلة التي كانت تضيء بمقلتيه انطفئت ، وحل مكانها غضب لاينجلي .

_ ولن ينجلي ياصغيرتي ، لاتهتمي به كثيراً ، هذا هو الوقت الأمثل لتتخلصي منه وتثأري لكرامتك .

_ ذهب للقرية بعد أن خرجت .. مالذي يملكه بذلك المكان القذر ليترك منزله في منتصف الليل حتى؟!

ابتسم بخبث يجيبها : تقصدين أن والده هناك حتماً ؟

التفتت تنظره بجدية مؤكدة : ولربما حبه الجديد ، تلك المرأة الوضيعة .

تنهد بضجر وبحدة نطق : كريستينا هل هو وقت غيرتكِ ومطاردتك لحبه الأحمق ، أرسلتك لتعرفي مكان والده ، هل هو في تلك البقعة أم لا ؟

بلا اهتمام أجابت : إن كان قد ذهب لأجلها حقاً فسيندم كثيراً ، لن أتجاهل إهانته أكثر .

نهضت بعزم بينما والدها يخاطبها بانزعاج : هل تسمعين ما أقول حتى ؟

خرجت دون إجابة فزفر بصبر : ويطلب مني السيطرة كما لو كان الأمر سهلاً ، وكأن شقيقته الساذجة بمثل شيطنة هذه الفتاة ، تباً لك آندريه أقسم أني سأزوجها لك لتعلمك مامعنى السيطرة .

....................................

على الكرسي الخشبي جلست تخيط وعيونه تتأملها بين الفينة والأخرى ، تراقب ذلك الوجه الحسن بتفاصيله الهادئة الحانية ، كيف ثارت وصرخت بوجهه ولم تكن تفعل ذلك مسبقاً .

عاد ينظر لكتابه دون أن يقرأ شيئاً مما سطر فيه ، وبتردد تكلم خجلاً وجلاً : أمي .. أخبريني ، هل ارتكبت خطئاً ما ؟

متسائلة تأملته وقد تركت مافي يدها : كلا ياعزيزي ، لم تظن ذلك ؟

استدار إليها ونكس طرفه حياءاً منها وهو يجيب : كنتِ .. غاضبة مني .. وصرختِ بوجهي ، أعتذر إن كنت قد تصرفت بشكل غير لائق .

بدت الدهشة عليها وقد استدركت مايعنيه ، أسرعت نحوه تحتضن وجهه بين كفيها وهي تنظره بمحبة : لا ياصغيري ، آسفة إن كنت قد أحزنتك ، غضبت لأمر آخر لاعلاقة له بك صدقني ، كل رجائي هو أن لاتقترب كثيراً من ذلك الرجل ، ابتعد عنه مااستطعت بني .

_ من تقصدين أمي؟

سألها بحيرة فصمتت دون أن تقدر على لفظ اسمه بين شفتيها وقد انتفض قلبها غضباً لذكره : أمي ..أهو عم سيكيم ، أم عمي ديريك ؟

أجابت محاولة كتمان غيظها : الأول ياصغيري ، على كل حال .. سنغادر القرية قريباً لذا لاتعلق نفسك بهما ، وجودهما مؤقت في حياتنا وسينتهي قريباً .

_ لكن أمي .. هما يبذلان الكثير لأجلنا ، وهما .. صديقا والدي الذي أحب ، مالذنب الذي ارتكباه لتقصيهما من حياتنا سريعاً هكذا ؟

سكتت هنيهة ومالبثت أن أجابت : لست ناقمة على ديريك في الواقع ، لكني لم أعد أثق بالغرباء ، لازالوا كذلك بالنسبة لي .

اكتفت بتلك الإجابة التي لم تقنعه ، وعادت لعملها بصمت فهم منه أنها لم تعد ترغب بقول المزيد فصمت هو الآخر مستسلماً حائراً يعتصره الألم .

..

بداخل المبنى الصخم ساق خطواته نحو مكتبه الذي لم يشعر بعد فيه بالانتماء ، نادته بخيلائها المعهود : السيد آندريه بانتظارك في مكتبه .

تأفف ضجراً ورغم ذلك سار قاصداً إياه قد استوطنته سحابة معتمة ، ما إن دخل الغرفة حتى وجده يجلس خلف مكتبه وهو يدون شيئاً بورقة صغيرة أمامه بينما يخاطب سوداء الشعر الواقفة بجواره تنصت باهتمام: ستأخذي الطرد لهذا العنوان مع باقة ضخمة من زهور الزنبق البيضاء ولابأس بإضافة بعض زهور الليلك لإضفاء رونق مميز ، واحرصي أن يكون عددها فردياً من فضلك .

_ بأمرك سيدي ، لاتقلق سيكون كل شيء مثالياً كما تريد تماماً .

أشار لها أن تخرج ففعلت طائعة وماإن أغلقت الباب حتى نطق إيفان ساخراً : يبدو أنه موعدك الأول ؟ لابد وأنها فتاة محظوظة .

بابتسامة صغيرة أجابه : لست جيداً مع النساء ، لكنني أحاول ، تفضل رجاءاً .

جلس على المقعد الجلدي أمام مكتبه وابتدر ليسبق سؤال الآخر : لن أشرب شيئاً لاترهق نفسك ، قل ماتريده بسرعة .

استند على مقعده وهو ينظره بابتسامة غامضة ،وفي باطنه كان يتسلى برؤية خصمه الثائر في أعماقه رغم السكون بظاهره .

_ أردت أن أعرف إن كنت قد هدأت أم لا زلت غاضباً.

محذراً أجابه : إني هاديء طالما لم ترتكب مايثير استيائي ونقمتي .

أسند مرفقيه للطاولة وقد تشابكت كفيه و التمع شرٌ برماديتيه الثلجيتين : عزيزي إيفان .. أخطئت بحقي مرتين حتى الآن ، لحسن حظك إني صبور مع من يهمني ، وإلا فإن رصاصة واحدة كفيلة بإراحة رأسي .

قطب حاجبيه مستنكراً وهو ينظره بلا ارتياح بينما أتبع الآخر بابتسامة عابثة والرماد في عينيه بدا جحيماً شيطاني : مابك؟ ألا تحتمل المزاح أيضاً قريبي العزيز .

كان بحاجة للقليل من الصمت والتفكير ليتمكن من استيعاب ما أسماه بالمزاح، يقلب كل التفاصيل بعقله يستشف مكنون غريمه الذي وقع بين أنيابه دون أن يدرك مدى مايحمله من ظلامٍ قاتل ، أو بدأ يدركه تواً .. متأخراً .

وقف الشيطان ليسير نحوه خطواتٍ جعلت الدم في عروقه يجمد حتى ارتخت الكفين على كتفيه وهو يهمس في أذنه من خلفه : لا تقلق .. إني لا أؤذي من أهتم لأمره ، وأنا بالفعل مهتم بك ياقريبي العزيز .

رغم أنها مجرد كلمات .. إلا أنه شعر بالجحيم كائناً أمامه بوضوح ، في كل مرة كان ينظره مرتاباً لكن دماثة الآخر تزيل ريبته سريعاً ، هذه المرة .. كان جلياً أنه قد بدأ يعلن الحرب الصامتة ، حرب يدرك أنه ليس كفؤاً للنصر بها ، أكبر من قدراته و إمكانياته .

_ مابك ؟ لم أنت صامت هكذا ؟ ، لا تقل أن مزحتي تلك أزعجتك فصدقتها؟

نهض على عجل وقد استفاق تواً من دوامة غرق بها دون أن يفهم كيف ومتى ، وكأنه أدخله إياها قسراً ليفهمه أنه ليس أهلاً لمواجهته ، تمتم متخدر الحواس : يجب أن أذهب ، عن إذنك.

خرج على عجل تشيعه الرماديتان ببسمة انتصار : اوه كم أشفق عليك ياعزيزي إيفان ، تتظاهر بالقوة والشجاعة لكنك خفت لمجرد تهديد صغير ، أتسائل ماذا ستفعل لو رأيت أمامك جثة حقيقية مضرجة بالدماء ، قريباً سأدخلك عالمي .. تريث قليلاً بعد .

..............................


دخل لمركز الشرطة بعدما استبدل ملابسه وارتدى زيه الرسمي الخاص ، توالت التحايا تستقبله من رفاقه وقد نطق أحدهم : لقد عادت الكتيبة من المهمة الأخيرة بسلام ، لكن يبدو أن بعض الرفاق أصيبوا بشدة من بينهم آنديرسون وهو يرقد في المشفى الآن.

_ هل الأمر سيء لهذه الدرجة ؟

_ حري بك أن تطلع عليه بنفسك .

تنهد بثقل فما كان ينتظر مزيداً من مسؤولياتٍ تعيقه ، وسرعان ماتوجه نحو القاعة ليدخلها و قد جلس الفريق بانتظاره .

_ صباح الخير يارفاق ، حمداً لله على سلامتكم وشكراً لجهودكم .

أجابه ثعلبيُّ العينين بحنق : غريب أن نراك هنا ، صدقني توقعت أن تختبأ في فراشك كعادتك .

بابتسامة باردة رد وهو ينظره ساخراً : يبدو أنك انطلقت معهم في نهاية الأمر لاري ، كان حرياً بك أخذ الإجازة التي منحت لك عوضاً عن المخاطرة .

_ هل تسخر مني أيها الوغد !

_ على العكس ،فخور بإنجازكم حقاً ، نصر جديد أضيف لنا لم قد أسخر ، بذلتم قصارى جهدكم حقاً وهذا مشرف .

شده من ياقته بغضب وهو يصرخ به : لقد تركتنا لمهمة خطرة كهذه وتخليت عنا وبينما أنت تستمتع كنا نواجه الخطر وحدنا ، بسببك آنديرسون بين الحياة والموت ، لقد حمل المسؤولية بأكملها وقام بما يجب أن تقوم أنت به .

أبعده رفاقه وهم يحاولون تهدئته : كفى لاري توقف عن هذه التصرفات الطائشة .

_ لابأس دعوه ليفرغ غضبه ، إن كان ذلك سيغير شيئاً مما حدث .

جلس قبالته وبهدوء وجدية تكلم : إنكم ثلاثون رجلاً ، بالاضافة إلى الوحدة التاسعة والسبعون فإن عددكم خمسة وخمسون شخصاً ، وأنا واحد فقط .. ماكان سيغير انضمامي لكم من عدمه ، أولستم أكفاء ؟ أولايمكنكم القيام بذلك من دوني ؟ لم أكن أختبأ في فراشي بل كان لدي مهامي الخاصة التي لايجدر بي البوح بها ، لذلك لاتنطق بحكم مسبق ، أردت أن أثق بكم ، وكنتم عند ثقتي ، آسف حقاً لما جرى لكم ولآندرسون تحديداً، لابد أنه كان قائد معركة شهم ، وقد بذل كل مايستطيع للفوز والقبض على تلك الزمرة الفاسدة ، أنا أقدر جهودكم حقاً وأقدر تضحيتكم لأجل البلاد .

صمت قليلاً وعاد ليكمل بحزم : إني الملازم هنا ولايفترض بي مشاركتكم بكل المهام ، ليكن هذا واضحاً لك لاري ، عندما كنت أشارككم فذلك لأني أعتبركم رفاقاً ولم أحب أبداً سيادتكم والتكبر عليكم ، لكن الآن إن أردت سأستخدم لقبي ومكانتي لأفهمك أن لايجدر بي مرافقتكم دائماً ، لدي أمور مهمة لا أستطيع تركها ، حري بك فهم ذلك والتعامل معي على هذا الأساس من فضلك .

تمتم الآخر بحنق دون اهتمام : وغد جبان ، اللعنة عليك وعلى مكانتك وعلى سيدك الذي منحك إياها .

أسكته رفيقه بسخط : إنك تجلب المتاعب لنفسك لاري كفى ، الرجل محق بما يقول ، بل إنه تجاوز كثيراً عنك ، لو كان شخصاً آخر لزج بك في السجن على الفور .

نهض مستاءاً وهو ينظر سيكيم متوعداً : سأريك مايعنيه أن تتخلى عن فريقك أيها المتعجرف اللعين ، أنت ورفيقك المدلل ستندمان حتماً .

خرج وصفق الباب من خلفه فتنهد بيأس بينما رفاقه يحاولون التخفيف من ثقل ماحدث .

_ تجاهله سي فهو لايزال يحسب أنه يعيش أيام المعسكر .

_ طيشه سيسبب المتاعب ولكن تجاهله إنه لايؤثر بنا .

_ شكراً لثقتك بنا لاتهتم لكلامه إننا نقدر ماتفعل دائماً .

بابتسامة هادئة أجابهم وهو ينهض : شكراً جزيلاً لكم يارفاق ، وآسف مجدداً لما حدث ، سأزور المشفى قريباً للاطمئنان على آنديرسون ومن معه ، وحالما تتحسن أحوالهم أعدكم بحفل لائق بهم وبكم ، وحتى المهمة القادمة خذوا قسطاً كافياً من الراحة رجاءاً ودللوا أنفسكم .

_ شكراً لك هذا مانحتاجه فعلاً.

_ بالفعل أريد الابتعاد قدر الإمكان عن هذا المكان ، اشتقت لعائلتي .

أجابهم بابتسامة صغيرة وهو يتأملهم ويستمع لأحاديثهم وفي داخله وجهة أخرى تشغل تفكيره .






 
 توقيع : آدِيت~Edith

مواضيع : آدِيت~Edith


التعديل الأخير تم بواسطة آدِيت~Edith ; 03-21-2023 الساعة 06:23 AM

رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بين الحرية والمعارضة DoLoR حوارات و نقاشات جاده 20 06-25-2022 08:29 PM
الطريق طويل لاتهتم | Sugar's Galaxy سكر مدونات الأعضاء 22 05-27-2022 01:26 AM
اتبعني إن كُنت لا تعرف الطريق، دعنا نضيع معًا ! ELIOT مدونات الأعضاء 44 06-19-2020 05:19 AM

شرح حديث

علف


الساعة الآن 11:51 PM